ذخائر

جان بول سارتر

تأميم الأدب

2020.04.01

ترجمة توفيق شحاته

تأميم الأدب

مجلة الكاتب المصري 1 ديسمبر 1945

«ننشر هذا المقال الرائع الذي تفضَّل بإرساله إلينا الكاتب الفرنسي العظيم جان بول سارتر. وسيرى القراء أنه يعرض لموضوع عظيم الخطر هو الصلة بين الأدب والسياسة والاجتماع. وكل ما نتمناه هو أن يتدبر أدباؤنا هذا المقال القيم، فقد يدعو كثيرًا منهم إلى التفكير، وقد يثير في نفس كثير منهم خواطر قيمة».

في سنوات الفوضى الشاملة التي تلت معاهدة فرساي كان المؤلفون يستحون من الكتابة، وكان النقاد لا يرغبون في القراءة. ولم يكن الإنسان يجد أدباءً في الأندية الأدبية، بل يلقى فيها أشخاصًا احترفوا الكتابة في الغزل الماجن والإجرام واليأس والثورة والتصوف. وكان هؤلاء الكتاب يقبلون، على أثر إلحاح ناشريهم، أن يصدروا رسالة مرة أو مرتين في كل سنة. ولما كانوا لا يعيرون قراءهم أقل اكتراث، فضلاً عن أنه أصبح من الأمور المتفق عليها أنه ليس في وسع الألفاظ التعبير عن المعاني، فإن الجمهور كان يشتري كتبًا كثيرة ولكنه يقرأ قليلاً.

وإذا ما دفع الشعور بتبعة المهنة أحد محرري الصحف إلى التفرغ بضع ساعات لهذه المهمة، فإن نظرهم كان ينفذ خلال النص كما تنفذ الشمس خلال زجاج النافذة، ويبلغ الرجل نفسه فيجعله موضوع كتابته. ذلك أن ذوق العصر كان يميل إلى الإرهابية. وكانوا يفترضون أن المؤلفين لم يكتبوا قط، وإذا ما نظروا إلى مؤلفاتهم فلم يكن ذلك إلا باعتبارها مجموعة من المعلومات المنوعة، عن خلقهم. وكانوا يتحدثون عن وسائلهم الكتابية، وعن أساليبهم البيانية كأن الأمر لم يكن متعلقًا بحيل فنية يصطنعونها، بل بتفاصيل شيقة تتصل بحياتهم الخاصة. فلم يكونوا يذكرون عن-جيرودو- أنه نشر هذا الكتاب أو ذاك، بل "إنه يأخذ بيدنا ويجعلنا ندور معه. يخيل إلينا أننا نتبعه في "بيلاك"1 وها نحن أولاء في الصين، تراه يرمي بسهم يصوبه نحو برلين، وإذا بطير من طير الجنة يهوي من السماء في "ميلوكي"2، ونستطيع أن نتبين من هذا إلى أي مدى وصل الاحتقار في هذا الوقت للمسائل الأدبية الخالصة.

أما اليوم فقد تغيرت الحال، وقد أعيد إلى الأدب وإلى البيان كرامتهما وسلطانهما. ولم يعد المقصود إشعال نيران في أدغال الحديث، والمزاوجة بين "ألفاظ" يحرق بعضها بعضًا، وإدراك المعاني المطلقة لإحراق مفردات القاموس، بل أصبح الغرض من الكتابة تحقيق الاتساق بين الكاتب وغيره من الناس عن طريق استعمال الوسائل الموجودة القريبة من متناول اليد استعمالاً متواضعًا.

وإذ قد زال الزهو الذي كان يقضي بفصل الفكرة عن اللفظ، واستقلال كل منهما عن الآخر، لم يعد من الممكن حتى أن نتصور احتمال أن الألفاظ لا تعبر عن الفكرة تعبيرًا صادقًا. وقد استُرد قدر من الأمانة والصدق يسمح بألا يقبل حكم يصدر على أساس هذا الشعور الفائق الوصف البعيد المنال الذي لا تستطيع الألفاظ الإفصاح عنه، ولا يسع الأفعال بيانه. وقد رؤي أنه لا يمكن تعرُّف النيات إلا عن طريق الأعمال التي تخرجها إلى الوجود وتحققها، ولا تبَيُّن المعاني إلا عن طريق الألفاظ التي تترجمها وتعبِّر عنها. وعاد النقاد على إثر ذلك إلى القراءة. وكان هذا خير ما يمكن أن يرجوه الإنسان ويتمناه، لو لم يظهر في الأسلوب الذي يصطنعه النقاد للتحدث عن الآثار الفكرية بوادر اتجاه جديد أشد خطرًا من الاتجاه القديم. نعم إنه لم يعد أحد ينظر إلى المؤلف على اعتبار أنه رجل شاذ أو مجنون أو قاتل أو دجال، أي على أنه دمية من هذه الدمى التمثيلية المهرجة. بل على العكس لا يترك النقاد فرصة تمر دون أن يذكِّروه بعظمته وبالواجبات الملقاة على عاتقه. ولست أدري حيال ذلك أخْيَر للكاتب أن ينظر إليه على أنه من هذه الدمى التمثيلية، من أن ينظر إليه تلك النظرة الرسمية التي ينظر بها إلى موظف حكومي ذي مركز محترم. فإن الوقار الذي يحاط به الكاتب يذكر تذكيرًا قويًّا بذلك الوقار الذي يوجه إلى السيدات العاملات في الجمعيات الخيرية، وإلى كبار موظفي الحكومة. وقد قال لي ذات يوم شخص ذو مكانة رسمية وهو يتحدث عن "دولان" 3: "إنه ثروة وطنية". لم أضحك من هذا القول لأن القلق يساورني بسببه؛ إذ أني أخشى أن يسعى اليوم عن طريق مناورة ماهرة إلى تحويل الكتاب ورجال الفن إلى ثروات وطنية. لا شك أن لنا أن نغتبط من أن الحديث عن حوادثهم الغرامية قل. وأنه قد زاد من ناحية أخرى التحدث عن آثارهم نفسها. إنما هذا الحديث الأخير يغمره إجلال مغالى فيه وزائد عن الحد. وليس مرجع ذلك أن النقاد ازدادوا تسامحًا، أو أنهم يتساهلون في المدح والثناء، وإنما مرجعه أن هؤلاء النقاد لا يستطيعون وضع المؤلفات التي يتحدثون عنها في مواضعها، إلا بصعوبة كبيرة. وقد أتى على الأدب حين من الدهر كان مجرد الاجتراء على نشر كتاب -بعد ما كتبه "راسين" أو"فينيلون" أو "باسكال"- يعد وقاحة باللغة. ولم يكن تفوق الكاتب -مهما امتاز هذا التفوق- من شأنه أن يجلب له الصفح عما ارتكب من جرم بإقباله على الكتابة.

