رؤى

أحمد يوسف

الموسيقى في السينما والسينما في الموسيقى

2018.05.01

الموسيقى في السينما والسينما في الموسيقى

 العلاقة بين الموسيقى والسينما علاقة بين فنين، أحدهما فن قديم قدم التاريخ الإنساني ذاته، وفن حديث هو ابن العصر التكنولوجي القريب. هذا يطرح اختلافًا آخر، فإذا كان فن الموسيقى يبدو (ظاهريًّا) كأنه لا يشهد طفرات هائلة في تطوره بما يغير جذريًا من جمالياته، فإن فن السينما يعكس كيف أن التكنولوجيا تؤثر كل يوم في انفتاح أفق جمالي جديد أمام السينمائيين. ومع ذلك، وعلى الرغم من تلك الاختلافات الجوهرية، فإن هناك صلة حميمة تربط بين فني الموسيقى والسينما؛ صلة بدأت مع ولادة السينما نفسها.

أرجو أن تتخيل أنك تحضر عرضًا من عروض السينما في بداياتها، بالقرب من نهاية القرن التاسع عشر. هناك آلة تعرض صورًا تبدو متحركة على الشاشة البيضاء في ظلام قاعة العرض (كانت آلة العرض آنذاك هي الكاميرا التي تصور أيضًا)، ولأن تلك الآلة تصدر ضوضاء مزعجة قد تشوش المشاهدة، تفتق ذهن أصحاب دار العرض عن وجود «مصاحبة صوتية» ما تغطي على هذه الضوضاء. وكان الحل هو الموسيقى، سواء عن طريق فرقة موسيقية يتحدد حجمها تبعًا لحجم دار العرض، أو بالاستعانة بالاسطوانات التي كانت تدار آنذاك باليد، مثل آلة العرض السينمائي ذاتها. وشيئًا فشيئًا اكتسبت هذه المصاحبة الموسيقية أهمية واضحة، إذ بدا أنها تزيد من تأثير الصورة المتحركة، كما لابد أنك قد شعرت بذلك حين تشاهد فيلما «صامتًا» قديمًا تم تركيب موسيقى مصاحبة عليه، وحملت هذه الموسيقى اسم «الموسيقى التصويرية».

لكن الحقيقة أن الموسيقى التصويرية أقدم في وجودها من ميلاد السينما، فقد عرفها فن المسرح، والأوبرا، والباليه، بل إن نوعًا جديدًا من الموسيقى ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يسمى «الموسيقى ذات البرنامج» أو «القصائد السيمفونية»، وهي الموسيقى التي تقول إنها تحكي قصة أو تصور منظرًا، على نحو ما فعل ريتشارد شتراوس في مقطوعة «هكذا تكلم زرادشت»، أو هكتور بيرليوز في «السيمفونية الخيالية»، أو موسورسكي في «صور في معرض»، وغيرهم كثير من الفنانين في العصر الرومانسي للموسيقى.

ولم يكن غريبًا أن تكون تلك المقطوعات نفسها من بين الموسيقى التي فضلها السينمائيون طويلاً كي تكون موسيقى تصويرية لأفلامهم. ولعل أوضح مثال على ذلك استخدام ستانلي كوبريك لموسيقى ريتشارد شتراوس «هكذا تكلم زرادشت»، في فيلمه «أوديسا الفضاء 2001» (2001: A Space Odyssey)، كافتتاحية توحي بجلال لحظة شروق الشمس على الأرض، أو استخدامه في نفس الفيلم لإحدى رقصات فالس يوهان شتراوس، لكي تصاحب مشهد سباحة سفينة الفضاء في الكون اللا نهائي.

