المرايا

راناچيت جوهَا

بكاء التتري

2018.01.01

 ترجمة: ثائر ديب

بكاء التتري

ثمّة خطّان يبرزان بجلاء في عمل إدوارد سعيد متعدد الجوانب، وغالبًا ما يتضافران. الخطّ السياسي والخطّ الأدبيّ. وكلاهما يتوسّطه تعريف سعيد لنفسه بوصفه منفيًّا. هكذا تكتسب مسألة المنفى أهميةً خصوصًا في مجمل أعماله، راسمةً حدود هذه الأعمال في المجالين، وموفرة ً لُبابًا وجوديًّا لكلّ منهما. ففي مجال السياسة، الذات منفيّة ما دامت فلسطينية؛ وفي مجال الأدب، الذات كونراديّة*.

الذات السياسية خاصةٌ بمكان مُسمَّى وثقافة مُسمّاة كما هي خصوصًا بزمنٍ تاريخيٍّ مُحدَّد، مع كلّ ما ينطوي عليه ذلك من تنوّع وضرورات ضمن حدود هذه الخصوصية. أمّا الذات الأدبية، في المقابل، فدافعها هو ذلك الدافع الكوني الذي يتعالى على الموضوعات والحبكات والشخصيات الخصوصية، ذلك أنّ سعيدًا كان ملتزمًا بفكرة كونيّة الأدب. وبذلك، تباعدت هاتان الذاتان في اتجاهين متعاكسين.

ثمة تباعد مماثل يَسِمُ البعد الزمني للشاغل الوجودي. وهو يدور، في وجهه السياسي، حول الأمل أو حول نقيضه، اليأس. وهذا يعني أنه يقطن حاضرًا متّجهًا نحو المستقبل، على الرغم من كلّ إدراكه للماضي. أمّا في وجهه الأدبي، فالوجوديّ إشكاليّ عادةً ويُناقَش من حيث التواصل، ومن ثم من خلال اللغة والمجتمع، وينطوي قدر كبير منه على تذكّرٍ وتجربةٍ، أي على الماضي.

هكذا، تشغل مشكلة المنفى جزءًا جوهريًّا من كتابات سعيد. ولا أعرف أحدًا آخر ساهم في هذا الموضوع هذه المساهمة كلّها وعلى هذا النحو البارز في الخمسين عامًا الماضية. ويبدو الأمر كما لو أنَّ مأزق الوجود في المنفى اكتسب ضرْبًا من الأهمية الإطارية المفهوميّة (البارادايميّة) في رؤيته إلى العالم والعصر، وما عاد ثمّة شيء في الشرط الإنساني إلا وهو استعارة لديالكتيك الآخريّة هذا. وسوف أقتصر هنا على مناقشة وجهٍ واحد فحسب من أوجه ذلك الديالكتيك، أعني علاقة المنفيّ بالمجتمع المضيف، وهي مشكلة كثيرًا ما تناولها سعيد في أعماله.

2

أفاد سعيد كثيرًا من قصة كونراد "إيمي فوستر" كنصٍّ أساس لتأملاته حول المنفى. هنا يتوقف مأزق المهاجر على صعوبة التواصل اللغوي بينه وبين أهل البلد المضيف. وهذا، بالنسبة إلى سعيد، مثال كلاسيكي على اللغة بوصفها المبدأ المحدِّد لعلاقة المنفيّ بمضيفيه. وسوف نحاول فيما يلي أن نقوّم هذه الفكرة في ضوء قصة تشيخوف "في المنفى" (1892).

