مراجعات

يحيى وجدي

الوباء الذي قتل آلاف المصريين.. العلاقة بين ثورة 19 وكوفيد- 19!

2019.01.07

الوباء الذي قتل آلاف المصريين.. العلاقة بين ثورة 19 وكوفيد- 19!

بدأت في قراءة هذا الكتاب "الوباء الذي قتل 180 ألف مصري" للدكتور محمد أبو الغار، وأخبار الموجة الثانية من وباء كوفيد-19 المعروف بالكورونا، تترد في كل وسائل الإعلام، تبشر بمزيد من المصابين والضحايا الذين يفتك الفيروس برئاتهم ويخنقهم حتى الموت في ظل نقص الأماكن المتاحة في المستشفيات، وانهيار الأنظمة الصحية، بل وانهيار قوة الفرق الطبية نفسها، مع سقوط عدد وافر من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات، وعجز مؤسسات البحث العلمي العالمية عن توفير لقاح للوباء الفتاك.

وعلى الرغم من موضوع الكتاب، الذي ومن عنوانه يتحدث عن وباء قاتل أفنى حياة آلاف المصريين عامي 1918-1919، وهو في الواقع ليس موضوعًا مُحببًا للقراءة الآن، مع محاولة كل منا تلمس أي ضوء بعد الخروج من عزلة يحفها الرعب استمرت لأشهر.. عزلة فُرضت على العالم كله فرضًا، بالقوة الجبرية لجهاز الدولة، في محاولة ليس فيها خيارات للتقليل من أعداد ضحايا الفيروس الجديد المتحور ليقتل البشر بلا رحمة أو أمل قريب. أقول: ليس موضوعًا محببًا للقراءة مع الخوف الذي يعتري كل إنسان على هذا الكوكب، ونوبات الذعر الجماعية التي لم تفرِّق بين نجم في هوليود وشخص بسيط اضطرب روتين حياته كما لم يتوقع قط، وبات يعد أنفاسه ويقيس حرارته مرات ومرات في اليوم الواحد، خوفًا من أن يكون مصابًا بالمرض، في لحظة استثنائية من تاريخ العالم، تحول معها الإنسان مجردًا من أي سلاح إلى سلاح فتاك قادر على قتل كل من حوله إذا ما أصيب بالمرض الجديد. لكن، ومع ذلك فإنني ما إن فتحت الكتاب حتى استغرقني بالكامل، ووجدتني أنتهي منه عاكفًا على الكتابة عنه، وترشيحه للقراء والباحثين ليقتنوه على الفور، وليصبح موضوعه، وطريقة المؤلف في البحث والاستخلاص، نموذجًا لرؤية وتوثيق ما قد يختفي ويغيب في لحظات الكوارث الإنسانية العامة، تحت أطنان اليوميات والأخبار العاجلة والأحداث المتلاحقة، والبناء على دروس الكارثة لئلا تتكرر، ليس بمعنى العبرة والعظة، وإنما في تطوير مهارات الإنسان لمواجهة الكارثة، والأهم هو رؤية التأثيرات التي تحدث في المجتمع وفي المجموع البشري، بما قد يؤدي إلى تغيير جذري وإلى نتيجة سياسية كبرى تمثلت في ثورة 1919 بالحديث عن وباء الأنفلونزا الإسبانية الذي استغل الدكتور محمد أبو الغار عزلته الإجبارية للبحث عنه وفيه ليخرج لنا هذا الكتاب.

البحث في أمر وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي ضرب مصر في الثلث الأول من القرن العشرين لم يكن سهلاً على المؤلف قط، وقد شعرت شخصيًّا بحجم الصعوبات التي واجهها والجهد الكبير الذي بذله في الكتابة عن موضوع ليس له ورقة واحدة متاحة كمرجع، فقد عكفتُ طول العام الماضي في قراءة الكثير والكثير من المراجع والمذكرات عن ثورة 1919 لإعداد كتاب عن أبطالها، ولا أذكر أنني قرأت شيئًا عن تلك الجائحة الفتاكة التي أودت بحياة آلاف المصريين، على الرغم من مركزيتها بين أسباب اندلاع الثورة!

