قضايا
هشام جعفربين «حراسة الجدران» و«سيف القدس»: إسرائيل ترى هزيمتها!
2020.06.30
مصدر الصورة : IRNA Arabic
بين «حراسة الجدران» و«سيف القدس»: إسرائيل ترى هزيمتها!
«حراسة الجدران» الاسم الذي أطلقه الكيان الصهيوني على عملياته العسكرية على غزة في مايو 2021، في حين أطلقت المقاومة الفلسطينية على حملتها اسم «سيف القدس»، والتسميتان تحملان دلالات عديدة لنا ولهم، المقاومة في وضعية المبادرة في حين الكيان الصهيوني في موقف الدفاع والحماية. المقاومة تدرك رمزية القدس وأهميتها المعرفية/القيمية للصراع؛ في مقابل الجدران التي لا معنى لها؛ فهي أبنية صماء بلا تاريخ والمهم حمايتها وحراستها لأنها موطن الإقامة فقط! العقيدة القتالية في «حراسة الجدران» تقوم على الردع أي «الدفاع عن إسرائيل»، في حين أن «سيف القدس» تقوم على المبادرة. في الأولى مطلوب أن تحافظ على النفس من القتل، تحفظ البنيان المادي لأنه المقصد والفلسفة التي قام عليها الكيان، لذا فإن «عملية حراسة الجدران «نصر تكتيكي، وهزيمة استراتيجية»، كما قالت الصحف الإسرائيلية، أو«عملية انتهت ولم تتم». وفي «سيف القدس» معيار النصر أن تحافظ على عرضك ومالك وبيتك ومقدساتك وإن فني جسدك، وفي «حراسة الجدران» أنت هالك وفي الثانية أنت شهيد، والشهيد حي بشهادته الدائمة على أصحاب القضية.
أتابع هنا ما كتبه مركز بيجن السادات BESA، ومعهد دراسات الأمن القومي INSS - وهما من أهم مراكز التفكير الإسرائيلية- على مدار الفترة من 10 مايو الماضي حتى 26 مايو، من خلال أكثر من عشرين مقالاً وتقدير موقف وتقييم استراتيجي وتدوينه لخبراء المركزين، وأتناولها من خلال العناصر الخمسة التالية:
أولاً: معركة السرد
الملاحظة الجوهرية في هذه النقطة أنه برغم إدراك العقل الاستراتيجي الإسرائيلي اتساع الجبهات في الجولة الأخيرة من الصراع لتشمل الضفة، وغزة، وعرب 48، بالإضافة إلى فلسطينيي الشتات، والرأي العام العربي والإسلامي وبعض قطاعات الرأي العام الغربي فإن هناك محاولة دائبة لاختزال الأمر إلى صراع مع حماس، والأسباب مفهومة؛ منها التغطية على هذا الاتساع، وتغيير طبيعة القضية من أن تكون شعبًا يبحث عن حقوقه لتكون أمر»الإرهاب الإسلامي» الذي تجمع كثير من البلدان على محاربته سواء لدي جل النظم العربية أو بلدان العالم المختلفة وجماهيرها أيضًا؛ فالمقصود شيطنة حماس». هل يعرف مؤيدو حماس في الغرب حقيقة ما تمثله هذه المنظمة؟ الحقيقة أن حماس ليست حركة تحرير تبحث عن أمة فلسطينية. وبدلاً من ذلك، تسعى إلى تدمير إسرائيل وإقامة دولة إسلامية على أنقاضها». ومع ذلك فإن «للصراع الحالي بين إسرائيل وحماس العديد من السمات القديمة والجديدة».
