عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919
عاصم الدسوقيتداعيات ثورة 1919 في المجتمع المصري.. تطبيع الحياة السياسية بالشخصنة والانقسامي
2019.05.01
تداعيات ثورة 1919 في المجتمع المصري.. تطبيع الحياة السياسية بالشخصنة والانقسامي
بمناسبة الاحتفاء بمرور مئة عام على ثورة 1919 في مصر قد يكون من المفيد استعادة مواقف القيادات التي تصدرت أحداث الثورة وتأثيرها على مجريات الأمور لكي نفهم لماذا انتهت الثورة دون تحقيق شعارها المرفوع”الاستقلال التام أو الموت الزؤام”، وكيف أن أولئك القادة كانوا يخضعون لتفضيلاتهم الذاتية وتحكيم رؤيتهم الخاصة فيما هو شأن عام يخص الوطن، ولم يكونوا يعبرون تعبيرًا حقيقيًّاعن الثوار الذين انطلقوا في الشوارع وتعرضوا لطلقات رصاص الإنجليز المحتلين، فضلًا عن أنهم لم يكونوا يعلمون شيئًا عن معنى الالتزام التنظيمي في العمل العام. ومن ثم تصدر أولئك المعتدلون صفحات التاريخ على حين أصبح الثوار الحقيقيون في هامش التاريخ لا أحد يعرفهم أو يذكرهم. وفي السطور التالية متابعة لمواقف قيادات الثورة حتى نتبين حقيقة ما انتهت إليه الثورة.
تاريخيًا بدأت وقائع الثورة بالتصريح الذي أعلنه الرئيس الأمريكي وودرو ولسن في 8 يناير 1918 في نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) متضمنًا أربعة عشر مبدأً لإنهاء النزاع الدولي، تضمنت “حق تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها”. ولما قرأ الأمير عمر طوسون حفيد محمد سعيد باشا (والي مصر 1854 - 1863) تلك المبادىء تبلورت في ذهنه فكرة تشكيل وفد للمطالبة بحق تقرير المصير الذي نادى به الرئيس الأمريكي، وصارح محمد سعيد باشا رئيس الحكومة المصرية (فبراير 1910-أبريل 1914) بهذه الفكرة، فنصحه بالابتعاد عن هذا الطريق كي لا يثير فضول السلطان أحمد فؤاد (الملك فيما بعد)، وقال له إنه سوف يرتب له مقابلة مع سعد زغلول باعتباره وكيل الجمعية التشريعية التي توقفت عن الاجتماعات فور إعلان الحرب وصدور الأحكام العرفية. وتم لقاء بين طوسون وزغلول في القاهرة وفي الإسكندرية حيث يعيش عمر طوسون للاتفاق على اختيار أعضاء الوفد الذين سوف يسافرون إلى مؤتمر الصلح المزمع عقده للنظر في تسويات الحرب. فلما علم السلطان أحمد فؤاد بأمر هذه المقابلات استدعى الأمير عمر طوسون وحذره من هذا النشاط، وأمره بألا يحضر للقاهرة ويبقى في الإسكندرية حيث يقيم. وهنا وقعت المهمة على عاتق سعد زغلول ليتولى مسؤولية مواصلة الطريق الذي لم يختره ويفكر فيه أصلًا. ولا شك أن لسياق الأحداث بهذا الشكل كان له أثره على مواقف سعد زغلول وتصرفاته بطريقة أو بأخرى.
