عدد 18-عن الفقد والافتقاد
حسام الخوليالموت بين الشرق والغرب.. حواديت عامة وشخصية للفقد الملهم
2020.11.01
الموت بين الشرق والغرب.. حواديت عامة وشخصية للفقد الملهم
حسام الخولي
الموتى يصبحون كل يوم أصعب مراسًا
من قبل كان أمرهم سهلاً:
كنا نمنحهم ياقة ومُنشّاة أو زهرة
نلهجُ بأسمائهم في قائمة طويلة
كانت الجثة توقّع في أعقاب الذاكرة
وتمضي من جديد إلى طابور
لتسير على إيقاع موسيقانا القديمة
لكن مهلاً
فالموتى قد تغيروا منذ ذلك الحين
اليوم يتهكمون ويسألون
يبدو لي أنهم يدركون
أنهم، تدريجيًا، يصبحون هم الأغلبية
أكتب مرثية يتداخل فيها الشخصي والعام. اعتدت تكرار كتابة أشباهها بتنويعات مختلفة لنفسي. في أوقات قليلة كتلك، تُتاح المشاركة في الفقد الجماعي للنجاة من الوحدة والصمت المرعبين اللذين يتكالبان على أنفسنا الهشّة مع كل موت وفقد، أعلم أن هذا الحديث الحزين الممل قد يبدو شحذًا للعواطف لكن ما باليد حيلة؛ من وقت إلى آخر يمكننا الحديث عن أنفسنا في أثناء اندماجنا الإجباري مع العالم. لن أكتبه تحديدًا عن الزميلة دينا جميل؛ الذي خطفها الموت واختارها بنظرته الثاقبة دائمًا، مؤخرًا، على الرغم من كونها السبب فيه، ولا عن فقد كبير عايشته منذ 25 يناير حرفيًّا ومجازيًّا؛ في موت وسفر أصدقاء كنت أدخر معهم «تحويشة» ذكريات تمنيت استمرارها، ولا عن موت صديقي الأقرب قبلها، ولا حتى عن فقدي الشخصي الأول لأبي والشجن الأبدي بعدها، فقط، بل عنهم جميعًا لأن تزايدهم لا يتوقف؛ حول نظرتي ومجتمعي الشرقي الصغير إلى الكون والموت، وعن النظرة الغربية للأمر نفسه، عن بداية تكوّن النظرة إلى الموت منذ الإنسان البدائي، وعن رؤية الأديان ثم الفلاسفة الأوائل وأتباعهم؛ عن الموت كموضوع للكتابة ولاستحالة تحقّقها، كمصدر للإلهام والعجز، أتمنى خروج السطور من فخ «الكليشيه» والمظلومية والافتعال لأنها أشياء ثقيلة على النفس تمامًا كالموت.
أبي وصديقي.. ذكرى فقد ملهم
حُرم والدي ميراثه في أموال جدّي بسبب عدة أشياء: حبُّه للغناء في الموالد، البُعد عن البيت لأيام مع أصدقاءه، إصراره على السفر خارج مصر وترك أرضه وبلده، مغازلاته للنساء التي لا تنتهي، ساومه جدّي بين أن يترك كل ذلك وبين ماله الوفير كفلاح لديه أفدنة ومال لن يعوّضه، ولم يفلح، بعدها أجبره بالقوة والضرب على العودة من أحد الموالد إلى البيت، وجد أبي عُرسًا مُقامًا أمام البيت، وقال جدّي إن عُرسه اليوم وأجبره على الموافقة، وافق أبي على ذلك، وأتم عُرسه ثم استأذن؛ وذهب إلى المولد الذي كان يحضره بحجة مشاركته في إعداد طعام لذيذ يحبه كالغناء. هكذا كان زواجه الأول، تزوج عدة مرات، وغامر بالتعارف والسهر والحب المستحيل لمرات أكثر، قبيل موته كان تحمله يد أمي؛ الزوجة الثانية، على سريرهما، كنت أنام على الأرض بجانبهما، وضعتْ وجبة أبي المعتادة منذ مرضه أمامه، طعام مسلوق دون ملح؛ جلسة صامتة دون غناء ورائحة غير مريحة وطعام وصفه أطباء يكره سيرتهم، لم يأكل ولم يتحرك، دون الخوض في استعارات تصف حالته لم أر عجزًا في وجه أبي أكثر من تلك المرة التي كان يرى فيها نفسه مُجبرًا على طعام وجلسة وحديث لا يريده. مات بعدها بساعات، التناقض بين أمله في الحياة ومحدودية طاقته عجَّل بموت رجل كان يحب الحياة أكثر من أي شيء آخر. فكرت أن أفعل مثلما فعل الشاعر الرومانسي فريدريك فرايهير الذي كان يعيش في زمن كانت المشاعر فيه أقل تركيبًا واضطرابًا وأكثر استقرارًا ووضوحًا؛ عندما أحب فتاة وتقدم لخطبتها وماتت قبل الزواج، فجلس لسنوات يكتب في ذكراها قصائد «أناشيد الليل» ينتقم فيها من الموت الأليم الرهيب لكني وجدت كتابتي للشعر سيئة كالموت، وظننت أني أبالغ في حزني فتناسيت، كنت أصدّق أن «السرور المتصل كاذب وخليق أن يقتل النفس ويميت القلب، وأن الحزن المتصل صادق ولكن نفوس الناس لا تطيق له احتمالاً»2.