ومن اقتراب الجديد والقديم تناقش أهداف طرفي الصراع؛ حماس وإسرائيل، وكأن بقية الفلسطينيين الذين تحركوا على كل صعيد غير موجودين «كانت عملية Guardian of the Walls جولة أخرى في الصراع غير المتكافئ بينهما، وينطبق هذا التباين أيضًا على أهداف العملية؛ فبينما كانت أهداف حماس سياسية ومعرفية، كانت أهداف إسرائيل عسكرية». أما النتائج، فقد «حققت حماس أهدافها مع بداية الحملة، هكذا نصب التنظيم نفسه في الساحة الفلسطينية كمدافع عن الأقصى والقدس بإطلاق قذائف صاروخية في عمق الأراضي الإسرائيلية، مما أدى إلى تعطيل الحياة المدنية الروتينية، وتسبب في مقتل 12 شخصًا وكثيرًا من الدمار، وحرض على الاضطرابات بين العرب والإسرائيليين في المجتمعات المختلطة، وأثار تظاهرات عنيفة في الضفة الغربية وعلى الحدود الإسرائيلية اللبنانية. وأثبت أنه كان اللاعب الوحيد (على عكس حزب الله وإيران) المستعد لمواجهة أقوى جيش في المنطقة».
في حين كان هدف إسرائيل عسكريًّا بالدرجة الأولى «تحقيق هدوء أمني طويل الأمد، وتأجيل الجولة التالية من الصراع.
عند هذه النقطة ينتقل النقاش لتقويم العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي- التي شهدت تغيرًا مع بداية الألفية الجديدة، والانتقال بها من النصر الحاسم الواضح للخصم إلى الردع من خلال «التأكيد على الثمن الباهظ لعدوانها [يقصد حماس] وإضعاف قوتها العسكرية والإضرار بقدرتها على إعادة بنائها، ومهاجمة قادتها، وتحييد العمود الفقري للتنظيم تحت الأرض، وتقليل الأضرار والمفاجآت للجبهة الداخلية الإسرائيلية».
وإذا صيغت الأهداف الاستراتيجية لكل طرف على هذا النحو يصبح من الضروري تقييمها، فبينما حققت حماس الأهداف التي حددتها لنفسها في بداية الحملة - تقديم نفسها كمدافع عن الأقصى والقدس وقيادة الفلسطينيين في الكفاح ضد إسرائيل - لم تحرر إسرائيل نفسها من المنطق الذي وجه أعمالها في جولات الصراع السابقة مع حماس، التي تركز على الردع القوي.
الهدف الاستراتيجي الذي كان على الحكومة الإسرائيلية أن تصوغه- كما تقترحه إحدى الدراسات- هو السيطرة على ساحة الصراع ومنع توسعها إلى ساحات إضافية، مع التركيز على إضعاف حماس ومنعها من السيطرة على الساحة الفلسطينية، وتقليل قدراتها العسكرية إلى مستواها الأدنى، وإعادة السلطة الفلسطينية إلى مكانة الممثل الحصري للفلسطينيين، مع التطلع إلى اليوم التالي لعباس.
وجزء من الجردة الاستراتيجية لهذه الجولة من الصراع هي بالنسبة لإسرائيل أولاً وقبل كل شيء؛ استعادة الهدوء في القدس وفي المدن والبلدات ذات السكان العرب واليهود المختلطين، وإضعاف الارتباط بين الساحتين. بالإضافة إلى ذلك، مُنع المزيد من التصعيد في ساحات الصراع الأخرى في الشمال والضفة الغربية. بينما تحظى إسرائيل بدعم الولايات المتحدة واعتراف المجتمع الدولي بأنها «ليست المعتدي، وقد اضطرت للدفاع عن مواطنيها بالوسائل المتاحة لها».
أما حماس فقد حققت الأهداف التي حددتها لنفسها في بداية الحملة، نصَّب التنظيم نفسه على أنه المدافع عن الأقصى والقدس. إطلاق قذائف صاروخية في عمق الأراضي الإسرائيلية، ما أسفر عن سقوط 12 قتيلاً ومئات الجرحى. تصاعد الاضطرابات المدنية في المدن المختلطة بين اليهود والعرب في إسرائيل من خلال تشجيع الشباب العرب على المشاركة في الاضطرابات ومهاجمة اليهود، أثارت أعمال شغب في الضفة الغربية؛ وفوق كل شيء أكد [التنظيم] أنه زعيم المعسكر الفلسطيني، مع إظهار ضعف السلطة الفلسطينية».
