دراسات
يامن نوحتأويلية نصر حامد أبو زيد قراءة نقدية لمسيرة باحث
2019.03.31
تأويلية نصر حامد أبو زيد قراءة نقدية لمسيرة باحث
في مجموعة محاضرات أقامتها مكتبة الإسكندرية عام 2008 للراحل نصر حامد أبو زيد- قبل عامين من وفاته- قال متحدثًا عن نفسه: «أنا باحث ولست صاحب مشروع فكري، ليس هذا تواضعًا وإنما هو وصف لما أقوم به، مع احترامي وتبجيلي لكل أصحاب المشروعات الفكرية، باحث مشغول بالأسئلة ينقله السؤال إلى سؤال آخر، وحين تتوقف الأسئلة في ذهني أعتبر أن هذه شهادة موت.. لست صاحب مشروع فكري، ليس عندي مشروع فكري منظم وله بداية وله نهاية وأهداف واستراتيجيات..».
والحقيقة أنه لم يكن مخطئًا في وصف نفسه بهذا الشكل، فالقارئ لكل أعماله لا يستطيع أن يجد فيها مشروعًا فكريًّا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، أي التصور الفكري والمفاهيمي العام، والذي يتسم بشكل ما بالتماسك والتكامل بين أجزائه، أو بعبارة أخرى هو الإطار الكلي المرجعي للمفكر والذي يحدد طريقه تعاطيه مع الموضوع محل البحث؛ فأعمال نصر أبو زيد أقرب إلى المشروع البحثي الكبير، الذي ظل يتطور طيلة الوقت، وينتقل من منطقة لأخرى، بحسب ما يكشفه له البحث نفسه، وهذا المشروع البحثي كان قد حدد أهدافه في البداية المبكرة باعتباره «حلمًا» في واحد من بواكير أعماله وهو كتاب فلسفة التأويل، والذي كان رسالته لنيل درجة الدكتوراة عام 1979 من جامعة القاهرة، فقد كتب حينها: «يعد هذا البحث، وما سبقه من دراسات قام بها الباحث، جزءًا من خطة أكبر يأمل الباحث أن يستطيع مع غيره من الباحثين إنجازها فيما يستقبل من أبحاث. قد تبدو هذه الخطة عالية الطموح بالنسبة لباحث مازال على أول الطريق، ولكن أي إنجاز إنما يبدأ بالحلم. والحلم الذي يسعى الباحث لتحقيقه هو إعادة النظر في تراثنا الديني بكل جوانبه من خلال منظور علاقة المفسر بالنص، وما تثيره هذه العلاقة من معضلات على المستوى الوجودي والمعرفي على السواء». و«علاقة المفسر بالنص» -أي التأويل- هو ما شكَّل الهدف العام للمرحلة الأولى من انشغاله وكتاباته.
إن غياب المشروع الفكري عن مسيرة نصر أبو زيد لا يعني خلو هذه المسيرة الحافلة -والمؤلمة في كثير من مراحلها- من القيمة الفكرية والمعرفية، فقد قدم خلال هذا «الحلم البحثي الكبير» كثيرًا من المفاهيم والأفكار التي كانت حينها جديدة على السياق الثقافي العربي. وبقدر ما كانت هذه المفاهيم تتميز بالجدة والريادة، بقدر ما كانت صادمة للحس الشعبي العام في ذلك الوقت، وهو ما دفع ثمنه الراحل نصر أبو زيد في قضيته المعروفة عام 1993، والتي انتهت برحيله عن مصر، ولم يتمكن من العودة لزيارتها إلا قبيل أعوام قليلة من وفاته.
لا يمكننا أن نفهم القيمة التنويرية لأعمال نصر حامد أبو زيد دون أن نضع في الاعتبار السياق الزمني الذي ظهرت فيه أفكاره وأعماله، وهو سياق ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حين كان المد الديني-السياسي على أشده في مصر والمنطقة العربية بشكل عام، فيما كان يسمي حينها «بالصحوة الإسلامية»، وفي هذه الفترة كان طرح أفكار من قبيل «تاريخية» النص الديني، أو قابليته للتأويل، ضربًا من الكفر الصريح -في عرف التيارات الدينية وجمهورها- وهنا تكمن أهمية ما طرحه نصر أبو زيد من أفكار برغم كل ما يمكن أن يقال عن غياب المشروع الفكري فيها، فنصر أبو زيد -وعلى عكس أغلب خصوم التيارات الدينية- كان يصر على الحديث من داخل التراث وليس من خارجه، بمعنى أنه لا يقدم مقاربات سجالية مع الفكر الديني باعتباره خصم سياسي يريد أن يصل إلى «مصالحة وطنية» أو وضع مبادئ دستورية متفق عليها كما كانت معركة أغلب العلمانيين في ذلك الوقت، ولكن على العكس من ذلك، كان نصر أبو زيد يتحدث كمفكر في الإسلام، ومن داخله، ومن هذه الزاوية يمكننا أن نفهم إصراره الدائم على تأكيد انتمائه الديني، وتبنيه الكامل للمعتقد الإسلامي كأي مسلم سني تقليدي، ومن هذه الزاوية أيضًا نفهم سر المحاولات المستميته من جانب خصومه لنزع صفة الإسلام عنه، ليتمكنوا عندئذ من تهمشيه باعتباره «علمانيًّا ملحدًا» له أن يقول ما يشاء، ولا يمكن له أن يتحدث «باسم الإسلام».
في مناظرة أجرتها قناة الجزيرة الفضائية بينه وبين د. محمد عمارة؛ الذي كان واحدًا من أبرز خصومه، استمات محمد عمارة في أن يثبت ترحيبه -كإسلامي- بحرية الفكر، وزاد عليها كذلك من باب الاستعراض حرية «الكفر»، لكن شريطة أن يعترف المفكر بكفره ولا يعتبر نفسه مسلمًا ما دام لا يعتقد يما يجب أن يعتقد فيه المسلم - من وجهة نظر الدكتور عمارة بالطبع!
في هذا السياق يمكننا أن نقدر القيمة التنويرية الحقيقية لأعمال أبو زيد، حتى لو بدت بمقاييس المشروعات اللاحقة عليه كما لو أنه كان يهز الشجرة ولا يقطف من ثمارها الشيء الكثير، فمجرد هز رسوخ شجرة الأصولية في هذه الفترة تحديدًا كان يتطلب قدرًا هائلاً من الشجاعة تمتع بها المرحوم نصر أبو زيد.
لكن من ناحية أخرى، كان لهذه الطريقة التي يموضع بها نفسه كمفكر من داخل الإسلام أثرًا سلبيًّا على كتاباته، إذ غلبت عليها السمة الاعتذارية الدفاعية؛ فتجده دائمًا في ذيل كل عبارة تبدو إشكالية أو مربكة للقارئ المسلم يجد نفسه مضطرًا إلى أن يعود ليؤكد أنه يؤمن بالله وبالرسول وبالقرآن وغير ذلك مما يعتقد فيه المسلمون.