أما اليوم فالأمر على عكس ذلك. والآثار الأدبية الجديدة ينظر إليها حتى قبل ظهورها نظرة فيها كثير من الرضا والعطف. على أن هذه الرعاية لا تتجه إلى ما يبذل الفنان من جهد للتعبير عن شعوره، وهو دائمًا جهد فردي منعزل، فيه الكثير من التردد وعدم الاستقرار. إنما مبعثها أنه ينظر إلى كل كتاب جديد وكأنه حفلة رسمية، أو إن شئت فقل كأنه مساهمة مطاوعة للاشتراك في أعياد الجمهورية الرابعة واحتفالاتها. ولا ينقد هذا الكتاب على أنه ثمر ما زال فجًّا، ولا يزال في حاجة إلى النضج حتى يستخلص منه كل ما ينطوي عليه من قيمة ومن معانٍ، بل يتحدث عنه كما يتحدث عن وليمة يقيمها المحاربون القدماء، أو عن ذلك المعرض السنوي الذي يقام للسيارات. وقد أخذ جمهور قراء الأدب يحذوا هذا الحذو وينتهج هذه السبيل. ففي بعض الأوساط لم يعد يقال عن قصة أو قصيدة أو عن أي أثر أدبي إنه رائع أو طريف أو مؤثر، إنما يتخذ صوت رخيم ينطوي على كثير من الاهتمام للإدلاء بهذا النصح:"عليك بقراءته فإنه مهم جدًا". مهم لأنه يلقيه بوانكاريه يوضح فيه سياسته المالية، بمناسبة إزاحة الستار عن نصب تذكاري للموتى، أو كأنه حديث يدلي به زعيم من زعماء العمال. تصوَّر مثلاً أن مدام دي سيفينييه تكتب لابنتها: "لقد شاهدت مسرحية "إستير"، إنها خطيرة جدًا". هل يتحول الأدباء فيصيروا رجالاً مهمين!

ثم كيف نستطيع أن نحكم على خطورة مؤلفات تبتدئ في وجودها؟ أليس ينبغي أن تمر مئة عام حتى يمكن تقدير هذه الخطورة، وذلك بالحكم على نتائج هذه المؤلفات وعلى ما أحدثت من أثر؟ وسرعان ما تدرك النهج الذي ينتهجه النقاد ومدعو الحكم في الأدب. فاهتمامهم بتقدير الكتاب نفسه أقل من اهتمامهم بتقدير ما سيكون لهذا الكتاب من أثر في الوقت الحاضر وفي المستقبل تقديرًا إجماليًّا مقدمًا.

وعلى ذلك فإنهم يرسمون في الحال التيارات الأدبية التي سيوجدها، ويحللون الدور الذي سيقوم به في حركة اجتماعية لم تنشأ بعد، فعندما نشر مسيو "جوليان جراك"4 كتابه "المظلم الرائع" بادر النقاد إلى التحدث عن "عودة إلى السورياليزم". عودة من؟ فإن مسيو جراك لم يفارق هذا المذهب في يوم من الأيام. وحتى إذا رجعنا إلى "قصر أرجول"5 فإنا نتبين على عكس ذلك أنه يبتعد كثيرًا عن أسلوبه الأول. غير أن نقادنا الحاذقين لا يكترثون بإظهار ما في آراء الكاتب من اتصال، أو ما يطرأ على شخصيته من تطور بطيء مع محافظتها على نهج أساسي واحد. وإنما ينظرون إلى الأثر الأدبي في نفسه، كأنه منفصل عن مؤلفه. ففي سنة 1945 أي بعد تحرير فرنسا بستة أشهر، قامت "ظاهرة من ظواهر مذهب السورياليزم".

هذا وحده ما يسترعي اهتمامهم. وكان هذا أسلوبهم في النقد حتى قبل الحرب؛ إذ كانوا يقولون عندما ظهر "سام ساتورنان"6: "هذه القصة تعتبر مرحلة هامة، إذ أنها تدل على عودة النظام إلى الأدب". ما أعذب هذا الحكم! فإن نشأة مسيو "شلومبرجيه" والتحاقه بحزب النظام يعتبران مرحلة واحدة. وإذا نظرنا إلى أصحاب الشغب والاضطراب أمثال "بريتون" و"كوكتو" فإني لا أظن أن "سام ساتورنان" قد أثر فيهم أقل تأثير. بل لعلهم لم يقرأوه. ومع ذلك فإن مثل هذا الاعتراض لا يزعجهم في قليل أو في كثير. فكل عام جديد، بل كل مطبوع جديد، يعتبر في نظرهم بدء مرحلة أو نهايتها، أو كأنهم في نفس الوقت بداية ونهاية. وهذا أحد النقاد يتنبأ لنا بأن أمامنا عشرين عامًا عجافًا لم تظهر آثار هامة قبل مرورها. على أن غيره يرى في نفس الوقت أن تلك الفترة ستأتينا بسنوات سمان، وهو ما يبين لنا في دقة كيف أن أدب المستقبل القريب سيكون خصبًا بسبب ما أحدثه الاحتلال من آلام، وما أنزله من محن. ويحذرنا ذلك من خطر التأثير الأمريكي في الأدب الفرنسي، أي أن أمامنا من القصص الأمريكي. على أن رابعًا يهدئ من روعنا لأن نشر، ولا أدري أي واحدة هي، كان بمثابة الناقوس الذي يؤذن بوفاة هذا التأثير السيء وانقضائه، في حين يكون خامس وسادس وسابع بظهور مذاهب أدبية جديدة يستكشفونها فيما نحن فيه من اضطراب.