أبي كانت تصرفاته شبابية؛ كان مُتهورًا وعصبيًّا ومنفعلاً وخفيف الظل، وكنت هادئًا وصامتًا وكئيبًا كشيخ بلغ من العمر أرذله، كنتُ والده، عندما مات، فقدت ابني. ألهمني فقده أن أسرق شخصيته التي اعتقدت أنها الأنسب للبقاء.
لم يكن موت أبي مثل موت صديقي الشاب النضر الذي مات فجأة في حادثة بسيارته الجديدة؛ وكان من المفترض أن أذهب معه وقتها إذا استيقظت على اتصاله. لم يدر في خيالي ما حدث، كثّف هذا من نظرتي للموت والفقد، الموت ممتثل أمامي بنحو مستقل عن أبي الشيخ الكبير الذي تجوَّل بين الدول وسافر، وعاش كصعلوك وكملك، لكن ربما كان تكثيف الحزن هنا يتعلق بالتاريخ القصير لصديقي نفسه، وليس بالنظرة إلى الموت. في واحدة من أقدم التجارب المكتوبة عن الموت نجد أسطورة جلجاميش البابلية الذي «كان ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان، أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس، لم يترك فتاة لحبيبها، ولا خطيبة لنبيل» بينما صارعه أنكيدو على ظلمه هذا، ثم أصبحا صديقين حميمين، بعد فترة قتلت الآلهة أنكيدو، أفقده موت صديقه كل ذلك وتأكد بعدها من موته الشخصي، كانت فجوة موت الصديق فاصلة في نظرته للفقد والحياة قال «ها أنا ذا أهيم في القفار خائفًا من الموت. وكان التأثير المربك ذاته لديَّ لأن الزمن دخل إلى المعادلة.3
حِدادي على صديقي كان «حداد علاقة المحبة وليس حداد تنظيم الحياة» شعرت أنني ربما سأصبح باستمرار في حضرة الموت الطازج، كمغامرة مثيرة مليئة بالكلام الصامت، تتحول مع رتابة الصمت إلى حداد حقيقي لا يجد كلمات تعبر عنه ولا يمكنه المغادرة. الزمن يخفف من حدة تأثير الموت، كان هذا وقت أبي، لكن الزمن هنا تحوَّل مفهومة وانعدم معناه، اكتشفت أني لم أكن أرغب سوى في أيام قليلة مسروقة من الحرية، بعيدًا عن أي إنسان أحبه، فترة قصيرة فقط لكن دوام الغياب هذا وعدم وجود «آخر» أساسًا كان يعني انتهاء حريتي، يبدو فعلاً دون حاجة لذكاء خارق أني سأموت أيضًا ربما قبل خوض رحله كوالدي، وأنها لم تكن دعابة ثقيلة الظل؛ يا إلهي، أنا أموت! ويبقى العالم! تصور مربك لا يمكنني التفكير فيه ولا الكتابة عنه، هيا ننهي هذه الفقرة.