عالم المنفى في هذا السرد ليس له المقياس ولا المصير الذي لمعظم تمثيلات هذا الجنس من الكتابة، بما فيها تمثيلات كونراد. ذلك أنَّ ما لدينا هنا، بخلاف حادٍّ مع سواه، هو عالمٌ مُصغَّر لم تبعثره التفاصيل غير الجوهرية. ومسرح الأحداث هو مستعمرة للعقاب في سيبيريا في زمن القيصريّة. والمشهد: خشبة بيكيتيّة* متقشّفة، لا يكاد أن يكون عليها سوى الظلام، ونهر بارد متجمد حتى بعد مضيّ فترة طويلة من الفصح، وضفتان عاريتان ليس فيهما سوى الطين والحُفر. أمّا اللوازم الأخرى، فليس ثمّة سوى زورق مُوثَق إلى ضفة النهر وخيمة يستخدمها المحكومون للراحة والنوم.

يصل بنا هذا إلى المادة الإنسانية. وهذه الأخيرة تضاهي الاقتصاد المتقشّف للمحيط الطبيعي. فما لدينا هو جماعة في حدّها الأدنى مؤلَّفة من ثلاثة محكومين. اثنان منهما بلا اسم، والثالث، الأكبر سنًّا والأكثر فصاحةً، يُعرَف بلقبه -"الواعظ"- الذي يحلّ محلّ اسمه الأول "سيميون". ويدلّ إسقاط الهويات الحاملة للاسم الأصلي على أنَّ هذه الأخيرة انهارت تحت ثقل الإبعاد محيلةً ما كان ذات مرّة إنسانًا إلى محض كتلة من كائن من نوع معين. كتلة لا يسندها سوى غريزة البقاء. وهي قانعةٌ بأن تركد وتكون ما كانت عليه دومًا على مدى الشتاء الذي لا يعرف الشمس في تشرّد يبدو أبديًّا. كتلةٌ لا تحتاج، وتفتقر افتقارًا صارخًا إلى خصالٍ مثل التضامن والتعاطف أساسيةٍ لقيام جماعة بشرية. كيف يمكن للحياة أن تضرب بجذورها في تشكيل اجتماعي عقيم مثل هذا؟

 يجد هذا السؤال جوابًا حادًا عندما يصل غريبٌ، منفيٌّ جديد. صحيح أنَّ الآخرين لم يشعروه صراحةً أنّه ليس محلّ ترحيب، لكنهم أبقوه على مسافة، أولاً، لأنّه دخيل، وثانيًا، لأنه ليس من عرْقهم. فسرعان ما حُدِّدَ أنَّ الشاب من منطقة سيمبرسك تتري وصار يُعرَف بأنّه "التتري". لم يعرفوا اسمه، كما يقول الكاتب. ولعلهم لم يكترثوا لمعرفته. ذلك أنّهم يتوقعون، من دون أن يعوا ذلك، أنّ عليه هو أيضًا أن يكون مجرّد كومة غفل مثلهم هم أنفسهم.

لكنَّ التتري شابٌّ فتيّ، ولا يزال حبّه للحياة أكبر بكثير من أن يتقبّل المنفى كحالة موتٍ فعليّ. وبخلاف الآخرين لم يتبلّد حسّه بما يكفي لأن يألف هذا الوسط الجديد. وقد خيّبه المشهد بتعارضه الصارخ مع ما اعتاد عليه. حتى السماء السيبيرية في الليل لا تُقارن مع السماء التي تركها وراءه في قريته.

الأسوأ هو أنَّ ما من صداقة إنسانية تقيه غائلة الطبيعة. ذلك أنَّ الآخرين توحّشوا إلى حدّ فقدان كلّ شعور بالرفقة. كلٌّ يعيش لنفسه، غير مكترثٍ قطّ بما يحصل للبقية. وهم لا يميلون لأن يتشاركوا أيّ شيء حتى فيما بينهم ما لم تضطرهم إلى ذلك صفقة على حساب أحد من خارج المجموعة. ولذلك لا يشارك الواعظ زجاجة كحوله أيّ أحد قطّ. لكنهم حين يعملون نوتيّة، كما يفعل التتري أيضًا، ويترك المسافرون لهم بعض البقشيش، يتقاسمون المبلغ فيما بينهم فلا ينال التتري أيّ شيء ويسخرون منه صراحةً لأنّه يسهل أن يُغَشّ إلى هذا الحدّ. ولا عجب أنَّ الكبّيكات العشرة التي يكسبها كأجر لعمله طيلة اليوم لا تكفي لشراء الطعام والثياب. وهو جائع وبردان على الدوام. ولأنّه ليس لديه ما يتغطّى به في نومه على أرضية الخيمة الباردة، كان عليه أن يشعل نارًا على ضفّة النهر كي يدفأ وهو جالسٌ هناك في الليالي العاصفة.