 جائحة لم يأت ذكرها لا في المذكرات أو الحوليات التي انصب تركيزها على ما هو سياسي وعام في حياة الأمة ونضالها في تلك اللحظة دون النظر في ذلك السبب الكبير! ومع غياب الوثائق التي تؤرخ للأوضاع الصحية في مصر، كان على الدكتور أبو الغار أن يعود إلى مراجع في جامعتي "تكساس" و"هارفارد" الأمريكيتين ليتمكن من امتلاك مفاتيح البحث عن هذه الكارثة التي ألمت بالأمة المصرية آنذاك.

وبالطبع، فإن الخبرة الطبية الكبيرة للمؤلف باعتباره طبيبًا متميزًا ومرموقًا، جعلت له عينًا أخرى تقرأ الوثائق من منظور يختلف عن منظور المؤلف والباحث التاريخي، لنقرأ في الكتاب فصلاً شديد الأهمية (الفصل الثاني) عن تطور النظام الصحي في مصر لحصار الأوبئة ومحاربتها. وهو نظام بدأ في عهد الوالي محمد علي، ووضع أسسه وأشرف عليه الطبيب العظيم كلوت بك، لكنه بدأ في المستشفى العسكري، واستهدف أول ما استهدف رعاية أفراد الجيش، ضمن إجراءات السلطة للاهتمام بحالة الجنود الصحية والجسمانية، حتى إنه عندما امتد هذا الاهتمام لباقي الشعب ركَّز على "التلاميذ والعمال والفلاحين، لأن هؤلاء هم الوعاء الذي يتم منه التجنيد في الجيش، ثم بدأ بعد ذلك تأسيس الإسبتاليات وتطعيم السكان ضد الجدري وإنشاء المحاجر الصحية التي كانت أهم الوسائل لمكافحة الأوبئة".

وعرفت مصر بعد هذا التأسيس الحجر الصحي (الكارنتينا) كونه مكان منفصل لمنع انتشار الأمراض ومدته 40 يومًا، ويطبق على السفن والأشخاص والحيوانات والنباتات عند الوصول إلى مكان معين إذا كان هناك شك في أن يكونوا حاملين لمرض معد، وبعد مرور كل تلك السنوات منذ نهاية القرن التاسع عشر، كانت (الكارنتينا) مرة أخرى هي ما أنقذ البلاد في القرن الواحد والعشرين من تفشي الوباء بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وعرقلته عن حصد ملايين الأرواح.

والوباء الذي يتربص بأجسادنا بنا في هذه اللحظة (كوفيد- 19) ليس منبت الصلة بوباء الإنفلونزا الإسبانية الذي ضرب مصر بين عامي 1918، فالأول (كوفيد) هو بشكل ما حفيد الثاني، والشكل الذي تسلل به الفيروس الجد إلى مصر محمولاً في أجساد القادمين إليها من أوروبا، لا يختلف عن عن الطريقة التي وصل بها الحفيد، وحتى الانتشار البطيء ثم تطوره وارتفاعه رويدًا رويدًا ليصل إلى مرحلة ما نسميه بالذروة كانت متطابقة، والأكثر إدهاشًا أن الإجراءات المتبعة في حصار الفيروس الذي ظهر في إسبانيا كانت هي نفسها الإجراءات التي لجأت إليها السلطات لحصار الفيروس القادم من الصين، مع فارق زمني يتجاوز المئة عام!