كما جعلته هذه الطريقة في صياغة الخطاب يبدو في بعض الأحيان كمفكر «إسلامي إصلاحي» أو كفقيه مجتهد يحاول أن يقوم بعمل توفيقات -تلفيقية أحيانًا- بين النص الديني وبين قضايا حداثية. راجع على سبيل المثال مناقشته لقانون الأحوال المدنية التونسي الصادر عام 1957 والذي نص من بين تعديلات أخرى على منع تعدد الزيجات. وهنا يجتهد نصر أبو زيد في بيان عدم تعارض ذلك مع نصوص الإسلام، بطرق عديدة تتأرجح بين الاجتهاد الفقهي بأدواته التقليدية وبين أدوات المقاصدية وبعضًا من أدوات تحليل النص الحديثة، في محاولة منه لتحديد «سلامة التشريع من النواحي النصية والفقهية والمنطقية» على حد تعبيره.
ومع ذلك يبقي لمسيرة نصر أبو زيد خلال مشواره الذي حدد نقطة انطلاقه في وقت مبكر كما ذكرنا الفضل الكبير في طرح عدة مفاهيم على السياق الثقافي العربي بدت ثورية بمقاييس وقتها، كان أهمها مفهوم «التأويل» و«التاريخانية» ومفهوم «النص»، ولاحقًا مفهوم «الخطاب» الذي لم يمهله العمر ليستكمل عمله عليه بشكلٍ واف، وهي المفاهيم التي سنتناولها تباعًا في هذه الدراسة بشيء من التفصيل.
التأويل
يكمن أحد أوجه قوة طرح نصر أبو زيد في أنه استعاد مفهوم التأويل من التراث الديني العربي والإسلامي بعد أن تمت إدانته وتهميشه تدريجيًّا خلال القرون التي تمت خلالها عملية التدوين، وهو بالضبط ما عناه في عبارة «إعادة النظر في تراثنا الديني .. من خلال منظور علاقة المفسر بالنص».
والواضح أن علاقته بمفهوم التأويل ترددت خلال مراحل عمله المختلفة بين الانتصار والإدانة، ففي البداية انتصر نصر أبو زيد لمفهوم «التأويل» في مقابل مفهوم «التفسير» الذي رسخته الثقافة الإسلامية التقليدية، نافية «التأويل» كعملية إبداعية من القارئ، في محاولة من القدماء لمحاصرة النص ودلالته في نطاق ضيق من «التأويلات» المتفق عليها للدرجة التي تجعل من إبراز فكرة التأويل في ذاتها –بغض النظر عن مضمون هذا التأويل- عملاً يحتاج إلى هذا الجهد الضخم الذي بذله أبو زيد لفتح آفاق دلالة النص:
«فالتأويل هو الوجه الآخر للنص. وإذا كان مصطلح (التأويل) في الفكر الديني الرسمي قد تحول إلى مصطلح (مكروه) لحساب مصطلح (التفسير) فإن وراء مثل هذا التحويل محاولة مصادرة كل اتجاهات الفكر الديني (المعارضة) سواء على مستوى التراث أم على مستوى الجدل الراهن في الثقافة».
لقد بالغ القدماء في إدانة «التأويل»، نافين معه ما ينتج عنه بالضرورة من مفاهيم مثل دور المتلقي وحريته، وقدرته على التواصل مع النص، والفعالية الإنسانية في القراءة ذاتها، وهو ما انتهى إلى عزل القارئ/المسلم عن التواصل المباشر مع النص الديني، بالشكل الذي كان يمكن معه للنص نفسه أن يكون فعالاً من خلال هذه العملية التواصلية التطورية. كل هذه القيم والمفاهيم التنويرية المركزية أراد نصر حامد أبو زيد الانتصار لها في تأكيده على مفهوم التأويل، وإبرازه من داخل التراث ذاته، مرة لدى المعتزلة، ومرة لدى المتصوفة، ومرة لدى علماء القرآن، ومرة لدى الأصوليين (علماء أصول الفقه)، ليؤكد أن التأويل الذي بولغ في إدانته، كان حاضرًا دائمًا في عملية إنتاج التراث الديني نفسه، قبل أن يكون حقًّا مشروعًا لنا الآن:
«ولا يبالغ الباحث إذا ذهب إلى أن تفسير الصحابة أنفسهم.. لا يتجاوز إطار التأويل، فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يرد فيها على تأويلاتهم.. ومما يؤكد ما نذهب إليه أن هذه التفرقة بين التفسير والتأويل تفرقة اصطلاحية متأخرة، فالطبري مثلاً يسمي تفسيره (جامع البيان عن تأويل أي القرآن) وابن عباس يري أنه يعلم تأويل القرآن، وتؤكد الروايات أن الرسول (ص) دعا لابن عباس فقال (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)».
بهذا الشكل أراد نصر أبو زيد أن ينتصر لمفهوم «التأويل» من داخل التراث، قبل أن يكون من خارجه، بمعنى أن يكشف عن حضور «التأويل» في مساحات واسعة من الفكر الديني التراثي، وبالتالي يرفع الغطاء الشرعي عن التيار السائد في وصمه لكل محاولة إبداعية أو مختلفة، لصالح «تأويلات» بعينها، وفي الوقت نفسه، البرهنة للعقل المسلم المعاصر أن «التأويل» كان حاضرًا بالفعل خلال سنوات إنتاج هذا التراث، الذي تم إغلاقه وطلسمته لاحقًا، وتم تصدير صورة مثالية عنه توحي بأنه لم يكن ثمة «تأويلات» ماجت بها ثنايا هذا التراث، وأنه كان كله صوتًا واحدًا يتحدث بحديث «أهل السنة والجماعة»، وما عدا ذلك «فرق ضالة». أراد نصر أبو زيد هدم هذه الأسطورة التي تطغي على الخطاب الديني المعاصر، وبالتالي فتح الباب مجددًا أمام حيوية التفاعل بين العقل المسلم وبين النص الديني مباشرة، وبالتالي تجديد التفكير الديني بتحريره من سلطة «الرواية الرسمية»:
«فإذا كان الخطاب الإلهي -المتضمن لمنهجه- يتوسل بلغة الإنسان (تنزيلاً) مع كل علمه وكماله وقدرته وحكمته، فإن العقل الإنساني يتواصل مع الخطاب الإلهي (تأويلًا) بكل جهله ونقصه وضعفه وأهوائه، لكن الخطاب الديني يتجاهل هذه الحقيقة الكبري ويمضي.. مفسحًا المجال لتحكم سلطوي من طراز خاص».
في مرحلة أخرى، وبعد أن خاض سجالات عديدة مع الخصوم، لم يعد نصر حامد أبو زيد ينظر إلى مسألة «التأويل» بالمعنى السابق نفسه، فبعد أن كان يري في «التأويل» بابًا يجب أن ينفتح لتحرير دلالة النصوص من السلطة التاريخية للتراث الديني، بدأ يرى وجهًا آخر لعملية التأويل، وهي قدرة الخصوم دائمًا على التلاعب الدلالي بالنصوص لخدمة أيديولوجيا سابقة على النص، فالكل في النهاية يقوم بالتأويل، ليذهب بالنص تجاه ما يريد، ولينازل في نهاية الأمر خصما يحمل «تأويلاً» آخر: «هكذا نرى أن التأويل والتأويل المضاد يعتمد كلاهما على الانتقاء: أي إبراز النصوص التي تخدم غرض المؤول بوصفها الأصل وتأويل النصوص التي تخالف غرضه وتخدم غرض الخصم تأويلًا يسلبها الدلالة غير المرغوب فيها. وسواء اعتمد التأويل ثنائية الخصوص والعموم، أو اعتمد آلية الإبراز والإخفاء فالنتيجة واحدة: التلاعب الدلالي بالنص الديني قرآنًا أو سنة دون اعتبار لطبيعة تلك النصوص تاريخًا وسياقًا وتأليفًا.. ولغة ودلالة» فابن عربي على سبيل المثال «حاول أن يتجاوز إطار تناقضات الواقع وصراعاته. وكانت فلسفته بكل جوانبها –خصوصًا جانبها التأويلي- محاولة لإزالة كل هذه التناقضات وحل كل هذه الصراعات على مستوى الفكر والعقيدة».