وفي دراسات عدة تمت مناقشة ما يمكن أن نطلق عليه «فجوة إدراك الأهداف» بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من جهة، وبين القيادة الإسرائيلية وجمهورها من جهة ثانية؛ فقد كان الهدف الاستراتيجي المعلن للحكومة الإسرائيلية، كما قدمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن «حماس ستفكر مرتين في المرة القادمة قبل إطلاق النار علينا». ومع ذلك، فهذا الهدف لا يتصدى لهدف حماس في الوصول إلى موقع الريادة في الساحة الفلسطينية ككل واستعدادها لدفع أثمان باهظة من أجل إملاء شروط وقف إطلاق النار على إسرائيل من موقع قوة.
والهدف الاستراتيجي الذي كان على الحكومة الإسرائيلية أن تصوغه وتقدمه هو التعامل مع الأهداف التي ابتغت حماس تحقيقها: والخلاصة، في حين أظهر تفكير إسرائيل في أثناء القتال منطقًا كميًا تكتيكيًا، كان تفكير حماس إستراتيجيًا نوعيًا. كان هذا واضحًا في الخطاب الإسرائيلي الداخلي، الذي ركز على الإنجازات الكمية للحملة مثل عدد الأهداف التي استهدفت، وعدد قتلى إرهابيي حماس، وكمية الصواريخ التي أطلقت، وعدد الأنفاق التي دمرت، وعدد المباني متعددة الطوابق التي دمرت، وهكذا.
لم يمنع منطقها التكتيكي الكمي إسرائيل من الوصول إلى نتيجة عسكرية واضحة لا جدال فيها فحسب، بل استخدمت حماس منطقًا مختلفًا تمامًا ركز على الأهداف الاستراتيجية المنهجية. وهذا ما انتهت إليه إحدى الدراسات الإسرائيلية «للمرة الأولى، نجحت حماس في إغراء الجسم السياسي الفلسطيني بأسره (في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل) إلى تفجر الإرهاب والعنف. ومن ثَم، فقد قوَّض نهجًا إسرائيليًا رئيسيًّا، وهو نهج نجح لفترة ملحوظة: دق إسفين بين السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة».
كما شنت حماس حملتها من منظور إقليمي ودولي واسع. على عكس الجولات السابقة، حيث كان «الحصار» على غزة مركزًا للقتال وأهدافه من قبل، حولت حماس في هذه الجولة القدس إلى بؤرة رمزية. وهكذا تولت حماس قيادة معسكر الإرهاب و«المقاومة» الإقليمي، حتى على حساب حزب الله، الذي كان عليه الرضوخ لإطلاق الصواريخ على إسرائيل من الأراضي اللبنانية من قبل الفصائل الفلسطينية «المتمردة» (والتي يمكن أن تصبح ظاهرة مستمرة).
ثانيًا: التداعيات والآثار
غيَّر الصراع في غزة -كما ترى إحدى الدراسات- هذا الواقع وعزز مناصري سياسات الهوية داخل غزة، وبين عرب إسرائيل وفلسطينيي الضفة الغربية. وبدلاً من أن تكون مجرد جولة تكتيكية أخرى بين الجانبين، كانت المواجهة الأخيرة في غزة بمثابة صدام استراتيجي بين مدارس ومقاربات ووجهات نظر عالمية ومخيمات مختلفة، ف «القلوب الآن لها اليد العليا في مقابل البراجماتية الاقتصادية»، وتمكنت حماس من جعل نفسها لاعبًا استراتيجيًّا مهما خارج الساحة الفلسطينية. لقد نجحت في تقويض النموذج الاقتصادي البراجماتي لصفقة القرن، وإثارة الصراع بين اليهود والعرب في إسرائيل، ومنح الجماعات الإرهابية في المنطقة سببًا وجيهًا لمواصلة مواجهة إسرائيل.
