دراسات

فاطمة رمضان

تطور تشريعات النقابات العمالية من الملكية حتى الآن

2018.12.01

تطور تشريعات النقابات العمالية من الملكية حتى الآن

تتناول هذه الدراسة تطور تشريعات النقابات العمالية في مصر منذ نشأتها وحتى الآن. ولما كان هناك أربع وأربعون سنة منذ نشأة النقابات وحتى صدور أول قانون يعترف بها، فكان لا بد من رؤية هذه الفترة التي سبقت إصداره، لذا كان من الضروي تخصيص جزء من هذه الدراسة عن هذه النشأة وتطور الحركة العمالية حتى إصدار هذا القانون.

إن القوانين لا تصدر في الفراغ، بل في وسط الصراع. وهو ما يبرر أهمية رصد حركة المجتمع بشكل عام، ورصد وضع وتحركات الطبقة العاملة بشكل خاص، في الفترة ما بين إصدار قانون ثم تغييره بقانون آخر، لمعرفة لماذا صدر القانون، ولماذا تغير، وهل يصب التغيير في مصلحة العمال ونقاباتهم أم العكس؟ وكيف يؤثر تعديل القانون على النقابات في مصر، وعلى الحركة العمالية، بل على المجتمع كله؟

نشأة الطبقة العاملة والنقابات

نشأت الطبقة العاملة المصرية في نهاية القرن التاسع عشر في ظل المصانع والشركات الحديثة والمرافق التي أقامتها رءوس الأموال الأجنبية، بالإضافة إلى المرفق الحكومي للسكة الحديد. كان العمل في تلك المؤسسات يمتد إلى ساعات عمل طويلة، تبلغ في المتوسط 13 ساعة، تصل في النقل ومحالج الأقطان والمحال التجارية إلى 17 ساعة يوميًّا، بأجور منخفضة. لذا ظلت مطالب تحديد ساعات العمل بعشر ساعات يوميًّا، وتحديد يوم كإجازة أسبوعية، وزيادة الأجور -الذي تطور فيما بعد إلى طلب حد أدنى للأجور- كما هي طوال هذه الفترة. كان هناك تمايز في الأجور بين العمال الأجانب والمصريين للعمل نفسه، كما استأثر العمال الأجانب بالوظائف الإشرافية، وكان العامل المصري يتعرض للإهانة على يد رؤسائه من الأجانب. كل هذه العوامل كان لها أثرها وفقًا للعديد من الباحثين -من بينهم رءوف عباس- في تاريخ الطبقة العاملة المصرية، من حيث ارتباط النضال الاقتصادي بالنضال الوطني ومحاربة الاستعمار.

 يتخذ الكثير من المؤرخين تاريخ إضراب عمال السجائر سنة 1899 كنقطة بداية لتأريخهم للحركة العمالية، فقد شمل الإضراب أربعين مؤسسة يعمل بها ثلاثون ألف عامل، والذي تأسست على أثره أول نقابة للعمال في مصر “جمعية لفافي السجائر” التي لم تستمر طويلًا، مثلها مثل اتحاد الخياطين، ونقابة عمال المطابع وعمال السجائر بالإسكندرية، وكتبة المحامين، وجمعية الحلاقين بالقاهرة. وذلك لأن السلطة سواء القنصلية أو المصرية، كانت تتدخل للقضاء على ثمار الإضرابات تدخلًا تضمن القضاء على التنظيمات الوليدة.

 حدثت الكثير من الإضرابات في الفترة  بين 1900 و1910 لعمال السكة الحديد وعمال الطباعة، وكل عمال السجائر، وعمال الترام الذين في إضرابهم في أكتوبر 1908، خرجت مظاهراتهم تجوب الشوارع، وكانوا يبيتون فوق خطوط الترام مع محاميهم محمد كامل حسين، حتى لا تقوم الشركة بتشغيل الترام بعمال غيرهم. وقد حوكم بسبب تلك التظاهرات 180 عامل بتهمة الإخلال بالأمن وتعطيل عمل الشركة. بالرغم من أن المحرك والمنظم للإضرابات والنقابات الأولى كان العمال الأجانب،  بحكم الخبرة التي حملوها معهم من بلادهم، وكذلك بحكم كونهم أغلبية العاملين في هذه الشركات وقتها، وبفضل تمتعهم بالحماية القنصلية والامتيازات، إلا إن العمال المصريين قد شاركوا بقدر عددهم في هذه المصانع والشركات، وقد اكتسبوا الخبرة في التنظيم سواء للإضرابات أو النقابات عبر مشاركتهم تلك.

تحدث أمين عز الدين عن التناقض بين ما كان يُعلن من قبل سلطة الحكم في ذلك الوقت، وما ينفذ على أرض الواقع بالنسبة إلى العمال. فقد تم إعلان حرية ممارسة الصناعة والحرف والمهن التجارية بشكل رسمي من جانب سلطة الاحتلال سنة 1890، وهو ما يعني الحد من تدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية، وفي علاقات الاستخدام على وجه التحديد. كما أعلن اللورد كرومر سنة 1905 أن الحكومة تتخذ موقف الحياد فيما يتصل بعلاقات العمل ورأس المال، وأنها لا تنوي التدخل فيما يجري من خلاف بينهما. يقول عز الدين “ولسنا نجد في هذه المرحلة برمتها ما يؤيد هذه السياسة المعلنة من جانب الحكومة، فقد عرفنا ونحن نتابع الأحداث، أن الحكومة لم تتوانَ عن التدخل في علاقات العمل بما لديها من قوات بوليس، وكان تدخلها في الأغلب لصالح أصحاب الأعمال وفي خدمتهم. وكثيرًا ما أدى استفحال الأمور وتطورها إلى استخدام العنف من جانب العمال أنفسهم، بل والجمهور أيضًا. وقد أدى هذا الموقف -ضمن عوامل أخرى- إلى خلق تيار وسط المثقفين العاملين في الحقل النقابي، ووسط القيادات العمالية، يستهدف حمل الحكومة على إصدار تشريعات تنظم علاقات العمال بأصحاب الأعمال”.

 تحدث شهدي عطية الشافعي عن نشوء الحركة الوطنية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر ضد الاستعمار الإنجليزي، وعن بداية نشوء الطبقة العاملة في خضم الحركة الوطنية، قال “كما ظهرت حركة مثقفين، وحركة وطنية رأسمالية ناشئة، ظهرت أيضًا الطبقة العاملة الناشئة بدورها، كانت تتخذ شكل كفاح اقتصادي، لا يخلو من مضمون وطني، كون معظم أصحاب الشركات كانوا من الأجانب. وقد ارتبطت الحركات العمالية الاقتصادية بحركة المثقفين الوطنية”.

 وكما بدأت الحركة الوطنية تعيد تنظيم صفوفها فيما بين 1907 - 1912 بدأت الطبقة العاملة تنظم نفسها في نقابات، فقد أنشأ عمال موتسيان نقابة لهم عام 1908، ثم الترام، ثم نقابة عمال الصنائع اليدوية 1909، التي تعتبر التنظيم العمالي الأبرز في مصر طوال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فقد كانت تضم في عضويتها 979 عضوًا وقت إنشائها، وصل إلى 3139 سنة 1912، وبعد الحرب العالمية الأولى وإعلان الأحكام العرفية كان عدد أعضائها 1043  عام 1921، وذكر عطية أنها كانت تضم 11 فرعًا، وقد وضع شباب من  الحزب الوطني قانونها الأساسي، بعد دراسة لوائح النقابات في الخارج.

ويعتبر قانون النظام الأساسي لنقابة عمال الصنائع اليدوية، هو الأساس للوائح النقابات والاتحادات فيما بعد، والذي انتقل بدوره إلى قوانين النقابات.

 فقد حدد الغرض من النقابة، في العمل على تحسين حالة أعضائها المادية والأدبية، وترقية الصناعة، وإيجاد روابط ودية بين أعضائها. ولكي تحقق النقابة أغراضها أُنشأ قلم طبي، وآخر للاستشارات القضائية، وثالث للإعانات المالية، وصندوق للتوفير والتقاعد -حيث لم يكن هناك نظام للمعاشات بعد- وأنشأت أندية وتأسست شركات تُعاون على شراء ضرورات الحياة. يضيف عباس أنه على الرغم من نص قانون النقابة على حظر المناقشة في المسائل السياسية والاجتماعية، في الاجتماعات النقابية، فهذه النقابة كانت تؤدي نشاطًا سياسيًّا مستترًا بحكم وقوعها تحت إشراف رجال الحزب الوطني.

انتقلت فكرة تأسيس النقابات للأقاليم، وذلك بفضل رجال الحزب الوطني برئاسة محمد فريد، وكانت همزة الوصل بين النقابات مدارس الشعب الليلية التي أنشأها الحزب. استمر الأمر حتى بدأت المتاعب من قِبل النظام للحركة الوطنية والعمالية عام 1912، فسافر محمد فريد سرًّا خارج مصر، وتشتت أعضاء الحزب، وبدأت الفرقة بين أبناء الشعب نتيجة التعصب الديني. استمرت النقابات متناثرة ومطاردة -خصوصًا بعد أن أصبحت متابعة مثقفي الحزب لها ضعيفة- حتى إعلان الحرب العالمية الأولى عام 1914، والتي أُعلن بعدها الحماية الإنجليزية على مصر، وما تلاها من إعلان الأحكام العرفية، وحظر ممارسة أي نشاط اجتماعي أو سياسي، وأغلقت دور النقابات، وتوقف النشاط النقابي.

 وكان من نتائج الحرب العالمية الأولى وامتناع الواردات، أن زاد عدد الطبقة العاملة نتيجة نشوء صناعات جديدة لتلبية ما تتطلبه الحرب، وكذلك استعادت الكثير من الصناعات التي كانت على وشك الإفلاس عافيتها وتوسعت، وعمل الكثير من العمال لدى السلطة العسكرية. وعلى الرغم من الأرباح الكثيرة التي جنتها الشركات الجديدة والقديمة من جراء ذلك -والتي جعلت أصحابها على رأس الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال- فالعمال لم تتحسن أوضاعهم، فقد ظلت الأجور كما هي رغم ارتفاع الأسعار ثلاثة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب، وازداد الظلم نتيجة الأحكام العرفية، وحملة الاعتقالات وتحريم الاجتماعات والتجمهر، وزيادة الرقابة على الصحف، ونكوص النقابات.

ما إن انتهت الحرب في نوفمبر 1918، حتى تشكل الوفد المصري برئاسة سعد زغلول، بهدف السعي السلمي لاستقلال مصر، وكان نفي سعد زغلول وبعض من رفاقه في الوفد، الفتيل الذي أشعل ثورة 1919.

 وقد جاء اشتراك العمال في الثورة في اليوم الثاني منها، 11 مارس، حيث بدأ بإضراب عمال النقل والعنابر، مما أدى إلى أن أصبحت المواصلات في العاصمة معطلة، وانضم بعد ذلك عمال النور فأظلمت العاصمة، وانضم المحامون وموظفو الحكومة في 2 إبريل.

وبعدها انتشرت الثورة في كل المدن والقرى، وأُعلن العصيان المدني في الكثير منها، وأعلن بعضها عن الاستقلال وتكوين جمهورية، وكانت جمهورية زفتى والمطرية بالدقهلية مثالًا. ولما كانت قيادة الثورة من الإقطاعيين وكبار الملاك تخاف على أملاكها، فقد أصابها التردد من وجود المزيد من السلاح في يد الشعب، لذا أصدر كبار العلماء بالتعاون مع قيادة الوفد بيانًا بتحريم الكثير من الأعمال الثورية، ودعوا الشعب للالتزام بالقوانين.

