عدد 18-عن الفقد والافتقاد

شيرين أبو النجا

انتظر لنتهجى: م. و. ت.

2020.11.01

انتظر لنتهجى: م. و. ت.

نحن فاقدو الذاكرة:

موت أحدهم هو فراق صادم ومباغت. موت أحدهم هو أحد أشكال الخيانة الفجة، كأن الشخص شاغلنا وغادر دون كلمة وداع ننهي فيها كل تلك القصص العالقة، والأسئلة عن أماكن الأشياء التي تركناها معهم، والضحكات التي كانت مدخرة لجلسات مقبلة، وخطط مستقبلية كنا نعدها معًا، والخلافات التي كنا ننتظر الوقت المناسب لتفجيرها. الخيانة شعور مؤلم، ذاك الغدر الذي يلدغ روحنا ليوقظنا في أنصاف الليالي، ويشوَّش علينا اكتمال الجملة، ويفقدنا الرغبة في إكمال ما بدأناه. كيف نتعامل مع كل تلك الحزمة من الأحاسيس في ضربة واحدة مفاجئة؟ ذاك الشخص الذي غادرنا لم يفكر فيمن بقوا هنا يخبطون كفا بكف، ويعرضون مشاعرهم للعالم أجمع حتى تصبح كحقيبة سفر انفتحت فجأة في الشارع، وتبعثر كل ما بداخلها من أمور شخصية لا تخص إلا صاحبها فقط. وبدلاً من أن نسعى إلى جمع حاجياتنا المتبعثرة، نتركها في قارعة الطريق للآخرين ليتأمل كل العابرين والغادين والرائحين شكلها وعددها وحجمها ونوعها ولونها، غير مبالين بكشف ما يجب ستره، وغير مدركين أن هذا الكشف سيغير الكثير في حياتنا ويُغير من صورتنا أمام أنفسنا وأمام الآخرين المغدورين أيضًا. 

يسيطر علينا هاجس واحد، فكرة أخطبوطية تلف أذرعها حولنا بإحكام لتقيد الحركة والفكرة والرؤية: أنا المغدورة، المتروكة، المهجورة، كنت الأقرب لمن غدرني وتركني وهجرني. أنا من أملك الحزن كله، والشعور الكامل بالغدر، لا مكان لأي شركاء. تتحكم الذاكرة في هذه الفكرة عبر استدعاء مواقف وحكايات ونمائم وحوارات ومشاعر فتتعاظم الفكرة أكثر: لن يشاركني أحد في ملكية الحزن والفراق، الحزانى الآخرون هواة، كومبارس، يدَّعون القرب من الميت الذي غدر بنا جميعًا. تحضر الذاكرة بقوة وتسيطر على المكان بشكل وحشي، لكنها أيضًا ذاكرة لئيمة انتقائية تخضع لرغباتنا اللحظية لتخدعنا هي الأخرى. ننسى أننا جزء تافه من شيء ما أكبر منا، نفقد الذاكرة عمدًا «ومَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». (سورة آل عمران: 185)، يحاول الإنجيل أن يؤكد تفاهتنا «أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْمَحِلُّ» (رسالة يعقوب 4: 14). 

ننسى فنعتقد أننا المركز، ولا شيء عدانا. وتمر كل القراءات علينا كسحابة صيف غائمة عابرة دخيلة، ننسى ونتمسك بفكرة أننا الإنسان الإرادوي النيتشوي، وهو مفهوم ملائم تمامًا لغرورنا الكاسح. ننسى تاريخًا مصريًّا قديمًا نتباهى به دائمًا، حين قامت الحضارة الفرعونية على مركزية الموت، وبُنيت الأهرام بوصفها مقابر للملوك والعظماء، ننسى أن أفلاطون تكلَّم عن عالم المُثُل، حيث الأفكار الأصلية والتي نحاول جاهدين تقليدها، وتكلَّم أرسطو عن المحرك الأول الذي يتمتع بقدرة عظمى وله القرار الأخير. ننسى أن علم الفلسفة نشأ على سؤال الحياة والموت. ننسى لأننا نحب أن ننسى ونخاف من التذكر. ننسى أن الموت قابع في كل خطوة، يحاول الإنجيل أن يُذكِّرنا «أُذكر أن الموت لا يبطئ» (سفر يشوع 12:14)، ويؤكد القرآن «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» (سورة النساء 78). لكننا نحب أن ننسى. (جملة كيتش: آفة حارتنا النسيان). 

