دراسات

أيمن عيسى

النهضة الأدبية عند سلامة موسى... تغريب أم تجديد لم تكتب له الحياة؟

2018.01.01

النهضة الأدبية عند سلامة موسى... تغريب أم تجديد لم تكتب له الحياة؟

أثارت أفكار سلامة موسى (1887 - 1958) جدلًا واسعًا في حياته، ووُجِّهت إليها سهام النقد من كل حدب وصوب، ورغم هذا فقد تركت أثرًا كبيرًا في جيله وفيما لحقه من أجيال. بيد أن الضجيج الصاخب لتلك السهام الوافرة كان من القوة بحيث كاد يطمس معه سيرة الرجل وجهوده

ويَحُول دون أي سعي جاد إلى قراءة فكره قراءة موضوعية ترده إلى نصابه وتضعه في موضعه المستحق. فقد رماه المحافظون والإسلاميون صراحة بأنه “أخطر عملاء الغزو الفكري” وأنه “عدوُّ العروبة والإسلام”، وأكثروا من وسمه بالتَّالف الغبي، كما نال قسطًا وافرًا من الاتهامات القاسية وجهَّها إليه العلمانيون واليساريون؛ إذ رماه غير واحد منهم بالجهل، ووسمه أحدهم بأنه “المندوب السَّامي للفكر الاستعماري”.

تسعى هذه الدراسة إلى الوقوف على تصور سلامة موسى للأدب المنشود وحقيقة موقفه من الأدب العربي، وذلك من خلال محاولة إعادة قراءة فكره النهضوي لتحديد الخطوط الرئيسة لذلك التصور، وتحديد مدى أصالته وجدواه. وهي لا تسعى إلى التضخيم والتهويل بنسبة نظريات أو مشاريع نهضوية مصطنعة إليه، كما أنها لا تسعى إلى الحط من شأن ما قدمه من أفكار قد يُختلف في قيمتها. ومدخل هذه الدراسة في القراءة هو فحص دلالة ثلاثة مصطلحات جاءت متشابكة في كتاباته هي: البلاغة، والأسلوب، والأدب. وذلك في إطار ما تبناه من مذاهب، ونظريات، ونزعات فلسفية؛ مثل: الداروينية، والبراجماتية، والاشتراكية

البلاغة المنشودة

رأى موسى بتأثير من البلاغة الأوربية الحديثة ضرورة تجاوز البلاغة العربية التقليدية التي عرَّفها بأنها: “فن مخاطبة العواطف”، وذلك لأنها تضرُّ بالتفكير العقلي بما تُحدثه من التباس واتجاه نحو البهرجة والتزويق. كما أنها تحرض بطريقة تدريسها على الاستظهار والتقليد ومن ثم إهمال التفكير الحر وهذا ما يحول دون التطور والنهوض. وقد اقترح موسى بلاغة جديدة تقابل تلك البلاغة التقليدية عرَّفها بأنها: “علم يُراد به مخاطبة العقل”، ويتضح بذلك التحول تلك النزعة العلمية التي سيطرت على موسى بأثر من النظرية الداروينية التي صاغت معظم أفكاره واستشرت في جلِّ كتاباته. فقد أحال هذا الاقتراح البلاغة من “فن” إلى “علم” يتأسس على المنطق لتكون “مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلًا من مخاطبة العواطف”، وهذا ما يجعل غاية البلاغة تتفق وغاية المنطق؛ فكلاهما يعصم الذهن من الخطأ في التفكير ومن ثم يعصمه من الخطأ في التعبير.

وتعضيدًا لهذا المنحى الجديد أكد موسى -في غير موضع- أهمية الأرقام في البلاغة، كما أعلى من شأن علم الإحصاء، ورأى ضرورة استعانة الكُتَّاب بهما في الحجاج بدلًا من الاستعانة بالاستعارات والمجازات، فيقول: “كانت البلاغة القديمة... قائمة على استعارة جميلة أو مجاز طريف أو سجعة حلوة؛ ولكن بلاغة الكاتب المثقف الحديث يجب أن تقوم على جعبة ضخمة من الإحصاءات التي يعرف كيف يستغلها ويثبت بها نظرياته أو فروضه”.

والبلاغة الجديدة عنده بلاغة دينامية تجريبية لا تعرف الثبات والجمود؛ فهي متطورة كما يتطور كل شيء في هذا الوجود. وبناء على ذلك التحديد المنطقي والرياضي صارت وظيفة البلاغة الجديدة عند موسى هي العمل على “إزالة الالتباس”. أما البلاغة القديمة فقد رأى إمكان استعمالها في التوجيه، يقول: «على أن البلاغة القديمة -بلاغة الانفعال والعاطفة- يمكن أن نستخدمها للتوجيه الاجتماعي في الأمة، ولكن مع الحذر من أن يعود هذا التوجيه لدعاية سيئة لأحد المذاهب الضارة». وذلك يعني أن البلاغتين عنده تتكاملان ولا تتعارضان، وأنه لم يرفض البلاغة التقليدية رفضًا مطلقًا كما تصور بعض النقاد.