وفي هذا المنعطف علينا أن نعرف أن سعد زغلول كان أحد الذين تحلقوا حول جمال الدين الأفغاني في مقهى متاتيا (مكانه الآن جراج الأوبرا) واستمع إلى كلماته النارية التي تحض على الثورة على الظلم والاستعباد. ولما أخفقت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر لم يستسلم المصريون بسهولة بل لقد حدثت مقاومة عنيفة ضد الإنجليز، وتشكَّلت جمعية سرية باسم “جمعية الانتقام” في مايو 1883 اتخذت مقرها في منزل عبد الرازق درويش مدير المدرسة البحرية زمن عرابي. غير أن السلطات هاجمت المقر (20 يونية 1883) واعتقلت الموجودين وتم التحقيق معهم. وعندما ورد في التحقيقات اسم سعد زغلول، حكم عليه بالسجن لمدة مائة يوم ثم أفرج عنه مع حرمانه من الحقوق المدنية (أي تولي وظائف حكومية)، ولعل هذا يفسر اشتغاله بالمحاماة. ويبدو أن هذا الدرس القاسي غير المتوقع كان له أثره الكبير في نفس سعد زغلول؛ إذ أعاد النظر في طريق حياته فاتخذ من المسالمة والهدوء منهجًا. وتزوج (1896) من ابنة مصطفى فهمي باشا أشهر رئيس وزراء تعاون مع الاحتلال، فاصطفاه الإنجليز بالتبعية، وتم تعيينه وزيرًا للمعارف عام 1906 في وقت كانت هناك شخصيات ملء السمع والبصر مثل مصطفى كامل، ومحمد فريد، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد ولم يختر أحدهم. وأخذ يصعد في سلم الوظائف العامة من وزارة المعارف إلى الحقانية ثم دخل الجمعية التشريعية يوليو 1913 نائبا عن السيدة زينب ووكيلًا منتخبًا للجمعية.
على كل حال.. فعلى أساس مبادئ ولسن طلب سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية وزميلاه عبد العزيز فهمي وعلى شعراوي، مقابلة المندوب السامي البريطاني ريجنالد وينجتRignald Wingateلعرض مطلب المصريين في حق تقرير المصير. وقد تمت المقابلة في 13 نوفمبر (1918).وفيتلك المقابلة طلب الثلاثة – بصفتهم نواب الأمة في الجمعية التشريعية– أن تعترف إنجلترا باستقلال مصر، وأنهم مستعدون في مقابل هذا أن ترتبط مصر بإنجلترا بمعاهدة صداقة يكونان فيها ندين متساويين، ويتعاونان معًا في مواجهة الظروف الدولية. وقد اعتبر المندوب السامي البريطانى المقابلة غير رسمية على اعتبار أن هذا الوفد ليست له صفة رسمية.
ولما علم سعد زغلول بذلك من خلال حديث عابر مع حسين رشدى رئيس الوزراء، فكر في تشكيل هيئة باسم “الوفد المصري” من أعضاء الجمعية التشريعية، حتى يكون لهم صفة رسمية وشعبية وهم: سعد زغلول، وعلي شعراوى، وعبد العزيز فهمي، وعبد اللطيف المكباتى، ومحمد على علوبة، وأحمد لطفى السيد، ومحمد محمود، والاثنان الأخيران لم يكونا من أعضاء الجمعية. وأكثر من هذا ومن باب تحصين موقفهم قام سعد زغلول بتحرير صيغة توكيل يقوم بتوقيعه أفراد الشعب المصري وتقديمه للمندوب السامي البريطاني لإقناعه بمشروعية الوفد. وجاءت صيغة التوكيل تقول: نحن الموقعين أدناه أنبنا حضرات فلان وفلان... في السعي للحصول على استقلال مصر بالطرق السلمية والمشروعة وحيثما وجدوا للسعي سبيلًا تطبيقيًّا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها، ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب”. وقد عرض سعد صيغة التوكيل على الشخصيات السياسية التي جمعها بمنزله، فاعترض عبد المقصود باشا عضو الحزب الوطني على عبارة “دولة بريطانيا التي تنشر راية الحرية والعدل”. فقال له سعد زغلول: أتهينني في بيتي فأجاب الرجل: هذا ليس بيتك يا باشا إنما هو بيت الأمة. فاستملح سعد الرد ومن هنا أصبح بيته “بيت الأمة”.