في كتاب يوميات الحداد الذي كتبه الناقد رولان بارت بعد وفاة والدته، والذي استعرت منه وصفه السابق للحداد «أفكر في أمي وهي موجودة قريبًا، كل شيء ينهار، ها هي البداية الرسمية للحداد الكبير، والطويل، لأول مرة منذ يومين، تقبلت فكرة موتي أنا شخصيًّا.. فكرة مذهلة ولكنها ليست محزنة، أن أمي لم تكن «كل شيء بالنسبة لي»؛ وإلّا ما كنت كتبت مؤلفاتي، منذ أخذت أرعاها، منذ ستة شهور، كانت بالفعل «كل شيء بالنسبة لي» ونسيت تمامًا أنني كنت أكتب، لم أعد مهتمًا بشغف إلّا بها، قبل هذا، كانت تجعل نفسها شفافة حتى أتمكن من الكتابة». الرعب من موت الآخرين في النهاية هو رعب ذاتي من الموت الشخصي لكن في النهاية ما ينتج «أدبًا حقيقيًّا هو مثل هذه الصدمات». لأنه موت ملهم ألهمه الكتابة، كما ألهمني موت صديقي بعض من تفاهة الحياة، على الرغم من كل شيء وبصرف النظر، كان الأمر ملهم.
الإنسان البدائي والأديان وأبناء الشرق
ربما لا يخفى على كثيرين تبعًا حتى للنصوص الدينية الارتباط بين الموت والحرية، الحرية بعيدة عن وجوده دائمًا، ارتبط الموت بممارسة الحرية لأول مرة مع طرد آدم من الجنة. لكن هذه الحرية أخذت تفسيرات لم تتوقف حتى اليوم منذ الإنسان الأول.
الموت للإنسان البدائي كان نتاج عمل عدو أو تأثيره الشرير، لم يكن الإنسان نفسه مسؤولاً عن الموت، كان يعتقد أن الآلهة بعثت بالموت إذ أخذتها الغيرة من الإنسان الذي طردها من الأرض، فأختار الموت لها والخلود له، لأن الموت هو الشر الأعظم؛ إذ لو كان غير ذلك لكانت قد ماتت هي الأخرى. كانوا يؤمنون بالخلود دون شك، كان هناك فارق بين الشخص الحي وجثته التي تبقى إلى الأبد. على سبيل المثال في كتاب الموتى، تجد يقينًا في الاعتقاد بدار الخلود كحقيقة لا شك فيها، أيضًا كان «المصريون القدماء شعبًا مريضًا تملكته فكرة الموت فأفنى زهرة حياته في كآبة ووقار في غمار الاستعداد لنهاية الحياة». تناقلت هذا المعتقد المتجاهل للموت واستمر إلى الآن؛ هناك معاصرون يعتقدون بتواصل الحياة بعد الموت على هيئة شبح؛ قبائل الإينوس وأبناء «تاسيمانيا وساموا» في اليابان يؤمنون أن للإنسان بديلاً روحيًّا، لأن الإنسان يظهر أحيانًا في الحلم فهذا هو البديل، بعض من في الإسكيمو يقولون إن للإنسان «اسم وروح» وبعد الموت يغادر الاسم إلى إمرأة حبلى ويولد من جديد، في «أريزونا» يعتقدون أن لكل شيء حتى الجماد أجسامًا أثيرية ونسخًا مطابقة للأجسام. ربما كل ذلك كان نتاجًا للخوف من الفقد والفناء، وربما كانت تصرفات الإنسان البدائي غير المهتم بالموت نتاج حياته الخطره أساسًا وتعرضه للموت باستمرار، فأصابه ذلك بالبلادة من الفكرة.
أغلب أبناء الشرق عمومًا، وفقًا لعدد ليس قليل من الأعمال الفنية التي تناولت «الحزن والموت» كثيمة قديمة ومعاصرة، يرون الموت مُخلِصًا أبديًّا للحزن ويعظِّمون الموتى والأموات. ثمة أيام بعينها للتذكر وإعادة المراسم، وأخرى للامتناع عن أطعمة غير مرحّب بأكلها كونها لا تتناسب مع وجود فقيد وأشياء أخرى تفضّل فيها «روح الميت» على رغبة الأحياء. وامتثالاً للوازع الديني المنتشر بين أبنائه، ربما كطقوس ظاهرية ليس كإيمان راسخ، يُبجِّل المؤمنون الحزن.