لكن دعنا في البداية نضع خطوطًا رئيسية للعلاقة بين فني الموسيقى والسينما. فكلاهما فن «زماني» أي يمتد وجوده في الزمن (على عكس الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي فهما فنان مكانيان). وأنت لكي تصنع فيلمًا أو تتذوقه، تفعل ذلك خلال مساحة زمنية لها بداية ونهاية. وترتيب عناصر أي عمل بهذين الوسيطين الفنيين ترتيب يتبع مسيرة السابق واللاحق، وهي المسيرة التي لا يمكن لك أن تغير ترتيبها وإلا صرت أمام عمل آخر. الزمان إذن جوهر الموسيقى والسينما على حد سواء. ومن هنا كان لا بد لكل منهما الاعتماد على عنصر بالغ الأهمية، وهو «الإيقاع»، الذي قد يزداد سرعة أو بطئًا تبعًا للتأثير الذي تريد تحقيقه. وإذا كان توالي الصور واللقطات واحدة بعد الأخرى يشبه توالي النغمات في «اللحن»، فإن السينما تستطيع أن تمزج أيضًا بين لقطات متعددة من خلال المونتاج المتوازي، بما يذكرك في فن الموسيقى بالأسلوب «البوليفوني» أو التعدد اللحني لعدة ألحان مختلفة تسمعها في وقت واحد.

هذا من الناحية الجمالية لنقاط الالتقاء بين فني الموسيقى والسينما. لكن الميدان الرئيسي للتعايش بينهما هو ما سبق أن تحدثنا عنه حول «الموسيقى التصويرية السينمائية»، وهي الموسيقى التي تقوم بوظائف مهمة لكي يحقق الفنان السينمائي التأثير في المتفرج. ولعل أهم هذه الوظائف هي أنها تضع الفيلم في زمان ومكان محددين، مثل الأفلام الملحمية التاريخية على سبيل المثال، على نحو ما فعل المخرج السوفييتي إيزنشتين بالاستعانة بموسيقى شوستاكوفيتش ذات الطابع الملحمي لفيلمه عن القائد الروسي القديم «ألكسندر نيفيسكي»Alexander Nevsky . أو أن الموسيقى تقدم أرضية ناعمة للجو العاطفي للمشهد أو الفيلم كله، كما يمكنك أن تلمس بنفسك في أفلام مثل «تايتانيك»(Titanic) ، الذي اقترن بالأغنية الرومانسية التي غنتها سيلين ديون. كما أن الموسيقى قد تتيح جوًا مفعمًا بالبطولة في أفلام الحرب، على نحو المارش العسكري بصفارات فم الجنود في فيلم «جسر على نهر كواي» (The Bridge on the River Kwai)

بل إن الموسيقى يمكنها أن تجسد «تيمة» أو فكرة الفيلم. ففي المعالجة الأخيرة لرواية فيكتور هيجو «البؤساء»  (Les Miserables) في السينما، يظهر بين حين آخر، وفي اللحظات الدقيقة تمامًا، لحن واحد أو تنويع عليه، ليذكرك بأن البطل لا يجد مناصًا من الهروب الدائم، والحياة التي تتقلب به من حال إلى حال. وذلك هو ما يُعرف باسم «اللايتموتيف» Leitmotif أو «اللحن الدال»، حين يقترن لحن بفكرة أو شخصية ما، وهي تقنية تعود في الجانب الأهم من استخداماتها لأوبرات ريتشارد فاجنر. لكن أوضح صورة لهذه التقنية بدأت في السينما مع فيلم فريتز لانج «إم» (M)، حين اقترن أحد ألحان متتالية «بيرجنت» للموسيقي النرويجي إدوارد جريج بالقاتل الغامض الذي يغتصب الأطفال ويقتلهم. فكلما سمعت اللحن في الفيلم عرفت أن القاتل قريب، وأنه يمثل تهديدًا وخطرًا.

الجانب النظري من العلاقة

شغلت العلاقة بين الموسيقى والسينما كثيرين من أصحاب النظريات السينمائية والفنانين الموسيقيين والسينمائيين على السواء. وكان السؤال الرئيسي في هذا السياق: هل يجب على الموسيقى السينمائية أن «توازي» الصورة دائمًا، أم أنه يمكن لها أن تعارضها؟ وربما كان المثال الأوضح للتوازي بين الموسيقى والصورة  هو ما يسمى «الموسيقى الميكي ماوسية»Mickey Mousing ، التي تصاحب عادة أفلام التحريك للأطفال. فعندما ينزلق القط توم على السلم تهبط النغمات بدورها على السلم الموسيقي، وعندما يضربه القط جيري بالمطرقة، تسمع دقات الطبول. والحقيقة أن هذا النوع من الموسيقى ساد في الفترة الأخيرة فيما يعرف باسم «المونتاج الإيقاعي»، الذي ظهر في السينما المصرية في بعض أفلام شريف عرفة لعادل إمام مثل «اللعب مع الكبار» و«الإرهاب والكباب» و«طيور الظلام». في هذه الأفلام جميعًا قام مودي الإمام بتأليف هذه الموسيقى، التي تتشكل مع مشاهدته للفيلم واللعب على أزرار آلة «الأورج» معًا، وكأنه «يحاكي» بالموسيقى ما يراه من صور وتتابع مونتاجي على الشاشة.