 أدى اشتراك العمال في الثورة إلى إحياء روح النضال الجماعي في نفوسهم، التي كانت قد خمدت قبل الحرب، وأكسبتهم الثقة في أنفسهم، فعاد العمال إلى تنظيم صفوفهم، وبعثت النقابات من جديد، وأخذت ترفع شعار التضامن والاتحاد من أجل تحسين ظروف وشروط العمل.

وقد كان لازدياد البطالة بسبب تسريح من كانوا في خدمة السلطة العسكرية بعد الحرب، أن انخفضت الأجور بالرغم من الارتفاعات الكبيرة في الأسعار، مما جعل الأجور لا تكاد تكفي لسد الرمق، كل هذه الظروف فرضت على العمال تحدي الظروف، فكان إقبالهم على تأسيس النقابات.

زاد عدد النقابات في الإسكندرية إلى 23 نقابة، وفي القاهرة 38 نقابة، وفي القنال 17 نقابة. وحدث الكثير من الإضرابات، واحتلت المصانع، حيث طالب العمال بزيادة الأجور، وبساعات عمل أقل.

ذكر رءوف عباس أن لوائح النقابات لم تخرج في مضمونها عن قانون نقابة الصنائع اليدوية، وإن أدخل عليها منصب المستشار أو الرئيس الفخري، الذي خصص لمحامي النقابة، أو أحد مشاهير السياسة الذين يسدون للنقابة خدمة ممتازة، أو الذي تتلمس معه النقابة الحماية. ولقد كان هذا المركز سببًا في وثوب بعض من رجالات الأحزاب إلى قيادة بعض النقابات وتوجيهها وفقًا لمصالح أحزابهم السياسية. وكان الكثير من لوائح النقابات ينص صراحة على تجنب الاشتغال بالأعمال الحزبية أو الدينية، وبرغم ذلك كانت النقابات التي انصرفت لخدمة الأغراض النقابية وحدها لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من مجموع النقابات.

 

 نتيجة الكثير من الإضرابات في الترام والمياه، وعمال النور والترسانة، للمطالبة بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل ويوم راحة كل أسبوع وإجازات مدفوعة الأجر، صدر قانون لجان التوفيق والتحكيم في أغسطس 1919، لفحص وتحقيق شكاوى العمال، واستطاعت بعض النقابات أن تجني ثمار المفاوضات، مما أدى إلى دعم النقابات وزيادة الإقبال عليها، كذلك جعل الشركات تعمد إلى فصل رؤساء النقابات وأعضاء مجالس إدارتها، وشراء ذمم آخرين.

 تحدث شهدي عن أن الحركة العمالية في ذلك الوقت أصبحت أكثر نضجًا، فلم تعد حركة تعاونية مثلما كان الوضع أيام محمد فريد ومصطفى كامل، إنما أصبحت حركة نقابية بمعناها الصحيح، تنظم الصفوف وتقود الإضرابات، وتطالب بساعات عمل أقل. وفي ظل حركة وطنية صاعدة كان من المستحيل ألا يظهر حزب للطبقة العاملة يقود نضالها السياسي، لذا بدأت تتشكل خلايا اشتراكية في عام 1918 في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، وتأسس الحزب الاشتراكي عام 1920، ثم الحزب الشيوعي 1922. ضم برنامج الحزب مطالب وطنية، ومطالب تخص العمال والفلاحين والمرأة، فقد أتى في برنامجه خمسة مطالب تخص العمال وهي: الاعتراف القانوني بنقابات العمال، وتنظيم غير المنظمين منهم وضمهم في اتحادات وربط الاتحادات بالاتحاد العام الدولي، و8 ساعات عمل يوميًّا، ومساواة العمال المصريين بالأجانب في نفس العمل، والتأمين الصحي ضد المرض والبطالة. وقد ساعد الحزب على تنظيم الكثير من النقابات، وعلى تأسيس اتحاد عام للعمال في الإسكندرية، وكان مقره نفس مقر الحزب.

 أكد رءوف عباس على ما قاله شهدي، فذكر أن أول اتحاد للعمال نشأ سنة 1921، بفضل جهود رجال الحزب الاشتراكي، الذي بلغ أقصى قوته سنة 1923، فقد كان يضم تحت لوائه النقابات في القاهرة والإسكندرية والمنصورة وطنطا وشبين الكوم، ونظم عددًا من الإضرابات لتحقيق مطالب اقتصادية. وشهد عام 1924 سلسلة من الإضرابات في القاهرة والإسكندرية، وهي السنة التي بلغت فيها مشكلة العمال ذروتها خصوصًا مع إهمال حكومة الوفد لمسائل العمال واعتبارها ثانوية لا تستحق الاهتمام. كان نتيجة ذلك القبض على قيادات الحزب والاتحاد وتصفية الأول وحل الثاني. تحدث حسونة حسين أحد قيادات الحزب الشيوعي الأول عن ذلك فقال “واصل سعد زغلول وحكومته سياسة تصفية الحزب، وممارسة أبشع أنواع العنف والاضطهاد، باتباع أسلوب التجويع والتشريد بفصل العمال وكل النشطاء، وكل من له صلة أو تعاطف مع الحزب ...”.

 بداية التشريعات التي تخص النقابات

   في الوقت الذي بدأت فيه النقابات تستعيد عافيتها وتشرع في تكوين أول اتحاد عام لها ومطالبتها بالاعتراف القانوني بها، ظهر أول قانون يخص النقابات، ولكنه لم يكن لتقنين أوضاعها، بل كان للتضييق عليها في أنشطتها، وتجريمها، وحرمانها من مصدر تمويلها عبر اشتراكات العضوية.

 قانون 2 لسنة 1921 

 جاء في ديباجته “بما أنه لا يوجد الآن تشريع متضمن الأحكام الواجب مراعاتها في تأليف النقابات، وبما أنه رغم عدم وجود هذا التشريع، فقد حدث أخيرًا أن بعض الأشخاص اجتمعوا وكونوا نقابات خارج أي تقنين... وبما أنه قد تبين على الأخص أن بعض هذه الجماعات قد تنازلوا عن أجورهم تنازلًا لا رجوع فيه، لمصلحة النقابة التي ينتمون إليها، وبما أن هذا التنازل مخالف للنظام العام، والحالة تقتضي الإسراع في اتخاذ التدابير الواقية لمصلحة العمال أنفسهم، وذلك إلى أن يصدر قانون خاص عن النقابات، وبناء على ما عرضه علينا وزير الداخلية وموافقة مجلس الوزراء ارتأينا ما هو آت: أنه لا يجوز لكل العاملين بأجر أن يتنازلوا عن أجورهم كلها أو بعضها، مباشرة أو عن طريق وسيط، إلى نقابة أو شركة أو إلى أي جمعية صناعية أخرى، مهما كان الشكل الذي تألفت تلك الجمعية عليه”.

 وقد أصدر القائد العام للجيوش الإنجليزية في 2 فبراير 1921 إعلانًا بشأن تطبيق القانون على كل سكان القطر المصري أيًّا كانت جنسياتهم، وأن يكون له نفس القوة والمفعول المترتبين على إعلان صادر بمقتضى الأحكام العسكرية. كما تم تعديل قانون العقوبات لسنة 1923 بإضافة مادة تضع قيودًا جنائية على نشاط الطبقة العاملة، وتحظر الإضراب قبل إخطار السلطات بخمسة عشرة يومًا قبل الإضراب، وتعد الإضراب المفاجئ جريمة.

 من الواضح أن إصدار قانون 2 لسنة 1921 لم يأتِ بأثره الذي كان مرجوًّا منه وقت صدوره بشكل فوري، بسبب قوة الحركة، بدليل استمرار تأسيس النقابات، ثم تأسيس الحزب الاشتراكي وتأسيس اتحاد العمال الأول. ويكمل شهدي عطية كلامه فيما يخص تعديل قانون العقوبات، بأنه لم يوقف الحركة، فقد استمرت الإضرابات ولم تنقطع، واستمر العمال في تنظيم صفوفهم ودعم نقاباتهم وإنشاء نقابات جديدة. إلى أن بلغ فزع حزب الوفد منتهاه من الطبقة العاملة حين اشتدت الإضرابات، واحتل العمال المصانع إلى أكثر من ثلاثة أيام، فتمت الإطاحة بالحزب الشيوعي والاتحاد معًا عام 1924 ، وبدأت حملة الاعتقالات والمحاربة في الأرزاق كما ذكرنا سابقًا.

 السيطرة على الحركة النقابية منذ حل الاتحاد الأول وحتى صدور أول قانون للنقابات

 في الفترة ما بين حل أول اتحاد أسسه العمال سنة 1924وصدور أول قانون يعترف بالنقابات سنة 1942، عاش العمال والنقابات فترة من محاولات الهيمنة من قبل أحزاب السلطة، وإن لم يخلُ الأمر في بعض الأحيان من توجه بعض القيادات النقابية إلى بعض الشخصيات العامة، ليترأسوا اتحادًا يشرعون في تكوينه، طمعًا في الحماية، أو في الخدمات التي تقدم للاتحاد، أو في سخاء هذه الشخصية في الإنفاق على الاتحاد وعليهم.

 تحدث طه سعد عثمان عن هذه الفترة فقال “كانت تتكالب على الحركة النقابية منذ ظهورها قوى متعددة للسيطرة عليها، منها حزب الوفد، والنبيل عباس حليم، والسراي الملكية... إلخ. وذلك بجوار الكثير من الشخصيات المثقفة وخاصة المحامين والأطباء، الذين كان بعضهم مخلصًا لتأدية خدمة وطنية واجتماعية، والكثير منهم كان مغرضًا، يركب المنظمات النقابية والتحركات العمالية لتحقيق أغراضه الشخصية، وخاصة من الناحية السياسية. وقد كانت هيئة تنظيم الحركة العمالية التي تكونت أواخر ثلاثينيات القرن العشرين هي التعبير التنظيمي عن استقلالية الحركة النقابية المصرية”.

 بعد حل اتحاد العمال، ولما كانت حكومة الوفد لا تريد أن تترك فراغًا لا تؤمن عواقبه، فقد سارعت لتأسيس اتحادًا للعمال تزعمه عبد الرحمن فهمي، الذي كان يقود الجهاز السري لحزب الوفد، باسم “اتحاد نقابات وادي النيل”، استطاع الاتحاد أن يضم إلى صفوفه مائة نقابة عمال في القطر المصري، وأن ينشئ فروعًا في المدن والأقاليم. ظل عبد الرحمن فهمي رئيسًا للاتحاد إلى أن تم اتهامه وعددًا من جهاز التنظيم السري في قضية مقتل الساريدار الإنجليزي في السودان سنة 1924، والتي حكم فيها على عدد من القيادات النقابية والوطنية بالإعدام، وبالسجن لآخرين. واستقال عبد الرحمن فهمي من قيادة الاتحاد، ثم جاءت الضربات المتتالية من سلطات الاحتلال وحكومة الأقلية الإقطاعية برئاسة زيور باشا، مما أدى إلى ضعف الاتحاد، وبدأت تظهر في الساحة اتحادات منافسة فتت من قوته.

 واجهت نقابات العمال أثناء وزارة زيور حكمًا إرهابيًّا تعسفيًّا وبطشًا، فقامت وزارته بتعطيل الدستور وحل مجلس النواب (ذو الأغلبية الوفدية)، وأصدرت قوانين تحد من حرية التعبير وتقيد حرية الصحافة. بالرغم من ذلك قاوم العمال وأضربوا دفاعًا عن الديمقراطية، مطالبين بعودة الدستور. وقد لعبت الحركة النقابية المصرية دورًا هامًّا في انتخابات البرلمان لعام 1926 .