المعتزلة أيضًا «لم يكن أمام(هم) سبيل إلا تأويل هذه الآيات التي يستشهد بها الخصوم تأويلًا يتفق مع وجهة نظرهم في التوحيد، وفيما يجوز على الله وما لا يجوز عليه. ونظروا إلى الآيات التي استشهد بها الخصوم على أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، ونظروا إلى الآيات التي تسند وجهة نظرهم على أنها من المحكم الذي ترد إليه آيات الخصوم المتشابهة. وكان من الطبيعي أن يلجأ الخصوم إلى الحيلة نفسها، فيعتبروا ما يدعم وجهة نظرهم محكمًا، وما يدعم وجهة نظر المعتزلة متشابهًا. وكان من الطبيعي أيضًا أن يدعي كل طرف لنفسه صفة (الراسخين في العلم) القادر على التأويل الصحيح».
وبهذا التحول، بدأ نصر أبو زيد في مرحلة البحث عن «مفهوم علمي موضوعي للنص» يخرج المسألة من دائرة التأويل والتأويل المضاد، في محاولة منه لحل المعضلة، فقد اكتشف الخدعة التي تحدث عندما: «تحاول قوي التقدم العقلانية أن تنازل الأسطورة والخرافة.. على أرضها (وهو ما اكتشف أنه كان يمارسه هو نفسه) ولأن النزال غالبا ما يتم بآليات السجال الأيديولوجي دون البدء في تحقيق وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية، وبطرائق قراءتها وتأويلها، تظل الغلبة على هذا المستوى من السجال للخطاب الديني على الخطاب العقلاني. وقد آن الأوان للخروج من هذا المأزق، والتخلص من عقدة التأويل والتأويل المضاد للنصوص بتحديد طبيعة النص الديني وآلياته في إنتاج الدلالة». ومع أن هذه المرحلة هي التي أنتجت أهم أعماله وأكثرها ثراء -كتاب مفهوم النص- إلا أنها ظلت من الناحية الفكرية تتخبط لتجد لنفسها نقطة ارتكاز في هذه المسألة المربكة، فما تزال رغبته في أن يبقي خطابه منطلقًا من داخل الدين وليس من خارجه، تجعله يبدو كمن يحاول أن يقوم بعمل توفيقات صعبة بين «القدسية الدينية للنص» من ناحية، و«المفهوم العلمي للنص» من ناحية أخرى، حتى أن بعض العبارات تجعلك تعتقد أنه قد أصبح يهاجم التأويلات المختلفة للفرق والتيارات لأنه في المقابل يدافع عن وجود «تأويل صحيح» هو الذي يجب أن يتبعه الناس:
«ولا خلاف على أن الدين -وليس الإسلام وحده- يجب أن يكون عنصرًا أساسيًّا في أي مشروع للنهضة، والخلاف يتركز حول المقصود من الدين: هل المقصود من الدين كما يطرح ويمارس بشكل أيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السواء، أم الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلاً علميًّا ينفي عنه الأسطورة، ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية؟ والعلمانية في جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، ولا ما يروج له المبطلون على أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة»؛ فكأنه بهذا الشكل يعتقد أننا إذا ما قمنا بهذا «التحليل والتأويل العلمي» سيمكننا أن نفهم المعنى «الحقيقي» للنص والتعريف «العلمي» لطبيعته وتنحل المشكلة من تلقاء ذاتها، وحينها لا نكون في حاجة إلى «تأويل وتأويل مضاد»!
لم يرد نصر حامد أبو زيد قط أن يترك موقعه كمفكر من داخل الدين/الإسلام، وقد كان هذا الموقف هو نقطة قوته ونقطة ضعفه في آن واحد. فمن ناحية، كان هذا الموقف هو نقطة قوته الكبري في مقابل خصومه من التيار الأصولي والسلفي، وهو ما اجتهدوا كثيرا ليجردوه منه كي ينزعوا الشرعية عن خطابه، لكنه من الناحية الأخرى كان نقطة ضعفه أيضًا في طريق بناء مشروع فكري حقيقي وتصور علمي متكامل عن طبيعة الدين وطبيعة النص الديني، فلا يمكنك أبدًا أن تكوَّن تصورًا كاملاً عن هيئة البناء، ما دمت تموضع نفسك داخله، على الأقل في لحظة التفكير.
*****
التاريخانية
نفهم إذن كيف بدأ نصر أبو زيد رحلته نحو استكشاف مساحات التأويل في التراث الديني، ثم اتجه بعد ذلك للبحث عن «مفهوم علمي للنص»، وبالتالي تطبيق أدوات التحليل اللغوي على النصوص الدينية، وقد كانت هذه المساحة محرمة على هذا النوع من التحليل، كون النص الديني -بحسب الخطاب الديني السائد- لم يصدر بلغة بشرية طبيعية، بل بلغة «إلهية»، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه أدوات التحليل اللغوي الوضعية المعروفة، إذ يفترض إنه «صالح لكل زمان ومكان»، أما في حالة تطبيق أدوات التحليل اللغوي المتعارف عليها على هذه النصوص، فسيتوجب علينا النظر عندئذ بالدرس والتحليل إلى منشئ الخطاب ومتلقيه وسياق إنشاء النص حتى يمكن فهمه بشكل صحيح، وهو ما يستدعي بالضرورة فكرة «تاريخانية النصوص»، أي تعلق دلالتها بالتاريخ، بمعنى الواقع الذي نشأت فيه، «بما هي نصوص لغوية، وبما أن اللغة نتاج بشري اجتماعي ووعاء لثقافة الجماعة»، فلا يمكن إذن فهم هذه النصوص إلا في سياقها «التاريخي» بملابساته الاجتماعية والنفسية والسياسية وغير ذلك، وهو ما يتعارض بالضرورة مع الفكرة الدينية السائدة عن النص باعتباره «متعاليًا على الزمان والمكان»، ولا يتعلق معناه بسياقه التاريخي، أي أنه نص «لا تاريخي». ولكن في مقابل هذا التصور التقليدي، يري نصر أبو زيد أن «النصوص-دينية كانت أم بشرية- محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها «تأنسنت» منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد»، فللنصوص جميعًا «تاريخيتها التي لا تتناقض مع الإيمان بمصدرها الإلهي، فالوحي واقعة تاريخية لا مجال لانتزاع لغته من سياق بعدها الاجتماعي».
لكن: ألا يمتلئ التراث الديني بمباحث من قبيل أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ والاستشهاد بأبيات من الشعر العربي لفهم دلالة الألفاظ العربية؟ ألا يكفي ذلك لتغطية الجانب التاريخي من النص؟ يجيب نصر أبو زيد على هذه التساؤلات: «ليس المقصود بالبعد التاريخي هنا علم أسباب النزول -ارتباط النصوص بالواقع والحاجات المثارة في المجتمع والواقع- أو علم الناسخ والمنسوخ- تغيير الأحكام لتغير الظروف والملابسات- أو غيرها من علوم القرآن التي لا يستطيع الخطاب الديني تجاهلها.. إن البعد التاريخي الذي نتعرض له هنا يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص. ولا خلاف في أن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم بعدها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى إهدار دلالات النصوص ذاتها».