لكن التتري كانت لديه القدرة على تحمّل كلّ هذه المشقّة كما يبدو. وما كان يقلقه هو ذلك التهويل المتواصل الذي كان يخضعه له الواعظ ما إن يعبّر عن أدنى استياء. كان هذا الأخير ينهال عليه، في إخلاصٍ للقبه، بأحمال من نظرياته الأثيرة عن خير الحياة في المنفى، والواجب الأخلاقي الذي يقضي بالخضوع للظروف القائمة، وعقم أيّ احتجاج أو خروج مهما يكن، بل الخطيئة التي ينطوي عليها مثل هذا الفعل. ذلك أنَّ دافع الحرية ورغبة المرء في التئام شمله مع عائلته ليس سوى شرّ محض بالنسبة إليه، والاستغراق في مثل هذه الأفكار ليس سوى إغواء من الشيطان. وهلمجرا. وهو يسند كلّ ما يقوله بالسلطة التي يدّعيها كونه ابن شمّاس ورجل دين هو نفسه. لكن التتري لا يتأثّر، لأنَّ مثل هذا الموقف يسير بعكس ما ساقته الخبرة لأن يثق به ويعزّه. وهو يواجه كلبيّة آراء الواعظ ويؤكّد إيمانه بالحياة. لكنه، في آخر إحدى الليالي حين يلقي العجوز واحدة أخرى من محاضراته ويبتلع آخر رشفة من بطحته قبل أن يؤوي إلى الخيمة، يشعر التتري أنه معزول تمامًا ويائس حدّ الانفجار بالبكاء. ويسمعه الآخرون وهم على وشك أن يغفوا. «ما هذا؟» يقول أحدهم. «إنه التتري يبكي». يردّ زميله. «سوف يعتاد الأمر»، يضيف الواعظ.

كيف نفهم هذا البكاء؟ إنه بكاء بلا كلمات، فما من شيء نبحث عن معناه في المعاجم. لكن الفهم لا يتوقف دومًا وبالضرورة على الكلمات وحدها. وغالبًا ما تحتاج الكلمات إلى إيماءات تجعل الخطاب مفهومًا. وفي بعض الأحيان يمكن لمجرد إيماءة أن تفضي بالكثير، الأمر الذي يتطلب المشاهدة، بالطبع. علينا أن نرى محاورنا كي نتحصّل على رسالته. لكنّه في هذا المثال ليس في مدى النظر. ونحن لا نسمع سوى صوت متقطّع تحمله الريح. لكنه قد يفضي بشيء إذا ما علمنا السياق. الرجال في الخيمة كانوا يعلمونه. وغالبًا ما سمعوا التتري بما يكفي لأن يدركوا أنَّ الصوت صوته ويفهموا أنّه تعبير عن مدى شعوره بالابتعاد عن بيته.

يفسّر الواعظ البكاء على أساس ما يعرفه مسبقًا ويجيب كما اعتاد أن يفعل إلى الآن بعبارته التي تدرّب عليها جيدًا. ذلك، في النهاية، من طبيعة التأويل ذاتها. وافتراضات المؤوِّل المسبقة هي أحجار بنائه. لكن مثل هذه الأبنية لا تعمل إلا ضمن جماعة كلامية تقوم فيها الكلمات بدور وسيط للتبادل بين الأعضاء. ومثل هذه التعاملات ليست خاصة بأيّ بلد بعينه بل هي واقع وجودي في حياة مُعَذَّبي الأرض الآخرين في كلّ مكان. وكلما التقوا بوصفهم أصدقاء أو جيران أو أقرباء، فإنّهم يستخدمون الكلمات كي ينقلوا رسائل الحزن أو الفرح الأشد حميمية إلى أعضاء الجماعة الآخرين. ولكن ماذا لو لم تكن هناك أيّ جماعة؟ طَرْحُ هذا السؤال يعني بالطبع توجيه المشكلة وجهة مختلفة. ذلك أنَّ الجماعة تشتمل على الوجود معًا ولا يمكن أن يكون هناك مثل هذا الوجود من دون ذخر من الكلمات يتقاسمه الجميع.