لكن أغلب أصحاب النظريات السينمائية لا يميلون إلى هذه الموسيقى التي «تترجم» الصورة ترجمة حرفية، ويفضلون الموسيقى التي تخلق حالة من «التداعي» أو الارتباط غير الواعي بالصورة (هناك قاعدة مهمة في هذا السياق: الموسيقى الأفضل هي الموسيقى غير المحسوسة، أي التي لا تجذب الاهتمام لنفسها بحيث تصبح أكثر أهمية من الصورة). هذا الارتباط غير الواعي يتمثل في أمثلة واضحة عديدة، فالموسيقى النحاسية مرتبطة بما هو عسكري أو حربي، ومن ثمّ ترتبط بالبطولة، وهو الأمر الذي فعله جون ويليامز في فيلم غير حربي على الإطلاق، لكن التأثير المطلوب كان تجسيد بطولة الشخصيات، في سلسلة أفلام الخيال العلمي «حرب النجوم»(Star Wars). بينما كانت التقاليد في هذا النمط الفيلمي هي استخدام موسيقى إلكترونية للإيحاء بالفضاء.

بل إنه يمكن استخدام الموسيقى أحيانًا لمعارضة الصورة أو التأكيد على التناقض بينهما، فيزداد التأثير الوجداني لدى المتفرج، خاصة في اللحظات المأساوية. تأمل على سبيل المثال التتابع المونتاجي لمشاهد الإفطار التي تجمع الزوج والزوجة في فيلم «الموطن كين» (Citizen Kane)، حيث يصور التتابع تحلل العلاقة بينهما، فأنت تسمع على شريط الصوت موسيقى رقصة فالس مرحة، تزيد في تأثيرها من الإحساس بمرارة العلاقة التي ذوت وذبلت مع الأيام. وهناك أيضًا الرأي بأن الموسيقى السينمائية هي التي تجمع عناصر الفيلم المختلفة معًا، كأنها غلاف شفاف يضم بداخله القصة والشخصيات والصور، فتجعل المتفرج ينسى أنه يشاهد فيلمًا صامتًا أو بالأبيض والأسود، ليعيش معه وفيه كما لو أنه واقع حقيقي، وهكذا يتحقق الاندماج الكامل مع الفيلم.

لكن البعض يحذر من استخدام الموسيقى كنوع من «الكليشيهات» الجاهزة، التي تعكس في حقيقة الأمر رؤى وأيديولوجيات منحازة. لعل أوضح مثال على ذلك هو ما يمكن أن نسمعه في الأفلام التي يفترض أنها تدور في بلد عربي، فإذا بك أمام موسيقى ليست عربية على الإطلاق، لكنها مستمدة من «أرشيف» تقاليد هوليوود، حيث يصبح «الشرق» كتلة مصمتة واحدة، تخلط بين ما هو عربي وهندي وتركي وإيراني! (إن ذلك يتضح أيضًا في ملابس الشخصيات التي يفترض أنها عربية). وهذا التنميط هو الحيلة التقنية التي كانت هوليوود تلجأ إليها مرارًا وتكرارًا في أفلام لم تبذل جهدًا حقيقيًّا في تأليف موسيقاها. على سبيل المثال كل أفلام «طرزان» تصاحبها موسيقى غرائبية يتصور صانعوها أنها أفريقية، كما أن أفلام رعاة البقر (الويسترن) تلجأ إلى ما تفترض أنه موسيقى الهنود الحمر، في المشاهد التي تصور تهديدًا للبطل سوف يأتي من جانب أهل البلاد الأصليين، مع أن الذي يضع هذه الموسيقى ليس هنديًّا أحمر على الإطلاق، وهو ما يمكن أن تسمعه في أفلام معادية للهنود الحمر مثل فيلم جون فورد «عربة السفر»(Stage Coach) ، أو حتى أفلام تناصرهم مثل فيلم كيفن كوستنر «الرقص مع الذئاب» (Dances with Wolves).