وبطبيعة الحال، تثير مسألة التاريخانية إشكالية «مفزعة» للخطاب الديني التقليدي، وهي أنها -وكما يتصورها هذا الخطاب- تؤدي إلى تعطيل دلالة النص الديني وفعاليته في الواقع المعاصر، فما دامت هذه النصوص «تاريخية» أي مرتهنة «بعقل المخاطَبين وبطبيعة الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تحقق(ت) فيه» فسيمكن الاستنتاج اذن أنها لا تحمل أي معنى في الواقع المعاصر أو في أي واقع آخر غير ذلك الذي نشأت فيه، لكن نصر أبو زيد يصر على «طمأنة» العقل السلفي أنه لا يعني ذلك أبدًا: فـ«لا يعني الإلحاح على تاريخية النصوص أدنى إشارة إلى عدم قدرتها على إعادة إنتاج دلالتها، أو عجزها عن مخاطبة عصور تالية أو مجتمعات أخرى».
لكن كيف يمكن عمل هذا التوفيق إذن؟ كيف يمكن إعادة إنتاج الدلالة لنص يحمل دلالته الأصلية في تاريخيته واجتماعانيته الخاصة؟
هنا يقترح نصر أبو زيد -على سبيل الحل- أن «القراءة التي تتم في زمن تال في مجتمع آخر تقوم على آليتين متكاملتين: الإخفاء والكشف، تخفي ما ليس جوهريًّا بالنسبة لها -وهو ما يشير عادة إلى الزمان والمكان إشارة لا تقبل التأويل- وتكشف عن ما هو جوهري بالتأويل». يعود نصر أبو زيد إذن ليقترح «التأويل» حلًا لمعضلة التاريخانية، وهو يقترح أن القراءة التأويلية اللاحقة لها أن تعيد إنتاج الدلالة عن طريق كشف الجوهري بالنسبة لها، وإخفاء ما ليس جوهريًّا، فالنصوص دائمًا «محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في (المنطوق) متحركة متغيرة في (المفهوم) وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضًا بجدلية (الإخفاء) و(الكشف)».
وهنا يعود نصر أبو زيد مرة أخرى إلى التناقض الذي أشرنا إليه سابقًا، فها هو يفتح بنفسه الباب الذي أراد إغلاقه في بحثه عن «مفهوم علمي للنصوص» ينقذ التأويل من إشكالية «التوظيف الأيديولوجي والتلاعب الدلالي» بالنص. فمن يحدد لنا إذا الجوهري والعرَضي في النصوص إن لم يكن المؤول نفسه، بكل ما يحمل من انحيازات ذهنية مسبقة، وارتهانات واقعية تاريخية معاصرة له تخضع لها بالضرورة عملية التأويل؟ كيف يمكن إذن تجاوز إشكالية التلاعب الدلالي بالنص، خاصة أنه -بعبارة نصر أبو زيد نفسه- «ليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص بل لكل قراءة بالمعنى التاريخي الاجتماعي جوهرها الذي تكشفه في النص»؟
وهكذا نرى كيف أنه بهذه اللغة «الاعتذارية» الدفاعية، اضطر أن يفتح بابًا للتناقض، يعكس تردده الذي سبقت الإشارة إليه بين الانتصار للتأويل -باعتباره تحريرًا للقارئ من سلطة الخطاب الديني الموروث- وإدانته من ناحية أخرى -باعتباره وسيلة الخصوم للتلاعب الدلالي والتأويل الموظف أيديولوجيًّا حسب الحاجة!
والحقيقة أن القارئ لمجمل أعمال نصر أبو زيد لا يمكنه أن يتجاهل غلبة هذه اللغة الاعتذارية على معظم كتاباته، وهي كما رأينا كان لها أثر بالغ على عمليات التفكير الذهنية ذاتها في داخله، ولذلك من المهم تناولها هنا بشيء من التفصيل.
الكتابة الدفاعية
مهما كان المفكر متجردًا وموضوعيًّا ومخلصًا لفكرته ولمنهجه العلمي، فإنه لا يفكر في فراغ، ولا يمكنه أبدًا أن يتجاوز بالكامل تأثير واقعه عليه، فحتى الفكر هو «ظاهرة تاريخية اجتماعية»، والطريقة «الدفاعية» التي كان يكتب بها نصر حامد أبو زيد أحد الأمثلة بالغة الوضوح على هذه الحقيقة.
فلم يكن لنصر أبو زيد -الذي كان يواجه مدًّا إسلاميًّا أصوليًّا عاتيًا في فترة التسعينيات- أن يرتفع بسقف النقد لأعلى مما يمكن للواقع أن يحتمل، حتى مع كل المعارضة التي أثارتها أفكاره وكتاباته، ولم يكن له كذلك أن ينفصل تمامًا عن أرضية مشتركة يريد أن يحافظ عليها -أو على الحد الأدنى منها- بينه وبين القارئ/المسلم أو الفرد العادي والذي يفترض أنه مستهدف بالخطاب، وهذا الحد الأدنى من الأرضية المشتركة كان يتمثل في إعلانه المتكرر أن «المنطلق.. الذي ينطلق منه الباحث (بقصد نفسه) أن ثوابت الإيمان الديني هي العقائد والعبادات- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا- والإيمان لا يستبعد الفهم والشرح والتأويل».
ولم يتخل الحذر قط عن قلمه، فقلما تجد عبارة تتناول مسائل التأويل والتاريخانية وغيرها من القضايا التي قد تثير حفيظة القارئ العادي، إلا ويتلوها بعبارات توضيحية دفاعية لتوضيح موقفه الديني، فإذا كان نصر أبو زيد يتهم القراءة التقليدية بإهدار السياق التاريخي للنصوص، و«في عملية إهدار السياق تلك يعتمد التأويل كما يعتمد التأويل المضاد على نهج التلاعب الدلالي بالنص الديني-قرآنًا أو سنة- دون اعتبار لطبيعة تلك النصوص تاريخًا وسياقًا وتأليفًا» فإنه يعود ليستدرك سريعًا ما يقصده بكلمة (تأليف)، أي «بمعنى التركيب والتكوين لا بمعنى أنها من وضع البشر وتأليفهم»، وإذا كانت «الحقيقة.. التي لا يمكن التشكيك في سلامتها.. أن هذه النصوص لم تُلق كاملة ونهائية في لحظة واحدة، بل هي نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على العشرين عامًا» إلا أنه يعود ليستدرك سريعًا «وحين نقول تشكلت فإننا نقصد وجودها المتعين في الواقع والثقافة بقطع النظر عن أي وجود سابق لها في العلم الإلهي أو في اللوح المحفوظ».
وهنا يجد نصر حامد أبو زيد نفسه غارقًا في فخ تبني مصطلحات وعبارات الثقافة التقليدية نفسها (العلم الإلهي، واللوح المحفوظ)، ومحاولاً في اللحظة نفسها أن يجد لقراءته النقدية العلمية مكانًا داخل هذه الثقافة. «وإذا كانت هذه النصوص قد تشكلت في الواقع والثقافة فإن لكليهما دور في تشكيل هذه النصوص».