المهم أن صيغة التوكيل كانت مسالمة ومهادنة إلى أبعد درجة ممكنة لأنها تسعى لتحقيق استقلال البلاد من براثن المحتل بالطرق السلمية والمشروعة وحسب الإمكانات، مع أن الثورة في أي بلد في العالم لا تأخذ بهذا الأسلوب، لأن الثورة أصلًا خروج على المشروعية القائمة والسلمية. ومن ناحية أخرى فإن هذه الصيغة مسؤولة الى حد كبير عن البداية الهادئة والسلمية للعمل الوطني، برفض أعمال العنف التي صاحبت الثورة ضد الإنجليز. وأكثر من هذا أن هذا الأسلوب في النضال يتفق إلى حد كبير مع طبيعة قيادته القانونية التى تعمل بالمحاماة والمرافعة بمقتضى توكيل رأت أنه الصيغة المناسبة للرد على عدم اعتراف المندوب السامي البريطاني بمشروعية وجود الوفد. ومع كل هذه الاحتياطات لم توافق السلطات البريطانية على حركة جمع التوكيلات وتصدت لها بالقوة.
وفي 20 نوفمبر 1918 كرر الوفد السماح له بالسفر، فلم توافق السلطات البريطانية. وهنا هاجت الخواطر واستقال حسين رشدى باشا رئيس الوزراء احتجاجًا (23 ديسمبر)، وحاولت السلطات البريطانية إثنائه عن الاستقالة لكن دون جدوى حتى قبلت أخيرًا في أول مارس 1919. وفي اليوم التالي (2 مارس) تقدم الوفد بمذكرة للمندوب السامي بشأن السفر، ثم وجه مذكرات لكل قناصل الدول الأجنبية احتجاجًا على السياسة الإنجليزية ورفض الموافقة على سفر الوفد. ومع استمرار سعد زغلول في الاجتماعات قامت السلطات البريطانية بإنذاره في يوم 6 مارس 1919 بالكف عن هذا النشاط، فما كان من سعد زغلول إلا أن أبرق إلى رئيس الوزراء البريطانى لويد جورج يشكو له ما يفعله المندوب السامي.. فهل هذا تصرف ثوري مثلًا؟! وهنا ألقت سلطات الاحتلال القبض على سعد زغلول ورفاقه: محمد محمود، وإسماعيل صدقى، وحمد الباسل، يوم الجمعة 8 مارس وتم ترحيلهم الى جزيرة مالطة إحدى مستعمرات بريطانيا. وما إن شاع الخبر في صباح اليوم التالي السبت 9 مارس حتى اندلعت التظاهرات.
وكانت البداية من طلاب مدرسة الحقوق المجاورة لبيت سعد زغلول (بيت الأمة)، فلما وصلوا إلى بيت الأمة خرج لهم عبد العزيز فهمي وقال لهم: عودوا إلى مدارسكم.. دعونا نعمل في هدوء؟
وقررت السلطات البريطانية مواجهة الثورة بالعنف، فعينت الجنرال أللنبيAllenby مندوبًا ساميًا فوق العادة لمصر والسودان في 21 مارس. ولم يكن اختياره عفويًّا فهو قائد الحملة البريطانية على فلسطين وسوريا خلال الحرب. وفي اليوم التالى لوصوله القاهرة اتصل بالأعيان والكبراء من المصريين لمساعدته في تهدئة الخواطر، وعند هذا المنعطف من قوة الثورة الشعبية فوجىء الثوار بكبراء البلاد وأعيانها يعملون على إيقاف الثورة عند هذا الحد، فقد استجابوا للجنرال أللنبي المندوب السامي لمساعدته في تهدئة الخواطر، واجتمع بهم في دار الحماية (يوم 26 مارس) وقال لهم إن غرضه: إنهاء الاضطرابات الحاضرة والبحث في جميع المسائل التي سببت الاستياء في البلاد، وإزالة أسبابه إذا ما ظهر أنها حقيقية. ثم قال لهم بوضوح “أنتم الذين يمكنكم قيادة أهل مصر وواجبكم يقضى عليكم بأن تعملوا لخير أولادكم”، فانخدع القوم بمعسول الكلام الذي مس مشاعرهم وداعب غرائزهم وصدقوا أنهم عقلاء الأمة.