نحن المنكرون: 

لحظة مواراة الميت في التراب تشبه لحظة انهيار برج هائل دون أن نتمكن من فعل شيء حيال ذلك، عجز كامل. فراغ هائل. مزيد من بعثرة المفردات الحميمية أمام الآخرين. تتعالى الألسن بالدعاء والتمنيات: ربنا يعزيكم. أكيد ومن سيعزيني سواه، هو العالم العليم، المطلع على القلوب. البقاء لله: أعرف ذلك وأعقله لكنني مبعثرة، «كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام» (سورة الرحمن 25-26). «الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 6: 16). تتعالى أصوات مذبوحة «لا ...لا...لا». ننسى أن الدفن هو بداية رحلة جديدة، أو عودة «لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، والْحَيُّ.» (رؤيا 18:1). يتراوح الرفض ما بين إنكار ما نشهده، وبين خوفنا من المصير نفسه، غالبًا ما نرفض الاثنين معًا، لكن القول القرآني كان واضحًا «إنك ميت وإنهم ميتون» (الزمر 30)، تبًّا لفقدان الذاكرة الذي يصيبنا. هم السابقون ونحن اللاحقون، نجرجر أذيال الخيبة، ونغادر المقابر على وعد بلقاء قريب. «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (الأنبياء 3). 

نمني أنفسنا أن الميت يسمعنا ويشعر بنا، فنكلمه ونقول له أشياء لم يسعفنا الوقت لقولها. «يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي، وَأَهْوَالُ الْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ. خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيَا عَلَيَّ، وَغَشِيَنِي رُعْبٌ» (مزامير 4:55-5). ثم ندرك أننا تركنا الميت هناك في مكان ما، بهذا الإدراك يتولد لدينا الغضب. في الشعور بالغضب مما وقع (الخيانة) يجد المغدور بعض المنطق، ويسانده آخرون في ذلك، فيصفون الفراق بأنه عبث لا يستدعي سوى الغضب. يعزون أنفسهم وبعضهم البعض بالتوغل في مسألة العبث. عبث من؟ وعبث ماذا؟ «قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (168 آل عمران). لسنا صادقين، لكننا نبحث عن مخرج لنستكمل الطريق بكل هذا الفراغ الذي يشبه هوة لا قرار لها. الموت مصيبة كما جاء في سورة المائدة (106) تحل علينا فلا نملك سوى مشاعرنا الدنيوية، الأنانية المفرطة، الغضب، الصراخ، البكاء ثم العزاء. (جملة كيتش: الأيام بتنسي). 

نحن المعزون:

«الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» (سورة البقرة 156). «الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى، من عند الرب» (سفر يشوع بن سيراخ 11: 14). العزاء هو طقس بديع نتعلم فيه مهنة الصبر، وأسميها مهنة لأننا نكتسبها عبر مفارقة الأحباء، واحدًا تلو الآخر، نتقنها ونحاول تعليم الآخرين. الصبر فن. الصبر مهارة. الصبر رضا. الصبر قبول. الصبر حياة. نقرأ في العزاء وندعو، ثم نبكي، ثم ندعو مرة أخرى؛ اعتقادًا أن الدعاء السابق لم يصل إلى مكانه الصحيح. هكذا نحن المعزين الذين يعزون أنفسهم بلقاء أهل الميت أو أحبابه. يقول يشوع ابن سيراخ في العهد القديم «لا تمنع معروفك عن الميت، و ما هو المعروف و الخدمة التي يمكن أن أقدمها للميت سوى أن أصلى من أجله، أو أن أقدم صدقات باسمه للفقراء فيصلى هؤلاء طالبين له الرحمة» (38:7). قال الإمام النووي «الصدقة عن الميت تنفع الميت، ويصله ثوابها وهو كذلك بإجماع العلماء». وقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). وفي صلاة أوشية الراقدين التي تُقام في الكنيسة جاء أن الموت «ليس موت لعبيدك بل هو انتقال». 