تاريخ الموسيقى السينمائية

بدأت الموسيقى السينمائية كما سبق القول مع المصاحبة الموسيقية للأفلام الصامتة، سواء عن طريق عازف أو عدة عازفين أو حتى أوركسترا كامل، أو باستخدام آلة الفونوغراف. وكانت هذه الموسيقى تضفي اللحم والدم على صور متحركة مرتعشة بدائية بالأبيض والأسود. وكانت المقطوعات الموسيقية المعزوفة تتراوح بين موسيقى مؤلفة خصيصًا للفيلم، أو موسيقى مقتبسة من المخزون التاريخي للموسيقى التي نعرفها باسم الكلاسيكية. لكن شيئًا فشيئًا ظهرت مؤلفات موسيقية تُنشر في مطبوعات، تدعى «النصوص الموسيقية للأفلام»، وتستخدم بشكل نمطي مع أي فيلم متواضع (كانت الأفلام القصيرة تصنع آنذاك بالمئات كل أسبوع)، فهذا لحن يعبر عن الحزن، وذاك يعبر عن الفرحة؛ لحن يصاحب المشاهد التي تدور في الطبيعة، وآخر للمشاهد التي تدور في القصور.

ومع ظهور ما نعرفه باسم «السينما الناطقة»، أصبح ممكنًا تسجيل الصوت متزامنًا مع الصورة على شريط السليولويد، بحيث يتطابقان دون خلل كما كان يحدث في السابق مع المصاحبة الموسيقية المنفصلة، وكان ذلك إيذانًا بأفق رحب جديد ينفتح أمام الموسيقى السينمائية. وتجلى هذا الأفق على نحو فني رفيع في أفلام لم تستسلم للصوت (ومن عناصره الموسيقى) بحيث يكتسب أهمية يتفوق بها على الصورة. ولعل أكثر الأمثلة شهرة وطرافة في هذا السياق هو التصور الذي وضعه شارلي شابلن لاستخدام الأغنية في فيلمه «العصور الحديثة» (Modern Times)، فقد كان شابلن –فنان السينما الصامتة العبقري– يرى أن الصوت (والموسيقى) لن يضيفا كثيرًا للصورة، لكنه وقد اضطر لصنع فيلم ناطق سوف يستخدم الأغنية على نحو بالغ التفرد: إن بطل الفيلم، الصعلوك الأبدي عند شابلن، يقرر أن يغني أغنية أمام جمهور إحدى الحانات، ولكي لا ينسى الكلمات فقد دونها على أسورة قميصه، التي تطير بعيدًا عنه مع أول حركة راقصة، فيكون عليه أن يرتجل أغنية بلغة لا وجود لها، ومع ذلك فإنها –مثل بقية عناصر الفيلم الأخرى– تساهم في صنع كوميديا راقية.

من جانب آخر، استخدمت الموسيقى بشكل بالغ الإفراط في الأغلب (وإن لم يخلُ أحيانًا من لمحات فنية) فيما يسمى «الفيلم الموسيقي أو الغنائي»، فجاءت أفلام تحتشد بالنمر الموسيقية الراقصة، التي تعتمد في معظم الأحوال على المجاميع. لكن التأثير السلبي للصوت بدا في أن الصورة أصبحت تابعة له، ولم يعد ممكنًا –في ظل التقنيات البدائية آنذاك – التحرك بحرية، فالممثلون مقيدون قريبًا من الميكروفون، والموسيقى تصدح كأنها تعلن انتصار التقنية الجديدة، حتى أنها لم تكن تتوقف عن العزف في معظم مشاهد الفيلم. ومن أطرف الأفلام في هذا السياق الفيلم الذي أنتج في خمسينيات القرن العشرين، عن أفلام الثلاثينيات، وهو فيلم «الغناء تحت المطر»  (Singing in the Rain)، الذي أخرجه ستانلي دونين وجين كيلي، ويصور على نحو ساخر أجواء صنع الأفلام الموسيقى في فترتها البدائية.