فيقولون لنا إن هناك مذهبًا "وجوديًّا"7 يمتد أثره فيشمل فنون الرسم والتصوير؛ إذ أنه يوجد رسامون ومصورون "وجوديون"، بل موسيقيون "وجوديون". ويظهر -وأنا أعتذر من التحدث عن نفسي- أن لي في ذلك شأنًا. على أننا إذا صدقنا ناقدًا آخر فليس لي أي دخل في ذلك، إذ أني زعيم مذهب "السورياليزم الجديد"، وتحت لوائي "إيلوار" و"بيكاسو" (وأنا أستميحهما كل العذر من ذلك؛ فإني ولله الحمد، لم أنس بعد أني لم أكن إلا طفلاً غرًّا في الوقت الذي بلغا فيه مكانتهما الفنية التي يؤمن لهما بها الناس جميعًا). وآخر مذهب ظهر مذهب "التبؤس"؛ وهو مذهب من حداثة العهد بحيث لم أعرف بعد أن له من يمثله بين الأدباء. وإلى جانب هذا فهناك ألوان أخرى من العبث، مثال ذلك أن يحلو لبعضهم أن يصوروا لنا الكتاب الذي ننتظره. وهم يرون كما كان "جوفروا روديل"8 يرى الأميرة النائمة. ويجدون عبارات يتحدثون بها عنه، تبلغ من الإقناع حدًّا يجعلنا نراه معه. وها هو ذا العالم قد جعل ينتظر في شوق عظيم هذه القصة التي أصبحت قصة المستقبل، والتي أسبغ عليها منذ الآن مسحة من وقار الحفلات الجليلة الرهيبة. سنجد فيها تصويرًا لسيمائنا وأملنا وغضبنا. ولا يبقى بعد ذلك إلا أن نجد متطوعا يكتبها. ويذهب ناقد آخرإلى أننا نجتاز الآن ثورة؛ فلأدبنا إذن كل خصائص أدب الثورات، ثم هو يسرد هذه الخصائص. ومن ذا الذي لا يفهم أن هذا الناقد الأخير عندما يتبين فيما بعد، أن الكتاب الشبان من الخفة والرعونة بحيث لا يحققون نبوءاته. لا بد أن يكونوا كتابًا أدعياء هدامين، بل لعلهم من المحافظين الرجعيين. وقد تحدث أحد النقاد في الشهر الماضي عن قصة فرنسية ممتازة عن الأنصار البولنديين، فكتب في كل اطمئنان وبساطة "إنها قصة المقاومة". ولو أننا كنا في الأزمنة الماضية لامتنع النقاد عن الحكم على المستقبل بهذا الشكل الجازم الذي يقطع كل سبيل. ولتركوا فرصة للروس والبلجيكيين والبولنديين والتشيك والإيطاليين، بل البولنديين أنفسهم وللآلاف من الفرنسيين المتحفظين بالكتابة عن هذا الموضوع. أما الناقد المعاصر فلا يبالي بمثل هذا الاحتياط السخيف، فإن لذته في تعميم الأحكام وتطبيقها على الحالات المشابهة. وعند ظهور أي أثر أدبي جديد يقوم بعمل حساب ختامي، كأن هذا الأثر حد يبين انتهاء التاريخ والأدب. فترى "الحساب الختامي للاحتلال" و"الحساب الختامي لسنة 1945"، و"الحساب الختامي للأدب التمثيلي المعاصر". هو مغرم بهذه الحسابات الختامية وليسهل على نفسه وضعها يوقف بجرة قلم سير الكاتب في مهنته. مثال ذلك أن كثيرًا من النقاد قرروا بكل اطمئنان ودون تردد بعد ظهور "المدعوة" و"إنريكو" أن "سيمون دي بوفوار"9 وأن "مولوجي"10 لن يكتبا شيئًا بعد ذلك.

كما أني أذكر أن ناقدًا كان يسائل: ألا يكون "الغثيان" وهو كتاب لي في نفس الوقت "وصيتي الأدبية"؟ وكانت هذه دعوة رفيقة إلى التوقف؛ إن المؤلف الذي يعرف كيف يعيش، يكتب وصيته الأدبية في سن الثلاثين ثم يقف عند هذا الحد. والشنيع أمر هؤلاء المؤلفين الجادين المجتهدين الذين يخرجون كتابًا كل عامين أن النقاد ملزمون في كل مرة أن يعيدوا النظر في الأحكام السابقة التي أصدروها عنه. وإذا كانوا في كل مرة لا يستطيعون أن يقدروا بالضبط مصير الكُتَّاب الناشئين من حيث النجاح والإخفاق، فإنهم يجدون أنفسهم عندما يظهر كاتب جديد في موقف هذا القارئ، الذي يعمل في دار كبيرة من دور النشر، والذي كتب على مخطوط أرسله إليه "بيير بوست"11، وعلى أثر قراءته لهذا المخطوط: "يسأل "بيير بوست" عن المؤلف، أموهوب هو؟". والسؤال عن المؤلف الموهوب في لغة الناشرين: كم كتاب في صدره؟ وقد قرر النقاد أنه لا يوجد في صدر "مولوجي" إلا كتاب واحد، أي إنهم بادروا بالحكم على هذا الشاب، وأصدروا حكمهم، كأنهم انتقلوا إلى المستقبل. في نهاية حياته الطويلة، واستقروا استقرارًا ثابتًا في هذه اللحظة الدقيقة الممتازة التي تفيض فيها نفس "مولوجي" والتي يمكن فيها طبقًا للحكمة القديمة أن يقرر أعاش سعيدًا أم شقيًّا، مجنونًا أم عاقلاً، وهم ينظرون إلى "إنريكو"، وهو الأثر الأدبي الوحيد لهذا المتوفى، وعلى اعتبار أنه لم يصدر بعده أي أثر آخر من شانه أن يدفع على إعادة النظر في الموضوع، فيصدرون عليه حكمًا نهائيًّا، قد تقول: لكن مولوجي أصدر كتابًا ثانيًا بعد ذلك. هذا صحيح، ولكنه كان مخطئًا حين أصدر هذا الكتاب، وقد بين النقاد له ذلك بشكل جلي واضح.

ما معنى كل هذا؟ وما الصلة بين الخواطر المختلفة المتماثلة التي عرضناها عندما تستاء من قراءة مقال في إحدى الصحف فقلما تفكر في كاتبه. ولو أنك فكرت لما وجد سخطك لنفسه تكأة، ولهبط استياؤك، إلا إذا كان المقال صادرًا عن رجل شهير. وإذا بدا لك هذا المقال على أنه سخرة كلف به محرر مسكين فحرره في الليل وسط ضوضاء غرفة التحرير المشتركة، فإن غضبك سيتحول إلى رثاء، ذلك أنك لا تنظر إلى الألفاظ التي تثير سخطك على أنها إشارات مطبوعة على الورقة التي بين يديك، بل يخيل إليك أنك تسمعها مترددة على آلاف الشفاه كأنها هفيف الروح في اليراع. وكل واحد من هذه الألفاظ حدث اجتماعي ما دام قد مر من شفاه البعض، إلى آذان البعض الآخر، وما دام كان سببًا في إيجاد اتصالات متكررة بين مختلف أعضاء الهيئة الاجتماعية. وفي نهاية الأمر لن نجد للمقال صلة على الإطلاق بالهذيان الليلي الذي يصدر من صحفي غير مسؤول. إنما هو تمثيل مجموعي عام ينتشر خلال مئات الآلاف من الأذهان، وهو باعتباره تمثيلاً مجموعيًّا يبدو لك في نفس الوقت ضارًا ومحاطًا بالجلال. وقد اتفق النقاد والأدباء اليوم على النظر إلى أي كتاب نظرتهم إلى مقال في صحيفة يومية. ولا يشغلون أنفسهم بما أراد المؤلف أن يقوله، بل هم أكثر من ذلك ينظرون إلى هذا الكتاب كأنه لم يكن له مؤلف، ولا يهتمون به إلا على أنه عبارة جامعة سائرة ستحصد خلال بضعة أيام أو بضعة أشهر جيشًا من القراء، وهم يرون فيه إنتاج الشعوب المجموعي قد صدر من تلقاء نفسه، أو فإنه مؤسسة من المؤسسات العامة. وليجيب الناقد وصف هذه المؤسسة ويوضح تطورها نحو غايتها، ويبين مختلف تأثيراتها، فإنه يؤثر أن ينظر إليها بأعين حفدته، وأن يبدي رأيه فيها كما يصدر كتاب دراسي في الأدب حكمه عن كتاب مضى عليه خمسون ومئة عام.فالواقع أن مثل هذه الكتب الدراسية هي التي تستطيع وحدها أن تقدر مدى التأثير الفعلي لأي إنتاج ذهني، وهي التي تستطيع وحدها أن تفسر لنا ما صادف من نجاح، وأن تحكم على بقائه أو عدم بقائه، لأنها وحدها تستطيع بعد مرور مئة عام أن تكتب التاريخ. فإنه يمكن بعد انقضاء هذا الأمد من الزمن أن يصدر حكم صحيح عن السورياليزم، أعاد أم لم يعد إلى الوجود في السنوات المحيطة بسنة 1945، وعن كتاب التربية الأوروبية أكان أم لم يكن كتاب المقاومة، فبعد مرور مئة عام يمكن تحديد التيارات الأدبية التي ظهرت بعد هذه الحرب. كما يمكن بعد مرور مئة عام أن يكتب وصف دقيق لشكل القصة كما ننتظرها (هذا على فرض أننا ننتظر لها شكلاً معينًا) وذلك بمقارنة مدى النجاح الذي يصادف القصص المختلفة التي ستظهر خلال فترة السنوات العشر التالية. إلا أننا قوم عجلون. ونحن متسرعون في معرفة أنفسنا، وفي الحكم على أنفسنا. ذلك أنه خلال هذه السنوات العشرين الأخيرة تقدم الشعور الواعي في الغرب تقدمًا عظيمًا. وتحت ضغط التاريخ علمنا أننا تاريخيون. فكما أن مختلف فروع العلوم والآداب في القرن السابع عشر تأثرت ببحوث ديكارت في الرياضة فاتسمت بها، وتأثرت في القرن الثامن عشر بنظريات نيوتن في الطبيعة، وفي القرن التاسع عشر بنظريات كلود برنارد ولا مارك في علم الحياة، فكذلك تأثر قرننا بالتاريخ واتسم به. فنحن نعرف أن أقل حركة تصدر عنا ستعين على صوغ التاريخ، وأن أشد آرائنا شخصية ستساهم في تكوين هذا الفكر الموضوعي الذي سيطلق المؤرخ عليه عبارة الفكر العام لسنة 1945.