والحق أن هذا المنحى الذي يحصر وظيفة البلاغة في إزالة الالتباس كان منحى تغريبيًّا في الأساس، نشأ فيما يبدو -أولًا- من اتصال موسى العابر بالإستطيقا السيمائية عند فلاسفة المنطقية الوضعية والتحليل اللغوي الذين اتخذوا من كتاب أوجدن وريتشاردز Ogden and Richards (معنى المعنى) The Meaning of Meaning مرجعًا رئيسًا لهم. وترتكز أطروحة ذلك الكتاب على فكرة إزالة الالتباس التي تمسَّك بها موسى وروَّج لها.

 ونشأ -ثانيًا- من تبني موسى موقف الفكر الأوربي العام من الغموض وتعدد المعاني وازدواجها؛ فقد كان -في معظمه- موقفًا رافضًا وغير متسامح، يرى في التعدد عجزًا ونقيصة، وذلك من لدن أرسطو إلى عصر التنوير والحداثة. وكان موقف الحضارة الإسلامية في المقابل موقفًا مغايرًا تمامًا، لأنها لم تكن ترى أن التعدد يُعرقل التواصل بل رأت فيه مصدر ثراء وزيادة. وكان ثمة ازدهار وتقبل لهذا التعدد قبل حقبة التنوير الأوروبي لكنه سرعان ما تهاوى في مرحلة التنوير، لأن التعدد لم يكن ليتفق مع مشروع خلق لغة واضحة صارمة تصف الحقائق، كذلك فهو يتعارض مع الرغبة في إيجاد لغة عالمية دقيقة تزيل الالتباس والخطأ. ولم تحدث الانفراجة إلا على يد وليم إمبسون الذي عد التعدد معيارًا للجودة الأدبية. وهذا التصور الغربي للتعدد أثَّر كما قال توماس باورThomas Bauer في العالم العربي بالسلب حين استقبله فيما استقبل من أفكار في النصف الثاني من القرن العشرين.

وبهذه الوظائف التي حددها موسى للبلاغة بشطريها التقليدي والجديد، يكون قد حصرها في نطاق عملي ضيق تجاهل معه -إلى حد كبير- وظائفها الجمالية.

البلاغة السيمائية

يبدو من كتابات موسى أنه كان على إلمام عام ببعض المنجزات اللسانية في الغرب في حقل السيمائية Semantics وببعض الدراسات السيكولوچية. وهذا يتناسب مع اختزاله وظيفة البلاغة في فكرة “إزالة الالتباس” وفكرة تحري الأساليب الواضحة البعيدة عن الإغراق في الزينة والزخارف.

 وقد جذبه إلى السيمائية أنها تطارد الزخارف وتبتكر الألفاظ الخادمة، وأن وظيفتها إيجاد بلاغة جديدة تُستخدم فيها كلمات اللغة للدقة التفكيرية والتوجيه الاجتماعي. والحق أن موسى كان سابقًا للعقاد في الترويج لكلمة “سيمائية” وتعريف القراء بها في تلك المرحلة المتقدمة، وقد رأى مجمع اللغة العربية الأخذ باقتراح العقاد في تسمية هذا العلم بالسيمية، ولم يتعدَّ اقتراح العقاد شيئًا مما ذكره سلامة موسى قبله بسبع سنوات بل ردَّد ما قاله بحذافيره.

 عرَّف موسى السيمائية في مقالة نشرها بمجلة الكاتب المصري في سنة 1948 عنوانها: “السيمائية المنطق اللغوي الجديد” بأنها: “علم الكلمات؛ أي العلامات للمعاني من حيث دقة مدلولها المنطقي أو الاجتماعي، أو من حيث تطور المعنى وما يعتور كل هذا من اضطراب المعنى أو سداده”.

وأشار إلى أن مرمى العلم الجديد الوقوف على أخطاء التفكير التي تبعثها أخطاء التعبير باستعمال كلمات فقدت مناخها الاجتماعي الذي نشأت فيه، أو باستعمال كلمات سيئة تبعث على الجريمة، أو باستعمال كلمات ذاتية تضطرب بها المعاني.

يتضح من تلك المقالة وغيرها أنه كان على اطلاع عام بكتاب أوجدن وريتشاردز: “معنى المعنى” وبكتاب ريتشاردز: “فلسفة البلاغة”  The Philosophy of Rhetoric. ولا يخفى أن اهتمامه بهذا الأمر كان نابعًا من رؤيته الاجتماعية للغة والبلاغة والأدب، وهي رؤية براجماتية تتصل اتصالًا وثيقًا بالمنزع العلمي للرجل، وبتبنيه للاشتراكية، والمذهب الواقعي.