ولقد أثمرت هذه المقابلة حيث نشرت الصحف في 28 مارس نداء وقع عليه 55 شخصية ممن حضروا اجتماع أللنبي، يناشدون الشعب المصري باسم مصلحة الوطن أن يجتنب كل اعتداء وألا يخرج أحد في أعماله عن حدود القوانين حتى لا يسد الطريق في وجه كل الذين يخدمون الوطن بالطرق المشروعة. وجاء في النداء أن الاعتداء سواء كان على الأنفس أو على الأملاك محرم بالشرائع الآلهية والقوانين الوضعية. وكان في مقدمة الموقعين على نداء السلم والسلام كل من شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط، ورئيس المجلس الملي العام. وفي هذا ما يثبت أن صفوة المجتمع المصري من أصحاب النفوذ الاقتصادي والاجتماعي لم يكونوا مع الثورة بالمعنى الاصطلاحي.
غير أن عبد الرحمن فهمي رئيس الجهاز السري لتحريك الثورة، لم يعبأ بنداءات لجان تهدئة الخواطر، وكان قد جعل بيته بشارع قصر العيني (دار الأدباء الآن) مقرًا لشباب الثورة الذين يتحركون في كل مكان وينظمون المسيرات والإضرابات وأعمال العنف. وكان عبد الرحمن فهمي أحد ضباط الجيش المصري وتخرج في المدرسة الحربية عام 1888 وتولى عدة مناصب عسكرية، وبالنظر إلى نشاطه السياسي داخل الجيش أبعدته السلطات البريطانية إلى وكالة الأوقاف المصرية أواخر عام 1911. وعندما اكتشفت السلطات نشاطه في الجهاز السري ألقت القبض عليه مع 26 شابًا بتهمة إنشاء جمعية سرية تستهدف خلع السلطان أحمد فؤاد وحكم عليه بالإعدام في 20 يوليو 1920 ثم خفف الحكم إلى السجن، فخرج الرجل من المشهد بعد أن نظم أعمال المقاومة على مدى عام ونصف.
وفي عنفوان عمل لجان تهدئة الخواطر اقترح سيد أفندي إبراهيم ملاحظ بوليس نقطة مطاي على أعيان مركز بني مزار إقامة سد بالحجارة في وسط مجرى نهر النيل بناحية الشيخ حسن لتعطيل سير البواخر الإنجليزية التي تقل الجنود لقمع التظاهرات وخصوصًا بعد خلع قضبان السكك الحديدية وتعذر تسيير القطارات التي تحمل الجنود الإنجليز لقمع الثوار، قام بتوبيخه أعيان الناحية أعضاء لجنة تهدئة الخواطر. وحين فكر أحد عربان الجوازي من سمالوط جمع أفراد لمهاجمة القوة البريطانية الموجودة بالمنيا، وبَّخه علي بك المصري وهو من عربان الجوازي وأخذ يهدىء خواطرهم. وفي سمالوط بالمنيا أذاع محمد شريعي باشا منشورًا يستحلف فيه الأهالي التزام السكينة والهدوء “لأن تسرب روح الفوضى والاعتداء أو الإخلال بالأمن بين المصريين أنفسهم أو على الأجانب في داخل البلاد يعاكس طلبات الوطنيين ويضر بالقضية الوطنية المصرية”.
وبينما المصريون في أتون التظاهرات والإضرابات ويتعرضون للقتل برصاص الإنجليز، وأعيانهم وكبراؤهم يحضونهم على التهدئة ويلومونهم على أعمال العصيان، كان سعد زغلول في منفاه في جزيرة مالطة وقامت التظاهرات احتجاجًا على اعتقاله، يأخذ اتجاه المسالمة والتهدئة ويخشى إغضاب الإنجليز، ويستغرب من أعمال العنف في مصر ويقول “إن هذه السياسة أمقتها ولا أدعو إلا إلى الشىء المشروع فقط.. وكل ما أطلب أن يتحد الناس على محبة الاستقلال ويظهروا هذه المحبة عند كل فرصة بطريقة سلمية”، ثم يحذر قائلًا “واعلم إن طريقة الإرهاب إذا نفعت مرة فإنها تضر مرات، وإذا كانت اليوم لك فإنها تنقلب عليك غدًا، لذلك يجب التحذير منها والبعد عنها”.