لكن التطور الجمالي الأهم –والذي ما يزال باقيًا حتى الآن– هو ما يُعرف باسم «موسيقى الخلفية»، التي أصبحت من تقاليد هوليوود في عصرها الكلاسيكي، وهي الموسيقى التي يمكن وصفها بأنها تساعد –على نحو غير محسوس– على اندماج المتفرج مع العالم الذي تخلقه قصة الفيلم. هذه الموسيقى تخضع للحوار ولا تطغى عليه، وتؤكد بشكل خفي على طابع كل شخصية، وتحافظ على وحدة السرد واستمراريته، بقدرتها على إخفاء الثغرات السردية عندما يتغير مكان أو زمان الأحداث، كما تقدم خلفية عاطفية للمشهد.

وشهدت الخمسينيات تطورًا آخر، عندما دخلت موسيقى الجاز والبلوز والبوب والروك آند رول إلى موسيقى الأفلام، لتضفي عليها مسحة معاصرة طازجة لا تخطئها العين. إن موسيقى الجاز في فيلم «عربة اسمها الرغبة» (Streetcar Named Desire) على سبيل المثال توحي بأجواء البيوت التي تسكنها الطبقة الفقيرة؛ بيوت ضيقة تمثل كبتًا للمشاعر والأحاسيس التي على وشك الانفجار. كما أن شريط الصوت الذي يحتشد بموسيقى وأغنيات قادمة من مصادر واقعية أصبح سمة للأفلام ذات المسحة الواقعية في الستينيات والسبعينيات (وهو الأمر الذي تأثرت به أفلام عاطف الطيب ومحمد خان على نحو شديد الوضوح). هذه الموسيقى التي تغلف الفيلم كله يمكنك أن تسمعها في فيلم سكورسيزي «سائق التاكسي» (Taxi Driver)، وتجعلك تعيش أجواء الليل في نيويورك في تلك الفترة، التي كانت تمثل للبطل، العائد من حرب فييتنام، حصارًا وجدانيًا يدفعه لاتخاذ مواقف متطرفة من الحياة.

لكن هيتشكوك يجسد مثالاً فريدًا في استخدام الموسيقى، فهي كثيرًا ما تصبح عنده بديلاً للأصوات الطبيعية التي توحي بالرعب أو الفزع. في مشهد شهير من فيلمه «سايكو» (Psycho) تكون البطلة قد دخلت إلى «البانيو» لتأخذ حمامًا، ليتسلل القاتل ممسكًا سكينًا وينهال عليها بالطعنات. عندما ترى وتسمع هذا المشهد، سوف تفاجأ بأن هيشكوك لم يعرض لك نقطة دم واحدة، فقد كانت البطلة تقف وراء ستار الحمام، لكن الأهم أنك لم تسمع لها صراخًا، فقد استخدم بدلاً عن ذلك صريرًا عاليًا للآلات الوترية، في موسيقى أكثر تأثيرًا بكثير مما لو كان قد استخدم أصواتًا طبيعية.

الموسيقى والسينما في السينما المصرية

إن العلاقة بين فني الموسيقى والسينما لا تتوقف فقط عند النواحي الجمالية أو التقنية، بل التجارية والجماهيرية أيضًا. فالارتباط الذي تحقق بين بعض الأفلام وموسيقاها كان سببًا في النجاح التجاري (وأحيانا الفني) للاثنين معًا، ويمكن لك أن تتذكر في هذا السياق موسيقى أفلام مثل «الطيب والشرس والقبيح»  (The Good, the Bad and the Ugly)، أو «الأب الروحي» (Godfather)، أو «الحارس الشخصي» (Bodyguard)، أو أفلام جيمس بوند بالتيمة اللحنية الشهيرة.