الأسلوب هو الرجل

عني موسى بالحديث عن الأسلوب في مواضع كثيرة من كتبه، عَرَّفه، وبيَّن كيفية التمييز بين الأساليب المختلفة وعَقد بعض المقارنات بين الكُتَّاب على أساسها. ولم تَفُته الإشارة إلى دوافع الأساليب، وطرائق فحصها. وحرص على الربط بقوة بين الأسلوب وصاحبه؛ فالأسلوب وثيق الصلة بحياة صاحبه، وأخلاقه، ونفسيته، وفكره. فمن أجل أن نتعمق في الأسلوب، يجب أن نعرف حياة الكاتب، وتفاصيلها، والمؤلف كما يؤلف الكتب التي تباع للجمهور، يؤلف أيضًا حياته، وربما تكون حياته هي خير مؤلفاته. والمتأمل في تصور موسى للأسلوب يستنتج أنه صدر فيه عن مقولة العالم الفرنسي چورچ دي بوفون Georges de Buffon: “الأسلوب هو الرجل” وقد تُرجمت خطبة بوفون التي وردت بها تلك العبارة الشهيرة في مجلة المقتطف التي كان موسى ضيفًا دائمًا عليها، وذلك في سنة 1909.

عَرَّف موسى الأسلوب في بعض كتبه بأنه: «هو الشخص، هو الشخصية». وقال في موضع آخر: «هو الناحية المزاجية، أو الأخلاقية، أو النفسية للكاتب». وحدَّده تحديدًا عامًّا بأنه: «الناحية الأخلاقية للكاتب؛ فإذا كان الكاتب فنانًا يعيش الحياة الفنية وينظر إلى الدنيا من خلال العدسة الفنية؛ فأسلوبه فني، وإذا كان عالمًا؛ فأسلوبه علمي، وإذا كان اجتماعيًّا، إلخ.».

وهذا يفسر إيغال موسى في التوجُّه نحو ترجمة الكاتب، وروح العصر، أو الطابع الوطني والقومي للشعب أكثر من توجهه إلى النصوص نفسها، لأن المفهوم البوفوني مفهوم تعبيري ذو نزعة مثالية قادت العناية بها إلى إغفال عناصر أخرى مهمة تتعلق بالأسلوب وهو الأمر نفسه الذي وقع فيه موسى، حيث غالى في ربط الأسلوب بحياة الكاتب، وجعل فن السيرة الذاتية في صدارة الفنون الأدبية.

ثنائيات الأسلوب

صنف موسى الأساليب -على المستويين النظري والتطبيقي- في صورة ثنائيات متضادة ميَّز فيها بين ضربين من الأساليب؛ أحدهما مرفوض والآخر يُمثل تطلعه النهضوي للأسلوب المنشود وفق الصورة الغربية التي ارتآها، وكان سبيله في هذا سبيل الرصد والوصف. ومن الأساليب التي رُصدت في مجمل كتبه ما يلي:

- الأسلوب الشعبي (أو الديمقراطي) ويقابله الأسلوب الأرستقراطي.

- الأسلوب الموضوعي ويقابله الأسلوب الذاتي.

- الأسلوب الاقتصادي (التلغرافي) ويقابله الأسلوب المزخرف.

- الأسلوب الأدبي ويقابله الأسلوب العلمي.

- أسلوب الأفكار ويقابله أسلوب الألفاظ.

- الأسلوب التقليدي ويقابله الأسلوب المتطور.

- الأسلوب السلفي ويقابله الأسلوب المستقبلي.

يُلاحظ في تلك الثنائيات المتداخلة وسياقاتها الأثر البالغ للداروينية في تشكيلها وبخاصة ما يتعلق منها بالأسلوبين العلمي والأدبي، والأسلوبين التقليدي والمتطور. ويلاحظ كذلك أثر الاشتراكية الذي يتجلى في حديث موسى عن الأسلوب الشعبي والأسلوب الاقتصادي والمستقبلي تلك الأساليب التي ربطها -في سياق حديثه عن الأدب- بالمذهب الواقعي، وبفكرة الالتزام. وقد حكمت هذه المذاهب والنظريات تصوره للغة والأدب كما سيتضح فيما بعد.