وهكذا يظل نصر حامد أبو زيد محصورًا بين محاولته عدم استفزاز الخطاب العام باستخدام مفرداته ومسلماته نفسها من ناحية، وبين محاولته أن يجد مساحة للقراءة النقدية العلمية من ناحية أخرى:
«والاعتراض الذي يمكن أن يثار هنا: كيف يمكن تطبيق منهج تحليل النصوص على نص إلهي؟ وقد يتضمن الاعتراض بعض الاتهام (والعياذ بالله من سوء النية) حول تطبيق مفاهيم البشر ومناهجهم على نص غير بشري وفقًا لأصله ومصدره.. وإذا كان أصحاب هذا المنهج يتفقون معنا كذلك في أن الله سبحانه وتعالى ليس موضوعًا للتحليل أو الدرس، وإذا كانوا يتقفون معنا كذلك في أنه سبحانه شاء أن يكون كلامه إلى البشر بلغتهم، أي من خلال نظامهم الثقافي المركزي، فإن المتاح الوحيد أمام الدرس العلمي هو درس (الكلام) الإلهي من خلال تحليل معطياته في إطار النظام الثقافي الذي تجلى من خلاله».
ولم تتوقف الحالة السجالية في خطاب نصر أبو زيد عند التأكيد الدفاعي على الإيمان بالعقائد الأساسية للمسلمين، بل تعدت ذلك أحيانًا تجاه المزايدة على الخطاب الديني التقليدي نفسه في تبجيل التراث، محاولاً نزع الشرعية عنه وإيجاد نقطة اتصال مع الجمهور، فقراءة التراث الديني من منظور المنهجيات الحديثة التي يدعو لها لا تعني الطعن على التراث نفسه، ولكنها «الاحترام الحقيقي لأنها تفترض قدرة هذا التراث على الاستمرار والتطور»، لكنه يعود ليضيف أن «هذه القراءة لا تقف عند حدود الاحتفال و(التوقير) الزائف، بل تتجاوز ذلك إلى (النقد) الذي يكشف عما في هذا التراث من جوانب ضعف منبعها (تاريخيته)». وبذلك يحاول نصر أبو زيد قلب المنضدة على خصومه، فهؤلاء الذين يقدسون التراث ويمنعون ماعون التفكير النقدي من تناوله هم من يهدرون قيمة هذا التراث، لا يفعلون «أكثر مما يفعله الوارث الكسول بما ورثه -والتراث هو ميراثنا الفكري عن الأسلاف- لأنه يكتفي باستهلاكه بالاعتماد عليه اعتمادًا تامًا، فيتناقض مع مرور الزمن وتقل قيمته»، أما الفريق الثاني من الوارثين «فإنهم يتعاملون مع التراث تعامل الذي يريد أن ينمي هذا التراث ويضيف إليه، ولا يكتفي بمجرد استهلاكه والاعتماد عليه» فأي الفريقين إذن «أكثر احترامًا للتراث وتوقيرًا له؟» وإذا كان يتهم خصومه بالانغلاق والجمود، فليست المشكلة في التراث أو النصوص الدينية نفسها، فإنها «تتباعد المسافات وتتعمق الاختلافات بين (مثالية) النصوص الدينية من جهة، وبين (واقع) الفكر الديني بشقيه الرسمي والمعارض من جهة أخرى».
ولعل نصر أبو زيد كان يسترجع حالته هو الشخصية عند كتابته عن محمد أركون الذي كان يري أنه «لا ينكر تموضعه (داخل) الفكر الإسلامي، ويعترف في الوقت نفسه أن هذا التموضع يتطلب (بعض الترضيات الضمنية)»
لقد أراد نصر حامد أبو زيد دائمًا أن يؤكد أنه «لم ينكر.. في أي من هذه الكتب أو المقالات التي نشرها شيئًا مما هو من ثوابت العقيدة، لكنه طرح اجتهاداته حول فهمها وتأويلها وتفسيرها منطلقًا من وعي لا يمكن إنكاره بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي للمسلمين، ومن دراسات سبق له القيام بها»
ويمكننا أن نتفهم هذه اللغة السجالية التي غلبت عليه، إذا فهمنا أنه كان دائمًا، وبحكم المعركة التي خاضها «على وعي بخطر التشويش الأيديولوجي النابع من موقفه من الواقع الذي يعيش ويتفاعل معه بوصفه مواطنا، ويدرك أن عليه أن يقلل من تأثير هذا الخطر على قدر ما يستطيع»، وهو ما كان يقوم به بالفعل عن طريق هذه التأكيدات الدفاعية، التي بقدر ما كانت مفيدة له على مستوى السجال، بقدر ما عرقلت تطور مفاهيمه إلى الحد الذي يُمَكِّنُه من بناء تصورات نظرية متماسكة دون تناقضات كثيرة. وربما كان أحد أهم مفاهيمه المركزية هو ذاته سببًا في نشوء هذه التناقضات.
مفهوم النص
يكاد مفهوم النص أن يكون أكثر مفاهيم نصر حامد أبو زيد محورية، ولعل تمسكه بهذا المفهوم تحديدًا لفترة طويلة من حياته كان سببًا في نشوء كثير من التناقضات في بنيته الفكرية العامة، وهو ما أقر به لاحقًا.
في البدايات المبكرة، حين كان نصر حامد لايزال منشغلاً فقط باستكشاف مساحات «التأويل» في التراث الديني كما أوضحت سابقًا، كان يستخدم مفهوم النص بمعنى واسع جدًا، فكان يشير بهذا المفهوم إلى «النص الديني بالمعنى الواسع الذي يشمل القرآن والأحاديث النبوية. ونعني بالنص هنا التراث التفسيري في حركته المتطورة، لا مجرد ما هو مكتوب بين دفتي المصحف وفي مجموعات الأحاديث»، فهو هنا يدخل في مفهوم النص القرآن والسنة، وكذلك يستوعب داخل مفهوم التراث التفسيري المحيط بالنصين، باعتباره نتج عنهما و«يفترض» أنه في تكامل معهما بشكل أو بآخر. وفي هذه المرحلة المبكرة، كان البحث عن مفهوم «التأويل» هو المغزى من وراء دراسة التراث، وهو مركز التفكير، وليس مفهوم النص، و«لا يقف مغزى قضية التأويل عند حدود التراث بكل ما يحمله هذا التراث من قيمة، بل يمتد هذا المغزى إلى الواقع الراهن الذي نعيش فيه جميعًا، فالنص الديني بكل ما يحمله من تراث تفسيري واقع متعين في حياتنا اليومية، وفي ثقافتنا المعاصرة».