لكن الموسيقى في الأغلب الأعم من الأفلام المصرية تعني «الغناء»، وربما لا يمثل ذلك عنصرًا سلبيًّا إذا ما اتسق مع «الأسلوب» الذي يتبناه الفيلم. تستخدم السينما المصرية –مثلها في ذلك مثل السينما الهندية– «خلطة» من الميلودراما والغناء والرقص والموسيقى. وربما كان أكثر الأمثلة سخرية من هذا الأسلوب هو ما يتكرر في أفلام المخرج المصري (الذي يستحق الدراسة المتأنية) عباس كامل، فهو على سبيل المثال في فيلمه «شباك حبيبي» يقدم الممثل والمطرب الكوميدي عزيز عثمان في دور صاحب مكتب توريد الخادمات، إنه يغني أغنية تعبر عن إرساله لبعضهن إلى بيوت تطلبهن، إلا البطلة نور الهدى التي تسأله عن عمل، فيجيبها أن الأغنية التي أعطوها له ليس فيها عمل لها!

هذه السخرية من الإفراط في استخدام الأغنيات في الأفلام المصرية، وهي السخرية التي نراها تمثل نموذجًا مصريًّا خالصًا وناضجًا لما بعد الحداثة، قبل ظهور ما بعد الحداثة ذاتها، ألقت الضوء على أخطاء أسلوبية في الكثير من الأفلام المصرية، حتى أكثرها تقدمًا. لم يكن منطقيًّا في فيلم «واقعي» في أسلوبه مثل «العزيمة» أن ينقطع سير الدراما، لكي تصعد البطلة فاطمة رشدي إلى سطح منزلها، لتغني أغنية حزينة، حتى لو لم يكن للموسيقى أي مصدر واقعي!

لكن السينما المصرية لجأت إلى ما يسمى «مختارات من الموسيقى العالمية» (هكذا كان يُذكر في عناوين الأفلام) كموسيقى تصويرية، ولعل أشهر هذه المختارات كان موسيقى موسورسكي «صور في معرض»، وخاتشادوريان «جيانه»، وكورساكوف «شهر زاد». بل بلغ الخلط بين هذه المقطوعات الموسيقية على اختلاف طابعها، أن استخدمت ثلاث مقطوعات مختلفة في مشهد واحد فقط لا يستغرق أكثر من دقيقتين من فيلم حسن الإمام «لن أبكي أبدًا»، وهي السيمفونية السادسة والمارش السلافي لتشايكوفسكي، وافتتاحية ضربات القدر  لفيردي.

لكن سرعان ما استعانت السينما المصرية في موسيقاها التصويرية بملحنين مطربين مشهورين، مثل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي، الذين جاءت ألحانهم أقرب فقط إلى «النقلات» الموسيقى منها إلى الموسيقى السينمائية. غير أن الموسيقى في الأفلام المصرية شهدت طفرة كبرى مع واحد من أهم وأغزر من ألفوا الموسيقى التصويرية في مصر، وهو فؤاد الظاهري. ألف الظاهري عملًا موسيقيًّا يدعى «الأرض الثائرة» ظل ينتقل به من فيلم إلى آخر، بالإضافة للاستعانة بتيمات لحنية شعبية مثل «يمامة حلوة» أو «يا خولي الجنينة» أو «آه يا زين». والغريب أن فؤاد الظاهري لم يكن يغير قط في أسلوب موسيقاه مع اختلاف العالم الفيلمي، لا فرق في ذلك بين واقعية «شباب امرأة»، ووطنية «رد قلبي» أو «بور سعيد»، أو كوميدية «الزوجة 13»، فهو يعتمد دائمًا على انفجار الموسيقى الجياشة بالعاطفة في لحظات الذروة الدرامية أو الميلودرامية.

وكان من الممكن أن تشهد الموسيقى التصويرية المصرية تطورًا حقيقيًّا على يد مؤلفين، كتبوا لها بين حين وآخر، مثل عبد الحليم نويرة أو سليمان جميل، لكن معالجاتهم المرهفة توارت أمام صخب موسيقى فؤاد الظاهري، الذي لم يظهر له منافس إلا بالقرب من نهاية الخمسينيات، مع ظهور أندريه رايدر. أضاف رايدر لمسة مغايرة بتقديم تنويعات بالغة التباين، قد تتراوح بين البهجة والحزن، للحن رئيسي واحد هو من ألحان إحدى أغنيات الفيلم. ومثالاً على ذلك يمكنك أن تتأمل التنويعات العديدة التي قدمها على لحني أغنيتي «بتلوموني ليه» و«في يوم في شهر في سنة» في فيلم «حكاية حب».