ونحن نعلم أننا ننتمي إلى عصر سيكون له فيما بعد اسم معين ومظهر خاص، وأنه ستخلص بسهولة خصائصه العامة وتواريخه ومعناه العميق. ونحن نحيا في التاريخ كما يحيا السمك في الماء. ونشعر شعورًا دقيقًا حادًا بتبعتنا التاريخية.أولم يُقَل لنا في سان فرانسيسكو إن مصير المدنية سيتقرر في السنوات المقبلة؟ أو لم يكن هتلر يردد قول: إن تلك الحرب التي خسرها ستقرر مصير الإنسانية لألف عام؟ وكلما ازداد شعورنا التاريخي حدة ازددنا سخطًا من تخبطنا في الظلام، ومن خضوعنا لحكم محكمة لن نعرفها، ومن شعورنا بأننا نحاكم في قضية كتلك التي وصفها "كافكا"12، نجهل ما سيتقرر فيها بشأننا، بل قد لا يصدر فيها قرار. أليس من المؤلم لنا أن يكون سر عصرنا وتقدير أخطائنا تقديرًا دقيقًا منقولاً إلى أشخاص لم يولدوا بعد، إلى أشخاص لم يزالوا أطفالاً سيؤدبهم أولادنا وحفدتنا، حتى بعد وفاتنا بمدة طويلة؟ نريد أن نقطع الطريق على هؤلاء الأغرار، ونريد أن نقرر منذ الآن وللأبد ما يجب أن يكون رأيهم فينا. ولو استطعنا أن نعكف على أنفسنا سننظر فيها وأن نستخلص ما لأعمالنا من أثر تاريخي في نفس الوقت الذي تحدث فيه هذه الأعمال، وقد يخيل إلينا أننا سنفحم هؤلاء الأطفال، وأننا سنعرض عليهم حكمًا على عصرنا يبلغ من القوة والسداد مبلغًا لن يبقى عليهم بعد ذلك إلا أن يقبلوه كل القبول. وكذلك نقضي وقتنا في تحديد الحوادث التي نحياها، وفي ترتيبها وإلصاق عنوانات لها، نقضي وقتنا في تدوين كتاب تاريخ دراسي عن القرن العشرين لتقرؤه الأجيال المقبلة. ولطالما ضحكنا من هذه التمثيلية الشعبية التي كان مؤلفها يضع على لسان أبطاله من جنود معركة "بوفين"13 هذه العبارة: "أما نحن فرسان حرب المئة عام... ". والآن يجب أن نضحك من أنفسنا؛ فإن شبابنا كانوا يسمُّون أنفسهم جيل ما بين الحربين، وكان ذلك قبل اتفاق ميونخ بأربع سنوات. يجب أن نضحك منهم، وإن أثبتت الحوادث أنهم كانوا محقين فيما أطلقوا على أنفسهم من لقب؛ لأنهم جعلوا يتحدثون عن أشخاصهم كأنهم أبناء أنفسهم. وهذه أيضًا طريقة غير مباشرة للإعلاء من شأن "الأنا" le moi هذا "الأنا" البغيض، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يحترم أباءه وأجداده. يجب أن نقنع أنفسنا بهذه الحقيقة المُرة وهي أنه مهما ارتفعنا للحكم على عصرنا فإن التاريخ سيكون في المستقبل أكثر منا ارتفاعًا لإصدار حكمه علينا. وهذا الجيل الشامخ الذي يخيل إلينا أننا اتخذنا فيه لأنفسنا عش النسر لن يكون بالقياس إليه إلا بمثابة جحر من جحور الضباب. والحكم الذي نكون أصدرناه سيضم إلى أوراق قضيتنا. ومهما نحاول أن نكون مؤرخي أنفسنا فإن مجهودنا سيذهب عبثًا. فما المؤرخ نفسه إلا ثمرة من خلق التاريخ. وحسبنا أن نصنع تاريخ زماننا من يوم إلى يوم كما نستطيع، وأن نختار بين السبل تلك التي تبدو لنا أقومها. ولكننا لا نستطيع أن نصدر في هذا التاريخ مثل تلك الآراء الحاسمة التي كانت من أسباب نجاح كبار مؤرخينا أمثال "تين" و"ميشيلييه"، فنحن في التاريخ يأخذنا من كل وجه. والأمر كذلك بالنسبة للناقد، فعبث يغار من مؤرخ الأفكار.