صورة موجزة لأساليب الأدباء

   لم يقتصر الأمر عند موسى على تحديد تلك الثنائيات التي حاول فيها حصر الأساليب ونقدها؛ بل انتقد عمليًّا بعض أساليب كتاب عصره من العرب وإن كان انتقاده صحافيًّا خاطفًا. فعل هذا في مواضع متفرقة من كتبه، كما نشر في سنتي 1923، و1924 مجموعة مقالات قصيرة في مجلة الهلال عنوانها “صورة موجزة لأدباء مصر” حاول فيها أن يُوجز أسلوب كل كاتب وطريقته في الكتابة؛ فتناول المنفلوطي، والعقاد، والرافعي، وطه حسين، وحافظ إبراهيم، والآنسة مي زيادة وخليل مطران، وشوقي. وسعى إلى ربط الأساليب بالثقافة التي يمتح منها الكاتب أو بالإثنولوچيا التي ينتمي إليها؛ فأسلوب المنفلوطي عنده حلو لبق تَصدق عليه المقولة الفرنسية “الأسلوب هو الإنسان” وحلاوة أسلوبه كثيرًا ما تخدع عن تقدير المضمون المنطوي في ألفاظه، وأسلوبه أقرب إلى أساليب الصحافيين الفرنسيين، وهو يُذكِّر بمقالات ماكولي المؤرخ الإنجليزي. وأما أسلوب العقاد فقوي أنيق لا مِثل له في العربية وهو أشبه في النثر بالجاحظ وابن أبي الحديد وغيرهما من الفطاحل. وأما الرافعي فشعره يمتاز بقوة الصنعة، ولكن خياله عربي تقليدي وهو يجيد الصنعة أكثر مما يجيد الفن. أما طه حسين فإنه يعنى بالفن أكثر من عنايته بالصنعة؛ فهو يعنى بالموضوع أكثر من حيث قيمته الأدبية ومنفعته للقارئ ولا يبالي بتزويق العبارة. أما حافظ إبراهيم فأدبه يجري على الطريقة الرومانتيكية وهو أشبه فيها ببيرون الإنجليزي، وهيجو الفرنسي. وأما أسلوب مي زيادة فيتسم بالسلاسة والصنعة، ويدل على أن الطريقة الجديدة في الشعر المنثور التي جرى عليها أكثر الكتاب السوريين في المهجر قد تسربت إليها على غير وعي منها.

لقد حكمت نظرة سلامة موسى في تلك الأساليب رؤيتُهُ الاجتماعية للأدب؛ فربط شعر شوقي بمزاجه وتكوينه الإثنولوچي وكذلك فعل مع مي وغيرها، وأكد في كلامه عن شوقي أن السبيل في نقد الأدب أن نقدره بمقدار ما فيه من قيمة اجتماعية وما له من أثر في الوسط الذي نشأ فيه.

تناول موسى الأساليب الغربية كذلك في كتابه “الأدب الإنجليزي الحديث” الذي يُعد في حقيقته دراسة عامة لأساليب الكُتَّاب الإنجليز الذين ناقشهم. فقد فَضَّل فيه أسلوب داروين على سذاجته، وآثره على غيره؛ لأن أسلوب التفكير الذهني الذي يتميز به داروين خير عنده من العاطفة المزيفة التي يجدها عند أوسكار وايلد وأضرابه. ويميز موسى بين أسلوبي داروين ونيتشه؛ فيرى أن داروين على الضد من نيتشه؛ لأن نيتشه ناري سماوي، وأما داروين فأرضي طيني. وأسلوب نيتشه عاطفي ذاتي حتى حين يهتدي إلى الحقائق الموضوعية. أما داروين فيكتب عن وجدان وتعقل؛ حتى لتُحس أنه ينفض عن نفسه عاطفته وذاتيته كما ينفض أحدنا الغبار عن شخصه.

وفضلًا عن تلك النزعة العلمية في تمييز الأساليب والتفريق بينها؛ فقد وقف موسى بدقة -في وقت مبكر- على أهم خصائص أسلوب جيمس جويس، وكذلك أهم تقنياته التي تميز بها مثل تيار الوعي والمونولوج حيث سمَّى التقنية الأولى “معالجة الخواطر الذهنية” أو “الخواطر المطلقة” و“التعبير عن التتابع العاطفي” وسمى الأخرى “الحديث الذاتي”. وقد كان من وكده أن يقف على طريقته التي وسمها بالصعوبة. وبعد أن قدَّر قيمة جويس ترك الباب مفتوحًا للحكم عليه وقال: “وهذا بالطبع لا يعني الثناء عليه؛ فإن طريقته تحتاج إلى أن يصهرها النقد من جهة، ويحكم عليها الجمهور من جهة أخرى إن إقبالًا أو نفورًا” وقارن بين جويس وت. س. إليوت لتشابههما في طريقة التعبير عن التتابع العاطفي؛ لكنه ميز بينهما بأن الأول رومانتيكي طليق لا يتقيد بالتقاليد مثل إليوت الذي يُحس إحساس التقليديين ويفكر بعقولهم.

الأدب

لم ينفصل تصور موسى للأدب عن تصوره للبلاغة والأساليب على نحو ما بَيَّنا. ويبدو أن محصلة آرائه في الأدب العربي التقليدي وآرائه في الأدب المنشود قد أفضت إلى رسم صورة قاتمة لموقفه طاشت معها الاتهامات التي نالت من وطنيته ورمته في بعض الأحيان بتهمة احتقار العروبة والدين. ولعل التدقيق في موقفه وردَّه إلى أصوله والاستقراء الكامل له في مؤلفاته؛ يقود إلى حكم مختلف بعض الشيء، ويخفف من حدة تلك التهم التي ألقي أكثرها جزافًا.