 ذكر محمود العسكري أن هذا الموقف الوطني الديمقراطي للعمال، جعل كل من يتطلع إلى الزعامة الوطنية والظهور في ميدان الكفاح الوطني والاجتماعي، يسعى إلى نقابات العمال عارضًا خدماته، سواء من نواب الوفد أو الصحفيين أو الأطباء. كما حاول نواب الوفد تكوين لجنة للعمال والشئون الاجتماعية في مجلس النواب الثاني والثالث، بهدف الدفاع عن العمال ونقاباتهم.

 تزعم محجوب ثابت (من أعضاء الحزب الوطني) إقامة اتحاد جديد للعمال ينأى بهم عن العمل الحزبي، وعقد بالفعل عدة اجتماعات سنة 1927، ولكنه لم ينجح في مسعاه بسبب مطاردة الحكومة للنقابات، وعدم ارتياحها لفكرة تكوين اتحاد يلم شملها، وتباين الأغراض السياسية لبعض المحامين الذين كانوا يرأسون النقابات.

 بعدها نجح النقابي أحمد إسماعيل وزملاؤه في تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري سنة 1928، وتم لأول مرة الارتباط بين الاتحاد والاتحاد الدولي للنقابات. لم يتأسس هذا الاتحاد على أساس تجميع النقابات وعقد جمعية عمومية تنتخب مجلس إدارته، بل التقى عدد من النقابيين المناضلين بعدد من النقابيين القريبين من الحكومة، وأسسوا الاتحاد ونصبوا أنفسهم زعماء له، وبدأوا في تأسيس نقاباته القاعدية، فتكونت له ثلاث نقابات فقط. أسندوا رئاسة الاتحاد لداود راتب من حزب الدستوريين الأحرار وأحد كبار الملاك، والذي كان سخيًّا في الصرف على الاتحاد وقياداته، ليصبح بذلك دعامة لحزب الأقلية في الحكم.

بعد سقوط حكومة محمد محمود، وتولي حكومة إسماعيل صدقي -الذي كان رئيس الاتحاد المصري للصناعات- عزل النقابيون في الاتحاد داود راتب، وعينوا مكانه عباس حليم من الأسرة المالكة، الذي اكتسب شهرة شعبية، وكان قريبًا من الوفد بسبب دفاعه عن الحياة البرلمانية، ومطالبته بعودة الدستور، وكان ذلك عام 1930.

وخلال معركة الشعب المصري للمطالبة بعودة الحياة البرلمانية، دفع العمال ثمن مشاركتهم فيها من دمائهم، فطبقًا للإحصاءات الحكومية -التي شكك فيها عبد الرحمن الرافعي- استشهد من عمال عنابر بولاق في واحدة من معاركهم مع البوليس 13 عاملًا، وجرح 199 عامل، ودفنت الجثث في الصحراء بعد رفض السلطة تسليمها لذويهم أو إعلامهم بمكان دفنها. في أثناء ذلك تزعم مجموعة من نواب وشيوخ الوفد تأسيس مكتب لتنظيم حركة العمال ونقاباتهم، في محاولة لإعادة تأسيس الاتحاد العام لعمال القطر المصري. وقد زحفوا على النقابات واستمالوها بخدماتهم، فنصبوهم رؤساء شرفيين للنقابات، أو مستشارين لها، وقد استجابت ثماني نقابات، وتم انتخاب قيادة جديدة للاتحاد برئاسة أحمد أغا المحامي الوفدي، ونُصب حسني الششتاوي المحامي الوفدي أيضًا مستشارًا للاتحاد عام 1930 .

 تقديرًا من حزب الوفد لعباس حليم، فقد تم ضم الاتحادين تحت رئاسته وسمي بـ “الاتحاد العام لعمال القطر المصري”، وحرص حليم أن تكون السيطرة التامة له على الاتحاد، فرفض السماح بتسلل الوفديين إلي مجلس إدارته. في عام 1931 وضع قانون للاتحاد، بعد أن تمت مراسلة الاتحادات في العالم فأرسلت لوائحها، وتمت دراستها واستفيد من لوائح النقابات في أوروبا مع استبعاد لوائح النقابات في الدول الشيوعية. وقد تم تحديد أغراض الاتحاد في النواحي الاقتصادية، وعُمِل على تكوين نقابات للعمال في كل المهن، وعلى تحسين أوضاع الطبقة العاملة المادية والفكرية والاجتماعية، وتنظيم حركة المطالبة بتشريعات العمل والعمال، ومساواة العمال المصريين بالأجانب، وتنظيم علاقة الاتحاد بالاتحادات في العالم الشرقي والغربي ومنظمة العمل الدولية. وفي مجال التنظيم نُص على تأسيس النقابة إذا بلغ عدد أعضائها خمسين عاملًا، كما نص على تأليف اتحادات مركزية في الأقاليم إذا وصل عدد النقابات بها إلى ثلاث نقابات على الأقل. ولم ينسَ القانون النص على ألا تتدخل النقابات أو الاتحادات في الشئون الدينية أو السياسية، كذلك نص على أن الاتحاد سيقوم بحماية كل عامل يُفصل من عمله بسبب اشتغاله بالنقابات.

بعدها مباشرة قامت حكومة صدقي بإغلاق دار النقابات، وشنت حملة على النقابيين بالفصل والاعتقال، وصادرت أموال الاتحاد. لجأ الاتحاد إلى اتحاد نقابات العمال البريطاني للتدخل لدى حكومته لكي تضغط على الحكومة المصرية لتعدل عن مناهضتها للاتحاد، وقد حضر وفد من الاتحاد البريطاني بالفعل، لكن حكومة صدقي منعت وصوله إليها. ثم كان اجتماع الاتحاد الدولي للنقابات في يوليو 1931، الذي حضره سكرتير عام الاتحاد المصري، وتقدم بشكوى ضد الحكومة المصرية. اتخذ الاتحاد الدولي بدوره قرارًا بالاحتجاج على الحكومة المصرية، على ما تتخذه من وسائل قمع ضد الاتحاد، وأوفد سكرتيره العام إلى مصر، وكتب السكرتير تقريرًا حث فيه على ضرورة تحسين أحوال العمال المصريين ورفع الاضطهاد عنهم. وقد أتى العمل الدعائي ضد الحكومة المصرية على مستوى النقابات في العالم بثماره، فقد أقدمت الحكومة على إصدار تشريع للعمل، واستعانت بخبير من مكتب العمل الدولي لوضع التشريع، ولكنها لم تصدره. واستمرت الحكومة في سياستها المناهضة للاتحاد وقياداته، مما جعل وجود الاتحاد كالعدم ما بين 1932 و1934. بعدها أعيد نشاط الاتحاد متخذًا من دار عباس حليم مقرًّا له، ووضع الاتحاد برنامجًا جديدًا للعمل، وبلغ عدد النقابات المنضمة إلى الاتحاد مبلغًا أثار مخاوف الحكومة -ونجح الاتحاد في عقد اتفاقات عمل، أهمها عقد اتفاق بين العمال في 22 مصنع للفواخير (مصانع الفخار) وأصحاب الأعمال- فصدر أمر مدير الإدارة الأوروبية بوزارة الداخلية بمنع العمال من دخول الاتحاد، ومحاصرته، ولما تجمع العمال وحاولوا دخوله عنوة وتمت المواجهه مع البوليس، كان نتيجتها وفاة عامل بالرصاص والقبض على 95 عاملًا من مختلف النقابات. وإن كان العسكري قد ذكر غير ذلك في تلك الواقعة، فقد جاء في مذكراته أن الاتحاد كان قد عقد مؤتمرًا له لدراسة كيفية مقاومة العدوان على الحريات العامة، والاحتجاج على إغلاق دار الاتحاد السابقة، وأن البوليس قد هاجم المؤتمر، وأن من تم معرفتهم ممن قتلوا على الأقل اثنين، بخلاف من توفي بعد ذلك أثر جراحه.

وثارت حركة احتجاج كبيرة، وخرجت جنازة العامل بمظاهرة على رأسها عباس حليم وقيادات الوفد، وأضرب عمال النقل، فقبض على عباس حليم، الذي خرج بعد ذلك بتدخل من السفير الإنجليزي، بدون توجيه تهمة إليه، وحوكم العمال وسجنوا. أظهر الحادث قيادات الاتحاد بصورة بطولية في نظر العمال، مما مكنهم بعد خروجهم من السجون من استئناف نشاطهم، وانضم عدد كبير من النقابات إلى الاتحاد.

بعد سقوط حكومة صدقي وتولي حكومة توفيق نسيم، وردًّا على تصريح وزير خارجية بريطانيا صمويل هور، بشأن رأي بريطانيا فيما يطلبه الشعب المصري من عودة دستور 1923، انطلقت الإضرابات والمظاهرات التي واجهها البوليس بالرصاص، وأعلن يوم 28 نوفمبر 1935 يوم حداد عام على من استشهد، فعطلت المصانع، وأغلقت المتاجر واحتجبت الصحف عن الصدور.

دب الخلاف بين الوفد وعباس حليم، على أثر محاولة كل منهما الهيمنة على النقابات، الظهير الشعبي لهما، وذلك إبَّان تشكيل الوفد من الأحزاب، والذي سيتفاوض على استقلال مصر. فقام الوفد في سنة 1935 بتشكيل اتحاد جديد، سمي بـ “المجلس الأعلى لاتحاد نقابات القطر المصري”.

حدثت موجة ضخمة من الإضرابات عام 1935 وصفها محمود العسكري بأنها كانت أكثر عنفوانًا من العنف الثوري عام 1919، قابلها الاتحادان بمطالبة العمال بالهدوء لإنجاح المفاوضات مع الإنجليز، مما حدا بالعمال إلى الاندفاع في إضراباتهم ومظاهراتهم ووقوع بعض الانحرافات الإرهابية، وذلك في غياب القيادة المنظمة. جمد بعدها عباس حليم أنشطة الاتحاد وعاد إلى موقعه في الأسرة الحاكمة.

ظلت النقابات تناضل منفردة دفاعًا عن حقوق أعضائها، وفي سبتمبر 1937 أسس بعض قادة العمال ممن تربوا في الاتحادات السابقة “هيئة تنظيم الحركة العمالية”، بهدف إعادة تنشيط النقابات والدعوة لإنشاء حزب للعمال بعيدًا عمَّن استغلوه لأغراضهم السياسية. بعدها بشهر ونصف عاد عباس حليم من أوربا ليعلن أنه سوف يعاود نشاطه مع العمال بعد توقيع اتفاقية سنة 1936 من الإنجليز في جو هادئ، واستقبله مؤيدوه استقبالًا عماليًّا كبيرًا -بعد صراع طويل طبقًا لمحمود العسكري بين دعاة استقلالية الحركة عن الأحزاب والهيئات السياسية والشخصيات غير العمالية، وبين مريدي عباس حليم، وكانوا الأغلبية (ص88)-  وأصبحت الهيئة تعقد اجتماعاتها برئاسته. في يناير 1939 أُعلن عن تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة المصرية، برئاسة عباس حليم، ثم بعد شهر انتقلت الرئاسة إلى محمد الدمرداش الشندي من الإسكندرية، الذي كان قد فاز في انتخابات مجلس النواب، ووجه سؤالين لوزيري التجارة والصناعة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يرتفع صوت عامل داخل قاعة مجلس النواب، يطالب بمطالب عمالية.

وعن انتخاب الشندي في شركة نسيج كرموز الأهلية كرئيس للاتحاد، ذكر محمود العسكري أنها حدثت بمؤامرة من عباس حليم ومن ورائه الهيئة السعدية، وبذلك أصبح للاتحاد قيادتان، قيادة عباس حليم بنفوذه وماله، وقيادة منتخبة من نقابات العمال.