يتطلب أي جهد لمواجهة هذا الاتجاه الناشئ، أولاً وقبل كل شيء، استيعابًا معرفيًا للأهمية الحقيقية للحرب الأخيرة، ولا سيما نتائجها الحقيقية، عاجلاً كان ذلك أفضل.
هكا تدرك عديد من الدراسات البعد المعرفي/القيمي لهذه الجولة من الصراع فهذه الإنجازات تهدف إلى «تشكيل الإدراك فيما يتعلق بالوحدة العربية العربية وثقب مكانة إسرائيل الإقليمية القوية».
وحاولت حماس أن توسع معادلة الردع مع إسرائيل من خلال ربط القدس وقطاع غزة، وتجرأت على توجيه إنذار لإسرائيل والوفاء بتهديداتها.
لذا يصبح من الضروري «تقليص إنجازات حماس في السنوات الأخيرة في إعادة الإعمار وتحسين الحياة المدنية في غزة [بما يؤدي] إلى تآكل شرعيتها المحلية والشرعية الدولية التي سعت إلى ترسيخها. وبدلاً من ذلك، تقوية صورتها (على الأقل أمام العديد من الجماهير، خاصة في الغرب) كمنظمة إرهابية تحتجز المدنيين رهائن لسياساتها الجامحة».
ويستمر تقييم نتائج الجولة على حماس «يجب أن يكون واضحًا أن حماس تعرضت لضربة قاسية لقدراتها العسكرية ومن ثَم لموقفها السياسي، وأن التحدي الذي تمثله لهيمنة السلطة الفلسطينية على الأراضي والقدس تم إضعافه في أعقاب الحملة الأخيرة»، وعلى الصعيد الدولي، نقلت إسرائيل أن حماس هي المعتدي الذي خطط لهذه الحملة وشنها، وأنها تعمل كمنظمة إرهابية بكل الطرق وتوجه أسلحتها بشكل أعمى نحو السكان المدنيين.
وبالنسبة لعرب 48 وفلسطينيي الضفة الذين ربما علق بعضهم آمالهم على حماس كقائدة للنضال الوطني الفلسطيني، فقد نقل إليهم رسالة مفادها «قد يؤدي فشل حماس في الحملة العسكرية إلى تقويض آمال تلك الأقلية المتطرفة التي أغراها التنظيم».
ثالثًا: عرب ٤٨.. الجهاد داخل إسرائيل
يلاحظ على النقاش في هذه النقطة مجموعة من الملاحظات الأساسية، الأولى النظر إلي عرب 48 بأنهم باتوا تهديدًا وجوديًّا للكيان الصهيوني «ما جعل هذا الحريق الأخير صادمًا بشكل خاص لليهود الإسرائيليين».
والثانية فشل صيغة دمجهم كأقلية عرقية من منظور الدولة القومية (أو بالأحرى تحويلهم لمواطنين إسرائيليين)؛ وكأن إسرائيل دولة قومية طبيعية، وثالثًا: فإن النقاش استحضر الأسباب والدوافع التي أدت لانتفاضتهم فالمحرك الرئيسي لهم لم يكن مشكلة التمييز بل كانت دوافع معنوية لا مادية، بل هي»صعود قومي (وإسلامي) لا ينبع من الافتقار إلى الحقوق أو الفرص ولكن من رفض وضع الأقلية» واعتبار هيمنة اليهود في فلسطين هيمنة غير مشروعة من قبل غاز أجنبي يجب أن يحل محله، لذا فإن الثوران قادم لا محالة، ويصبح حتمًّيا «ونأمل أن يكون في المستقبل البعيد.. ومن المحتمل أن نرى المدن المذكورة أعلاه [يقصد اللد وأم الفحم وعسقلان.. إلخ، وكذلك طرق النقل الرئيسية (ولا سيما وادي عارة) والمناطق المجاورة للبلدات والقرى العربية تصبح مرة أخرى ساحات قتال رئيسية إذا لم يصادر السلاح».