يستطيع "بول هازار" أن يتحدث عن الأزمة الفكرية لسنة 1915، ولكنا لا نستطيع أن ندرس "أزمة القصة في سنة 1945". بل هل نعلم أن القصة تجتاز الآن أزمة؟ وكل ما يمكننا أن نتبينه بوضوح ما ينوي كل مؤلف وكل مدرسة أدبية أن يعملاه، كما يمكننا أن نتبين من آثار هذا المؤلف أو أصحاب هذه المدرسة أينفذون فعلاً برنامجهم. وفي مقدورنا أن نستخلص بعض الطوايا المستترة وبعض الأغراض الخفية. ولكن ليس في وسعنا أن نتصور الشكل الذي سيتخذه هذا الأثر الأدبي في نظر قراء المستقبل، كما أنه لا يمكن منذ الآن أن نعتبره من مقتنيات الفكر الموضوعي لعصرنا، لأن ناحية الموضوعية لا تزال خافية علينا؛ إذ أن هذه الناحية ليست إلا المظهر الذي سيتخذه هذا الأثر في نظر الأجيال المقبلة. فليس يسعنا أن نكون في نفس الداخل وفي الخارج. ونحن حين ندرس الآثار الفكرية بروح من ذلك الوقار الذي لم يكن يتجه فيما مضى إلا لكبار الموتى، نوشك أن نقضي عليها. فما من قصصي يُكتب عنه الآن -وإن قل شأنه- إلا اتخذت الكتابة عنه مظهر الإجلال الذي كان "لانسون" يتخذه في أسلوبه للتحدث عن "راسين" أو "بيديه" للتحدث عن "أغنية بولان". وقد يرضي ذلك بعض الكتاب لكن هذا الرضا يصحبه شيء من الحنق الغامض. لأنه لا يطيب للإنسان أن يُنظر إليه، وهو حي، على أنه بناء من تلك الأبنية العامة. ولنأخذ حذرنا من هذا الأمر، فإن هذه السنة الأدبية، وهي لا تمتاز بصفة خاصة عن غيرها من السنوات بنوع آثارها وقيمتها، تملؤها الأبنية العامة. منذ الآن يجب أن نتعلم التواضع من جديد، ونصطنع روح المغامرة، وما دمنا لا نستطيع عن الميدان الشخصي إلى الميدان الموضوعي، من الذاتية إلى الموضوعية -ولا أقصد الذاتية الفردية بل ذاتية العصر- فينبغي أن يعدل الناقد عن إصدار أحكام يظنها لا مرد لها. ويجب أن يعتبر نفسه في نفس موقف الكاتب، ويشاطر حظه من حكم المستقبل عليه.

فليست القصة تطبيقًا مدبرًا محكمًا لقواعد الفن الأمريكي، ولا توضيحًا لنظريات "هيدجر"14ولا هي نشرة من نشرات "السورياليزم". كما أنها ليست عملاً من أعمال السوء، أو حادثًا له نتائج دولية خطيرة. إنما هي محاولة فيها مجازفة تحتمل النجاح والإخفاق، ويقوم بها فرد من الأفراد. وعندما يقرأ شخص من معاصري المؤلف قصته، وهذا الشخص مثل المؤلف محاط أيضًا بنفس السياج من الذاتية، فإنه يشترك معه في احتمالات. فالكتاب جديد غير معروف، لما يظهر خطره بعد، وعلينا أن ندخله دون أن يصحبنا دليل. ولعلنا لا ننتبه إلى أظهر الصفحات التي يتحلى بها. كما أنه من الجائز على عكس ذلك، أن يدفعنا بريق سطحي إلى الخطأ في تقديره. وربما استكشفنا في نهاية إحدى صفحاته فكرة ألقيت عفوًا، من تلك الأفكار التي يخفق القلب لها فجأة، والتي تضيء الحياة كلها. كما حدث لدانييل دي فونتانان15عندما استكشف "الغذاء الدنيوي"16 وأخيرًا يجب أن نخاطر: أيكون الكتاب جيدًا أم رديئًا. لنخاطر، فهذا كل ما نستطيع. ومشاركة الناقد في الميل العام إلى التقدير الاجتماعي للكتب، وخوفه من التقصير في هذه المشاركة يجعلانه يقرأ للمرة الأولى وكأنه يعيد القراءة، فهو مطمئن إلى أحكامه.

وأخشى أن تكون أحكامه هذه التي يصدرها على كتاب ما فتحجره تحجيرًا علامة من تلك العلامات التي تؤذن بموت الفن، والتي كان يتنبأ "هيجل" بها. قد يقال: ما الذي يدفعه إلى سلوك هذا المسلك؟ فهذا الناقد الذي كان يدعي منذ نحو عشرين عامًا تلمس أدق ما يمتاز به المؤلف من خصائص فردية عن طريق حدس دقيق، ما له يقصر اهتمامه اليوم على البحث عما للأثر من صدى في الهيئة الاجتماعية؟ ذلك أن المؤلف نفسه أصبح اجتماعيًّا، لم يعد في نظر الناس ذلك الشيء النادر الوجود، بل تغيرت نظرتهم إليه. وصاروا يعتبرونه الآن سفيرًا لهم وممثلاً. وفيما مضى كان كل كاتب جديد يشعر أنه غير مرغوب فيه على الأرض، كأنه زائد عن الحاجة، ولم يكن أحد ينتظره. فالجمهور لا ينتظر شيئًا، أو بالضبط ينتظر الكتاب الجديد الذي سيصدره القصصيون الذين يعرفهم، والذين تشبع بأسلوبهم، وتمثل آراءهم ونظراتهم. إلا أن بين المشكلات التي تظهر في كل عصر والحلول العارضة أو الموروثة التي تحل بها هذه المشكلات بقدر المستطاع يتحقق دائمًا نوع من التوازن. وكل شخص جديد يظهر مظهر الدخيل. فلم يكن العالم ينتظر فرويد. وكانت نظريات ريبو وفوندت في علم النفس تكفي.

مهمًا كانت قيمتهم، في تفسير كل شيء ما عدا مشكلة أو مشكلتين شاذتين، كان يرجئ ردهما إلى النظام. كما أنه لم يكن ينتظر أينشتين، فكان يظن أن من الممكن تفسير تجارب ميكلسون ومورلاي دون التخلي عن نظريات نيوتن في الطبيعة. كذلك لم يكن ينتظر بروست أو كلوديل، أو فان موباسان أوبورجيه، أوليكونت دي ليل، كانوا يكفون لإرضاء حاجات النفوس الرقيقة المشاعر. ونحن اليوم كذلك لا ننتظر الأفكار أو الأسلوب؛ إنما ننتظر الرجال، يسعى إلى المؤلف في داره، ويتوسل إليه. فإذا ظهر أول كتاب له قيل: "ما هذا! ما هذا! قد يكون المؤلف رجلنا". وإذا ما ظهر الثاني فنحن واثقون بإنه هو هو، وإذا ظهر الثالث يكون قد عقد لواء الإمارة، فأخذ يرأس اللجان، ويكتب في الصحف السياسية، ويرشح للنيابة في البرلمان، أو عضوية المجمع اللغوي. المهم أن يتوج في أسرع وقت ممكن.وقد جعل الناشرون ينشرون له وهو حي آثاره بعد الموت. ولعل المثَّال يهيئ تمثاله، وهذا بالضبط هو التضخم الأدبي. في الظروف العادية الهادئة يوجد فرق طبيعي مستقر بين العملة المتداولة وبين الغطاء الذهبي لهذه العملة، كما يوجد مثل هذا الفرق بين شهرة المؤلف والكتب التي يخرجها. فإذا ما اتسع هذا الفرق نشأ تضخم. وقد اتسع الفرق الآن إلى أقصى الحدود، وكل شيء يجري كأن فرنسا في حاجة ملحة إلى رجال عظام.

