رؤى

ماهر عبد الرحمن

تجديد ذكرى طه حسين

2018.01.01

تجديد ذكرى طه حسين

في مارس سنة 1926 صدر كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي”، وفي مارس الحالي يكون قد مر على صدوره اثنتان وتسعون سنة. وقد كان صدور هذا الكتاب بمثابة ثورة في وجه الجمود والاتباع والتقليد، وكان، ومعه كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبد الرازق، أحد العلامات المهمة لعصر النهضة المصري.

لذلك فقيمة كتاب "في الشعر الجاهلي" تتجاوز الجوانب الأدبية والتاريخية لموضوعه إلى كونه تأصيلاً لقطيعة معرفية مع التخلف والجمود وطريقة النظر التقليدية الموروثة للتراث، وتأسيسًا لمعرفة جديدة تقوم على قواعد علمية موضوعية عقلانية متحررة من الرؤى الأسطورية المتواترة. وكما قال طه حسين عن أبي العلاء المعري في كتاب "تجديد ذكرى أبي العلاء" إنه، أي أبي العلاء، كان "ثمرةً من ثمرات عصره، قد عمل في إنضاجها الزمان والمكان، والحال السياسيَّة والاجتماعيَّة، بل والحال الاقتصادية..." كذلك يمكن النظر إلى طه حسين ومشروعه الفكري وكفاحه العملي، بالإضافة إلى نبوغه وشجاعته وفاعلية عقله، على أنه ثمرة من ثمرات عصره وبيئته الاجتماعية، وأحد التجليات الثقافية لثورة 1919 وليبراليتها واستنارتها.

حتى اليوم لا تزال إضافات طه حسين وعقلانيته ومنهجه الفكري النقدي وتفسيره للظواهر والأفكار بأسبابها الموضوعية صالحة لتحرير الدرس الأدبي والتاريخي بعيدًا عن أن نكون "حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم، ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعي عليه، ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي، ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية"، أو كما يعاود طه حسين التأكيد والتذكير وقطع شوط جديد بمنهجه في كتابه "الفتنة الكبرى" قائلًا في الجزء الأول منه "وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدًا كاملاً من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها".

إذًا فتجديد ذكرى طه حسين، بجانب كونها متعة خالصة بالنسبة لي، فإنها محاولة للتذكير والاستفادة من درسه في التأصيل للاجتهاد والتجديد واستخدام المنهج العقلي.

من الملاحظات التي يذكرها محمود شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب "أسرار البلاغة" للجرجاني أن "الاستهانة والطعن وذم الكتب والعلوم التي كانت تُدرس للطلبة في الأزهر، من بلاغة وفقه ونحو وغيرها، هي التي فتحت الباب للطعن والتجريح في علوم العرب ومعارفهم والجرأة عليهم"، وأن بداية ذلك كانت من دروس ومجالس الشيخ محمد عبده في الأزهر، حيث "فُتح هذا الباب ولم يُغْلق إلى اليوم"، وأن هذه الحال تطورت "حتى جاء ما هو أدهى وأعظم بلاءً"، وهو هنا كان يقصد كتاب  طه حسين "في الشعر الجاهلي".

لكن على الرغم من أهمية دور محمد عبده وغيره من مشايخ الأزهر ممن تأثر بهم  طه حسين في ذلك الوقت المبكر من حياته (طه حسين لم يسمع من الشيخ محمد عبده مباشرة، وإنما سمع عنه وعن أقواله)، إلا أن ما قدمه هذا الأخير كان أكثر جذرية وأهمية وتأثيرًا.