وتشير إحدى الدراسات إلى أنه لم يتضاءل رفضهم لوضعهم كأقلية، بل اشتد مع ارتفاع ثرواتهم الاقتصادية والسياسية، وكذلك معارضتهم للدولة اليهودية في حد ذاتها، ففي منتصف السبعينيات، تخلى واحد من كل اثنين من العرب الإسرائيليين عن حق إسرائيل في الوجود، وبحلول عام 1999، كان أربعة من كل خمسة يفعلون ذلك.
مدت دراسة أخرى هذا الفهم على استقامته فقالت «انفجار العنف الجماعي من قبل العرب الإسرائيليين ضد مواطنيهم اليهود لا يقل عن كونه حربًا دينية ويجب التعامل معه على هذا النحو«، وهناك بالطبع جحافل من المعلقين الذين سينسبون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام، والانفجار المستمر للعنف من قبل المواطنين العرب في إسرائيل بشكل خاص، لأسباب إقليمية أو وطنية أو اقتصادية أو مدنية أو قانونية. ومع ذلك فهم يتغاضون عن السبب الأعمق والأكثر استعصاءً على الحل وهو رفض الإسلام المطلق لحق اليهود في إقامة دولة».
والملاحظة الأخيرة، هي استحضار للذاكرة التاريخية في علاقة العرب باليهود على أرض فلسطين منذ مطلع القرن العشرين وفي النصف الأول منه «هذا ما حدث في ثورة 1936-1939 العنيفة في جميع أنحاء فلسطين، عندما انضمت العصابات الإجرامية العربية إلى الإسلاميين المتشددين، الأسلاف الأيديولوجيين لحركة حماس والحركة الإسلامية الإسرائيلية، لقتل نحو 450 يهوديًا، إلى جانب 180 جنديًا ورجل شرطة بريطانيًا وآلاف من العرب الفلسطينيين.
وتتبع بعض الدراسات الأسباب التي أدت بعرب 48 للانتفاض وتعزوها إلى تراكم عديد الأسباب «في الواقع، ما أدى إلى تزايد التحدي للدولة وسياساتها وقيمها لم يكن الحرمان. بالأحرى، كان التطرف المستمر للمجتمع العربي الإسرائيلي على مدى العقود الماضية. سهلت هذه العملية من خلال زيادة الثراء والتعليم، كما أنها اتبعت منطقًا سياسيًّا خاصًا بها».
وتضيف دراسة أخرى «خوفًا من التخلف عن الركب، صعد عرب إسرائيل بثبات مطالبهم القومية. الآن طرحت مثل هذه الأفكار التي لا يمكن قولها حتى الآن مثل أنه يجب حل إسرائيل وتحويلها إلى دولة ثنائية القومية - أي دولة عربية لا يحل فيها العرب ولكن اليهود مكانهم كأقلية».
كما أسهمت عوامل أخرى في تدهور الوضع، أحدها هو القوة والنفوذ الصاعدان للحركة الإسلامية، التي ضخت في الصراع عنصرًا دينيًا ظل خامدًا إلى حد كبير منذ عام 1948. والآخر هو احتضان إسرائيل الوهمي لأوسلو، على الرغم من استهزاء منظمة التحرير الفلسطينية الوقح والمتواصل بالتزاماتها بموجب اتفاقية عام 1993. والثالث هو الاتجاه المتنامي «لما بعد الصهيونية» بين المتعلمين الإسرائيليين، الذي من خلاله خلق انطباع عن مجتمع منهك ومستعد لدفع أي ثمن مقابل الراحة، وأخيرًا شجع العناصر الأكثر راديكالية في الجانب العربي على الحلم بتوجيه ضربة نهائية».
رابعًا: حاخامات حماس
في هذه النقطة يتم تناول التغير المستجد في موقف الشباب اليهودي خاصة في الولايات المتحدة من إسرائيل، ويرتبط بذلك الصراع الدائر في الحزب الديموقراطي الأمريكي بين الجناح التقدمي منه وبين التيار السائد داخله، والذي تمثله الإدارة الجديدة في البيت الأبيض.