وهذا يرجع أولاً للصعوبة في حلول كتاب جدد محل أولئك الذين تنتهي مهمتهم، ففي الظروف الطبيعية كان هذا الحلول يكفله التسرب المتصل لعناصر منتسبة إلى الأجيال الجديدة، إلى الطبقات القديمة من الكتاب. لذلك لم يكن التغيير ملموسًا جدًا، وكان الشيوخ بتشبثهم بما اكتسبوا من امتيازات، يقفون في سبيل اندفاع المحدثين إلى حد ما. وبعد 1918 اختل التوازن لمصلحة الشيوخ، فإن الشباب بقوا في ساحات القتال، في فردون على المارن والإيزر. أما اليوم فالأمر على عكس ذلك، نعم إن فرنسا فقدت كثيرًا من شبابها، لكن الهزيمة والاحتلال من ناحية أخرى عجلا بتصفية الكتاب من الأجيال السابقة. فكثير من الشيوخ الذي كللهم المجد تحولت سيرتهم تحولاً سيئًا، في حين التمس غيرهم لأنفسهم مأوى في الخارج يلجأون إليه. وبقوا به يغمرهم النسيان شيئًا فشيئًا، وفريق ثالث منهم أدركته الوفاة.

وقد قال شاعر مجيد في شيء من الحسرة والألم حين اطلع على ثبت ناقص للأدباء الذين تعاونوا مع العدو: "إن كفة مجدنا لخفيفة بالقياس إليهم". فمنهم الخونة والمتهمون أمثال مونتيرلان، وسيلين، وشاردون، وجوهان دو، ودريو، وأرنانديس، وأبيل هرمان، وأندريه إيتريف، وهنري بوردون. ومنهم المنسيون أمثال موروا، ورومان، وبيرناسوس (وهذا الأخير يجتهد اليوم ما استطاع ليذكرنا بوجوده). ومنهم المتوفون أمثال رومان رولان، وجيرودو، ولما عاد مايتان إلى نيويورك بعد زيارة قصيرة لفرنسا سئل عن رأيه في الجمهورية الرابعة: "إن فرنسا في حاجة إلى رجال". يريد بالطبع أن يقول: "...إلى رجال من سني". على أن من الحق رغم ذلك أن الخسارة المفاجئة في صفوف الشيوخ من الأدباء قد تركت فراغًا كبيرًا نحاول ملئه على عجل. كذلك تجري الأمور في بعض البلاد حين يتولى الحكم حزب جديد، فإن هذا الحزب يُبعد نصف مجلس الشيوخ ويعين مكانه أعضاءً جددًا. وعلى ذلك رفع إلى مرتبة الزعامة بعض الكتاب كانوا خليقيين أن ينتظروها مدة طويلة لولا أنهم نشأوا في ظروف عاجلة. على أنه ليس لهذا بأس، بل على العكس، ففي أثناء الاحتلال عندما فوجئ الجمهور بخيانة بعض كبار الكتاب تحول عنهم إلى رجال أحدث منهم سنًا، ولكن ممن يمكن الاعتماد عليهم فمنحهم ثقته، وفي نفس الوقت أضفى على هؤلاء الناشئين الحديثين مجدًا لما يستحقوه بعد بفضل آثارهم، ولكنهم مُنحوه لإيجاد التعادل والتوازن بينهم وبين ما أفقده الخونة، وكانت هذه الحركة تنطوي على قوة وعظمة مؤثرتين، وأنا أعرف بعض الكتاب الذين صمتوا، فرفعهم صمتهم. لم يرفعهم من الناحية المعنوية كما يمكن أن يظن، بل من الناحية الأدبية. وهذا عدل. فليس واجب الأديب مقصورًا على الكتابة؛ بل يتعداها إلى إيثار الصمت عندما تقضي به الضرورة. أما الآن وقد انتهت الحرب، فمن الخطر أن نتصيد كبار الرجال معتمدين على نفس المبادئ والأسس. وقد كان الكتاب مضطرين إلى الراحة، لكن الكتاب لا يستريحون. وليس بين الكتاب المنتجين اليوم من لم يشارك من قريب أو بعيد في المقاومة، كان له على الأقل ابن عم أو ابن خال أو أي قريب آخر اشترك في هذه الحركة. وبذلك أصبحت الكتابة والمقاومة مترادفتين في الأوساط الأدبية. وليس من بين المؤلفين من يصدر كتابًا جديدًا عاريًا مجردًا من كل شيء كالطفل الوليد، بل كل كتاب يظهر تحيط به هالة من الشهامة. وينشأ عن ذلك لون خاص من الزمالة والإخاء. فإذا عرض الناقد لكتاب سأل نفسه: "كيف أستطيع وأنا من المشتركين في المقاومة أن أقول لهذا المقاوم القديمة إني لا أسيغ قصته الأخيرة عن المقاومة؟". وهو مع ذلك يقوله لهم لأنه أمين، ولكنه يُشعر القارئ أن هذا الكتاب، على الرغم من إخفاقه، ينطوي على صفات أرفع وأندر من تلك التي كان ينطوي عليها لو أنه نجح، ينطوي على شيء كأنه أريج الفضيلة، وما هي إلا خطوة يسيرة في هذا الاتجاه حتى يتحول هذا الخلط الذي لا مفر منه بين القيمة المعنوية للكاتب وقيمته الأدبية ويستغل لمصلحة سياسية. فكيف يمكن الوقوف في وسط الطريق! فمن اختار لنفسه في براءة وسذاجة أن يحب قصصيًّا معينًا لأنه كان يقاوم العدو، لم لا يختار لنفسه أن يحب قصصيًّا آخر لأنه كان زميلاً له في الحرب؟ وفي بعض الأحيان تتداخل الأحكام وتختلط: فهذا الكاتب وهو "برجوازي" وكاثوليكي لا يمكن أن تكون له قيمة أدبية في رأي الناقد من أحزاب اليسار، ومع ذلك فإنه قَيِّم ما دام قد اشترك في المقاومة. ويخرج من هذا المأزق بتقديرات مختلفة متفاوتة، ويجري في العالم الأدبي موجة قوية من المجاملة. لذلك لن أتهم بالجبن أولئك الذين يكبرون كتبًا مراعين في ذلك مغزاها السياسي أكثر من قيمتها الحقيقية. فهذه حالنا جميعًا اليوم. ولعل أشد المنكرين لهذه الحالة قد يصدرون أحكامهم عن دوافع سياسية. والمؤلف الذي يُختار على هذا النحو والذي يُدفع إلى الصف الأول -على الرغم منه في بعض الأحيان- يمثل المقاومة أو أسرى الحرب أو الحزب الشيوعي أو الحزب الديموقراطي المسيحي، فهو يمثل كل شيء إلا نفسه. وكيف أعرف أن المكانة التي يحتلها تأتيه من السنوات التي قضاها في المنفى أو في السجن أو في الغربة أو من المقاومة الخفيفة. أو أنها تأتيه بكل بساطة من موهبته الأدبية. على هذا الأساس تستهلك الأحزاب السياسية عددًا ضخمًا من كبار الرجال.