النظرة العبرانية اليهودية لديها أفكارها المتضادة عن الموت؛ ففي تفاسير الحاخامات أن الله امتدح الإنسان لذلك؛ فالشر (الموت) يأتي كخطأ من الإنسان ذاته، وما يهم هو ما بعده «وكثيرًا من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية.. وهؤلاء إلى العار.. إلى الازدراء الأبدي» بينما آخرون يرون نظرة مغايرة في عدم الاعتقاد بالآخرة أساسًا «كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها». وصف المسيح في الإنجيل في موقف الموت يقول «فلما رآها يسوع تبكي، واليهود الذين جاءوا معها يبكون، انزعج بالروح واضطرب» المسيح «رجل أوجاع ومختبر الحزن» عايش عذابات الفقد المستمر؛ حتى إن بعض التفاسير تقول إنه استمد اسمه كمسيح لأنه كان يمسح الأرض؛ أي ينتقل كثيرًا للدعوة. صلب المسيح ذاته بهدف «موته» حكاية ملهمة عن الموت والفقد ومدى تقبلهما للإنسان المؤمن. في سيرة نبي الإسلام محمد نجد فقدًا منذ الولادة، ربما هو ما جعله «الهاديء الزاهد»، جاءه عام وُصف بعام الحزن؛ بسبب فقد أحبّته؛ الأديان/الأنبياء إذن تستقبل الفقد والموت بالمشاعر الإنسانية ذاتها، وتعتبره أزمة البشر الكبرى التي تسبق خلوده بعد ذلك في النعيم لو امتثل، أو في الجحيم لو عصا، وعلى الرغم من أن ما يسبق الموت غير مركزي في «الأبد» فإن الموت يترك الأثر الصادم دائمًا في كل مرة للإنسان العادي كما للأنبياء.
جاك شورون ومشروع الموت الغربي
لم أعرف كاتبًا غربيًا اهتم بمسألة الموت والفقد في الغرب كما عرفت الفيلسوف جاك شورون، الذي قدَّم عدة كتب تُرجمت إلى العربية؛ مثل «الموت والإنسان الحديث» و»الانتحار» وأنضجهم كان «الموت في الفكر الغربي» الذي أرتكزُ عليه هنا وأعرض خلاصته، وترجمهُ كامل يوسف حسين وصدر عن دار المعارف، ركز مشروعه البحثي حول الموت والفقد منذ فلاسفة ما قبل سقراط وما بعده، والنظرة الحديثة إلى الموت، ينقل في أبحاثه أن فلاسفة ما قبل سقراط انعدم خوفهم ومجتمعهم من الموت في البداية، بينما تطورت النظرة مع وجود الإغريق الذين كانوا يرمزون للموت باعتباره «سُمًّا حلو المذاق»، وأعتقد أن حزن الإغريق الرهيب من الموت كان بسبب حياتهم الجميلة السعيدة، تحولت النظرة إلى رهبة الموت ووحشته رويدًا رويدًا. في الديانة الهوميروسية ومع وجود فيثاغورس علَّم الرجل تلامذته تناسخ الروح وعودتها إلى الله لكن تأثيره كان محدودًا على العامة، بينما فلاسفة أيونيا الحكماء استخلصوا نظرية «إذا كان الماء أصل كل شيء، فكل الأشياء واحدة»، وهي نظرة يفنى فيها الفرد ليبقى المجموع الإنساني.
في «شذرة إنكسماندر» وهو أول نص فلسفي أصلي نعرفه «إن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي نشأت عنها، وذلك أن بعضها يعوّض بعضًا وتدفع جزاء الظلم وفقًا لما يقضي به الزمان». فأكدت النظرة الفانية التي أصبحت تسيطر على الفلاسفة فيما بعد، ظهر التساؤل الأبدي: ما قيمة الوجود إذا كان عارضًا زائلاً؟ جعلتها نظرة هيراقليطس أكثر تفككًا عندما قال «إننا ننزل ولا ننزل في النهر ذاته، إننا موجودين وغير موجودين» جاء يشكك في الوجود ذاته فأصبحت النظرة إلى الموت مائعة؛ إن الفانين خالدون، والخالدين فانون، فأحدهم يعيش بموت الآخر ويموت بحياة الآخر. زاد تلميذه أقريطليوس الأمر صعوبة عندما قال «لا يستطيع الإنسان أن يخطو إلى النهر ولو مرة واحدة». عارضًا بذلك نظرة الفلاسفة الرواقيين والأبيقوريين التي ترى أن العالم يجدد نفسه باستمرار على مدار السنوات ليحدث عودًا أبديًّا للأشياء.
يصف شورون نظرة أنامساجوراس باعتبارها أول موقف متحرر إزاء الموت «لا يجب أن تتدخل ضروب البؤس وقصر الحياة، ينبغي أن تتدخل في غاية الحياة التي تتمثل في البحوث العلمية» قرر هذا الفيلسوف التفكير «عمليًّا» في الأمر باعتباره في جميع الحالات خارجًا عن إرادة سيطرتنا. بشكل ما يشبه نظرة ديمقريطس الذي كان يرى أن الهدف من الحياة هو السعادة وهي تأتي من تركيزنا على الممكن والمتاح، بعيدًا عما هو مستعصٍ على الفهم.