وأكثر من هذا أنه كان يتجنب الاختلاط بأسرى الحرب من الألمان والنمساويين والأتراك خصوم الإنجليز وكانت إنجلترا تقذف بهؤلاء الخصوم إلى مالطة. وعندما علم وهو في محبسه بقلعة بوليفاريستا بأن مصريين في الحجر الصحي بمالطة ومعهم بعض الألمان والنمساويين قادمون للتظاهر أمام مقر إقامته تأييدًا لمطالب الوفد رفض مقابلتهم وكتب في مذكراته يقول “إن ذلك ربما كان فيه ضرر بقضية مصر”. وقد اتخذ الموقف نفسه مع ابن عم ملك رومانيا الذي كان أسيرًا هو الآخر في قلعة فيرولا بمالطة؛ إذ أرسل له خطابا رقيق الحاشية فرد عليه سعد من باب المجاملة دون الدخول في موضوعات، وانزعج بشدة عندما علم أن الأمير الروماني خطب في الرومانيين الأسرى معه وذكر اسم سعد زغلول الذي تقوم في مصر ثورة تردد اسمه وقال “وددت إن لم يكن فعل ذلك”. وفي موضع آخر يقول “إن كل ما نريده أن نصل إلى حل يرضي الإنجليز ويرضينا...”.
وظل سعد زغلول يرفض أحداث العنف التي كانت تقع في مصر كما ترامت إلى سمعه. وظل مؤمن بالطريق القانوني وكأنه يترافع في قضية لتبرئة موكله، واعتبر أن الاستقلال قضية يمكن كسبها بالمرافعة أمام المحافل الدولية، والمسألة في نظره لا تتطلب سوى محام قدير يستطيع إقناع القضاء الدولي بعدالة قضيته، وإرسال المذكرات هنا وهناك.
وبالتدريج أخذ يقتنع بالتظاهرات كما كانت تصل أنباؤها إليه، إذ يقول عنها في مذكراته: “ملأت قلوبنا سرورًا وابتهاجًا حتى كادت تحبب السجن إلينا، هانت نفوسنا علينا نفدي بها هذه البلاد”، ولكن لم يفكر في إرسال تشجيع للثوار على ما يفعلوه. ولما وصلته أنباء ما حدث في زفتى وميت غمر ودور يوسف الجندي في إعلان “جمهورية زفتي”، قال معقبًا “هل تبدلت الأمة المصرية في هذه البرهة الوجيزة التي مضت من وقت سفرنا من البلاد”.
ثم أفرجت السلطات عن سعد زغلول ورفاقه من مالطة، وسمحت لهم بالسفر إلى باريس (7 أبريل 1919)، لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح المنعقد بضاحية فرساى، فوجدوا أن المؤتمر قد أنهى أعماله، وعلم سعد زغلول أن الرئيس الأمريكي ولسن صاحب مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها قد اعترف بالحماية البريطانية على مصر،فانتابته حالة من اليأس والقنوط وكتب يقول: “إن مأمورية الوفد انتهت وعلينا أن نستقبل كل قضاء على أنفسنا بغاية الرضا وسواء أتيحت لنا العودة إلى وطننا العزيز أو لم تتح فقد أعززناه وأعزنا”.
وأمام هذا الموقف لجأ سعد زغلول الى أعمال الدعاية للمسألة المصرية كالاتصال بالصحف وإقامة المآدب للدعاية، وإرسال التقارير، واستمالة بعض الكتاب الأوروبيين للدفاع عن مصر. وفي هذا الخصوص كتب فيكتور رسالة باسم “صوت مصر” قدم لها أناتول فرانس أكبر أدباء فرنسا وتليت أمام مأدبة نظمها الوفد (2 أغسطس 1919). وذهب محمد محمود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستعان بمحام قدير وهو جوزيف فولك للدفاع عن القضية المصرية إذ قدم مذكرة الى لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى.