لاحقًا، وعندما بدأت تتغير علاقته بمفهوم التأويل، واكتشافه للآلية التوظيفية التي يتم بها استخدام التأويل- وهو ما صار يشير إليه بعبارة «التأويل والتأويل المضاد»- بدأ رحلته في البحث عن «مفهوم علمي للنص» يمكن أن يحل الإشكالية، ويخرجنا من ثنائية «التأويل والتأويل المضاد» هذه، بالتالي وتلقائيًّا خرج التراث التفسيري من المفهوم، إذ بطبيعة الحال كان هو نفسه ميدان هذا «التأويل والتأويل المضاد»، وأصبح تفكير نصر حامد أبو زيد في «النص» يشير مباشرة وبشكل محدد إلى «القرآن» و«السنة». لاحظ هنا أن مفردة «النص» عند دارسي الأدب واللسانيات تشير إلى معنى محدد، هو «البنية» أي النص كوحدة للتفكير تتمتع بالتكامل بين عناصرها، إذ أن «الألفاظ في علاقتها التركيبية والسياقية تكتسب دلالتها» وهو معنى يختلف كثيرًا عن استخدام نفس مفردة «النص» عند أهل القانون والتشريع مثلًا، حيث تشير لدى هؤلاء إلى معنى «الوضوح» و«الاختصاص»، فالقانونيون والفقهاء مثلاً عندما يقولون إن «الآية نص في الباب» يعني ذلك لديهم أن هذه الآية تتضمن الحكم الواضح في الموضوع المطروح، دون أي لبس أو احتمالات وأن هذا الحكم موضوع هذه الآية المحوري، والمعنى الأول هو ما كان يبحث عنه نصر أبو زيد ليحل به إشكالية التأويل ويخرج من ثنائية التأويل والتأويل المضاد، ذلك أن «البحث عن مفهوم للنص ليس مجرد رحلة فكرية في التراث، ولكنه فوق ذلك بحث عن (البعد) المفقود في هذا التراث، وهو البعد الذي يمكن أن يساعدنا على الاقتراب من صياغة (وعي علمي) بهذا التراث»
إذن، بدأ نصر حامد أبو زيد هذه الرحلة البحثية عن مفهوم علمي «للنص» وهو مفترضا بالضرورة أن ثمة «نص»، أي نص متكامل له بنية خاصة ويمتاز بالتجانس في موضوعه وبين أجزائه، وبالتالي يمكن اكتشاف دلالته من خلال دراسة بنيته وعناصره ودواله الداخلية، وهو افتراض سيكتشف لاحقًا خطأه ليتحول عنه إلى مفهوم آخر هو مفهوم «الخطاب».
ولأن مفهوم النص في هذه المرحلة كان هو السؤال المحوري في تفكيره، أصبح يحدد مواقفه في قضايا خلافية مثل «النسخ»، ومسألة «أسباب النزول» وتزامنها من عدمه مع نزول الآيات. فاستنادا إلى مفهوم النص، يجد نصر أبو زيد نفسه مضطرًا لرفض الرأي القائل بإمكانية نسخ الآيات حكمًا وتلاوة، وهو النسخ الذي ناقشه علماء القرآن وأوردوا فيه بعض الأخبار التي -من وجهة نظر نصر أبو زيد- «توهم بحدوث تعديل في النص بعد وفاة النبي وانتهاء الوحي». فقبول هذا الرأي -حتى وإن ورد في المرويات والأخبار- سيؤدي إلى هدم مفهوم النص، إذ سيعني أن هذا «النص» طرأت عليه تعديلات، وبذلك يفقد صفته من حيث هو «نص»، «(فـ)مادام النسخ ممكنًا بعد وفاة الرسول فإن ذلك يفتح الباب واسعًا أمام الشك في مصداقية النص لا من الوجهة الدينية فحسب بل من الوجهة الثقافية أيضًا. ومهما كانت الدوافع وراء هذه التأويلات حسنة النية، فإنها تنتهي في امتداداتها المنطقية إلى إلغاء مفهوم النص ذاته»
كذلك، وتأسيسًا على اعتبار السنة أيضًا «نص» كما يفترض أبو زيد، فسيمكن إذن حل إشكالية تأخر نزول الآيات حسب الترتيب الوارد في التراث، عن تطبيق الأحكام التي يفترض أنها مبنية على هذه الآيات، «(فـ)لا شك أن علاقة التلازم بين المنطوق اللغوي للنص وبين دلالته أمر بديهي].. [وإذا كان علماء القرآن يدركون دون شك أن (السنة) نص فلا شك أن افتراضَهم تأخر النصوص عن أحكامها افتراض ناشئ عن تجاهلهم أحيانا -أو تناسيهم- لنص (السنة). إن هذا الافتراض معناه أن تصور هؤلاء العلماء للنص الديني تصور يقصره على (القرآن) ويرى السنة (مذكرة تفسيرية)، وهذا تصور مخالف لتصور الفقهاء والأصوليين. ولذلك يستند الفقهاء في استخراج الأحكام إلى كل من القرآن والسنة، ويعتبر الإجماع عند جميعهم نصًا، وإن كانوا اختلفوا حول (القياس). والمقصود بذلك أنهم اعتبروا كل ذلك دلالات شرعية يمكن استخراج الأحكام على أساسها. ولو تنبه علماء القرآن لهذا الربط بين الدلالات الشرعية لأدركوا أن افتراضهم إمكانية تأخر نزول النص عن الحكم مجرد افتراض ذهني يعتمد على فصل بين جانبي النص الديني (يقصد هنا القرآن والسنة)».
في هذا الاقتباس الطويل، نجد أن نصر أبو زيد يحل إشكالية الفجوة الزمنية المفترضة عند علماء القرآن بين بعض الآيات وبين تطبيق الأحكام الناشئة عنها باستخدام مفهوم النص، فإذا كانت السنة نصًّا -أو جزءًا من النص الديني بمعناه الواسع- تنحل الإشكالية في حالة إذا لم يتزامن نزول الآيات القرآنية مع تطبيق الأحكام الواردة بها، طالما أن السنة - كونها نصًّا- تتزامن معه وتعوض هذا الفراغ.
لاحظ أنه في المثال الأخير يخلط بين المعنيين -القانوني والأدبي- لمفردة «النص»، فهو يستند إلى اعتبار الفقهاء والأصوليون بـ«نصية» السنة -أي دلالتها الفقهية والشرعية وإمكان التشريع استنادًا إليها- ليثبت «نصيتها» بالمعنى الأدبي، بمعنى كونها جزءًا من النص الديني وضرورة كونها في تكامل بنائي معه!