كانت أُطروحة "في الشعر الجاهلي" زلزالاً قويًّا في وجه الجمود والتقليد الذي كان يمثله الأزهر ومشايخه. ومعركة كتاب "في الشعر الجاهلي" سابقة على ظهور محمود شاكر ككاتب بالطبع، لكنه هذا الأخير لم يكن يترك فرصة إلا ويرد فيها على أستاذه وأستاذ جيله، طه حسين. وفي ردوده نجد مثالاً لما فعلته نظرية  طه حسين الجديدة في انتحال الشعر الجاهلي في الدراسات الأدبية والتاريخية. فقد كان ما ألقته في نفوس المقلدين من رَوْع هو مصدر اتهامهم له، بالباطل، بأنه بنظريته ومنهجه وعقلانيته، كان أحد أسباب التغريب، أو أنه كان يرفض كل قديم رفضًا مطلقًا. يقول طه حسين ردًا على هؤلاء في كتابه حديث الأربعاء "فليس التجديد في إماتة القديم، وإنما التجديد في إحياء القديم، وأخذ ما يصلح منه للبقاء". ثم يطلب في كتاب "مرآة الإسلام" من المسلمين المعاصرين أن "ينفوا عن أنفسهم وعقولهم وقلوبهم ما أصابها من التقليد والجمود، وما استقر فيها من السخف والأوهام".

يتحدث محمود شاكر في كتابه المشار إليه سابقًا عن الإحساس الذي ألمّ به وبغيره من خصوم طه حسين في مواجهة مغامرات هذا الأخير التجديدية، فيقول "تجرعت الغيظ بحْتًا، ووقعت في ظلام يُفضي إلى ظلام... وبقيت أتلدد يمينًا وشمالاً زمنًا متطاولاً". ولا أغالي إن قلت إن عمل طه حسين في كتابه هذا من الأعمال التي ترقى إلى درجة أعمال تأسيس العلوم. فالفرق مثلًا بين كتابات الخطيب القزويني صاحب "الإيضاح في علوم البلاغة" وبين عبد القاهر الجرجاني صاحب "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، أن الأول شارح لعلم البلاغة والثاني هو "مؤسس العلم وواضعه". وطه حسين، في ظني، من طراز عبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة، ومن طراز سيبويه صاحب "كتاب سيبويه" ومؤسس علم النحو، والإمام الشافعي صاحب "الرسالة" ومؤسس علم أصول الفقه. فهو وإن لم يؤسس لعلم جديد، إلا أنه وضع منهجًا وطوره، وفتح الباب لإعمال العقل في كل المسلمات المعرفية والثقافية، وأصَّل لاستخدام المنهج النقدي الذي تعلمه من دراسته لمناهج العلم الحديثة التي تلقاها وتعلمها في فرنسا.

سافر حسين إلى فرنسا في عام 1914، وكتب رسالته عن الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون، وكان أحد مشرفيه هو إميل دوركايم، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، ودرس كذلك على يد لوسيان ليفي برول، وكلاهما من أعلام المدرسة الفرنسية الوضعية لعلم الاجتماع، وحضر دروسًا تشرح فلسفة ديكارت وفلسفة أرسطو وغيرها. وقد أشار في كتاب "في الشعر الجاهلي" إلى تأثره بالشك الديكارتي في تصديه لقضية الشعر الجاهلي والانتحال فيه.

عاد حسين من بعثته عام 1919، عام الثورة المصرية الكبرى بأحلامها ومبادئها. وبشكل عام تعتبر القيمة الأساسية في جهد طه حسين، وفي أبحاثه وشخصيته، حين يكتب "في الشعر الجاهلي"، أو حين يكتب "الفتنة الكبرى"، أو حين يكتب عن "مستقبل الثقافة في مصر"، هي الجرأة في استخدام العقل وأساليب التفكير العلمية الحديثة، من التحقق والنقد للنصوص والروايات المختلفة وفقًا لقواعد وأسس تاريخية وعقلانية، إلى غيرها من أدوات البحث الحديثة بعيدًا عن الاكتفاء بالموازنة بين الروايات وقبول إحداها أو تمجيد الرجال والركون إلى جمود التقليد. الدرس التاريخي واللغوي في شعر العرب ونثرهم وتاريخهم قبل كتاب طه حسين غيره بعد كتابه. فقد ساعد المنهج الجديد على التطوير والتقدم والحرية والجرأة في البحوث والدراسات الأدبية واللغوية، ووضع الأساس الصلب والجسور لمنهج عقلاني.