وازاء تجمد الموقف السياسى، وبقاء الوفد في باريس، فكرت الحكومة البريطانية في إرسال لجنة لتقصى الحقائق حول ثورة الشعب ضد السيادة الإنجليزية. وفي 7 ديسمبر (1919)وصلت اللجنة برئاسة اللورد ملنروقوطعت شعبيًّا، وفهم أعضاؤها من كل من كانوا يسألونه، ضرورة التباحث مع الوفد المصري في باريس. ومع الحصار الذي ضرب على اللجنة للاتصال بالأعيان المصريين، إلا أن أعضاء اللجنة استطاعوا بطريقة أو بأخرى مقابلة بعض الأعيان الذين سعوا بأنفسهم إليها، وان كانوا قلة قليلة جدًا. والحق أن الوعي كان تامًا بخطورة قدوم هذه اللجنة الى مصر في تلك الآونة، حتى لقد احتجت السيدات المصريات عليها، ورأين أن مهمتها هى أن “يتصيدوا من المصريين نفرًا من الخونة يقرونهم على الحماية”..
عادت اللجنة الى لندن دون الوصول الى اتفاق مع المصريين. واقتنعت الحكومة البريطانية بالدخول في مفاوضات مع الوفد الموجود في باريس. وبدأت المفاوضات في يونيو 1920 وانتهت بإعلان مشروع ينص على عقد محالفة بين مصر وإنجلترا تعترف فيها مصر بحاجة إنجلترا إلى حماية مصالحها الخاصة، ومسئوليتها بخصوص ضمان مصالح الجاليات الأجنبية، وذلك في مقابل مساعدة إنجلترا لمصر في حماية نفسها، على أن تقدم مصر لها كل المساعدات داخل حدودها. كما نص المشروع على تعديل الامتيازات الأجنبية بما يسمح لأن تنتقل للحكومة الإنجليزية الحقوق التي للحكومات الأجنبية بمقتضي نظام الامتيازات، وعدم اعتبار وجود القوات البريطانية في مصر احتلالًا عسكريًّا، وأن يعهد إلى جمعية تأسيسية بوضع مشروع دستور لمصر يقضى بجعل الوزراء مسئولين أمام هيئة تشريعية.
وأرسل سعد زغلول مشروع الاتفاق الى مصر، كما أرسل بيانًا ذكر فيه أنه مع اعتقاده أن المشروع غير واف بالمطالب المصرية إلا أنه يشتمل على مزايا لا يستهان بها، وأن زملاءه في المفاوضة لم يشاءوا رفضه على اعتبار أن الظروف الدولية قد تغيرت، وأن مصر لم يعد لها سند دولي، وأن إنجلترا انفردت بالقوة، ومن ثم اقترح هو وزملاؤه أن يعرض المشروع على الأمة بدلًا من رفضه من البداية. وقد عهد الوفد في لندن الى أربعة من أعضائه هم: محمد محمود، وعبد اللطيف المكباتي، وأحمد لطفي السيد، وعلى ماهر، بالسفر الى مصر ليعرضوا على الأمة مشروع الاتفاق مع ملنر.
وتشير الصحف المعاصرة الى أن هذا الوفد لم يذكر عند عرضه المشروع في الاجتماعات المختلفة إلا مميزاته، وكيف أنه يعطى الاستقلال لمصر. كما تبرع أعضاؤه بإجابات من عندياتهم وكأنها على لسان الإنجليز إرضاء للسائلين وذلك في أثناء حفلات الاستقبال والتكريم. واستطاع هذا الوفد أخيرًا الحصول على موافقة أغلبية أعضاء الجمعية التشريعية المعطلة. وبعد ذلك بنحو شهرين (ديسمبر 1920) أشيع أن عدلي يكن شرع في تأليف حزب عقب عودته الى مصر يسمى بالحزب المعتدل. وكان عدلي في إنجلترا بصفة رسمية للوساطة بين الوفد وملنر. وقد التفت حوله مجموعة ممن كانوا يرون في مشروع ملنر أقصى ما يمكن الحصول عليه من الإنجليز.