هذا ما يتّضح بقوة في قصة كونراد «إيمي فوستر». هنا، تقرر اللغة بيدٍ صارمةٍ مصيرَ يانكو المنفيّ. فهذا الكرباتي الذي تحطمت سفينته يبلغ الشاطئ في قرية ساحلية في إنجلترا، ويكون عليه أن يلتقط شيئًا من اللغة الإنجليزية كشرط ضروري كي يُقبَل هناك أيّ قبول. لكنَّه حين يمرض مرضًا شديدًا أنساه ما تعلمه وتركه مع لغته الأم وسيلةً وحيدةً للتواصل، تهجره الفتاة القروية التي كانت تزوجته وسعدت معه. وما إن اتّضح أنّه ما عاد بوسعه أن يقول «افتح، يا سمسم» مرّة أخرى، حتى صفق المجتمع أبوابه في وجهه، ليرقد محتضرًا وحيدًا كما كان يوم وصوله القرية.

تطابق هذه القصة الحزينة من نواحٍ عديدة كثيرًا مما قرأناه عن الهجرة. وكثيرًا ما تنزع مسألة سوء الفهم بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة إلى أن تُؤَوَّل في الأدب الهائل حول هذا الموضوع على أنّها فشل في التواصل الألسني بمعناه العريض، اللغوي، الإيمائي، اللباسي، الثقافي، وهلمجرا. لكني أشكّ في إمكانية تفسير ما لدينا في القصة السيبيرية على هذه الأسس: وذلك، بداية، لأنَّ التبادل اللغوي بين الواعظ والتتري لا يبدو أنّه تعترضه أيّ صعوبة من جهة أي منهما فيما يتعلق بالتقاط ما يقوله محاوره. على العكس، فإنَّ التتري، على الرغم من روسيته الركيكة، يعبّر عن نفسه بوضوح يكفي لأن يستثير ردًّا سريعًا من طرف الواعظ على ما قاله بينما يسارع هو، بدوره، ومن دون تردَّد إلى الردّ أيضًا. ولذلك، فإنّه إذا ما كان هناك فشل في الفهم المتبادل فإن مصدره يجب أن يُنْشَد في غير مكان، وليس في أيّ قصور في التعبير اللغوي. وعلاوةً على هذا، فإنَّ قصة كونراد تختلف عن قصة تشيخوف من ناحية أخرى مهمة. فالجماعة هي التي تهجر الكرباتي بقدر ما تتمثّل في زوجته التي تتركه ساعة احتضاره بعد أن كانت عمليًّا المجتمع المحلي كلّه بالنسبة إليه طول منفاه. وفي تعارض لافت، فإنَّ التتري هو الذي يعزل نفسه عن الآخرين حين ينفّس عن يأسه ذلك التنفيس الواضح. ومن الجليّ هنا أنَّ سوء التفاهم اللغوي لا يفسّر شيئًا. والسؤال إذًا: ما الذي انفجر في ذلك العويل، إنْ لم يكن التباين اللغوي؟ هل كان يحاول أن يوصل إحساسًا بتباينٍ من نوعٍ آخر؟