لقد رمى موسى الأدب العربي بأنه سلفي تقليدي بعيد عن الواقع ونكباته وأنه أدب ملوكي يُعنى بتسلية الملوك والأمراء والفقهاء ويستغرق في البهرجة والزخرفة والمحسنات، وينأى عن إحساس العصر، ووجدان الشعب، ويخلو من الأهداف الإنسانية. وهذه السلبيات التي لمسها موسى ترجع في الحقيقة إلى تبنيه للتصور الاجتماعي للأدب؛ ذلك التصور الذي يستنكر “النزعة الانفرادية” ويرفض البهرجة والزخرفة، ويحرص على الاتصال بطبقات الشعب وآلامه وآماله؛ فالأدب لا بد أن يكون للشعب؛ يقول: “ونحن ندعو في أيامنا إلى أن يكون الأدب للحياة، أي للشعب، أي للمجتمع، أي للإنسانية، وأن تكون للأديب رسالة يؤديها كما يؤدي النبي رسالته”. فهو ينظر إلى الأدب بوصفه ظاهرة اجتماعية لا تختلف عن الأخلاق والعقائد ويعرفه بأنه: “صورة المجتمع، وهو الذي تتبلور فيه نزعات المجتمع”وأنه “دراسة الإنسان في جملته. وهذه العبارة تعني أن ندرس الإنسان في اقتصاده، وأمراضه، وثقافته، واتجاهاته الذهنية والعاطفية وأهدافه المستقبلية”.

وموضوعات الأدب عند موسى تشمل المشكلات الاجتماعية، ودراسة شئون البشر، والكلام في التطور الاقتصادي، والمساواة بين الجنسين، والتعليم، ومهمته مثل مهمة الفلسفة وهي تغيير المجتمع حيث يحمل القارئ على السخط، ثم يُرغِّبه في التغيير. وهذا كله تلخصه مقولاته “الأدب للحياة” و“الأدب للشعب” وهي مقولات اتخذها عناوين لبعض كتبه.

المنظور الجمالي والبراجماتي

لا شك أن تلك الرؤية النفعية للأدب التي استبعدت أن يكون الجمال هدفًا للفن؛ تمحق أكثر حسنات الأدب العربي؛ لأنها تحصره في ركن واحد وغاية واحدة. فهي تدعو إلى أدب عضوي شعبي يلتحم بفئات الشعب وتحتقر ما أسماه موسى بالأدب “البلاغي” اللفظي أو “أدب الفقاقيع” الذي لا يتفق والإنشاء الرصين في الموضوع الجدي أو الإنشاء الدقيق في الموضوع الفلسفي أو العلمي. وهو ما يعني استبعاد قطاع كبير من هذا الأدب ومحق قيمته الجمالية.

   أكد موسى في غير موضع أن هدف الفن ليس الجمال، وإنما هو الإنسانية والإنسانية تطالب الأديب الإنساني قبل كل شيء بتوفير الطعام للشعب، ثم بعد ذلك الورد والياسمين. والجمال هو عرض الحياة العظيمة أو الحياة العميقة، فإذا هدف المبدع إلى أيهما سما فنُّه. وأنكر موسى -من منطلق دارويني واضح- أن تكون القيم الأدبية خالدة لا تتغير، وأن يكون الجمال من هذه القيم الخالدة، ويرى أن القول بهذا الخلود والثبات إنما هو غرور من الأدباء، قال: “وكيف يكون خلود في إحدى القيم مع تطور؟ أليس التطور... هو القانون العام للموجودات أحياء أم غير أحياء؟”. وقال: “إن قيم الأدب، مثل سائر القيم، تتغير كلما تغيرت الظروف، وإذا كان الجمال يتسلط على الأديب، ويشغل ذهنه، حتى ليتوهم أنه خالد، فإن هناك ما هو أخلد منه، وهو الإنسانية”.

والحق أن موسى كان تبعًا في هذا التصور الجمالي للفيلسوف والناقد المجري چورچ لوكاتش Georg Lukács الذي أنكر أن يكون الجمال غاية الأدب كما صرح في بعض المواضع. وكان رأي لوكاتش أن الجمال هو علاقة التناغم بين الإنسان والعالم، كما أنه وسيلة لإدراك العالم المحيط به وتغييره، وأن الجميل ليس من اختراع المخيلة الفنية فحسب، وأن الجمال الفني يعكس ما هو جميل في الواقع الحي الموضوعي بما يعني أنه يبحث عن الجميل فيما هو موجود لا فيما تخترعه الذات الإنسانية. ولوكاتش كثيرًا ما ربط الجمالي بالنفعي؛ فالجميل عنده لا يتناقض مع النافع بل يتضمنه بالضرورة، وهي محاور كثيرًا ما دندن حولها موسى في كتاباته وحكمت تصوره للأدب.