وقد كان للاتحاد نشاط كبير في المطالبة بتشريعات العمال، ففي 8 مايو 1938 خرجت مظاهرة  كبيرة ضمت عشرات الآلاف، وطافت القاهرة، كانت بدايتها عند مجلس الوزراء بميدان لاظوغلي، وآخرها عند مقر الاتحاد في ميدان باب الحديد، ضمت أعضاء النقابات رافعين المطالب التي سبق أن تقدموا بها إلى الملك عبر عباس حليم -الذي كانوا عينوه زعيمًا للاتحاد- والتي تضمنت الاعتراف بنقابات العمال واتحادهم العام، وتخفيض ساعات العمل، ووضع حد أدنى للأجور، وحل مشكلة البطالة، وإعادة النظر في قانون إصابات العمل. وكان تنظيمها بعيدًا عن عباس حليم والشندي.

أكسبت المظاهرة اتحاد العمال نفوذًا، سواء بين العمال حيث دفعهم إلى الانتساب للنقابات ودفع الاشتراكات، أو لدى الحكومة، التي وعدت بتنفيذ المطالب. وحينما شعر قادة الاتحاد بمماطلة الحكومة في إصدار التشريعات بدأوا بتنظيم إضراب عن الطعام في ميدان العتبة الخضراء، مصحوبًا بحملة دعاية كبيرة للإضراب ومطالبه، وبمظاهرات صغيرة تأييدًا له، وزيارات من وفود العمال للإضراب، وقد لقي صدى كبيرًا في الصحف، وعرض مشروع قانون النقابات في البرلمان، وتدخل عباس حليم وآخرون لإقناع العمال بإنهاء الإضراب، لأن الحكومة جادة في إصدار القانون، ففض العمال إضرابهم عن الطعام حتى لا يظهر العمال بصورة المتعنتين، بعد اجتماعهم معًا لاتخاذ القرار.

كان الإضراب عن الطعام مفيدًا في فرز صفوف النقابات، فاتضح فريق عباس حليم، والفريق الداعي إلى استقلالية النقابات، والذين بدأوا في تأسيس “اللجنة التأسيسية للاتحاد العام لعمال المملكة المصرية (المستقل- المحرر)” وجاء في الجلسة التأسيسية له في 8 يوليو 1939 “قرر الاتحاد العام أن يتحمل أعباءه بنفسه، حتى يتمكن من تنظيم صفوف العمال تنظيمًا صحيحًا يعود بالخير عليهم، ويحقق أمانيهم...”.

خاض الاتحاد أولى معاركه مع نشوب الحرب العالمية الثانية، وفُصل العمال بالجملة بحجة توفير الخامات وقطع غيار الآلات التي سيقل ورودها من الخارج بسبب الحرب، فقامت النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج الميكانيكي وملحقاتها بالقاهرة وضواحيها، بالإضراب عن الطعام بمقرها بشبرا الخيمة، وذلك للمطالبة بعودة العمال المفصولين. تفاعل العمال والمواطنون مع الإضراب، وكان العمال يأتون من مصانعهم إلى مقر النقابة في مظاهرات، وانهالت البرقيات على الأجهزة الحكومية والنيابية تطالب بتحقيق مطالب العمال العادلة. فأصدر علي ماهر بصفته الحاكم العسكري العام ورئيس الوزراء، أمرًا عسكريًّا بتحريم فصل العمال بالجملة لأي سبب، إلا بإذن يصدر عن الجهة المختصة ويعرف أسبابه. وبذلك عاد كل العمال المفصولين إلى العمل، وأصبحت لجنة التوفيق والتحكيم لا تبحث أي شكوى سوى بالرجوع إلى النقابات وبحضور مندوب منها.

واجهت الحركة العمالية ضربة قاسية أثناء الحرب العالمية الثانية، فطارد البوليس النقابيين، واعتقل قياداتهم، وأغلقت دور النقابات والاتحاد، وأعلنت الأحكام العرفية التي حظرت النشاط العمالي وحظرت الإضرابات. ولكن العمال ظلوا يناضلون في هذه الظروف مستخدمين كل الوسائل المتاحة، بعمل الدراسات عن أوضاع العمال، أو بإصدار النشرات والمجلات للدفاع عن حقوق العمال، مثل نشرة نقابة عمال المطابع المختلطة، ونقابة عمال النسيج الميكانيكي. واستأجرت نقابة المصانع المختلطة جريدة إقليمية لصحفي وفدي، تعاونت هي ونقابة النسيج الميكانيكي على إصدارها. استمرت الجريدة إلى أن أتت حكومة الوفد 1942 إلى الحكم، وضغطت على أصحاب امتياز إصدار الجريدة لسحبها من العمال، بحجة أنها تكدر السلم العام، وتثير العمال. بعدها صدر أول قانون للنقابات.

أول قانون للنقابات

صدر القانون عند تولي الوفد الحكومة عام 1942، وتحت ضغط الحركة لسنوات، فقد كانت الحركة العمالية تطالب بالاعتراف القانوني بالنقابات منذ تأسيس الاتحاد الأول. اشتدت الحركة الاحتجاجية المطالبة بعدد من الحقوق والتشريعات العمالية ضمنها الاعتراف بالنقابات منذ عام 1938، وقد كان العمال يأملون في أن يحميهم القانون ويحمي نقاباتهم من تعسف أصحاب الأعمال والبوليس. عند نشر مشروع القانون في الجرائد وقتها، تقدم الكثير من النقابات بمذكرة بملاحظاتهم عليه، منها نقابة عمال النسيج الميكانيكي، التي تقدمت بها إلى مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وبعض نواب البرلمان، ووزارة الشئون، ولكن لم يؤخذ برأيهم، وصدر القانون كما هو.  تحدث طه سعد عثمان -وكان وقتها رئيس نقابة عمال النسيج الميكانيكي- عن خشية أصحاب الأعمال من أن يصدر القانون فيقوي من شأن النقابات، لذا كانوا يقاتلون عند نظر القانون مادة مادة، لكي يخرج القانون وهو لا يتضمن إلا القليل الضروري لإسكات الحركة العمالية، حارصين ألا تتطور الحركة أكثر من ذلك.

قانون 85 لسنة 1942

أتى القانون في مادته الأولى بتعريف العامل، وخص التعريف العاملين بالصناعة والتجارة دون غيرهم، وأكدت المادة الثانية منه على نفس الفكرة، فقد قسمت من لا يسري عليهم القانون إلى أربع فئات، وهم: موظفو الحكومة ومنهم عمال الجيش والطيران والبحرية والبوليس الدائمون، عمال الزراعة، الوكلاء المفوضون الذين يمثلون أصحاب الأعمال، الممرضون وعمال المستشفيات ومن في حكمهم.

وأعطت المادة الثالثة الحق للعمال الذين يشتغلون بمهنة أو صناعة أو حرفة واحدة، أو بمهن أو حرف أو صناعات متماثلة أو مرتبطة أو يشتركون في إنتاج واحد، في تكوين نقابة عامة فيما بينهم تراعي مصالحهم وتدافع عن حقوقهم، وتعمل على تحسين حالتهم المادية والاجتماعية. واشترطت المادة الرابعة وجود خمسين منضمًّا على الأقل لكي يستطيع العمال تأسيس نقابة لهم، وذكرت أنه لا يجوز تكوين أكثر من نقابة واحدة لمنشأة واحدة في بلد واحد. ولم يأتِ ذكر للاتحاد العام في القانون، بل أكدت المادة 26 على منع تأسيسه، حيث أعطت الحق للنقابات المسجلة تسجيلًا صحيحًا، أن تُكوِّن فيما بينها اتحادات لترعى مصالحها المشتركة، بشرط أن لا تضم هذه الاتحادات سوى النقابات التي تتعلق بمهنة أو حرفة واحدة، أو صناعات تشترك في إنتاج نوع واحد من السلع. واشترطت أن لا تزيد اشتراكات النقابات في الاتحاد عن عُشر مجموع الاشتراكات السنوية التي تجمعها النقابة من أعضائها.

حددت المادة 5 حدًّا أدنى لأعضاء مجلس الإدارة، خمسة أعضاء، وكذلك حدًّا أقصى، 21 عضوًا -وهو ما حذا ببعض النقابات التي يزيد عدد أعضاء مجلس إدارتها لتشمل كل المصانع والشركات، إلى تقليل العدد لتتوافق مع القانون، مع قيام لجان للمندوبين- وظل هذا التحديد مع تغير الأعداد في بعض الأحيان ساريًا في القوانين حتى الآن.

أعطت المادة 8 الحق للعضو في الانسحاب من النقابة متى شاء، وأعطت له الحق في استرداد ثلاثة أرباع ما يستحقه من صندوق الادخار الذي من حق النقابة إنشاؤه طبقًا للمادة 16 من نفس القانون. وأعطت المادة 21 الحق للعامل في الانضمام إلى أي نقابة أو الانفصال عنها، وأنه لا يجوز إكراهه على اتخاذ سبيل معين في هذا الشأن. وأقرت المادة 9 بعدم إجازة فصل العامل من النقابة قبل إخطاره بما نسب إليه وسماع أقواله، وله بعد الفصل اللجوء إلى المحكمة في المواعيد التي حددتها المادة.

عددت المادة 10 من ليس لهم الحق في عضوية مجلس إدارة النقابة، وهم القصر والمهجورون، والعمال الأجانب والمحكوم عليهم في جناية سرقة أو نصب.

أعطت المادة 16 للنقابات المسجلة حق توقيع اتفاقيات وعقود خاصة بعقد العمل المشترك، وكذلك حق التعاطي فيما يخص عقد العمل المشترك، أو الادعاء بالحقوق المدنية المترتبة على الجرائم التي تلحق الضرر بالمصالح المشتركة بأرباب المهنة، التي تمثلها النقابة، كذلك أعطتها الحق في إنشاء صناديق ادخار وجمعيات تعاونية وجمعيات للتأمين الاجتماعي للأعضاء وغيرها.

وقد وُضع الكثير من المواد التي تُخضع النقابات لرقابة وإشراف أجهزة الدولة المختلفة، بداية من التسجيل وفقًا لـ المادة 12 في وزارة الشئون الاجتماعية، حتى تستطيع النقابة أن تباشر أعمالها ويكون لها الشخصية الاعتبارية، وإذا رفضت التسجيل، على النقابة التوجه إلى المحكمة.

وألزمت المادة 18 النقابات بسجلات يحددها وزير الشئون الاجتماعية بقرار منه، وأعطت الحق لمفتشي الوزارة بالاطلاع على هذه السجلات في مقر النقابة. وأعطت المادة 20 الحق لأعضاء نقابات العمال والاتحادات في الاجتماع، بعد إخطار الجهات المختصة، ولا يجوز للسلطات التدخل في حرية الاجتماع إلا إذا كان مخالفًا للنظام العام.

وتنص المادة 24 على حل النقابة من قبل وزير الشئون الاجتماعية في حالتين، إذا خالفت أحكام القانون  رغم إنذارها كتابة بإزالة المخالفة، وإذا ارتكبت النقابة جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد 174، 176، 374، 375 من قانون العقوبات، وللنقابة الحق في اللجوء إلى المحكمة للتظلم من قرار الحل، ويكون حكمها نهائي.