ففي سنة 1939 رشح الحزب الشيوعي الكاتب "بول نيزان" لجائزة الحلفاء الأدبية، ومكَّنه من الحصول عليها. وكان "بول نيزان" في ذلك الوقت المرشح الكبير ومنافس "أراجون" وقد غادر نيزان الحزب عند توقيع الاتفاقية الألمانية السوفيتية. وأنا أراه مخطئًا في تصرفه وإن يكن ذلك من شأنه.

ولكن ما هذا التحول الذي جرى بشأنه بعد ذلك؟ يجب أن نلاحظ أولاً أنه مات مقاتلاً، وأنه فضلاً عن ذلك كان كاتبًا من الطراز الأول، واليوم فما بال الصمت يخيم على اسمه: فأولئك الذي يحصون خسائرنا يذكروننا بريفو وديكور. أما نيزان فلا ذكر له. أيجب أن نستنتج من ذلك أن أراجون إذا ترك الحزب (وأنا أعرف أن هذا فرض غير معقول) سيهبط إلى أسفل الدرك بعد أن ارتفع إلى القمة؟ والجمهور كله شريك في هذا المسلك، وقد تبينا في خزي وهوان أن فرنسا لن تقوم في عالم الغد بالدور الذي كانت تقوم به في عالم الأمس. والحق أن أحدًا منا لا يُلام في ذلك: فلم يكن في بلدنا ما يكفيه من الرجال، ولم يكن في أرضنا ما يكفي من الثروة المعدنية، وضعف هذه الثروة المعدنية في فرنسا، مثله في أوروبا الغربية نتيجة تطور طويل. ولو أننا تنبهنا إلى الأمر تدريجيًّا لهيأنا أنفسنا لذلك في شجاعة. على أن المهمة الباقية لنا لا تزال رائعة، ولكنا لم نر الحقيقة إلا بعد الهزيمة. وحتى سنة 1939 كانت انتصارنا الماضي من جهة -ذلك الانتصار الذي ساهم في زيادة الأمور سوءًا على سوء بالإقلال من عدد السكان على أثر ضحايا الحرب- وازدهار حياتنا الفكرية من جهة أخرى، كل ذلك أخفى عنا قيمتنا الفعلية.

فنحن نحتمل كارهين هذه الحقيقة التي اتضحت لنا في خشونة وجفاء. فالخزي الذي لحقنا على أثر هزيمتنا في معركة سنة 1940، والألم من حرماننا التسلط في أوروبا، هذان الأمران يمتزجان في قلوبنا.فيخيل إلينا أحيانًا أننا دفنَّا وطننا بأيدينا. وقد نرفع رأسنا أحيانًا مؤكدين أن فرنسا الخالدة لا يمكن أن تموت. وبعبارة أخرى تسلط علينا في السنوات الخمس الأخيرة داء عضال من مركب النقص. والموقف الذي يتخذه سادة العالم الآن ليس من شأنه أن يبرئنا من دائنا. نضرب المائدة بأيدينا فلا يصغي إلينا أحد. نذكر بمجدنا الماضي، فنجاب بأنه بالفعل مضى وانقضى. إلا أننا أدهشنا العالم في أمر واحد، فإنه ما زال يعجب بقوة أدبنا فيقال لنا: "ماذا؟ لقد هزمتم واحتل العدو أرضكم وخربها، وأنتم على الرغم من ذلك تنتجون كل هذا الأدب!". ومن السهل تفسير أسباب هذا الإعجاب، فإذا كان الإنتاج الأدبي للإنجليز والأمريكيين قليلاً فذلك أنهم كانوا مجندين، وكان كتَّابُهم مشتتين في أنحاء العالم. أما نحن فعلى عكس ذلك، كنا مضطهدين ومطاردين، وفي كثير من الأحيان معرضين للموت، ولكنا على الأقل كنا في فرنسا، في بلدنا، في منازلنا. وكان بوسع كتابنا أن يكتبوا، إن لم يكن في وضح النهار، فعلى الأقل في الخفاء. ثم إن رجال الفكر من الأنجلوسكسون وهم مؤلفو طبقة خاصة منفصلة عن بقية الأمة يعجبون دائمًا كلما رأوا في فرنسا أدباء وفنانين متصلين اتصالاً وثيقًا بحياة بلدهم ومعنيين بشؤونها. وأخيرًا فإن كثيرًا منهم يشارك في هذا الشعور الذي أفضت به إليَّ قريبًا سيدة إنجليزية إذ قالت لي: "يتألم الفرنسيون في كبريائهم، ويجب أن نقنعهم بأن لهم في العالم أصدقاء. لذلك ينبغي ألا نتحدث إليهم الآن إلا فيما نعجب به من آثارهم وأعمالهم، في أدبهم مثلاً". ونتيجة لهذا الإعجاب الذي تُسرع الشعوب في إبدائه وتتكلف نشره، تُظهر الولايات المتحدة وإنجلترا وكثير من الدول الأخرى في العالم اهتمامًا كبيرًا بكُتَّابنا. ولم يحدث في يوم من الأيام أن وجهت إلى كتابنا القصصيين وإلى سفرائنا دعوات بقدر ما وُجهت إليهم الآن. ورغبة في رؤيتهم وفي الاجتماع إليهم وفي إطعامهم. وقد سمَّنت سويسرا بعضهم، وسمَّنت أمريكا بعضهم الآخر. وستعمل بريطانيا ما تستطيع. وفي أثر ذلك أخذنا أدبنا على أنه جدّ. فأولئك الذين لم يكنوا يرونه فيما مضى إلا عبثًا يتفرغ له المتعطلون، أو نشاطًا منكرًا يعتبرونه وسيلة من وسائل الدعاية فيتعلقون بمكانته الخطيرة لأن الأمم الأجنبية تؤمن بها. وقد يؤثر كثيرون منا أن يكون موضع الإعجاب بنا قوة صناعتنا، أو كثرة عدد أسلحتنا. غير أن حاجتنا إلى التقدير بلغت حدًّا جعله يقنعون بالإعجاب بالأدب. وهم يتمنون فيما بينهم وبين أنفسهم أن تسترد فرنسا مكانتها الحربية فتصبح البلد الذي أنتج تورين وبونابرت. ولكنهم مؤقتًا يقنعون أن تكون البلد الأدبي الذي نشأ فيه ريمبو وفاليري. ويصبح الأدب في نظرهم لونًا من ألوان النشاط يحل مؤقتًا محل غيره. وكان مباحًا أن يعتبر الكاتب رجيمًا لعينًا في ذلك الوقت التي كانت المصانع فيه تُسيَّر، وعندما كان للقواد جند يخضعون لأمرهم. أما اليوم فيبحث في لهف عن كتاب ناشئين حديثي السن، ويسرع في وضعهم في فرن صناعي كذلك الذي يوضع فيه بيض الدجاج لتعجيل فرخه، حتى ينمو بسرعة فيصيروا رجالاً عظامًا يرسلون إلى لندن وستوكهولم وواشنطن.