ومن زاوية مفهوم النص -وعلى أساس أن القرآن والسنة هما «جانبي» النص الديني- أشاد نصر أبو زيد في البداية برأي الشافعي الذي يقرر فيه أنه «(إذ وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها، إذ وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له، ليتبين توافق القرآن والسنة).. ويعد موقف الشافعي هنا أقرب المواقف إلى سياق النص من حيث إصراره على التماثل في مستوى النصوص فيما يتصل بنسخ الأحكام»، فالإشادة هنا بموقف الشافعي لأنه -من وجهة نظر نصر أبو زيد- يتعامل على أساس الوحدة البنيوية لكل من النصين على حدة ولا يخلط بينهما، ولا يهدر أيهما في الوقت نفسه: «(ف)إذا كان القرآن والسنة نصين دينيين فإنهما يختلفان من وجوه أخرى جعلت الفقهاء والأصوليين يضعون السنة في مرتبة تالية من حيث الأهمية للقرآن. وإذا كان إهدار السنة في التعامل مع القرآن يعد إهدارًا لجانب مهم في فهم النص، فإن التسوية بين القرآن والسنة لا تقل في خطرها عن خطر إهدار السنة إهدارًا كاملًا»، ولاحقًا، سينتقد نصر أبو زيد الرأي نفسه للشافعي، عندما يبدأ في التخلي عن فكرة «نصيِّة» السنة، فسيكتشف لاحقًا أن هذا التمييز الذي قام به الشافعي ليس انتصارًا لمفهوم النص كما اعتقد، ولكن «يبدو أن حرص الشافعي على التمييز بين القرآن والسنة -في مسألة الناسخ والمنسوخ- كان نابعًا من حرصه على سحب البساط من تحت أقدام الذين يردون الأحاديث إذا تعارضت مع القرآن.. والحقيقة أن التردد سمة لصيقة بالفكر التلفيقي، وهو الفكر الذي يحاول التوفيق بين نهجين على أساس أيديولوجي لا على أساس عقلي يتلمس جوانب الأصالة والإبداع في كل من الاتجاهين المتعارضين، ويصل بينهما في مركب جديد.. ولقد انتهى الشافعي إلى الانتماء إلى مدرسة أهل الحديث، مع اعترافه بمشروعية (القياس)، ذلك أنه كبل القياس.. بمجموعة من القيود أدت به في النهاية إلى أن يكون مجرد استناد غير مباشر إلى النصوص. لذلك كان لا بد من توسيع دائرة النصوص لتشمل السنة والإجماع، ومن هنا كان الحرص على توسيع نطاق السنة من جانب، والحرص على تأكيد أنها وحي من جانب آخر»، وسيعود إلى تأييد الرأي الذي كان يعارضه قبل ذلك، وهو رأي الأحناف «الذين اشتهروا بإنهم أهل الرأي»، فتَصوُّر علاقة السنة بالقرآن عندهم «لا يتجاوز كونها نصَّا شارحًا لا يستقل بالتشريع».
وكما نرى فإن مفهوم النص هو مركز عمليات التفكير في هذه المرحلة على تموجاتها المختلفة، فهو يُثَبِّتُ مفهوم «النص» ومنه يتحرك، لكنه سيبدأ تدريجيًّا في اكتشاف الإشكاليات التي يثيرها هذا المفهوم نفسه، حتى على مستوى القرآن، فالتعامل مع القرآن باعتباره «نصًّا» أي وحدة بنيوية متكاملة، يخلق كثيرًا من الإشكاليات التي لم يفلح في رفع تناقضاتها مفهوم النسخ، بأنواعه كافة، سواء التي قبلها نصر أبو زيد أو التي لم يقبلها، كما أن مفهوم «النص» نفسه الذي يتبناه نصر أبو زيد هو ذاته المفهوم الذي ينطلق منه الفكر الديني التقليدي الذي كان يحاول تفكيكه. ومن هنا بدأ يدرك أن «البحث عن مفهوم علمي للنص» لن يوصل إلى المنتهى الذي أراده في البداية، وهو الخروج من ثنائية «التأويل والتأويل المضاد»، فربما «مفهوم النص» ذاته غير موجود أصلاً، أي أنه لا ينطبق على النص محل الدراسة -القرآن-، وبذلك بدأ نصر أبو زيد يقتنع تدريجيًّا في ضرورة التخلي عن مفهوم «النص» وتبني بدلاً منه مفهوم آخر هو مفهوم «الخطاب».
مفهوم «الخطاب»
في وقت متأخر من حياته، بدأ نصر أبو زيد يدرك أن مفهوم «النص» بالمعنى الذي أصر عليه لسنوات طويلة هو المشكلة ذاتها، أو على الأقل أحد أركانها، وبعد أن كان يري في البداية أن «الدراسة الأدبية -ومحورها مفهوم النص- هي الكفيلة بتحقيق (وعي علمي) نتجاوز به موقف (التوجيه الأيديولوجي) السائد في ثقافتنا وفكرنا»، أصبح يرى أن «القرآن تم التعامل معه تاريخيًّا.. باعتباره (نصًّا)، وأنا الآن أكثر اقتناعًا.. بأن التعامل مع القرآن من منظور أنه نص.. أفضى إلى مجموعة من النتائج السلبية في تاريخ التفسير قديمًا وحديثًا، لا أستثني نفسي من هذا، لأنني جزء من الخطاب الثقافي».
ومن هنا بدأ نصر أبو زيد في محاولة صياغة مقاربة -لم تكتمل- في مسألة مفهوم الخطاب، لكنه وضع أبجدياتها الأولى، التي تحدث عنها في العديد من محاضراته، وتحدث كثيرًا فيها عن نقلته من «النص» إلى «الخطاب».
«النص» -كما يقول أبو زيد- يفترض بنية مستقلة بذاتها، تتضمن مفاهيم «المؤلف» و«القصد» و«القارئ الضمني» أي القارئ كما يتخيله المؤلف في أثناء إنتاج النص، وهو يؤثر على عملية إنتاج النص نفسها، وأخيرًا الفضاء الثقافي للنص، أي «السياق» الذي تمت فيه عملية الإنتاج، بينما «الخطاب» على الوجه الآخر هو بنية تحاورية، تجادلية، سجالية، تستدعي سياقات وليس سياقًا واحدًا، (وهي) تتضمن المتكلم الذي هو في القرآن متعدد الأصوات (بالمعنى السيميولوجي وليس بالمعنى اللاهوتي)، وهو ما يستدعي إذن دراسة عناصر مثل «المخاطب/المخاطبين» و«نمط الخطاب» وما إذا كان هذا الخطاب يأتي في سياق بُشري، أو تهديد أو إزاحة أو تقرير أو اعتراض أو نفي.. إلخ، وكذلك «فحوى الخطاب» وهنا نسأل عما يقوله الخطاب وما هو مسكوت عنه داخل الخطاب ويمكن استنباطه بالفحوى، ثم تأثير الخطاب على المتلقي وردة فعل المتلقي.
الفارق الجوهري بين «النص» و«الخطاب» هو في وحدة التحليل: هل النص كاملاً وحدة واحدة متماسكة يجب تحليلها وإدراكها ضمن هذا الإطار، أم أن كل جزء من هذا النص ينتمي إلى سياق مختلف يجب تحليله بشكل مستقل ضمن ظروفه الخطابية الخاصة لإدراك معناه؟ في هذه الحالة الأخيرة تنتفي الحاجة إلى رفع التناقضات بين أجزاء النص المختلفة، فهي في النهاية جزء من سياق «خطاب» خاص، ودورها مرهون بهذا السياق المحدد، ومن هذا السياق الخاص تكتسب المعنى والدلالة، وكذلك تنتفي الحاجة إلى جمع الأجزاء/الخطابات المختلفة ضمن سياق واحد متصل، كما في حالة القصص القرآني على سبيل المثال، والذي كان موضوعًا لدراسة كثير من المستشرقين الذين حاولوا المقارنة بين القصص الواردة في القرآن، ومثيلاتها الواردة في التوراة.
فالبنية السردية للقصص القرآني -كما يقول أبو زيد- «مشتتة»، بمعنى أنها -باستثناء سورة يوسف- لا تسرد القصة في بناء سردي واحد متكامل، وهو ما يقترح كون هذا الجزء أو ذاك من القصة التي يسردها القرآن ينتمي إلى لحظة خطابية بعينها يجب فهم هذه الأجزاء ضمنها لفهم معناها، وهو مالم يتنبه له -بحسب أبو زيد أيضًا- كثير من الكلاسيكيين والمستشرقين على السواء، ويعتبر أبو زيد أن هذه الزاوية في النظر للنص لم تدرس إلا مع محمد أحمد خلف الله في دراسته المعروفة عن «الفن القصصي في القرآن»، التي قد أثارت في وقتها -مثل أعمال نصر أبو زيد نفسه- زوبعة كبيرة من ردود الفعل الغاضبة.