في سنة 1937 نشر موسى في المجلة الجديدة مقالًا عنوانه “الوسيلية” عرض فيه فلسفة وليم چيمس  William   James البراجماتية. ووفقًا لهذه الفلسفة تساءل عن قيمة الأدب العربي، أهو وسيلة من وسائل النهوض بالأمة المصرية، وهل يفتح أبوابًا للتوسع الذهني أو النشاط الاجتماعي أو الثقافي؟ وخلص إلى أن دراسة الأدب القديم لا تتصل بحياتنا العصرية وهمومنا القومية، وليست لها قيمة نفعية، وأنها وإن كانت جهدًا تاريخيًّا مفيدًا لكن لا قيمة عملية لها. وهذا يكشف عن غايات الأدب عند سلامة موسى وأنها غايات نفعية لا جمالية في المقام الأول

لقد أسهم في بناء هذا الموقف وتعضيده تفضيل سلامة موسى العلم على الأدب، وتفضيله الأسلوب العلمي في الكتابة على الأسلوب الأدبي. وقد صرح بهذا الرأي في مواطن كثيرة وبخاصة في كتابه “في الحياة والأدب”، قال: “العلم هو أساس فكرة التقدم والإصلاح، أما الأدب فما كان له هذا الفضل قط”. وقال: “صناعة الطيارات أشرف من قرض الشعر، وهي برهان على رقي الذهن العلمي وتفوقه على الذهن الأدبي، فإن الهمج يقرضون الشعر ولجميع الأمم في جاهلياتها القديمة أشعار وقصائد بارعة، ولكن العلم هو ثمرة الذهن الحديث الذي غذي بأوفر مادة من الثقافة والحضارة”.

وبناء على ما ذهب إليه سلامة موسى في مفهومه للأدب، وتحديده لغايته، وموضوعاته، وقيمته، وموقفه -إيجابًا وسلبًا- من الأدب عامة والأدب العربي بخاصة؛ صاغ تقسيمه للأدب في ثنائيات متقابلة كما صاغ من قبل أساليب الكُتَّاب في ثنائيات متقابلة وذلك على النحو الآتي:

ـ الأدب الكلاسيكي (الاتباعي) ويقابله الأدب المستقبلي (الابتداعي).

ـ الأدب السلفي ويقابله الأدب الشعبي أو العامي.

ـ أدب الكفاح ويقابله أدب التفرج.

ـ الأدب العضوي ويقابله الأدب البلاغي.

تكشف تلك الثنائيات بوضوح عن قيامها على أساس المزاج، والاتجاه، وقواعد التفكير، واللغة أي على أساس “الأساليب” كما أنها تكشف عن موقف واضح من أدبين اثنين هما الأدب التراثي والأدب العصري، وذلك في إطار مفاهيم النهضة والانحطاط، والتصور الاجتماعي والبراجماتي للأدب. وتلك الثنائيات تحمل -كما هو ظاهر- أحكامًا قيمية على كلا الأدبين.

الواقعية مذهبًا أدبيًّا

اختار سلامة موسى الواقعية مذهبًا أدبيًّا، ولم يكن اختياره إياها خبط عشواء أو منفصلًا عن تصوره للبلاغة والأسلوب. فالمذهب يوافق نزعته العلمية التطورية التي ترفض الغيبيات من ناحية، كما أنه يتجنب الأسلوب الموروث في اختيار الكلمات المذهبة وتأنقات الفصاحة والبلاغة من ناحية أخرى. ومن هنا نفهم رفض موسى لممارسة الفن للفن أو الانسياق وراء الرومانتيكية.

والواقعية ذات صلة وثيقة بالاشتراكية التي تبناها ونادى بها؛ يقول في الربط بينهما: “الأدب الواقعي هو الذي يدرس الاشتراكية، أصلها وفصلها وأسلوبها وهدفها، والأدب الاشتراكي هو لذلك الأدب الواقعي في صميمه؛ لأنه هو الأدب الذي بسطت له الدراسات الاشتراكية أحوال العيش وأساليب الارتزاق، وما تحوي من خير ومن عظمة وسفالة...”.

وبناء على ذلك كانت دعوته الدائمة إلى “الأدب الملتزم” أو المرتبط كما أسماه؛ وهو الأدب الذي يرتبط بالمجتمع ومشكلاته فيحس الأديب فيه أنه مسئول عن مجتمعه، وأنه إمامه الذي يرشده وينشد صلاحه، وهذه الدعوة هي التي حددت موقفه السلبي من الأدب العربي وبخاصة أدب أبي نواس وأدب معاصريه الذين وقفوا على أبواب القصور مثل شوقي وعلي الجارم؛ لأنهم جميعًا لم يكونوا ملتزمين وفقًا لذلك المفهوم.  