وهكذا تصدع التماسك الوطنى الذي كان سمة الحركة الوطنية في بدايتها، فقد برز الجناح الأكثر اعتدالا الذي يمثله عدلي يكن، والذي أراد الإسراع بالاتفاق مع إنجلترا، إذ الأمة من وجهة نظر هذا الجناح لا تستطيع الاستمرار في المعارضة والمقاومة طويلًا. ومن هنا علقت إنجلترا أهمية على عدلي يكن ورشحته ليكون السياسي المصري الذي يقبل التسوية في جوهرها بعد الوساطة التى قام بها بين لجنة ملنر والوفد خلال المفاوضات.
وفي 26 فبراير 1921، أبلغت إنجلترا السلطان فؤاد برغبتها فيتبادل الآراء حول اقتراحات ملنر مع وفد يعينه السلطان للوصول الى إبدال الحماية بعلاقة تضمن المصالح الخاصة لإنجلترا وللدول الأجنبية الأخرى والأماني المشروعة للشعب المصري. وفي أواسط مارس 1921 عرضت الوزارة على عدلى يكن فقبلها على أساس استئناف المفاوضات، ورأت أن تضع حدًا للموقف من جانبها هى سواء بعقد معاهدة أو بإصدار تصريح من طرف واحد.
وهنا شن سعد زغلول حملة على عدلي يكن لدخوله المفاوضات بينما هو زعيم الوفد ووكيل الأمة، ووصف تفاوض عدلي يكن مع الإنجليز “كأن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس” (ملك إنجلترا آنذاك)، كما وصف عدلي يكن وأنصاره ببرادع الإنجليز. وانقسمت البلاد بين “عدليين وسعديين”، وتلك كانت المناسبة التي أنشد فيها حافظ إبراهيم قصيدته الشهيرة: مصر تتحدث عن نفسها. ونجحت الحملة في الحيلولة دون توقيع معاهدة.
ولما كان سعد زغلول قد حال دون توقيع المعاهدة فقد كان إبعاده أمرًا لازمًا لإنجلترا، فتم نفيه مرة أخرى الى جزيرة سيشل في المحيط الهندي وهي تحت السيادة البريطانية. وفي 28 فبراير 1922 صدر التصريح المشهور الخاص بإعلان مصر دولة مستقلة ذات سيادة بنظام ملكى، مع أربع تحفظات تكون محل مفاوضات فيما بعد وهي: تأمين المواصلات البريطانية في مصر؛ والدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي؛ وحماية المصالح الأجنبية وحماية الأقليات؛ وبقاء السودان طبقا لاتفاقيتي الحكم الثنائي عام 1899.
وهذه التحفظات التي كانت موضع المفاوضات بدءًا بعام 1924 مع حكومة سعد زغلول فيما بعد تؤكد أن الاستقلال لم يكن كاملًا. ولعل أبرز دليل على ذلك أن المندوب السامي البريطاني لم يصبح سفير بريطانيا لدى مصر، ولم يكن لمصر سفارة في لندن رغم إعادة وزارة الخارجية المصرية، ولم تنضم مصر إلى عضوية عصبة الأمم وهي المنظمة الدولية التي تضم الدول المستقلة. وظل هذا المندوب يمارس ضغوطه على السياسة المصرية باعتبار أن مصر محمية بريطانية من نوع خاص إلى أن تم عقد معاهدة 1936، والتي لم تحقق الجلاء وإنما نظمت وجود الجيش البريطاني في مصر في أربعة أماكن من باب الضحك على الذقون، وهي: الإسماعيلية، ومعسكر مصطفى باشا في الإسكندرية، والقلعة في القاهرة، وثكنات قصر النيل في القاهرة التي مكانها الآن الجامعة العربية. وظل مطلب الجلاء والاستقلال قائمًا.