ومن النقطة ذاتها بدأ على إسماعيل، الذي قدم تنويعات لحنية في فيلم «يوم من عمري»، على أغنيات «ضحك ولعب» و«بأمر الحب». لكن إسماعيل استطاع أن يطور أدواته على نحو لم يستطع أحد أن يجاريه فيه، بمقطوعات قصيرة لكنها متقنة، ذات سمات شعبية صالحة تمامًا كي تصاحب النمر الراقصة لفرقة رضا في فيلمي «أجازة نص السنة» و«غرام في الكرنك».  ومن المشاهد السينمائية التي لا يمكن أن تنسى بفضل موسيقاها المصاحبة، مشهد جمع القطن في فيلم «الأرض»، الذي عبر عن فرحة الفلاحين بحصد نتيجة جهدهم وعرقهم، عندما استخدمت أغنية «نورت يا قطن النيل» على نحو مفعم بالبهجة، كان مقصودًا لكي يتناقض مع لحن آخر بالغ الأسى في الفيلم ذاته، وهو «أرضنا وعطشانة»، الذي يعبر عن جفاف الأرض التي منع عنها «الباشا» مياه الري.

للأسف شهدت السبعينيات والثمانينيات نوعًا من التراجع في الموسيقى السينمائية المصرية، مع استخدام آلات إلكترونية مثل «الأورج» و«الجيتار الكهربي»، الذي طغى على التأليف الموسيقى، بحيث يصبح مجرد «ضوضاء» موسيقية مستمرة بلا تأثير فني أو درامي حقيقي. هذه الموسيقى قام بتأليفها «عازفون» (وليسوا مؤلفين موسيقيين بالمعنى الدقيق للكلمة) مثل مجدي الحسيني وهاني مهنا وعمر خورشيد. وكان هذا سببًا في عودة بعض الأفلام إلى أسلوب فؤاد الظاهري، مع ظهور جمال سلامة في الساحة، والذي يعتمد على «الصخب» الموسيقي الذي لا يمكن لك أن تشعر بأي فرق بين موسيقى فيلمين قام بالتأليف الموسيقي لهما.

ولولا ظهور بعض المواهب الحقيقية في هذا المجال، لم يكن مقدرًا لجيل جديد من السينمائيين صنع أفلام تتسم بالرهافة، فاستعان محمد خان بكمال بكير، وداود عبد السيد براجح داود، وشريف عرفة بمودي الإمام. لكن واقع الموسيقى السينمائية اليوم في السينما المصرية قد عاد للأسف إلى مراحل بدائية. وقد تسمع أحيانًا لمحات شديدة الندرة من الرهافة لموسيقى ياسر عبد الرحمن أو عمار الشريعي أو عمر خيرت (مرة أخرى لن تجد في الأغلب حتى عندهم موسيقى ترتبط بالفيلم ارتباطًا وثيقًا إلا فيما ندر)، بينما تغلب حالة من الصخب السمعي تتماشى مع الصخب البصري على الشاشة، وأصبحت نمرة «العربدة الغنائية الراقصة» من ثوابت الأفلام المصرية في المرحلة الأخيرة.

وإذا كنا نؤكد دائمًا على أن الموسيقى والسينما فنَّان وثيقا الصلة، فإن الإفراط في المصاحبة الموسيقية يؤدي إلى فقدان الإحساس بوجودها، بينما المفروض أن توجد في اللحظات التي يحتاج الفنان لها فقط. إن السؤال الحقيقي الذي يطرحه الفنان على نفسه ليس فقط هو «أين أضع هذه الموسيقى؟» بل أيضًا «أين يجب أن تغيب الموسيقى؟»، فمع الصخب الموسيقي المستمر، سوف تعود السينما إلى المرحلة الصامتة، برغم كل ذلك الضجيج على شريط الصوت!