الأدب العربي بين الهجوم عليه والإشادة به

من هنا يمكن تفسير الهجوم الذي نال الأدب العربي والأدباء العرب القدامى والمعاصرين على يد موسى؛ فقد هاجم من القدماء: المتنبي، وابن الرومي، وأبا نواس، ومن المعاصرين شوقي وعلي الجارم، والرافعي وغيرهم. وارتكز هذا الهجوم في الأساس على أن أدب هؤلاء -وفقًا لفكره- لا ينتمي إلى الأدب الاشتراكي والواقعي؛ فهو أدب قصور وأمراء لا أدب كفاح وشعب؛ لذا خلا من النزعة الإنسانية والاشتراكية. ولكن بالاطلاع الدقيق على كتابات سلامة موسى نجد أنه لا ينطلق من احتقار أو انتقاص متعمد للأدب العربي؛ لأنه في الحقيقة إنما كان يبحث في هذا الأدب عن الصورة التي بلورتها أفكاره الوافدة عن الأدب، أدب النهضة المنشود. لقد كان موسى حريصًا على محاربة المقلدين للقدماء وأساليبهم من أبناء عصره، ونظرًا إلى طبيعة الدعاية وأجواء المعارك الفكرية، ومسلك الكتابة الصحافية جاءت هذه التجاوزات في حق الأدب العربي وبرزت النزعة الراديكالية عنده. ومما يؤكد بُعد موسى عن الاحتقار أو الرفض التام للأدب العربي ثناؤه العظيم في مواضع مختلفة على أدباء مثل: ابن المقفع، والمعري، وابن حزم، وحافظ إبراهيم وغيرهم، وذلك لأن أدب هؤلاء قد توافرت فيه النزعة الإنسانية والاجتماعية.

إضافة إلى ذلك كان موسى على وعي شديد بالتفوق الأدبي لمن نقدهم ورفض أدبهم من الأدباء العرب؛ فقد اعترف بشاعرية شوقي الرائعة -على حد تعبيره- وكان انتقاصه إياه من جهة أنه لم يمارس أدب الكفاح؛ لذا فضَّل عليه حافظ رغم اعترافه بأن حافظ أقل منه شاعرية. واعترف كذلك بشاعرية المتنبي وقدرته المدهشة الخارقة على استنباط المعاني وتوليدها، ومع هذا فضَّل عليه المعري رغم تفوقه عليه في الصنعة؛ وذلك لافتقاده النزعة الإنسانية. وقد أبان في بعض المواطن حيثيات موقفه؛ فإعجابه بالمتنبي والمعري يرجع إلى نزعة الأول الثقافية الموسوعية، وإلى التفكير الإنساني الحر عند الثاني. ولهذا السبب أيضًا رفض ابن الرومي وأبا نواس لغلبة النزعة الفردية عليهما ولفحش شعرهما. وقد حمل موسى على الأخير حملة كبيرة في غير كتاب له، واستمد في حكمه الأخلاقي عليه منظور الأخلاق الفيكتورية الأوربية، وهو ما يقتضي منا مقارنة موقفه هذا بموقفه المعروف من “الأدب المكشوف” الذي رأى فيه ضرورة إتاحة الحرية للإبداع بضوابط تحول دون خروجه إلى الإسفاف والإثارة. وموسى لا يشك في أن أبا نواس شاعر عظيم ومجدد وإن كان يرى في تجديده انحطاطًا. وقد أشاد بعبقريته وإن كانت عنده عبقرية الصنعة لا عبقرية الفن.

وموسى لا يدعو إلى مقاطعة القدماء؛ لأن فيهم على حد تعبيره “قدماء معاصرين” لنا رغم سبقهم، وهم جديرون بدراستنا واهتمامنا؛ ولكن دون أن نجعل منهم المحور والهدف لثقافتنا. وقال: “لست أتنقص الأدب، وإنما أتنقص اللعب واللهو بالألفاظ كما يفعل معظم أدبائنا...”. وأرشد في كتابه “التثقيف الذاتي” إلى الكتب التراثية التي ينبغي لكل شاب أن يقرأها، وأشاد بها وأعلى من قدرها، وبخاصة كتابات الجاحظ التي دعا إلى قراءتها جميعًا، وقال فيها: «إن الشاب الذي يجهل الجاحظ إنما يجهل شيئًا كثيرًا من أجود ما كتب قديمًا في اللغة العربية، ويأتي بعد الجاحظ الشعراء من أمثال المتنبي وابن الرومي وأبي تمام وأبي العتاهية والأخطل والمعري». وهي إشادة تشير إلى أن الرجل لا يعادي الأدب العربي ولا يحتقره في الحقيقة، وأن الأمر لا يعدو أن يكون -كما ذكرنا- مجرد إسقاط لمنظور فكري معين على هذا الأدب قاد إلى تصنيفه والتمييز بين أنواعه على هذا النحو. ولا ننسى أن الأسلوب الصحافي وسياق المعارك الفكرية، والرغبة في النهوض والحماسة في الدعوة إلى كل جديد تقتضي أحيانًا المبالغة في الهجوم، والتعصب للمذهب الجديد، والتحريض على تبنيه. لكن مقابلة آراء الرجل التي قد تبدو متعارضة كشفت لنا حقيقة موقفه من الأدب العربي. ولا أدل على ذلك من تصريحه في كتاب «الأدب للشعب» بقوله: «وأرجو ألا يلتبس موقفي عند القارئ، فإني لا أعادي القدماء، والثقافة القديمة هي تراث بشري عظيم لا يهمله إلا مغفل، بل أنا لا أكاد أقرأ كتابًا عربيًّا إلا إذا كان مؤلفه من القدماء». فكيف لرجل استشعر في أدب الجاحظ أنه كُتب في بلاط الأمراء، أن يكرر في غير موضع إعجابه البالغ بالجاحظ وموسوعيته ويقول: «أحب أن أموت كما مات الجاحظ وعلى صدره كتاب».