ففي بيانات توجيهية للشعب المصري عام 1918 طُلب من الناس عدم التزاحم في الأماكن المغلقة، وغُلقت المدارس والكتاتيب التي لا تراعي القواعد الصحية، وقُيدت الحركة ومُنعت التجمعات وأوقف نشاط المسارح المتنقلة وأوقف معها المحاكمات العسكرية للمتهربين من التجنيد في القرى، وأوقف تجنيد الفلاحين في فيالق العمال، وأُلزم جميع العاملين في الحقل الطبي بارتداء الكمامات في أثناء العمل، وخفضت أعداد الحجيج وأعضاء رحلة المحمل المصري على الرغم من رمزيتها السياسية والدينية آنذاك، ويمتد وجه الشبه أيضًا بين الوبائين إلى الأعراض التي تبدأ بارتفاع درجة الحرارة والحمى وصولاً إلى الإصابة بالتهاب رئوي حاد وتعطل الرئة عن القيام بعملها وتوقفها ووفاة المريض، في مفارقة كأنها تقول إن التاريخ دائري وإن الإنسان يجري في محله دون أن يتعلم شيئًا إلا القليل!

مع اقتراب عام 1918 من نهايته، تراجع معدل الإصابات، لكن معدلات غضب المصريين كانت أعلى بكثير، وغليان نفوسهم تجاه الاحتلال وسياساته تجاوزت حرارته الخوف من الإصابة بالفيروس، وانفجر مرجل الثورة التي اشتعل بفعل كارثة الوباء ووفاة الآلاف بسببه، ولم يكد تمر شهور قليلة حتى اندلعت الثورة في مارس من عام 1919 ولم يكن الفيروس قد وضع، مثل الحرب، أوزاره بعد، لكن ذلك لم يكن له تأثير في تخويف الجماهير المنتفضة التي تجاوزت قواعد الأمان والسلامة وراحت تتجمع بالآلاف وتقتحم ميادين النضال غير عابئة بما يهددها (ألا يذكرنا ذلك بانتفاضة السود في أمريكا ضد مقتل جورج فلويد في ذروة الوباء؟) وكأنها تعرف أن في ثورتها ترياقًا ناجعًا للوباء! 

يحفل كتاب الدكتور أبو الغار بالعديد من الوثائق النادرة التي تسجل تقريبًا كل ما يتعلق بالوباء الإسباني المنشأ، من صحف وأوراق بحثية وتقارير محلية وأجنبية، جنبًا إلى جنب مع الإحصاءات المدققة عن تعداد السكان ونسب الإصابة وأماكن تركزها وانتقالاتها من إقليم إلى آخر داخل القطر، بالإضافة إلى كنز من تغطيات بعض الصحف أبرزها صحيفة "المقطم" لانتشار الفيروس وتعامل الجمهور معه، وقد رأيت أخبارها وكأنها "بوستات" فيس بوك في زماننا هذا! الملاحظات نفسها، والنصائح وتبادل التجارب والخبرات في التعامل مع الفيروس، بل حتى الروح الساخرة نفسها في وصف المفرطين في الإجراءات الاحترازية، ودورهم في زيادة تفشي الوباء بجهلهم وعدم الالتفات إلى التحذيرات المبثوثة في النشرات التوعوية الملصقة في كل مكان!

لا يبدو أن المصل الحامي من (كوفيد- 19) قد يصلنا قريبًا، وإن وجد حتى خلال العام الحالي أو القادم، فالفلسفة الربحية التي تسيطر على كثير من مؤسسات البحث العلمي منذ عقود لم تعمل حسابًا لكارثة مثل التي نعيشها، والأموال الموقفة لمثل هذه الأبحاث اتضح أنها غير كافية والكوادر كذلك، والمؤكد أن (كوفيد- 19) سيغير بانتشاره أشياء كثير في علاقات الناس بالسلطات التي تدير الأنظمة الصحية، والتغيير الذي لا يبدو واضحًا شكله الآن، سيحدث بلا شك، بطيئًا ولكن أكيدًا، تمامًا مثلما كان فيروس الأنفلونزا الإسبانية، إلى جانب السياسيين والمناضلين والغاضبين، واحدًا من أبطال ثورة 1919.