بالنظر في المواد المشار إليها في قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، وجدنا أن هذه المواد تقوم بتحديد العقوبات، بالحبس مددًا تصل إلى خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد عن عشرة آلاف جنيه، في التحريض على قلب نظام الحكم، وترويج مذاهب ترمي إلى تغيير مبادئ الدستور الأساسية أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة أو الإرهاب، وعقوبة من يشجع على ذلك ولو لم يشترك (المادة 174). ونفس العقوبات للتحريض على التمييز ضد طائفة من الطوائف بسبب الجنس أو الدين... إذا كان من شأن ذلك تكدير السلم العام ( المادة 176). وأتت  المادة 374 بحظر الامتناع عن العمل للعاملين في الخدمات والمرافق العامة، وعرفت الامتناع بترك ثلاثة موظفين على الأقل عملهم ولو في صورة استقالة عمدًا عن تأدية واجبات وظيفتهم متفقين، أو مبتغين تحقيق غرض مشترك، والعقوبة في  المادة 124 السجن أكثر من ثلاثة أشهر وأقل من سنة، وغرامة لا تزيد عن مائة جنيه، ويضاعف الحد الأقصى إذا ما كان الامتناع يعرض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم للخطر، مع العزل من الوظيفة. وأقرت  المادة 124  بضِعف العقوبة للمحرضين، ونفس العقوبة للمحرضين إذا لم ينتج عن تحريضهم شيء. وأتت  المادة 375 بعقوبة الحبس بما لا يتجاوز سنتين وغرامة لا تزيد عن مائة جنيه، لكل من استخدم القوة أو العنف أو الإرهاب أو التهديد أو أي تدابير أخرى غير مشروعة، في الاعتداء على حق الغير في العمل، أو الاعتداء على حق الغير في أن يشترك في جمعية من الجمعيات، وللمحرضين نفس العقوبة. كذلك منعت  المادة 17 النقابات من ثلاثة أشياء، منها الاشتغال بمسائل سياسية أو دينية.

وأحكم القانون القبضة على النقابات، فهو لا يعترف سوى بالنقابات التي توفق أوضاعها طبقًا له كما جاء في المادة 28، والمادة 31. بعدها يعاقب أية نقابة تعمل بخلاف ذلك بالحبس والغرامة، ففي  المادة 29 “يعاقب بغرامة لا تجاوز عشرة جنيهات، وبالحبس مدة لا تزيد عن شهر أو بإحدي هاتين العقوبتين، كل شخص معين أو منتدب لإدارة شركة أو جمعية أو جماعة أو هيئة، أطلق عليها في مكاتباته أو في لوحات أو إعلان أو إشارة أو بلاغ موجه إلى الجمهور، اسم نقابة عمال أو اتحاد نقابات خلافًا لأحكام هذا القانون، ويحكم بمصادرة المكاتبات أو اللوحات أو الإعلانات موضوع المخالفة، أو الأموال التي تكون قد جمعت”. وقضت المادة 30 بنفس العقوبات في المادة السابقة، على كل عضو مجلس إدارة يتعمد إعطاء بيانات غير صحيحة، تتعلق بلائحة النظام الأساسي أو السجلات أو الدفاتر أو الحسابات التي فرض القانون إبلاغها إلى ذوي الشأن.

وفي الوقت الذي تشدد القانون على النقابات وأعضائها، كان رفيقًا بأصحاب الأعمال، فأتت عقوباتهم على مخالفة القانون أو على الحد من حرية العامل في الانضمام أو الانسحاب من النقابات، أو حتى فصل العامل أو معاقبته لإكراهه على الانضمام أو الانسحاب، بعقوبة لا تقل عن خمسة جنيهات ولا تزيد عن ثلاثين جنيهًا، وأيضًا لم يستخدم العقوبة الواردة في المادة 375 من قانون العقوبات، والتي جاء فيها “الاعتداء على حق الغير في أن يشترك في جمعية من الجمعيات...”، ولم لا يكون ذلك وكبار الإقطاعيين وأصحاب الأعمال هم من وضعوا القانون؟!

هكذا رأينا القانون يحمل في طياته المبادئ الأساسية لقانون نقابة الصنائع اليدوية، من حيث قصر الأهداف على الدفاع عن حقوق أعضائها وتحسين حالتهم الاجتماعية والمادية. كذلك حرم العديد من العاملين بأجر من حق تأسيس النقابات. وحرم على النقابات الاشتغال بالسياسة، أو الدعوة لإضراب عن العمل أو مجرد تبنيها، ووضعت النقابات تحت هيمنة الحكومة ممثلة في وزارة الشئون الاجتماعية، والبوليس، فيما يخص الاجتماع. وغلظت العقوبات على النقابيين على أبسط الأخطاء، وأتت بقانون العقوبات داخل القانون، في الوقت الذي جعلت عقوبات أصحاب الأعمال غير ذي بال وغير رادعة بالمرة. وأخيرًا لم يعترف القانون بحق العمال في تأسيس اتحادات.

بالنسبة إلى أثر القانون على النقابات، تحدث طه سعد عثمان عن أن اعتراف القانون بالنقابات قد أحدث فورة عالية الضجيج في أوساط الطبقة العاملة المصرية، وأن الصحف الوفدية لعبت دورًا بارزًا في ذلك. وفي نفس الوقت الذي يقول فيه إن القانون جاء به ما يحمي أعضاء مجالس إدارات النقابات من التضرر بسبب نشاطهم النقابي، لكنه بالمخالفة للقانون لم تخلُ دورة نقابية من فصل خمسة من أعضاء مجلس إدارة النقابة.

لم تقف القيود على القانون وحده، بل إن وزارة العمل والبوليس كانا بالمرصاد للعمال ونقاباتهم، سواء قبل القانون أو بعده. يقول عبد المنعم ناطورة “في عام 1940 حاول عمال كفر الدوار تأسيس نقابة، وبالفعل اتخذوا مقرًّا وعلقوا لافتة، وبدأوا يحضرون لجمعية عمومية، لكن المباحث والبوليس هجموا على المقر وأخذوا بعض العمال وسجنوهم”.

كما تحدث طه سعد عثمان عن محاولات إعاقة تأسيس نقابتهم بعد إصدار القانون، ومنها محاولات تخريب الجمعية العمومية التي عقدوها في سرادق أمام النقابة في شبرا الخيمة، وتصدى العمال لذلك، ثم تقديم الأوراق مستوفاة لمصلحة العمل، التي لم ترد عليهم في الموعد المحدد للإخطار القانوني، سواء بالتسجيل أو الرفض، وبعد انتهاء المهلة توجه النقابيون إليهم، فاضطروا إلى تسجيلهم.

وفي شهادة فتح الله محروس تحدث عن صعوبة تأسيس النقابات في  عام 1948 “كان النظام في ذلك الوقت نظام التسجيل، فالنقابة تعقد جمعيتها العمومية وترسل أوراقها إلى وزارة الشئون الاجتماعية، على ألا تقوم بنشاطها إلا بعد الحصول على رقم التسجيل، الأمر الذي يمكن أن يكون بعد سنة أو سنتين. وفي فترة انتظار رقم التسجيل تبذل محاولات للتخلص من أعضاء النقابة”.

كما حاول حزب الوفد الذي كان في الحكومة وقتها، بعد تسجيل مئات النقابات العمالية، مساومة قادة النقابات على انضمامهم إلى الحزب، وحاول فرض عناصر من غير العمال على قيادة النقابات.

استمر العمال في تأسيس نقاباتهم، حتى وصل عدد النقابات المؤسسة طبقًا للقانون سنة 1944، 210 نقابة تضم 100003 عضو. واستمرت النقابات تمارس الإضراب رغم حظره، وفي المقابل كانت الحكومة تحل النقابات بحكم القانون، حين تشتد الحركة الاحتجاجية التي تقودها النقابات كما سنرى. واستمر العمال والنقابات في ممارسة النشاط السياسي في كل المراحل، مثل تكوينهم اللجنة الوطنية للعمال والطلبة سنة 1946. وحاول العمال الالتفاف على القانون فيما يخص تأسيس الاتحاد، فتشكل “مؤتمر عمال الشركات والمؤسسات الأهلية” سنة 1944، وكان يضم 25 نقابة، وضمت النقابات في القاهرة وحدها 15 ألف عامل سنة 1945، وشارك المؤتمر ضمن وفد العمال المصريين بثلاثة مندوبين في مؤتمر اتحاد العمال العالمي في نفس العام. وكان ممثلًا في اللجنة الوطنية للعمال والطلبة سنة 1946، والذي كان توسع فيما بعد لـ “مؤتمر نقابات عمال مصر” سنة 1945 .

العمال والنقابات ما بين الحرب العالمية الثانية وحركة الضباط

نتيجة للحرب العالمية الثانية -كما سبق في الحرب العالمية الأولى- ازداد عدد العمال، ولكن بعد الحرب ازدادت البطالة بسبب الاستغناء عن العمال الذين كانوا يعملون في الصناعات اللازمة للحرب،  فانخفضت الأجور في ظل ارتفاع الأسعار.

استعمل أصحاب الأعمال كل أسلحتهم في محاولة منهم لإضعاف العمال والنقابات. عددها طه سعد في فصل بعض القادة النقابيين، وشراء البعض الآخر، واستخدام العنف والبلطجة ضد العمال المناضلين، واستخدام البوليس في القبض على العمال وتحرير محاضر التحري ضدهم، والقبض على قيادات العمال وترحيلهم إلى قراهم وتحديد إقامتهم بها، واستخدام قوات الجيش و البوليس في الاعتداء على العمال في الإضرابات الكبيرة، واستخدام العصبية الإقليمية في تفريق العمال، وافتعال البطالة واستخدام جيش العاطلين للاعتداء على حقوق العمال وتقليل أجورهم. واجه العمال كل ذلك، باستمرارهم في استخدام سلاحهم المجرًّم “الإضراب” سواء عن العمل أو الإضراب العام، أو الإضراب التضامني، أو الإضراب الجزئي، أو الإضراب عن الطعام، أو الإضراب عن استلام الأجور، الاعتصام، المظاهرات، بالإضافة إلى إعلان الجوع، وتكوين صندوق الخدمة الاجتماعية، ومنه يتم مساعدة العمال المتعطلين من قبل زملائهم المشتغلين.

استمر العمال من جانب، وأصحاب الأعمال والحكومة من جانب آخر في صراعهم. انتشرت إضرابات كثيرة في شبرا الخيمة، بسبب محاولة الاعتداء على حقوق العمال من أجور وغيره، وردت الحكومة بحل العديد من النقابات، منها نقابة عمال النسيج الميكانيكي في 1945، ونقابة عمال النسيج الميكانيكي بالفيوم، مستخدمين القانون فيما نص عليه من اتهامها بالإضراب، ومخالفتها للمادة 375 من قانون العقوبات.

خاض العمال الانتخابات البرلمانية في عام 1944، بعدد من القيادات النقابية، من بينهم فضالي عبد الجيد في شبرا الخيمة، فأسسوا اللجان في حملته الانتخابية، ووضعوا له برنامجًا تضمن السياسة الخارجية والداخلية، ومطالب العمال والفلاحين والموظفين.

في عام 1945 بدأوا في تكوين اللجنة التحضيرية لتأسيس مؤتمر عمال مصر. بعدها شارك العمال المصريون بوفد في المؤتمر التأسيس للاتحاد العالمي لنقابات عمال العالم، من بين ذلك الوفد كان يوسف المدرك، الذي فوضته أكثر من 120 نقابة بها 180 ألف عضو ساهموا جميعًا في مصاريف سفره. طالب العمال في المؤتمر بالإضافة إلى المطالب الخاصة بالأجور والبطالة وساعات العمل، بمطالب أخرى خاصة، على رأسها طرد الاستعمار، فكان من ضمن قرارات الاتحاد الدولي للنقابات قرار يندد بالاستعمار وأعوانه في مصر.

وعن تأسيس لجنة الطلبة والعمال عام 1946 قالت ثريا أدهم “بعد حادثة كوبري عباس، بدأت المظاهرات تتكاثر، وفي مواجهتها يشتد الضغط على الطلبة أكثر وأكثر، فكر الطلبة في مواجهة هذا الضغط الإرهابي من جانب الحكومة وقوات الأمن، بتكوين اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، لكي تشاركهم الطبقة العاملة التي كانت تخوض حركة إضراب واسعة، لتحقيق مطالب اقتصادية. كانت اللجنة منتخبة مباشرة من الطلبة في كلياتهم والمدارس الثانوية، ومندوبو العمال منتخبين من مصانعهم مباشرة...”.