أسخيليوس كان يرى الموت شفاءً من الحياة، وأن الأمل في حياة أخرى ليس عزاءً حقيقيًّا؛ يقينًا هناك حياة أفضل تحفها البركة والقداسة، لكنها حجبت في رحم الغيوم، وهكذا فإننا نتشبث يائسين بروائع العالم الخداعة، لا لشيء إلا لأننا لا نعرف حياة أخرى.
«الموت وحده هو الذي لا يجد الإنسان شفاءً منه» هذه رؤية سوفوكليس، بينما يقول فيلسوف الآخر «إن الإنسان متناه وعابر، لكن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني بحس المسؤولية وبقوة عارمة للشخصية في مواجهة الموت».
عندما حُكم على سقراط بالموت قدم وجهة نظره تجاهه «الصعوبة ليست في الهرب من الموت، لكن الصعوبة الحقيقية في تجنب ارتكاب الخطأ». البعض يرى أن هذه النظرة «الشجاعة» للموت جاءت من إيمان الفرد بالخلود وحياة ما بعد الموت، وهو ما يمكن أن يحيلنا إلى نظرة «المؤمنين» للموت كشهادة وتضحية.
موت سقراط الظالم حوَّل نظرة أفلاطون التلميذ إلى «العدالة»؛ فقدم كتابه «الجمهورية» عن الحكومة الصالحة والتربية والشعب، ولم يتوغّل أكثر في نظرة الموت والخلود الذي ظل يعتقده. تلميذه أرسطو اعتقد أنه مستحيل وجود النفس في ذات أخرى، لكنه آمن بخلود العقل لأن «العقل أكثر من أي شيء آخر هو الإنسان، ومن ثَم قد يكون الموت شرًا لكنه ليس عبثًا» لذا علينا استعمال العقل في الخير لنا وللبشرية.
الفيلسوف ماركوس أوريليوس لم تكن الفلسفة عنده سوى معرفة القدرة على النظر للحياة والموت بشكل فلسفي. بعد زمان كبير وبعد ظهور الأديان سيظهر فيلسوف آخر هو مونتاني سيوافقه الرأي «التفلسف أن تتعلم كيف تموت. جميعهم اتفقوا على أن الموت جزء من نظام الكون وشرط الخلق، ومن يعرف أن الحرمان من الحياة ليس شرًا سيعرف كيف يتمتع بالحياة».
في الفلسفة الحديثة؛ كان رينيه ديكارت يرى أنه من خلال معرفتنا الصحيحة بالجسم البشري وعن طريق الغذاء المناسب سيغدو من الممكن مد عمر البشر إلى قرون عديدة. لكنه اكتشف بعد ذلك زيف الفكرة عندما قال «بدلاً من إيجاد سبل للحفاظ على الحياة، اكتشفت سبيلاً أكثر سهولة؛ هو ألا نخشى الموت». في ذلك وبعده وافقه سبينوزا؛ الأشهر بين فلاسفة القرن السابع عشر «على الإنسان الحر ألا يفكر في الموت، لأن حكمته هي تأمل الحياة». إيمانويل كانط لم يؤمن بالخلود بل بالشك في كل شيء «ليس في استطاعتنا أن نعرف أي موضوع كشيء في ذاته وإنما كموضوع للحدس الحسي».
انتقلت الفلسفة الغربية الحديثة شيئًا فشيئًا إلى أمرين متلاصقين؛ البُعد عن النظرة الدينية التي تضع الموت كشيء ينبغي تذكره دائمًا في حزن وصبر، إلى تجاهله بوعي كامل. وعكست أفكارها عن الحياة وطبيعة التأقلم داخلها فقط كغاية، بخلاف النص الديني المرتكز في غالبه على الموت وما بعده.
ربما نموذج الإنسان الغربي -باستثناءات قليلة- أكثر احتفاءً بالحياة من الإنسان الشرقي -باستثناءاته هو الآخر- نظرًا إلى سنوات خضع فيها وعيهما لأفكار الموت والفقد المختلفة. لم تكن الفلسفة في صراع مباشر مع الدين، ولم يكن الإنسان الشرقي في صراع مع نظرة الغربي للأمر ذاته، في الحالتين كان الموت ملهمًا لتصور شكل الحياة للإنسان عمومًا، ملهمًا للمعتقد والفكرة، وطريقًا وعرة لإنتاج أفكار والإيمان بها من أجل الحياة.