هناك إدراك أن هذا من مستجدات المشهد «للصراع الحالي بين إسرائيل وحماس العديد من السمات القديمة والجديدة. من بين أكثرها رواية المعارضة الصريحة للتقدميين داخل الحزب الديمقراطي. والسبب الآخر هو التفرقة العنصرية الكاملة للصراع على أسس أمريكية بحتة: الإسرائيليون هم المضطهدون البيض، والفلسطينيون هم الضحايا السود الملونون».
وأخيرًا؛ فهناك إدراك لفشل الدبلوماسية العامة الإسرائيلية في الحفاظ على التأييد الدائم لها، ولكن الفشل تتم مناقشته في إطار مؤسسي فقط (أي إعادة هيكلة المؤسسات العاملة في هذا المجال) دون نقاش جاد حول السلوك الإسرائيلي في علاقته بحقوق الإنسان الفلسطيني وما يتعرض له من انتهاكات في الضفة وغزة باعتبارها سلطة احتلال، أو ما يتعرض له عرب ٤٨ من فصل عنصري.
ترصد إحدى الدراسات كيف بات الشباب اليهودي الأمريكي يرى الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتعزوها إلى سببين أساسيين: منظور العرق في الإدراك الأمريكي الآن، بالإضافة إلى الممارسة الدينية السائدة وسط الشباب اليهود «هؤلاء الطلاب الحاخامون صورة مصغرة لليهود الأمريكيين الشباب الذين يرون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال منظور العرق الأمريكي الذي يتفاقم بفعل صيغة التنوع والمساواة والاندماج السائدة في المجتمع الأمريكي اليوم، كما أنه يتزامن أيضًا مع الممارسة شبه الدينية الحالية المتمثلة في رؤية تقوم بأعمال «العدالة» بدلاً من المشاركة في العبادة أو الصلاة».
كما يرصد التطور الذي جرى بين الشباب في علاقتهم بالمشروع الصهيوني «أدى الاشتعال الأخير بين إسرائيل وحماس مرة أخرى إلى إجبار اليهود الأمريكيين على الانحياز لأحد الجانبين: إسرائيل مقابل مُثلهم العالمية، التي يرون أنها تتعارض مع المشروع الصهيوني».
وفي مقال «غزة والحرب بين الديموقراطيين» يرصد الكاتب طبيعة النظرة التي يقدمها التقدميون في الحزب الديموقراطي للصراع الآن حين جعلوه «عنصريًا ينقسم إلى إسرائيليين «بيض» يضطهدون الفلسطينيين «السود والملونين». ويلاحظ أن هذه السمات قد ظهرت على مدى السنوات القليلة الماضية، لا سيما بين حركة المقاطعة BDS التي بدأت في إجراء المقارنات بصوت عالٍ بعد أعمال الشغب التي قام بها فيرجسون عام 2014، وأصبحت سمة من سمات خطاب أمة الإسلام وحياة السود مهمة. ولكن تم التعبير عن هذا الآن بشكل كامل كقضية ثقافية وسياسية، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى تصاعد الاهتمام الأمريكي حول «العرق» وعدم كفاءة إدارة بايدن الجديدة التي لا تزال غير مسبوقة، بل وكارثة بالفعل».
وهناك محاولة لتتبع الجذور الاجتماعية لهذه الظاهرة الجديدة وجعلها ترتبط أساسًا بالأجيال الشابة «يسهل فهم الجوانب المتعلقة بالجيل إلى حد ما جيل ضائع من خريجي الجامعات ضعيفي التعليم مع القليل من المهارات الكمية أو التحليلية التي يمكن تمييزها، لكن الشعور الصحي بالاستحقاق وكذلك الديون الكبيرة أثبت أنه أرض خصبة لسرد الأحداث عن الضحية والاشتراكية».
ويقترن بهذا الذعر الأخلاقي الذي تدعمه الشركات الآن بشأن العرق حيث يحل «الإنصاف» بمعنى النتائج المتساوية محل الجدارة كأساس للتعليم والنتائج الأخرى.