رغم الإرهاب استمرت حركة العمال، وكان من بينهم الميكانيكيون الحربيون في مطار ألماظة، من أجل مطالبهم التي نجحوا في انتزاعها. وفي يونيو 1947 أرسل العمال مندوبهم يوسف المدرك مرة أخرى إلى اجتماع الجمعية العامة لاتحاد النقابات العالمي، رغم معارضة الحكومة، والعقبات التي وضعتها. ووقف العمال خلف ترشح يوسف المدرك في البرلمان عام 1950، وظلوا يحضرون لعقد الاجتماع التأسيسي للاتحاد العام لنقابات عمال مصر، الذي حدد له يوم 27 يناير 1952، فوقع حريق القاهرة قبلها بيوم، وأقيلت حكومة الوفد، وأُعلنت الأحكام العرفية، وفتحت أبواب السجون من جديد.

حركة الجيش 1952والنضال العمالى

ما إن تبوأ الضباط الأحرار الحكم في مصر، وبعد واحد عشرين يومًا من ذلك، في 13 أغسطس بدأت أحداث قضية كفر الدوار، وسارعت السلطة الجديدة إلى محاكمة العمال المتهمين فيها محاكمة عسكرية هي الأولى من نوعها، فحكمت بالإعدام على مصطفى خميس ومحمد البقري، ونفذ الحكم في 7 سبتمبر 1952، بعد أن أعلن في حضور 1500 عامل من عمال الشركة، وذلك لبث الرعب في نفوس العمال. قال أحد العمال الذين حضروا مجبرين إعلان الحكم “إن ما تعرض له جميع الحاضرين من العمال من مهانة وإذلال وإرهاب، كان أقسى مما يمكن أن يتعرض له أسرى الحرب في جيش مهزوم ومستسلم بلا قيد ولا شرط، مما جعل المنتصر يعاملهم أسوأ من معاملة العبيد”.

وأضاف طه سعد عثمان في كتاب آخر “بالإضافة إلى حكمي الإعدام، فقد حكم على عدد كبير من العمال بالأشغال الشاقة والسجن، مع ما صاحبها من حملة شرسة وظالمة، ليست موجهة إلى عمال كفر الدوار فحسب، بل إلى الطبقة العاملة كلها بالتهديد والإنذار، بل امتد شرر التنكيل إلى عمال الإسكندرية الذين حوكم عدد كبير من عمال النسيج بها بالسجن والغرامة”.

وقال عنها عبد السلام عبد الحليم عامر، الذي يبدو في كتابه تعاطفه الشديد مع حركة الضباط “اتسمت هذه المحاكمات بالتسرع وعدم التروي، فالثورة بهذا العمل جعلت منه عبرة لإرهاب بقية العمال”، ويقول في موضع آخر “وقد أكد المطلعون على مستندات المحاكمة وحيثيات الحكم، عدم عدالتها وأنها رسمت للإرهاب. وهذا ما أكده قادة الثورة، من أن هدف المحاكمة والأحكام العظة والعبرة حتى لا تنتشر المظاهرات في أماكن أخرى. وقد ظلت هذه المحاكمة في ذهن العمال، ولم يجرؤ العمال على القيام بمظاهرة كبيرة كهذه لأنهم يعرفون النتيجة، إلا في أزمة مارس عام 1954 وبعد أن أُعطوا الضوء الأخضر من الثورة”.

هذه المحاكمة قد وصفها الكثيرون -ومنهم مؤيدون لحركة الضباط- بالمحاكمة غير العادلة، حيث أشار الكثيرون إلى الأيدي الخفية التي خربت وقتلت ولم يحاكم أحد منهم. حتى إن  صلاح نصر رئيس المخابرات الحربية، قد ذكر أن أحداث كفر الدوار كان وراءها استفزازات الرأسمالية المستغلة، التي أحست مبكرًا بخط الثورة. كما تحدث عبد اللطيف البغدادي عن المحاكمة، فذكر أنهم كانوا لا بد أن يقابلوا هذا الشغب بحزم وشدة، لإيقاف هذا الاتجاه والعمل على منع تكراره، حتى لا تسري هذه العدوى في شركات ومصانع أخرى.

والغريب في الأمر أن البغدادي يتحدث في نفس الموضع عن اعتداء أحد الإقطاعيين على أحد أقسام الشرطة في الوجه القبلي، اعتراضًا على قانون الإصلاح الزراعي، ولم تحكم نفس المحكمة عليه بالإعدام، بل أصدرت حكمها عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لتفادي إقدام آخرين ممن سيطبق عليهم القانون على الإتيان بنفس هذا العمل.

تحدث العامل محمد سعد محمد جويدة “أنه تصادف أن كان في السجن وقت إعدام خميس والبقري، وأنه كان يراهما مكبلين بالحديد، في الوقت الذي كان فيه ابن حافظ عفيفي يتجول في طرقات السجن بالروب دي شامبر، ثم خرج بعد فترة قصيرة”.

صدر الحكم بالإعدام ونفذ وسط حالة من حالات التأييد من قبل الكثير من القوى السياسية، ومنها بعض التنظيمات الشيوعية. وانقسم العمال ما بين التأييد لحركة الجيش والدعوة بالضرب بيد من حديد على الخونة، وآخرين رفضوا الحكم.وأصدرت اللجنة التأسيسية لاتحاد النقابات، التي اجتمعت بالنقابات بدعوة من النبيل عباس حليم عضو حزب العمال، بيانًا أيدت فيه الحكم، وطالبوا بإعادة النظر في التشريعات العمالية، وتمثيلهم في اللجان التي تقرر لهذا الغرض، وتعميم الاشتراكات الإجبارية في النقابات.

  وعلى الرغم من كل ما حدث، فقد استمرت الحركة فترة من الزمن، فطبقًا لفتح الله محروس “إعدام خميس والبقري سبب لنا حالة من الاستنفار شديدة جدًّا، ليس للشيوعيين فقط، ولكن لكل العمال. لم تحدث حالة فزع. وأذكر أنه بدأ تكثيف الاستغلال الرأسمالي والقمع داخل المصانع. كان يوجد حول كل مصنع من مصانع الرمل وخاصة مصانع الغزل والنسيج قوات من الجيش، وزاد توقيع الجزاءات والضرب والإهانة. وبدأنا نقاوم، اتفقنا في مصانع الشركة العربية وشركة الطويل والمتحدة على عدم إدخال أحد من المسئولين أو رؤساء العمل، وأن من يدخل إلى العنابر نقوم بتخييشه -أي إلباسه شوال خيش وضربه- والتخييش حتى لا يرى من يضربه. وقد استمر هذا خمسة عشرة يومًا، لم نكن نسمح فيها بدخول أحد إلى العنابر إلا لكاتب المرور ليسجل اليوميات”.

وبعد أن ضربت السلطة ضربتها، حاولت من جهة أخرى استمالة العمال، بتقديم القليل من مطالبهم. وهنا تأتي شهادة محمد نجيب الذي قال “بعد إعدام خميس والبقري في ظروف مضطربة، وحتى لا نفقد جمهرة الشعب العظمى...أعددنا للعمال قانون العمل الجديد، الذي أعده وأشرف عليه عبد المنعم أمين رئيس المحكمة العسكرية في محاكمة كفر الدوار، وكان المشروع الجديد يلغي حق العمال في الإضراب ويبيح الفصل... وكانت ظروف التخوف من انفجارات عمالية تدفع عددًا كبيرًا من أعضاء المجلس للموافقة عليه... وبعد اعتراض خالد محيي الدين وتهديده بالاستقالة، وتأييدي له في رأيه، أعيد المشروع للمناقشة بمنع الفصل بسبب النشاط النقابي، وتأجيل بقية الحقوق إلى حين إقرار الدستور”.

قال عبد المنعم ناطورة “أمسكت ثورة الجيش البلد بقبضة من حديد، وأعلنوا الأحكام العرفية، وعندما بدأ العمال يثورون، دبروا موضوع كفر الدوار، وشنقوا خميس والبقري ليرهبوا العمال، وبعد قتل خميس والبقري، بدأ رجال الثورة يسترضون العمال. وسمحوا بإنشاء نقابات في المصانع على أساس أن يكون أعضاء مجالس إدارات النقابات تحت أيديهم ويأتمرون بأمرهم”. أكد خضر المنشاوي نفس الكلام “في سنة 1954 اعتقلت، كنت في جمعية عمومية لنقابة (الشرق في إمبابة) فاعتقولنا، وسألت الراجل المخبر، بقوله أنتم اعتقلتونا ليه؟ فقال إحنا عاوزين مجلس إدارة أخف وطأة”. وأضاف خضر “بعد انقلاب 1952 نشطت المباحث العامة في تشكيل نقابات مصنعية للعمال بهدف تفتيت وحدة الطبقة العاملة وإضعاف النقابات العامة، دي كانت معركة واضحة وصريحة بينا وبينهم، وفشلت خطة المباحث بسبب عدم رغبة العمال في النقابات المصنعية نتيجة لنشاط الزملاء الشرفاء... لكن في 1959 بعدما إتملت المعتقلات بالقيادات النقابية، طلع القانون النقابي إللي هو على أساسه قامت التقسيمة النقابية الموجودة في النقابات دلوقتي. فعمل لجان نقابية في الشركات والمصانع، ولغى النقابات العامة وعمل نقابة عامة واحدة على نطاق القطر. وده ما لقاش مقاومة كبيرة لأن الناس كانت بدأت تؤيد عبد الناصر بعد تأميم القناة ومؤتمر باندونج، فيعني دخلت المسألة في زمرة التأييد”.

التشريعات النقابية في الحقبة الناصرية

لم يأتِ القانون هذه المرة بناء على مطالبة الحركة العمالية بإصداره، والاحتجاج للضغط من أجل ذلك، كما أنه لم يأتِ بالكثير فيما يخص التنظيم. فقد سمح لعمال الزراعة بالحق في التنظيم، وسمح بتأسيس اتحاد عام، ولكنه لم يسمح بتأسيسه فعليًّا إلا بعد سنوات من إصدار القانون، وجاء في القانون لأول مرة محاولة عزل العمال في القواعد عن النقابات، من خلال اقتطاع الاشتراك من أجر العامل دون طلبه، والإجبار على دخوله النقابة. أكد القانون على الكثير من المحظورات على الحركة، و تشديد العقوبات فيما يخص التنظيم خارج شروط القانون. وما أتى به هذا القانون يدعونا لطرح هذا السؤال: لماذا أصدرت السلطة في هذا الوقت هذا التشريع إذن؟

كانت سلطة الضباط في هذه المرحلة المبكرة تريد قاعدة اجتماعية لها من العمال والفلاحين، فبالإضافة إلى ما أوردناه من شهادة محمد نجيب في هذا الأمر، ذكر البغدادي أنه أثناء جلسة مجلس قيادة الثورة، قال جمال عبد الناصر “هذه الثورة ليست لها قاعدة شعبية تعتمد عليها، وليس هناك من يؤيدها من الشعب أو الجيش، وأن الذين قاموا بها 90 ضابطًا، وصلوا الآن إلى 50”. وقال بغدادي إنه علق على كلامه “معنى هذا أننا نفرض أنفسنا على هذا البلد؟”، وإن جمال رد بالإيجاب.