3

لا يمكن لمثل هذه الأسئلة أن تُقلق الواعظَ، بالطبع. فهو يرى أنّه قال الكلمة الأخيرة حول الموضوع، حين سمع البكاء "سوف يعتاد الأمر!" وفي هذا القول كلُّ اليقين الذي في حقيقة لاهوتية يُتوقَّع أن تُعتَبَر قولاً فصلاً من دون نقاش: لكن المرء يتساءل ما الذي يعنيه بتكرار ثقته بأنّ الشاب سوف يعتاد "الأمر"، كأنَّ ذلك واجب مفروغ منه. ما الذي يعنيه "الأمر"؟ ما دامت العبارة ترددت عدّة مرّات في مواعظه وكان مهتمًّا بشرحها بالتفصيل، لا حاجة بنا إلى أن نمضي بعيدًا بحثًا عن جواب.

يوضح النصّ بمزيد من الجلاء أنَّ "الاعتياد" اسم حركيّ لما يُعتَبَر هنا حاجة المنفيّ لأن يخضع لشرطه بإرادته. ولذلك يمضي الواعظ في تشدّقه بهذا كما لو أنَّ له عناد القانون الطبيعي وثباته. على المرء أن يمتثل، وعدم فعل ذلك يعني استجلاب الكارثة. لكن التتري لا يقتنع. فمثل هذا الرأي يناقض كلّ ما يثمّنه في ارتباطه الشغوف بالحياة. ولذلك يقف راسخًا في عزمه عدم القبول به. ونتيجة لذلك، فإنَّ السرد ينبني بوصفه صدامًا بين موقفين، أولهما ينفي الحياة وينكرها وثانيهما يؤكّدها ويثبتها.

يقوم التعارض -كي نضع الأمر إجمالاً، وبصورة مؤسفة، على حساب قَدْر كبير من الفكاهة والأسى الموجودين في الأصل– على التفاعل بين نظرتين متنافستين إلى الحياة في شروط المنفى. هكذا، لا تزال تغمر الشاب الذي لم يُقْطَع إلا مؤخّرًا عن خلفيّته الأصلية، أفكار عن أسرته وقريته اللتين تركهما وراءه. والحال، إن مثل هذه الذكريات أساسية في مساعدته على تحمّل الجوّ المناوئ، والحاجة إلى الطعام والمأوى، والرفقة غير الودودة التي اضطّره الظرف إليها. ولذلك، فإنَّ الذاكرة، بعيدًا عن كونها حالة مرضية منهكة، هي مصدر قوة هائل بالنسبة إليه. فهي تمكّنه من أن ينظر أبعد من حقيقة المنفى المميتة بحيث يستطيع أن يأمل بأن يلتئم شمله ثانية مع زوجته وأمّه وبأن يعود حرًّا من جديد. ومهما يكن الحاضر صعبًا، فإنَّ الذاكرة تقرن الماضي إلى بهجة التجربة المعيشة بوصفها القوة التي يحتاجها كي ينهض ويندفع باتجاه المستقبل.

هذا كلّه لعنةٌ بالنسبة إلى الواعظ. فهو لا علاقة له بالماضي ولا بالمستقبل. وحده الحاضر يهمّه إلى درجة الإقصاء التام لوجهي الزمن الآخرين. والتزامه بهذا الصدد هو التزام مطلق إلى درجة أنه يشكّل بالنسبة إليه حقيقة عقيديّة. وهو يطيش ما إن يسمع أنَّ التتري يأمل أن تلتحق به أمّه وزوجته في سيبيريا "وما حاجتك إلى أمّ وزوجة؟" يسأله. ذلك أنه مقتنع بأنَّ هذا "ليس سوى عناد، مجرّد وعكة يسببها إغواء الشيطان للغافل بأشياء مثل العواطف الأسرية أو دافع الحرية، فينصح "لا تصغِ إليه، لا تستسلم له". وهو يزعم أنّه يتحدث انطلاقًا من خبرته الخاصة. فالشيطان وضع في طريقه الإغواءات ذاتها، لكنه نهره قائلاً "لا أريد شيئًا". وعلى التتري، أيضًا أن يواجه الشيطان يومًا ويقول: "لا أريد شيئًا! لا أب، لا أم، لا زوجة، لا حرية، لا بيت، لا وطن، لا أريد شيئًا". ومن يقصّر عن فعل هذا، يضيع تمامًا "لا خلاص له. وسرعان ما يغرق في المستنقع حتى أذنيه، ولا يَخْلُص قطّ".