وعند هذه النقطة يتم مناقشة «الفشل المنهجي للدبلوماسية العامة الإسرائيلية» والحاجة إلى أخرى قوية»؛ ارتباط العقيدة القتالية الإسرائيلية القائمة على الردع بدبلوماسية عامة قوية ضرورة لأن هدف الردع لا يقوم على الانتصار الكامل على الخصم كما كان من قبل في عقيدتها القرن الماضي».
أما جوهر استراتيجية الدبلوماسية العامة فهي الحرب على الإرهاب، ويجب أن تركز الرسائل العامة الموجهة لجمهور محدد في الساحة الدولية على الخصائص الجهادية لحماس والجهاد الإسلامي بطريقة تربط تلك التنظيمات بعناصر إرهابية مهمة، مثل القاعدة وداعش، والتي لا جدال في شرعية القتال ضدها».
خامسًا: التوصيات وأجندة العمل
-إن المهمة الأولى والأكثر إلحاحًا التي تواجه إسرائيل بعد حرب غزة هي مصادرة عشرات الآلاف من الأسلحة غير المشروعة التي بحوزة المواطنين العرب في البلاد، وخاصة العصابات الإجرامية، خشية استخدامها في تمرد قومي/ إسلامي.
-تقليص مسؤولية إسرائيل عن غزة، ومواجهة صورة القطاع على أنه لا يزال تحت «الاحتلال الإسرائيلي».
-استمرار عملية التطبيع مع الدول العربية البراجماتية.
-دحر إنجازات حماس على الساحة الفلسطينية وخلق أفق سياسي مع السلطة الفلسطينية.
-استراتيجية سياسية جديدة للتسوية السياسية مع الفلسطينيين والتي تم تجنبها لسنوات.
هذه أمثلة لبعض التوصيات التي تقدمها هذه الدراسات لصانع القرار الإسرائيلي لتكون بمثابة اجندة عمل مستقبلي له، ولكنها بالنسبة لنا يجب أن تكون سبيلاً لبناء توصيات واستراتيجيات مضادة للطرف الفلسطيني ومن ورائه القوى الداعمة لها.
تتوزع التوصيات على مستويات أربعة منفصلة لكنها مترابطة، مع وجوب وجود طرف مسؤول عن كل منها.
1- سياسي: تجاه السلطة الفلسطينية وليس حماس؛ والغرض منها تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية في المعسكر الفلسطيني ومكافأتها على خيار الحوار على «المقاومة» واستخدام القوة.
2- الأمن: ضمانات مصرية للحفاظ على وقف إطلاق النار، وإذا لم يستمر الهدوء، فسيتعين على إسرائيل أن تضع آلية للإكراه موضع التنفيذ تقوم على هجمات قوية ضد حماس مقابل كل انتهاك من قطاع غزة، وستكون حماس مطالبة بكبح الفصائل المتمردة يقصد المقاومة.
3- إعادة الإعمار الاقتصادي: تشكيل وكالة دولية (الرباعية/ الأمم المتحدة/ الدول العربية البراجماتية) لإدارة مشروع إعادة الإعمار في قطاع غزة والمساعدات الإنسانية للسكان، وعلى إسرائيل أن تجعل هذا الأمر مشروطًا بآلية فعالة لمنع إعادة تسليح حماس والجهاد الإسلامي. كما يجب منع الابتزاز من قبل حماس، الذي أصبح ممكنًا من خلال دخول الأموال من قطر، والتي استخدمت أيضًا في الحشد العسكري لحركة حماس.
4-تبادل مع حماس لأسرى/ جنود مفقودين: إعادة الأسرى المدنيين وجثث الجنود الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس بعدد معقول من الأسرى، مع مراعاة خطورة الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون، وقصدت المقاومين.
تفصل عديد الدراسات هذه التوصيات المجملة وتبين المنطق من ورائها:
-إن وقاحة حماس وعدم قدرتنا على فهم منطقها يوضح لماذا يجب على إسرائيل أن تكافح من أجل تسوية مستقرة طويلة الأمد في غزة لا تقوم على الابتزاز والتقوية الفعلية لحماس، ولكن على تقوية السلطة الفلسطينية في غزة. فقد ثبت أن الاعتماد على الأموال القطرية ليس حلاً مستقرًا على المدى الطويل. من الأفضل إيجاد أدوات أخرى لكبح حماس والسماح بحياة طبيعية لسكان قطاع غزة.