إن حركة الضباط تلك تريد قاعدة اجتماعية تأتمر بأمرها، ولا تعارضها، فكانت تريد للتنظيمات النقابية لهذه الفئات أن تكون تحت سيطرتها الكاملة، لذا في رأيي، فإنها لم تعتمد في هذه الفترة على أن تقوم القوانين بهذا الأمر، بل اعتمدت أكثر على القمع، الذي استخدمت فيه كما سنرى طرقًا وحشية، حتى تفزع الطبقة العاملة. كما اعتمدت سياسة الاعتقال لكل القيادات المهمة في الحركة النقابية، وأغلبهم من الشيوعيين، حتى يتأتى لها إحكام سيطرتها على الاتحاد العام، والنقابات العامة. وحين استتب الأمر لها أتت القوانين فيما بعد لتنزل بهذه السيطرة إلى أسفل.

قانون 319 لسنة 1952   

أهم ما جاء به مختلفًا عما في القانون 85 لسنة 1942، السماح للعاملين بالزراعة والممرضين وعمال المستشفيات بتأسيس نقابات لهم (المادة 1 و المادة 2)، وهذا ما كان ممنوعًا من قبل.

استمر الحد الأدنى لتأسيس النقابات المصنعية 50، وفي النقابات المهنية في القرى نزل العدد إلى 30 عامل زراعي في القرية الواحدة و200 عامل بالنسبة إلى بقية نقابات المهن، وسمح بتكوين اتحادات نوعية بين النقابات التي تعمل في مهنة واحدة، ونصت على وحدانية النقابة المادة 3، المادة 7، المادة 28. وأضيفت المادة 29 لكي تعطي هذه الاتحادات الحق في أن تؤسس فيما بينها اتحادًا عامًّا واحدًا على مستوى الدولة المصرية، للإشراف على شئون النقابات وتوجيهها توجيهًا موحدًا، وللدفاع عن المصالح المشتركة التي تهمه.

بقي منع النقابات الاشتغال بمسائل سياسية أو دينية الوارد في المادة 18، وكان ذلك المنع موجودًا وقت استخدمت النقابات لترجح كفة الفريق الذي يريد البقاء في الحكم في أزمة مارس 1954.

أسقط القانون 319 مادة حق العامل في الانسحاب من النقابة وقتما يشاء، بل إن المادة 5 من القانون أجبرت خُمسي عمال المنشأة على الانضمام إلى النقابة، حيث نصت على أنه لو وصل عدد أعضاء النقابة إلى ثلاثة أخماس مجموع عمال المنشأة، اعتبر الباقون أعضاء في النقابة. وأباحت خصم اشتراك العامل من مرتبه لدى صاحب العمل، بناء على طلب كتابي من النقابة وليس من العامل. ويأتي هذا استجابة كما سبق ورأينا لمجموعة النقابيين الموالين للسلطة. وأعطت المادة 11 الحق لأعضاء مجلس إدارة النقابة للتحقيق مع العامل قبل فصله، ويصدر قرار الفصل برأي ثلثي أعضاء مجلس الإدارة، بعد أن كان الأمر متروكًا للنقابة.

استمرت وزارة الشئون الاجتماعية في الهيمنة على النقابات، بداية من عدم ممارسة النشاط إلا بعد الإيداع المادة 14، وإن أصبح حل النقابات ليس بيد الوزير مباشرة، ولكن القانون أجاز له اللجوء إلى المحكمة لتفصل في الأمر، ويكون حكمها نهائيًّا.

استمر الإلزام الذي كان موجودًا في قانون 85 لسنة 1942 بالسجلات التي يحددها وزير الشئون الاجتماعية بقرار منه، وإعطاء الحق لمفتشي الوزارة بالاطلاع على هذه السجلات في مقر النقابة (المادة 19) مع إضافة “وعلى مجلس الإدارة أن يعلن الأعضاء كل ستة أشهر ببيان مفصل عن الإيرادات والمصروفات”. كما استمر الأمر بتسليم نسخة من حسابها الختامي السنوي لوزارة الشئون الاجتماعية، خلال ستة أشهر من نهاية سنتها المالية، مرفقًا به محضر اجتماع الجمعية العمومية التي اعتمدته. مع إضافة اعتماد الحساب الختامي من محاسب قانوني (المادة 20).

ألزمت المادة 21 النقابات والاتحادات بإخطار مدير مكتب العمل الواقع في دائرة اختصاصه، باجتماع جمعيتها العمومية قبل انعقادها بسبعة أيام على الأقل.

أتت المادة 33، والمادة 34 بعقوبات أشد، فقد أصبح السجن لمدة تصل إلى ستة أشهر، بعد أن كانت في القانون 85 لا تزيد عن شهر. وغرامة لا تزيد عن مائة جنيه، بعد أن كانت لا تزيد عن عشرة جنيهات أو بأحدهما. وذلك لنفس الأسباب السابق ذكرها في المادة 29، والمادة 30 من القانون 85، أنه  في حال أطلقت جماعة على نفسها نقابة أو اتحادًا بخلاف القانون، أو أعطى عضو مجلس إدارة النقابة أي معلومات غير صحيحة للموظفين.

لم يتأتَ للقانون أثره على الحركة العمالية والنقابات، سوى باستخدام العنف مع العمال في احتجاجاتهم، والاعتقال لأعداد كبيرة من قيادات النقابات، حتى تخلو الساحة للتابعين للسلطة، ليتبوأوا المناصب القيادية في النقابات والاتحاد.

يقول بكلانوف إنه في هذه المرحلة، أظهرت الطبقة العاملة قوتها المتزايدة، وزيادة تأثير العناصر الراديكالية في صفوفها خاصة الشيوعيين، مما دعا الحكومة في الأعوام بين 1952 - 1954 إلى حل بعض المنظمات النقابية، وتعريض بعض القادة النقابيين للاضطهاد. فقد اعتقل معظم القادة النقابيين الشيوعيين في هذه الفترة.

وقد استمرت الحركة فيما يبدو في ممارسة حقها في الإضراب بكثرة حتى عام 1954، ولكنها قوبلت بعنف لم تشهده من قبل، كما يذكر سيد ندا أنه «في إضراب الشوربجي عام 1953 قبضوا على ثلاثة آلاف عامل، وأن زكريا محيي الدين اقتحم جدران المصنع بالدبابة، لأن العمال كانوا مكهربين البوابات، ولم يسع سجن مصر العمال، فقاموا بتوزيعهم على السجون». ويكمل: «كما قامت حركة الجيش الرجعية بإطفاء الأنوار، وخطفوا مندوب العمال أحمد نصار وقطعوه وألقوا به في الترعة، وعندما تكلمت زوجته وأولاده أعطوهم 300 جنيه وهددوهم بنفس المصير». وعن نفس الإضراب تحدث أحمد الجبالي أحد أعضاء مجلس إدارة النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج والتريكو والصباغة وملحقاتها بالقاهرة وضواحيها، بأن وفاء حجازي قابل مجلس إدارة النقابة، وطلب منهم إدانة الإضراب، ولكنهم رفضوا، يكمل جبالي «عرفت من مصادر عديدة منها وفاء حجازي، أنه تم اعتقال خمسمائة شخص بسبب الإضراب، ولكن لا أعرف عدد الذين ماتو أو جُرحوا».

وبالنسبة إلى الاتحاد، فقد كانت سلطة يوليو تخشى من وحدة الحركة العمالية وقيام اتحاد لها، لذا فقد وقفت في وجه تكوين الاتحاد لأكثر من خمس سنوات -على الرغم من تأييد قيادته لإعدام خميس والبقري، وعلى الرغم من السماح به في القانون- إلى أن اطمأنت لطريقة عمله، واختارت من يوجدون على رأسه.

وعن اللجنة التأسيسية للاتحاد العام لنقابات العمال، فقد تكونت بموافقة وزير الشئون الاجتماعية ومصلحة العمل كما ذكر طه سعد عثمان، في الوقت الذي كان عمال كفر الدوار يحاكمون، وكانت ترسل الوزارة مندوبيها إلى الأقاليم، وتطوف المناطق العمالية لدعوة النقابات للاشتراك في المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام، الذي حدد لعقده 14-16 سبتمبر 1952، إلا إنه في يوم 12 سبتمبر نشر في الجرائد خبر تأجيل المؤتمر، من قبل وزارة الشئون الاجتماعية.

وعلى الرغم من أن اللجنة التأسيسية قد تشكلت بعد اتصالات سرية بين سعيد عبد المغني وأحمد طه وبين مجلس قيادة الثورة، إلا إن التأجيل كان بناء على نصائح رجال الأمن لمجلس قيادة الثورة، وتنبيههم إلى خطورة تكوين الاتحاد. تلا ذلك نصائح الأمن لمجلس قيادة الثورة بإبعاد العناصر الحمراء من اللجنة التأسيسية، وكانوا ما يقرب من نصف اللجنة. ثم حجبت اللجنة التأسيسية حتى تأسست هيئة التحرير، وتولى أحمد عبد الله طعيمة شئون العمل والعمال بها. تأسس المؤتمر الدائم لنقابات عمال جمهورية مصر العربية، الذي ظل يمارس نشاطه من أواخر 1953 وحتى 1957. ويقول عبد السلام عبد الحليم «يمكن القول أن الثورة عندما شعرت بضرورة تكوين جهاز عمالي، لمقابلة الوفود وإرسالها وليتحمل مسئولية قيادة الحركة العمالية، سمحت بتكوينه».

وعن كيفية التكوين، فقد بدأت بدعوة للنقابيين من قبل طعيمة، الذي أدار الاجتماع، وطرح فكرة تكوين المؤتمر، واختار النقابيون فتحي كامل ليكون سكرتير المؤتمر، على أن يختار عشرين عضوًا من النقابيين، وفي اليوم التالي اُنتخب من تم اختيارهم من قبل. ولم يكن من بينهم المنظمون النقابيون الشيوعيون. يبدو أن النقابيين اختاروا ممثليهم وفق هوى السلطة حتى توافق على تكوين مؤتمرهم. ولم يكن للمؤتمر أي أثر فعال  في مجال العمل المحلي للحركة العمالية المصرية، فقد كان مجرد اسم يجتمع حين تكون الثورة في حاجه إليه، لكي يثبت للثورة إمكانية قيام تجمع عمالي دون أن يمثل خطرًا عليها.

وأتت أحداث مارس 1954، واستخدم المؤتمر لصالح فريق ضد الآخر، وإن كانت هناك بعض الآراء تقول إن موقف المؤتمر وبعض النقابات، أتى نتيجة خوفهم من عودة الأمور إلى سابق عهدها، بعد حل مجلس قيادة الثورة، وعودة الأحزاب القديمة، وقد كان الاجتماع الذي قرر فيه بعض النقابيين الاعتصام والإضراب لتأييد الثورة وبقائها بدعوة من الصاغ طعيمة.

ولم يكن الكثير من النقابيين والعمال البعيدين عن المؤتمر، مع قرار بقاء مجلس قيادة الثورة، بل كانوا يطالبون بالديمقراطية وعودة الحياة السياسية، فقد تحدث عبد المنعم ناطورة عن ذلك فقال «في أحداث مارس 1954 كان نجيب يرفع شعار الديمقراطية، وعودة الجيش إلى ثكناته وعودة الأحزاب، وأيد الشعب هذا الاتجاه، واستعان أصحاب الاتجاه المعادي لمحمد نجيب بالصاوي... محمد الصاوي رئيس نقابة عمال النقل في القاهرة، والذي اتفقوا معه على أن يحصل على مبلغ معين ويقوم هو وعمال نقابته بالإضراب تأييدًا لهم. كان عندنا في المصنع -الطويل- اعتصام وإضراب عن الطعام في دار النقابة، من أجل مطالب رفضت الشركة الاستجابة لها. كان قد مر على الإضراب عن الطعام خمسة أيام، وقررنا فض الإضراب والاعتصام قبل أن تتحقق مطالبنا، حتى لا يعتبر موقفنا مساندًا للصاوي... وفي منطقة الرمل بالإسكندرية ظلت المصانع تعمل إلى أن رفعت الحكومة الكهرباء».