في العزاء نمنى أنفسنا أن الميت في حياة أخرى، في حياة أفضل، في مكان أجمل. فنزور المقابر، ونسقي الزرع، ونوزع الصدقات، ونقرأ ما تيسر من الآيات. ونذكر محاسن موتانا. تهبط علينا الآية في العزاء لتهدئنا قليلاً «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» (الفجر 27-30). «إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 8:14). عزاؤنا الوحيد أن الميت ينعم الآن، دوننا؟ مزيد من الصبر. عزاؤنا الآن أن الميت قد اجتاز امتحان الحساب بيسر وسلاسة لطيبة قلبه ونقاء روحه «يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم» (سورة الشعراء 88-89). القلب هو المعيار. وهذا عزاء آخر. أدرك قدماء المصريين هذا الأمر فجاء في «كتاب الموتى» وصف لمحكمة الحياة الأخرى؛ يتم وضع قلب الميت في الميزان في كفة، وفي الكفة الأخرى ريشة الإلهة ماعت، فإذا خفت كفة قلب المتوفى فإنه يدخل الفردوس، أما إذا خفت كفة الريشة فإنه العقاب. أما في القرآن فالموازين هي الحسنات «فأما من ثقُلَت موازينه. فهو في عيشةٍ راضية. وأما من خَفَّت موازينه. فأمه هاوية» (سورة القارعة 6-9). (جملة كيتش: ارتاح، يا بخته). 

نحن الناضجون:

بعد أن يكون القلب قد اكتوى بنار الفراق، وذبلت الروح من البكاء، نستيقظ ذات صباح لنجد أننا قد نضجنا كثيرًا، قبلنا، ورضينا أن نبقى مع ذلك الحزن الشفيف الرائق. نسعى أن نمر مرور الكرام على هذه الدنيا، كهؤلاء البشر ذوي الخفة غير المحتملة، كم أحسدهم على اتباعهم دون وعي قول الإمام البخاري «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». نحن الناضجون نتعلم أن «كل جسد كعشب وكل مجد إنسان كزهر عشب. العشب يبس وزهره سقط» (رسالة بطرس الرسول الأولى 1: 24). ومع النضج نضع في قلوبنا دعوة دائمة «وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ» (إنجيل متى 13»6)، وما أقسى تجربة موت الغفلة. ما أقسى الموت كله. أي تظاهر بالنضج الكامل في مواجهة الموت ليس إلا تباهٍ وتعالٍ على حقيقة النفس وعلى الآخرين، كل ما في الأمر أننا ندرَّب أنفسنا على المرور في هذه الحياة، تدريبات شاقة مؤبدة. فالحقيقة هي «إن الإنسان خُلِق هلوعًا. إذا مسَّه الشرُ جزوعًا» (سورة المعارج 19-20). (جملة كيتش: قدر ومكتوب).

نداء للموت: 

هل كان يجهز لموته ذاك العبقري محمود درويش؟ ما باله يجهز للجنازة عام 2000 في قصيدة الجدارية، أي قبل موته بثمان سنوات. 

فيا موت! 

انتظرني ريثما أُنهي تدابير الجنازة

في الربيع الهش حيث ولدت

حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين

وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه

سأقول: صُبُّـوني بحرف النّون

حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن

وامشوا صامتين معي

على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي! 

سورة الرحمن تحضر بكل ايقاعاتها -»فبأي آلاء ربكما تكذبان»- لتؤكد جاهزية درويش للقاء محتمل مع عالم آخر. وعلى الرغم من ندائه للموت فإن القصيدة في حد ذاتها تعبر عن عشق الحياة. في ذلك الحوار البديع الذي دار بين أبو حيان التوحيدي وأبو علي مسكويه في كتاب الهوامل والشوامل، يسأل التوحيدي: 

«لم اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لصق به، وآثره، وكدح فيه مع ما يرى من صروفه وحوادثه ونكباته وغيره وزواله بأهله؟ ومن أين استفاد الإنسان هذا العرض؟» ولأن العشق موغل في الروح دائمًا ما نقول: انتظر أيها الموت لنتعلم تهجئة اسمك.