ولم يتعرض الأدب قط لمثل هذا الخطر الحائق. فالسلطات الرسمية وغير الرسمية؛ الحكومة والصحف، بل كبار رجال المصارف والصناعة استكشفوا قوته وسيستغلونها في مصلحتهم. وإذا نجحوا في تحقيق غرضهم، كان للكاتب بعد ذلك أن يختار، فإما أن يختص في نشر فنون الدعاية الانتخابية، وإما أن يلتحق بقسم من أقسام وزارة الاستعلامات. وحينئذ لا يهتم النقاد بتقدير مؤلفاته. بل بتقويم أهميتها الوطنية، ومدى نفاذ أثرها. واليوم الذي يستطيعون فيه استعمال الاحصائيات فإن نشاطهم سيتقدم تقدمًا عظيمًا. والمؤلف إذ يصبح موظفًا ويرزح تحت عبء مظاهر التكريم، سيتوارى في استسلام وراء آثاره الأدبية. وعندئذ لن يذكر اسمه وعلى أحسن الفروض سيتحدث بسهولة التعبير عن قصته "لمارلو" أو "لشانسون" كما يقال اليوم شراب "فاولر"، أو قانون "أُهُم". وذلك لمجرد الاستذكار، وتوجد على حدود المدن الكبيرة مصانع تجمع فيها القمامة، وهذه القمامة تحترق احتراقًا جيدًا ما بقيت الحرارة مرتفعة. والهيئة الاجتماعية، وهي توالي مجهودها، تريد أن تجمع هذه المواد التي لم تر لها حتى الآن أوجهًا للاستعمال، وأعني بها الكتَّاب. ولنأخذ حذرنا من مثل هذا العمل، فقد كانت بيننا قمامة ثمينة لا بأس بها. فماذا نربح إذا تركناها تتحول إلى دخان؟ ولا يجب أن تُفهم المهمة الأدبية على هذا الوجه. نعم إن الكتاب حدث اجتماعي، وإن على الكاتب حتى قبل أن يأخذ قلمه أن يقتنع بهذه الحقيقة كل الاقتناع. فالواقع أن عليه أن يشعر شعورًا تامًا بتبعته، فهو مسؤول عن كل شيء: مسؤول عن الانتصار في الحروب وعن الهزيمة، مسؤول عن الثورات وعن قمعها، وهو شريك في الاضطهادات إذا لم يكن بطبيعته حليفًا للمضطهدين، وليس يرجع ذلك إلى أنه كاتب فحسب، بل يرجع إلى أنه رجل قبل كل شيء. وهذه التبعة يجب أن يحياها وأن يريدها. (ويجب أن تكون الحياة والكتابة شيئًا واحدًا بالقياس إليه، لا لأن الفن ينقذ الحياة، بل لأن الحياة تعبر عن نفسها بوسائل مختلفة، ووسيلة التعبير عن الحياة هي الكتابة). لا ينبغي أن يعكف على كتبه ليحاول أن يتبين مدى تأثيرها في حفدته. فلا عليه أن يعرف أو لا يعرف أنه سيستحدث تيارًا أدبيًّا جديدًا. وكل ما يطالب به أن يقوم بأداء مهمته ويتعهدها في الوقت الحاضر.

ليس عليه أن ينتقل إلى مستقبل بعيد، ليحكم على آثاره، إنما يجب أن تنصب إرادته على المستقبل القريب، يومًا فيومًا. قد يرى المؤرخ أن الهدنة الموقعة 1945 أعانت على كسب الحرب، معتمدًا في رأيه على أن ألمانيا لم تكن لتجرؤ على مهاجمة الاتحاد السوفيتي -وكانت هذه المهاجمة أول خطوة في سبيل هلاكها- لو أن الإنجليز استقروا منذ سنة 1940 في مدينة الجزائر أو في بيروت. هذا جاهز. إلا أن هذه الاعتبارات لم تكن لتقوم سنة 1940 إذ لم يكن في وسع أحد أن يقدر وقوع النزاع بين ألمانيا وروسيا بمثل هذه السرعة. وعلى ذلك، وعلى أساس المعلومات الواقعية التي كانت بين أيدينا في ذلك الوقت كان يجب مواصلة الحرب. ولا يختلف الكاتب في هذا عن رجال السياسة، فإن ما يعرفه قليل محدود، ويجب أن يصدر عما يعرفه. وما عدا ذلك -أي مدى نجاح آثاره على مر الزمن- فمن أسرار الغيب التي لا يمكن إدراكها. لنعترف أن لكتبنا ناحية ستخفى علينا دائمًا: فالحب، وسيرة الفرد، والثورة، كل هذه أمور نعرف أولها ولا نتبين أعقابها.فلم يشذ الكاتب إذن عن هذا الحكم العام؟ من أجل ذلك يجب أن يغامر ويقامر بالنتائج، ويقال له من كل صواب إنه الرجل المنتظر. فليعلم حق العلم أن ليس هذا حقًّا، إنما ينتظر ممثل للفكر الفرنسي، لا رجل يحاول في قلق أن يبتكر التعبير بالألفاظ عن معانٍ جديدة. وقد قامت شهرته الحاضرة على خطأ في الفهم والتقدير. وينتظر الرجل العظيم دائمًا لأنه مصدر فخر لأمته. ولكن الفكرة العظيمة لا تُنتَظر لأن ظهورها يؤذي النفوس.فليقبل الأديب إذن الأصل الذي تقوم عليه الصناعة، وهو خلق الحاجة ليمكن إشباعها.فليخلق إذن الحاجة إلى العدالة والحرية والتضامن، وليحاول أن يرضي هذه الحاجات بما ينشئ من آثار. ولنتمنَّأن يتاح له التخلص من مظاهر الحفاوة والتكريم التي أثقلت كاهله، فيجد في نفسه القوة التي تسمح له بالخروج على التقاليد وتشق لنفسها طرقها الجديدة معرضة عن الطرق السلطانية،ولو أعدت له الدولة سيارة تسابق البرق.

ولم أعتقد قط أن من اليسير إنتاج أدب رفيع إذا كان الإحساس رديئًا والشعور سيئًا، ولكني أعتقد كذلك أن الإحساس الرفيع والشعور الممتاز لا ينشآن عفوًا. بل لا بد من أن يثيرهما الكاتب. وربما استطاع النقد أن يساهم في إنقاذ الأدب، إذا ما عني بفهم الآثار الأدبية أكثر من عنايته بتقويمها. ومهما يكن من شيء فقد وطنا أنفسنا على محاربة التضخم الأدبي، وأغلب الظن أننا لن نكسب بذلك عطف كثير من الناس. لكن الأدب نائم، ومن الممكن أن يكون شعور عنيف، وإن كان غضبًا خليقًا بإيقاظه.