الحاضر وحده، منقطعًا عن الماضي والمستقبل، هو ما يزعم الواعظ أنّه يناسبه على أحسن وجه. إنّه يطيب له بوصفه الآن الأبديّ الذي لا يَحُول. حتى في الصيف، حين يغادر الآخرون بحثًا عن الطعام ويجوبون المنطقة بأسرها، يبقى هو في مكانه، مستقرًا وسعيدًا بالعمل المعتاد على المعديّة، جيئةً وذهابًا بين الضفتين. "منذ اثنين وعشرين عامًا وأنا أقوم بهذا" يقول متفاخرًا. "ليلاً ونهارًا. سمك الكراكي والسلمون تحت الماء وأنا فوقه. ذلك كلّ ما أريده. يعطي الله كلَّ امرئ حياته".

كي يدفع الواعظ إلى النهاية فضائل مثل هذه الطريقة في الحياة يحكي قصة سيّد محكوم. وعلى الرغم من تميّز هذا الأخير، بحكم ولادته وتعليمه، "عنكم، أنتم الفلاحين الأغبياء"، يقول مشيرًا إلى التتري، أغواه الشيطان هو أيضًا وكانت لذلك عواقبه الرهيبة. إذ افتقد زوجته إلى حدّ أنّها حين وصلت أخيرًا أقام لها ولطفلتهما بيتًا فخمًا. "رفاهية، باختصار، وترف". لكن ثلاث سنوات كانت كافية كما يبدو بالنسبة إليها وهربت مع ضابط. وظلَّ المنفي المقدام يتطلع إلى السعادة. لم يتخلّ عن الأمل وواصل قناعته بأنَّ الناس يمكن أن يعيشوا حتى في سيبيريا. فهو لديه ابنته وهذا ما ساعده في الحفاظ على إيمانه بالمستقبل. أمّا الواعظ فكانت لديه شكوكه، وكان على ثقة من أنّها أصيبت بالسلّ حين بلغت ريعان شبابها وراحت تذوي. لكن والدها كان يرعاها تلك الرعاية التي لا تكلّ. وأنفق مبالغ هائلة من المال على الأطباء والأدوية، مبالغ كان من الأفضل، بحسب الواعظ، إنفاقها على الشراب، ذلك أنها "سوف تموت في جميع الأحوال"، كما لاحظ بكلبيّته المتهكّمة.

بعد سنوات، ليست بالبعيدة عن وقت وصول التتري إلى المستوطنة، رأى الواعظُ السيّدَ على متن القارب في طريقه للبحث عن طبيب آخر. ذلك أن حال ابنته ساء من جديد. كانت ردّة فعل الواعظ حيال تلك الأخبار مجرد إلماعة ساخرة إلى كلمات الأب المغتمّ الذي اعتاد القول بثقة "يمكن للناس العيش حتى في سيبيريا". ولأنَّ هذا الأمل تبدّد الآن بوضوح، يحوّل الواعظ مباشرة بؤس الرجل إلى مبرّر لموقفه السلبي من الحياة. ويشعر بأنّه حرّ في أن يتطوّع مجانًا ويلقي الرأي الذي مفاده أنَّ على السيد ألا يبحث عن طبيب في هذا الطقس وأن ينتظر على الأقل حتى تتحسن حال الدروب، أو، وهو الأفضل، أن يتخلّى عن الفكرة كليًّا لأن الطبيب الجيد يصعب إيجاده في هذه الأنحاء.