وإذا كان الشيخ محمد عبده إصلاحيًّا في قضية إعمال العقل، فإن طه حسين كان ثوريًّا متنورًا، شق طريقًا لإعادة النظر في الكثير من البديهيات التي استقرت في تاريخ العرب الأقدمين. وقد فتح طه حسين الباب ببحثه ومحاولته وشجاعته، لنفسه ولغيره، لوضع كل الموروثات موضع الشك والمساءلة. وعلى الرغم من توقعه مقدمًا للنتائج التي سوف تترتب على هذا المنهج، إلا أنه كان من الشجاعة بمكان أن يكتب أفكاره وينشرها ويتحمل تبعات ذلك، ظانًا أن العلماء "بين اثنتين: إما أن يجحدوا العلم وحقوقه فيريحوا ويستريحوا، أو أن يعرفوا لأنفسهم حقها ويؤدوا للعلم واجبه، فيتعرضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى ويتحملوا ما ينبغي أن يحتمله العلماء من سخط الساخطين".

كل تلاميذ طه حسين ودارسيه يجمعون، وبحق، على أن قيمة عمله لم تكن في صحة أو خطأ نتائجه، بقدر ما كانت في أثرها وفتحها لباب الاجتهاد وإعمال العقل والحرية في استخدام المنهج العلمي والتأسيس له هنا: "فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى أي شيء آخر".

هذا ويتوجب علينا التأكيد على ما قلناه سابقًا من أن بداية الطريق الذي سار فيه طه حسين كانت مع الشيخ محمد عبده. ففي سجال مع أحد خصومه من الشيوخ المقلدين، وهو الشيخ محمد البحيري، وكان أكثرهم ذكاءً، رفض البحيري إهدار عبده لقيمة كتب الأزهر ومناهجه قائلاً "إننا نعلمهم كما تعلمنا"، فرد محمد عبده عليه "وهذا الذي أخاف منه" فسأله البحيري "ألم تتعلم أنت في الأزهر، وقد بلغت فيه ما بلغت من مراقي العلم وصرت فيه العلم الفرد؟" فرد محمد عبده عليه "إن كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر فإنني لم أحصله إلا بعد عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريده له من النظافة".

كان الإمام محمد عبده يقول "إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن إصلاحه إصلاح لجميع المسلمين وفساده فساد لهم". كان يعرف أن الداء والعقبة أمام الإصلاح موجودة في رأس هؤلاء الشيوخ وفي العادات والتقاليد والموروثات والمسلمات الراسخة والبالية والمتخلفة، وتقديمهم للاتباع والنقل على الاجتهاد والإبداع، وهذا ما كان يقصده بقوله "وساخة الأزهر".

وكان من تلاميذ مدرسة محمد عبده في الإصلاح والتجديد الشيخ مصطفى المراغي والشيخ علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول وغيرهم. ولا شك أن طه حسين قد تأثر بما سمعه عن محمد عبده وسيرته ومواقفه. لكن حسين قفز بمشروعه الفكري قفزة واسعة وثورية كان لها أكبر الأثر في تطوير الفكر المصري والعربي والإسلامي. لكنه واجه هجومًا شديدًا من المحافظين الذين طالبوا بفصله من الجامعة ومصادرة كتابه بل وسجنه. لكن رسالة كتاباته، وعلى رأسها "في الشعر الجاهلي"، كانت قد وصلت إلى "هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد".

تعلم طه حسين من معركة "في الشعر الجاهلي" أن العقل والحرية ليسا معلقين في الفراغ، فكان يتصادم حينًا ويتراجع حينًا آخر، ومع ذلك فهو كاتب ومفكر عقلاني كبير وشجاع وتلك هي قيمته الكبرى، ومشروعه الفكري يعد ظاهرة شديدة الثراء والتنوع والعمق.

كان أبو العلاء يقول "لا إمام سوى العقل"، وكذلك كان يؤمن طه حسين. إلا أن العقل عند طه حسين قد تجاوز المحنة العلائية، فلم يكن أداة للنقد فقط، بل كان أداة للنقد والإبداع والتبشير بالمستقبل وبقيم العدل والحرية والمساواة. ولا نزال في حاجة إلى تجديد ذكرى طه حسين وما يمثله، بما يعد، كذلك، تجديدًا لحياتنا وثقافتنا وواقعنا.