-زيادة قيمة خيار الترتيب في غزة بالنسبة لإسرائيل يتطلب وجود أنظمة استقرار وتفتيش، وخاصة التزام مصري ودولي بآلية تفتيش فعالة لمنع إعادة التسلح وتجديد حشد القوة من قبل حماس والجهاد الإسلامي.
-تخشى القيادة السياسية وقادة الدفاع، مع ذلك، من «ضربة حاسمة» من شأنها أن تثني حماس والجهاد الإسلامي عن الجولة المقبلة، بينما تجعل في الوقت نفسه وضع استراتيجية سياسية جديدة للساحة الفلسطينية أمرًا غير ضروري، وهو ما تجنبته إسرائيل لسنوات عديدة، ولم يتحقق بعد.
-يجب أن يكون دخول المساعدات إلى قطاع غزة مشروطًا بوجود آلية فعالة لمنع التعزيزات العسكرية من قبل حماس والجهاد الإسلامي.
-من أجل تحييد تلاعب حماس وادعاءات النصر، من الضروري تقوية السلطة الفلسطينية، بقيادة حركة فتح، للقيام باعتقالات واسعة النطاق لنشطاء حماس في الضفة الغربية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، ومنع حماس من التأثير على الأجندة الفلسطينية بما في ذلك في إطار الصراع على السيطرة بعد خروج عباس من الساحة.
-يجب تصميم بنية التسوية مع السلطة الفلسطينية وعلى رأس قيادة حماس، من أجل حرمان حماس من الاعتراف والمكانة والإنجازات، ويجب ترك حماس فقط مع العناصر التكتيكية للتسوية، الناتجة عن مسؤوليتها في إدارة الحياة في قطاع غزة.
-تعزيز آلية إقليمية ودولية لإعادة إعمار قطاع غزة واستقراره، بشرط أن تشمل إعادة الإعمار حرمان الجماعات الإرهابية من إعادة التسلح، بمشاركة الدول العربية البراغماتية، مع منع التأثير السلبي لإيران وقطر وتركيا على حماس والجهاد الإسلامي.
-يجب على إسرائيل أن تقدم هدفًا يتمثل أساسًا في تجديد العملية السياسية مع السلطة الفلسطينية، حتى لو كان ذلك لغرض وحيد هو الاتفاق على ترتيبات انتقالية إضافية تهدف إلى تحسين الوضع الأمني والمدني على الأرض، دون إحراز تقدم مقصود نحو تسوية دائمة.
وبعد، فقد تركزت مقالات محدودة بمناقشة البعد الإقليمي والدولي للصراع، إذ تؤيد مقالة «أين حزب الله؟» التقدير القائل بأن حزب الله لا يزال رادعًا ومترددًا في الدخول في مواجهة عسكرية واسعة النطاق مع الجيش الإسرائيلي في هذا الوقت، وغير مستعد للتضحية بكل موارده من أجل القضية». وتفسر الجمود الذي نشأ من جبهة حزب الله «برغبتها في التحكم في توقيت وظروف المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وفقًا لاعتباراتها ومصالحها الخاصة، أي أنها مصالح داخلية - لبنانية أو خارجية - إيرانية وإقليمية، وليست حلقات تمليها المصلحة الفلسطينية».
أما الموقف الصيني فقد كان من أجل إقليم تركستان الشرقية «حددت الصين الأزمة بين إسرائيل وحماس في غزة على أنها فرصة سياسية لتعزيز مصالحها الوطنية، لا سيما في سياق شينجيانغ، من خلال معارضة شديدة لسياسة الولايات المتحدة تجاه المسلمين»، وجعلت الصين إسرائيل جزءًا غير مقصود من النزاع بين القوتين العظميين من خلال استخدامها لمهاجمة صورة الولايات المتحدة.