وهذا النهج المسالم في استخلاص حقوق الوطن واستقلاله أمر بعيد عن الثورة التي لا تعرف إلا العنف سبيلا إذا تطلب الموقف ذلك، والمجابهة وسيلة عند اللزوم. وهذا التناقض الذي اكتنف أحداث “ثورة” 1919 بين جماهير ثائرة وغاضبة وعنيفة، وقادة معتدلون ومسالمون ويستغضبون فلا يبدو لهم غضب، هو الذي أدى إلى إفراغ الثورة من مضمونها، وجعلها ثورة شعبية لكن بقيادة غير ثورية. وأكثر من هذا أن المواقف الشخصية سيطرت على تصرفات كثير من قيادتها مما أدى إلى الفرقة والاختلاف بينهم. ومن ذلك على سبيل المثال أن سعد زغلول عندما اتجه إلى أعمال الدعاية للقضية المصرية باستضافة الصحفيين وإقامة المآدب وغير ذلك انتقده علي شعراوي باشا قائلًا: إنك تبدد أموال الوفد، فما كان من سعد إلا أن رد عليه: أنت في الوفد لثروتك، فشعر الرجل بالإهانة وقرر العودة إلى مصر وتضامن معه آخرون، وانضموا إلى حزب الأحرار الدستوريين عندما تشكل في أواخر 1922. ومن ذلك أيضًا أن سعد زغلول بعد إصدار الدستور في أبريل 1923 أخذ يستعد للانتخابات وأخذ يوزع أنصاره في مختلف الدوائر الانتخابية، إلا أنه لم يضع عبد الرحمن فهمي رئيس الجهاز السري للثورة في أحد الدوائر، فلما سأله عبد الرحمن فهمي عن سبب استبعاده قال له سعد: أمرك غريب.. أنت تتناول سيرتي في مجالسك وتريدني أن أرشحك؟ فانصرف عبد الرحمن غاضبًا، وانضم إلى الأحرار الدستوريين.
ولأن عدم وحدة الرأي التنظيمي صفة الذين شاركوا في أحداث ثورة 1919 كما رأينا، وجدنا أن الانقسام بينهم كان يقع لأقل الأسباب أهمية، ومن ثم تعددت القوى السياسية في مصر وكل منها يحتكر الصواب لنفسه. ومن ذلك خروج إسماعيل صدقي من الوفد وتأسيس حزب الشعب في عام 1930، ثم خروج محمود فهمي النقراشي وصديقه أحمد ماهر في عام 1937 بعد خلاف مع مصطفى النحاس الذي تزعم الوفد، وقاما بتأسيس “الهيئة السعدية” بل أن صفية زغلول حرم سعد زغلول التي لم تكن ترضى عن مصطفى النحاس، باركت هذا الخروج، واختارت اسم الهيئة السعدية نسبة إلى سعد زغلول نكايةفي مصطفى النحاس. وفي 1943 اختلف مصطفى النحاس مع مكرم عبيد وزير المالية في حكومة الوفد (1942-1944)، فأعاد تشكيل الحكومة ولم يضم مكرم إليها؛ بل لقد أقدم على فصله من مجلس النواب وهو عضو منتخب، فبادر مكرم بتشكيل حزب الكتلة الوفدية وكتب كتابه “الكتاب الأسود” عن مظاهر فساد حكومة النحاس. وأكثر من هذا أن فتحي رضوان ينضم إلى جمعية مصر الفتاة عام 1933 ثم يخرج منها إلى الحزب الوطني عام 1937 ثم ينشق على الحزب الوطني في عام 1944 ويشكِّلالحزب الوطني الجديد. وأحمد حسين يؤسس حزب مصر الفتاة في 1933 ثم يبدل اسمه إلى “الحزب الوطني الإسلامي” في 1940 ويجعل شعاره “الله. الملك. الوطن”، ثم يغيره في عام 1947 إلى الحزب الاشتراكي.