الأدب العامي

ينبغي التنبيه على أن أكثر ما جرَّ على موسى النقد والتبكيت هو دعوته إلى استعمال العامية، وإلى ما أسماه بالأدب العامي. والحق أن دعوته لم تكن دعوة صريحة إليها بقدر ما كانت سعيًا إلى إيجاد تسوية بين العامية والفصحى. وإلحاحه على تلك الدعوة كان نتيجة محاولته إيجاد بلاغة خاصة لما أسماه “أدب الصحافة” الذي كان له الفضل في إيجاد لغة صحافية سهلة غير متعالية يستوعبها الجمهور. وهذه الدعوة كان يغلب عليها الطابع النظري البحت؛ فموسى نفسه لم يجرؤ يومًا على الكتابة بالعامية؛ بل كان له أسلوبه السلس الذي يحرص على الإبانة والتزام العربية الصحيحة.

ويبقى أن نشير إلى أن موسى عندما دعا إلى الكتابة للشعب بلغته لم يقصد الكتابة بالعامية “وذلك لأن الكاتب فنان قبل كل شيء والعامية تخلو من الفن”. ولقد حدد موسى مقصده من هذه الدعوة بوضوح في كتابه “الأدب للشعب” فقال: “ولست أعني... أننا نكتب للشعب بلغته (العامية) وإنما أعني أن نكتب له بلغة شعبية فنية، ولا يمكن هذا إلا بأن نهتم باهتماماته، ومتى فعلنا هذا فإننا نقترب منه، ونحس إحساسه، ونجد أن أسلوبنا شعبي في عامته، ولكنه نفسي في خاصته؛ لأن الأسلوب الأمثل هو أسلوب النفس عند الكاتب”.

مما تقدم يتبين أن تصور موسى للأدب وأحكامه التي أطلقها عليه انطلقت من منطلق تغريبي واضح سعى فيه إلى التحديث شأنه شأن رواد التنوير في عصره. وقد ارتكز موسى فيه على مفهومه الجديد للبلاغة والأسلوب وهي مفاهيم ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالداروينية، والاشتراكية، والبراجماتية. وموسى في نقله وتمثله لتلك الأفكار لم ينخلع تمامًا من جذوره التراثية وثقافته العربية، وإن لم يخلُ تمثله إياها من الوقوع في بعض الأخطاء والاستلاب. كذلك افتقدت دعوته العمق في كثير من أطوارها، ويرجع هذا إلى الطابع الانتقائي في المثاقفة؛ فأكثر الأفكار التي رددها وألح عليها نقلها عن دوائر المعارف الغربية والمراجعات الصحافية أو القراءات العابرة في بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية؛ لكن يبقى أنه فتح الباب لهذه الأفكار وأسهم في نشرها وذيوعها بين القراء.

ولقد أفاد موسى الصحافة كثيرًا حين شارك في ترسيخ الأسلوب التلغرافي الرشيق الذي تلقاه الجمهور في يسر. وأفاد الثقافة العربية بما عربه من ألفاظ ومصطلحات فكرية وحضارية كثيرة كان له الفضل في ذيوعها وانتشارها. ويبقى أن تجديده لم يكتب له الحياة لأنه لم يسعَ إلى صقله وإنماء المحاور الصالحة فيه في ذلك الوقت المبكر. ودراسة أعماله تؤكد أنه كان وطنيًّا من الطراز الأول، يقف دومًا في صف الشعب لا القصر، مما يجعل منه مثقفًا واعيًا أمينًا، وبعض السقطات السياسية النادرة التي وقع فيها لا تكفي لاتهامه بالعمالة؛ إذ يسهل نسبة أمثالها إلى كثير من رواد التنوير ممن عادوه خاصة. ولا يصح إطلاقًا إسقاط مثل هذه السقطات السياسية النادرة على فكره كله وأخذه بجريرتها.