ردود الفعل
كل ما طرحه نصر أبو زيد من أفكار لا يكفي وحده لتفسير ردة الفعل الحادة التي قوبلت بها أعماله، فصحيح أن مفهوم «التاريخانية» مستفز عادة للخطاب الديني بشكل عام وهذا أمر مفهوم، لكنه لا يفسر وحده ردة الفعل العنيفة التي قامت في وجهه والتي وصلت -بعد التكفير- إلى حد المطالبة بالتفريق بينه وبين زوجته، ولم تنته بحرمانه من الترقية الجامعية المستحقة، والمطالبات بمنع تدريس كتبه من الجامعة.
ويمكن فهم الحدة التي رافقت هذه الارتدادات إذا لاحظنا أن الأفكار التي طرحها أبوزيد قد لامست مناطق السلطة المتماسة مع الفكر الديني، «فإن وصم الفكر السائد للفكر النقيض بأنه فكر (تأويلي) يستهدف تصنيف أصحاب هذا الفكر في دائرة (الذي في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة). ويتجاوب مثل هذا التصنيف تجاوبًا تامًا مع الخطاب السياسي المباشر الذي يصم كل تحركات المعارضة أو الاحتجاج السياسي ضد قرارات السلطة التنفيذية بأنها تحركات تستهدف إثارة (الفتنة). وفي مقابل ذلك يكون وصف (تأويلات) هذا الفكر الرسمي بأنها (تفسير) وصف يستهدف إضفاء صفة (الموضوعية) و(الصدق) المطلق على هذه التأويلات»
أيضًا لاحظ أن مفهوم التاريخانية الذي تعرض له أبو زيد يضرب الأساس الذي تقوم عليه السلفية في الصميم، ويرفع عنها غطاء شرعيتها المفترضة، فإذا كانت هذه الشرعية تقوم على أساس افتراض «الموضوعية» في «التفسير» (مقابل التأويل الذي يوصم بالذاتية والانفلات)، فإن هذه الموضوعية غير ممكنة في الحقيقة، إذ هي «موضوعية تاريخية تفترض إمكانية أن يتجاوز المفسر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره وأن يتبني موقف المعاصرين للنص ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله».
أيضًا، يجب أن نضع في الاعتبار أن نصر حامد أبو زيد، قد حمل على العديد من الشخصيات التاريخية التي يعتبرها التيار الديني السني التقليدي من «الرموز» التي لا يجب المساس بها، كالشافعي، والغزالي، والأشعري، بينما انتصر في المقابل لشخصيات وتيارات أخرى تقع على هامش هذا الفكر الرسمي، أو على الأقل يعتبرها الخط الرسمي للخطاب الديني اتجاهات «إشكالية» أي لا تتطابق تمامًا مع التصورات العقدية الرسمية، كالمعتزلة والفلاسفة والمتصوفة.
فمشروع الغزالي كما يراه أبو زيد «قلَب كل شيء (بفتح اللام)، بدءًا من الوجود وانتهاء إلى النص. ويكفي أنه مشروع حول النص إلى مجموعة من الأسرار الغامضة تتفاوت في أهميتها وفي قيمتها. ويكفي أن تصورات الغزالي كلها – رغم ما لقيته بعد ذلك من شيوع وانتشار – تعارض المقاصد الأولية للوحي والشريعة معًا».
وأما الشافعي، فإن هذه «الشمولية التي حرص.. على منحها للنصوص الدينية، بعد أن وسع مجالها فحول النص الثانوي الشارح إلى الأصلي، وأضفى عليه الدرجة نفسها من المشروعية، ثم وسع مفهوم السنة بأن ألحق به الإجماع، كما ألحق به العادات، وقام بربط الاجتهاد/القياس بكل ما سبق ربطًا محكمًا -تعني في التحليل الأخير تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته. فإذا أضفنا إلى ذلك أن مواقف الشافعي الاجتهادية تدور في أغلبها في دائرة المحافظة على المستقر والثابت، وتسعى إلى تكريس الماضي بإضفاء طابع ديني أزلي.. . أدركنا السياق الأيديولوجي الذي يدور فيه خطابه كله. إنه السياق الذي صاغه الأشعري من بعد في نسق متكامل، ثم جاء الغزالي بعد ذلك فأضفى عليه أبعادًا فلسفية أخلاقية كتب لها الاستمرار والشيوع والهيمنة على مجمل الخطاب الديني حتى عصرنا هذا».
كل هذا قام به نصر حامد أبو زيد في بيئة شديدة الجمود والشكلانية، وهو ما جعل كتاباته تمثل استفزازًا هائلًا لكل قوى السلفية في محيطه، وقد وصلت ردود الأفعال إلى حد الإطاحة بالحياة الشخصية للرجل من خلال دعوى التفريق الشهيرة التي واجهها وما تلاها من سفره الاضطراري واغترابه الذي امتد لأغلب حياته بعد ذلك.
خاتمة
على الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن أعمال نصر حامد أبوزيد من الناحية النظرية، إلا أنه لا يمكن لأي متابع لمسيرته إلا أن يقدر له شجاعته الهائلة التي مكنته من طرح هذه الأفكار التنويرية في بيئة لم تكن مرحبة قط بمثل هذه الأفكار، ولعل انشغاله الدائم بمسألة التنوير لم يكن يقف عند إيجاد الإجابات البحثية التي ترضي عقل الباحث المختص، ولكنه كأي تنويري مخلص لقضيته، كان يحلم بتجاوز ذلك إلى إحداث تغيير حقيقي في الوعي العام للمسلمين «فالسؤال الملح الآن، هو كيفية نشر هذه المعرفة إلى الجمهور الأوسع. هذه المشكلة هي نفسها تواجه المسلمين الذين يعيشون في بلاد إسلامية وكذلك الذين يعيشون في الغرب. يجب علينا أن نفكر كيف يمكن نقل هذه المعارف للأطفال والكبار على السواء».
مصادر أساسية
Abuzayd، N. H. (2010، March 3-4). The Qur’an، Islam and Muhammad. Philosophy and Religion criticism، 36، 281-294.
أبوزيد، نصر حامد. (1993). فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر.
أبوزيد، نصر حامد. (2008). الخطاب والتأويل. بيروت: المركز الثقافي العربي.
أبوزيد، نصر حامد. (2011). مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
أبوزيد، نصر حامد. (2014). الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
أبوزيد، نصر حامد. (2014). النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة. الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث.
أبوزيد، نصر حامد. (2017). إشكاليات القراءة وآليات التأويل. الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث.
أبوزيد، نصر حامد. (2017). التجديد والتحريم والتأويل: بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير. الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث.
أبوزيد، نصر حامد. (2017). التفكير في زمن التكفير. الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث.
أبوزيد، نصر حامد. (2017). دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة. الرباط: مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.
أبوزيد، نصر حامد. (2017). نقد الخطاب الديني. الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.
أبوزيد، نصر حامد. (2017). هكذا تكلم ابن عربي. الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث.
أبوزيد، نصر حامد. (2014). الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
عمر، ج. (2013). أنا نصر أبو زيد. القاهرة: دار العين للنشر.