لا يبدي المُخاطَب أيّ اكتراث ويكتفي بأن يواصل قيادة المركب بينما الواعظ يسخر منه بوصفه ذلك الفَلْتَة المصمم على "مطاردة الريح في الحقول". لكن هذه هي اللحظة التي لم يعد فيها التتري قادرًا على كظم غيظه، بعد أن أصغى صامتًا كلّ هذا الوقت. فيلتفت إلى العجوز وينهال عليه بكلّ كراهيته المكبوتة واصفًا إياه بأنّه وحش، وبأنّه ميت وليس حيًّا مثل حجر أو كتلة طين. ويحتفي الآخرون بكلماته مبتهجين ويؤون إلى خيامهم للنوم. وحين يبقى التتري وحده إلى جانب النار ينفجر في عويل لا سبيل لوقفه.

4

يبدو لي، في ضوء هذه المواجهة، أنَّ من أحاديّة النظر أن نفسّر البكاء على أنّه محض تعبير عن اليأس. وحتى لو بدا كذلك، بوصفه صوتَ أحدٍ سيق إلى الحدّ الأقصى، فإنّه مُسْنَدٌ بلا شكّ وفي الوقت ذاته إلى إرادة عنيدة تريد الحياة وترفض التخلي عن الأمل. وهذا هو السبب في أنّه مقابل كلّ شيء يجده التتري حقيرًا تمامًا لدى الواعظ، ثمّة شيء يقدّره لدى السيّد المنفيّ. فهو يرى أنّه مقابل لا مبالاة الأول تجاه أسرته ثمّة عاطفة الآخر تجاه أهله، وحبّه لزوجته، ورعايته لابنته المريضة. وإزاء خواء الرغبة في أيّ شيء لدى الأول، ثمّة اتّساع رغبة الآخر واتّقادها. الأول مجرد مادة بهيمية ميتة مثل حجر أو طين، والآخر نابض بحبّ الحياة. والصراع بين المبدأين، الأول الذي ينكر الحياة والآخر الذي يبتهج بها، يصعب أن يُفصَح عنه مزيدًا من الإفصاح.

لا نبالغ مهما قلنا في شأن هذا التضاد، أقلّه لأنّه يمسّ أساس الوجود الإنساني ذاته. فهو ينطوي على كلّ من الزمن والجماعة. الزمن، لأنّ اختزاله إلى الحاضر وحده من دون أن يكون محلَّى بماضٍ ومن دون أن يكون في أفقه أيّ مستقبل يعني تجميد الزمنية ذاتها وتحويلها إلى تجريد حيث لا يسع الحياة أن تنجو. والجماعة، لأنّها، حين تُطْرَد من التاريخ، تغدو في حاجةٍ إلى القوت الذي يوفّره التشارك بين البشر بوصفه الشرط الذي يجعل الوجود ممكنًا على الإطلاق. ولأنَّ التضامن المعبَّر عنه كمحصّلة للتعاطف والرأفة والإحساس المتبادل وما إلى ذلك، هو على وجه التحديد ما يستخرج مثل هذا القوت من التواريخ اليومية للتجربة الإنسانية، فإنَّ المجتمعات التي تفتقر إلى التضامن تدمّر ذاتها بوصفها شيئًا لم يعد إنسانيًّا.

لعلّه ليس مصادفةً، إذًا، أن نقرأ هذه القصة المكتوبة منذ أكثر من قرن بوصفها أمثولة على عصرنا. فهي لا تقتصر على مساعدتنا في التمييز بين لاهوتيي التوحيد التقليدي والدولتيّة الحداثيّة المتوائمين، والمدفوعين بجشع مشترك ومخفيّ إلى السلطة أو السياسة باختصار، بل الأهم من ذلك، أنّها قد تساعدنا على أن نتعلّم من إدوارد سعيد أن نتوالف مع شرط المنفى بحساسية تكفي لئلا نخلط بالإرهاب أو التعصب كلّ بكاء، فردي أو جمعيّ، نسمعه في مجتمع المهاجرين، مهما بدا يائسًا. ذلك أنّ مثل هذا الشيء يمكن أن يكون أَلَم ولادة أملٍ جديد.