أكد فتح الله محروس الكلام نفسه، مضيفًا أن «الليثي عبد الناصر، وكان عضوًا بارزًا في هيئة التحرير، أتي إلينا وعرض مقابل تنفيذ مطالب العمال، تحويل الإضراب إلى إضراب لتأييد الثورة»، كما أضاف بأن الحرس الوطني وعناصر الجيش، كانوا يرتدون ملابس مدنية في المظاهرات، ويهتفون تحيا الثورة، على اعتبار أنهم مدنيون.

ولم يكتفِ فريق عبد الناصر بذلك، فقد أقر الكثير من النقابيين، ومنهم محمد خضر المنشاوي بذهاب «طعيمة ومعاه محمد العقيلي، وسيد خلاف النقابيين الصفر بتوع النقل والمحلات التجارية للمعتقل» ثم إخراجهم منه، في اجتماعهم بالنقابيين الذين خرجوا من معتقلات مختلفة، حيث عرضوا عليهم المشاركة في الإضراب المُطالب بعدم تخلي الجيش عن الحكم، ولكنهم رفضوا. وأضاف المنشاوي «إحنا وقفنا ضد الإضراب ده، وكانت النقابة قوية وقتها، وخدنا فعلًا قرار، وشغلنا كل مصانع النسيج، واضطرت الحكومة إنها تقطع التيار الكهربائي علشان يبقى إضراب عام».

لم يكن هذا كل ما فعله الضباط للاحتفاظ بالسلطة، فقد ذكر صلاح نصر في مذكراته ما سمَّاه الجانب العسكري، حيث طُلب من قائد الكتيبة المسئولة عن الطيران الخروج بطلعة جوية، وكذلك بالنسبة إلى مجموعة من المدافع المضادة للدبابات. كانت كلها للإيحاء بأن الجيش بالإضافة إلى الشعب يرغبون في استمرار مجلس قيادة الثورة، وعدم عودة الحياة النيابية.

أقر قادة الجيش بأن الأمر لم يخلُ من الرشاوى، فقد ذكر بغدادي أنه في أثناء تصفية الجو بينه وبين عبد الناصر «ذكرت ضمن ما ذكرت، ما قد سمعته عن إعطاء الصاوي محمد الصاوي رئيس نقابة عمال النقل بالقاهرة، مبلغ أربعة آلاف جنيه تشجيعًا له لدفع عمال النقل إلى الإضراب، بعد أن صدرت قرارات 25 مارس 1954، منتقدًا هذا التصرف، ولكن جمال ذكر أنه بذلك سبق خالد محيي الدين ويوسف منصور صديق لأنهما كانا ينويان عمل الشيء نفسه».

جاء الاتحاد العام بعد أن أثبتت المجموعة الموالية لسلطة يوليو في النقابات أنها لا تمثل خطورة، واطمأنت أجهزة الأمن لعدم خطورة تكوين اتحاد، فسمحت بقيامه في 1957، كما اتصل المؤسسون بهيئة التحرير لضمان عدم معارضتها، وقابل عبد الناصر بعض النقابيين الذين من المحتمل أن يكونوا في قيادة الاتحاد، بعدها انعقد المؤتمر التأسيسي لمدة جلسة واحدة قصيرة في 30 يناير 1957، لم يكن مؤتمرًا للقواعد العمالية بل كان للمندوبين، وعددهم 101، يمثلون 15 اتحادًا نوعيًّا ونقابتين. انتخب هذا الاجتماع المجلس التنفيذي للاتحاد وهيئة المكتب، ووافق على لائحة النظام الأساسي، هكذا تكون الاتحاد ومارس نشاطه تحت وصاية السلطات، كما اعتمد في تأسيسه وتمويله على الصاغ طعيمة. وقد ذكر أمين عز الدين أن اختيار أنور سلامة لرئاسة الاتحاد كان لعبد الناصر، أخذًا برأي محمد وفاء حجازي، وحسين الشافعي.

وقد كانت التشريعات التي تصدر في هذه الفترة معبرة عن التغيرات في الأوضاع النقابية، وملبية لمطالب النقابيين الموالين للسلطة، متخذين كل الوسائل للسيطرة على النقابات والنقابيين. وبعد أن كانت سياسة ضباط يوليو في بداية حكمهم إنشاء نقابات مصنعية، بهدف إضعاف النقابات العامة، إلا إنهم في عام 1959 بعد اطمئنانهم لولاء قيادات النقابات العامة لهم، أصبح الخطر هو النقابات القاعدية المرتبطة بالعمال، لذا أتى القانون ليجعل العضوية مباشرة للنقابات العامة، وهمش النقابات القاعدية. فأتى القانون 62 لسنة 1964 ليكمل ما بدأه القانون الذي سبقه، من فرض السيطرة على القواعد. كما بدأت فترة المزايا للنقابيين الموالين للسلطة، عبر منحهم حق التفرغ من العمل في الشركات والمصانع، وحتى لا يكون هناك فرصة للاحتكاك بين هؤلاء النقابيين والعمال في أماكن عملهم، مما قد يترتب عليه الضغط عليهم ليطالبوا بما لا ترضى به السلطة. وتم النص على اختصاصات النقابات العامة ورفع الكفاءة المهنية لأعضائها، والمساهمة في تطوير الصناعات، وذلك تماشيًا مع ما كان يشاع وقتها من تحالف قوى الشعب العامل.

القانون512 لسنة 1954 

استبدل البند أ في المادة 1 من القانون 319 فقط في تعداده لمن لا يسري عليهم القانون. ذكر موظفي الحكومة، وعمال وزارة الحربية وجميع المصالح التابعة لها وعمال البوليس الدائمين.

القانون143 لسنة 1955 

قام بتعديل المادة 5 بحيث أبقت على الجزء الخاص بإجبار خمسي النقابة على الانضمام إلى النقابة، وأجازت لأعضاء النقابات الانضمام إلى النقابات المهنية أو الحرفية، وفي هذه الحالة يعتبر مستقيلًا من نقابة المنشأة. وأضافت المادة 35 مكرر التي منحت موظفي الإدارة العامة للعمل صفة الضبط القضائي فيما يخص تطبيق القانون، وحقهم في الاطلاع على محررات النقابات وسجلاتها، وطلب البيانات اللازمة من النقابات وأصحاب الأعمال.

القانون91 لسنة 1959 

قانون العمل الذي شمل حقوق العمل وضمنها النقابات، جاءت النقابات في الباب الرابع بدءًا من المادة 160.

أهم ما جاء به أنه سمح لخدم المنازل والعمال المتدرجين، بالانضمام إلى نقابة مهنتهم، أو صناعتهم (المادة 160). ولما كان القانون لا يسري على عمال الحكومة والمؤسسات العامة، إلا بقرار من رئيس الجمهورية طبقًا للمادة 4، فظل محظورًا على الموظفين تأسيس نقابات، حتى صدور قرار رئيس الجمهورية رقم 919 لسنة 1961 بسريان أحكام الباب الرابع الخاص بالنقابات، على عمال الحكومة والعاملين بالمؤسسات والهيئات العامة.

ظلت الوحدانية مفروضة على نقابات العمال، وجردت النقابات القاعدية من الشخصية الاعتبارية، حيث أصبح أساس التنظيم هو النقابات العامة التي ينضم إليها العامل مباشرة (المادة 160)، وألزمت النقابات التي كانت موجودة وقت صدور القانون بتوفيق أوضاعها، خلال أربعة أشهر من صدور القانون، وإلا اعتبرت منحلة (المادة 6)، كما ألزمتها بالانضمام إلى النقابات العامة (المادة 7) من مواد الإصدار. وأعطت الحق للنقابات العامة أن تشكل نقابات فرعية في المديريات والمحافظات، كما أنه من حقها أن تشكل لجانًا نقابية مصنعية، إذا بلغ عدد العمال المنضمين إلى النقابة خمسين عاملًا فأكثر (المادة 169)، ولا يتم انتخاب أعضاء مجلس إدارتها، بل يتم اختيارهم وفقًا لللائحة. وأتاحت للنقابات العامة تكوين اتحاد واحد على مستوى الإقليم (المادة 182)، تحدد لائحته القواعد التي تتبع في تمثيل النقابات المنضمة إليه في مجلس الإدارة والجمعية العمومية، وكذلك الاشتراكات، بما لا يزيد على 10 % من مجموع الاشتراكات السنوية التي تجمعها النقابة من أعضائها.

وأضافت المادة 169 عبارة “ولا يجوز لمن فصل نهائيًّا من المؤسسة أن يستمر في عضوية اللجنة النقابية بها”.

وأتت المادة 173 بنفس الأحكام السابقة بالنسبة إلى فصل العامل من النقابة. وبخصوص فصل عضو مجلس الإدارة، نصت على أنه لا يجوز فصله إلا بناء على قرار من الجمعية العمومية للنقابة.

إمعانًا في السيطرة على النقابات ظهر لأول مرة في المادة 164 -والخاصة بلائحة النظام الأساسي للنقابات- وضع وزير الشئون الاجتماعية والعمل نموذجًا للائحة النظام الأساسي للنقابات، التي تسترشد بها النقابات في وضع لوائحها. والمادة 180 جاء فيها أن لوزير الشئون الاجتماعية والعمل أن يطلب من المحكمة حل النقابة، وذكرت لذلك سببين، الأول هو مخالفة النقابة أحكام باب النقابات من القانون رغم إنذارها، وجاء السبب الثاني “إذا أصدرت النقابة قرارًا أو أتت عملًا من شأنه ارتكاب إحدى الجرائم الاتية...” وعددتها  بأربع حالات من قانون العقوبات، وهي: التحريض على قلب نظام الحكم... وترك العمل أو الامتناع عنه عمدًا ممن يقوم بخدمة عامة أو الخدمة في المرافق العامة، أو يعمل لسد حاجة عامة، وكذلك المحرضين أو المحبذين أو المشجعين. استعمال القوة أو العنف أو الإرهاب أو التهديد أو التدابير غير المشروعة في الاعتداء أو الشروع في الاعتداء على حق الغير في العمل، أو أن يستخدم أو يمنع عن استخدام أي شخص، أو في أن يشترك في جمعية من الجمعيات. أو التحريض على ارتكاب إحدي هذه الجرائم، ويكون حكم المحكمة في الحالتين نهائيًّا.

هذا في الوقت الذي أتت عقوبة صاحب العمل -الذي لا يلتزم بخصم اشتراكات النقابة بناء على طلب من مجلس إدارتها، وتوريدها للنقابة- متمثلة في الغرامة ما بين جنيهين وعشرين جنيهًا (المادة 230). وعقوبة صاحب العمل الذي يفصل العامل لإرغامه على الانضمام أو الانسحاب من النقابة أو بسبب نشاطه النقابي، اقتصرت على غرامة ما بين 20 جنيهًا ومائة جنيه، وأسقطت ما كان موجودًا في القانون 85 من نفس العقوبة عليه -وكان نفس الشيء في القانون 319 في حال اتخاذه أي إجراء آخر من شأنه الحد من حرية العامل النقابية.

القانون رقم 62 لسنة 1964 كقانون خاص بالنقابات

ظلت به النقابات العامة هي الأساس، كما ظلت شروط تشكيل لجنة نقابية في المنشأة من قبل النقابة العامة كما هي (تعديل المادة 169)، وعلى الرغم من نصه على الشخصية الاعتبارية للجنة النقابية، إلا إنه حدد اختصاص اللجان النقابية التي تشكل طبقًا للائحة النقابة العامة (المادة 161) في عدد من الاختصاصات الخاصة بعمالها، وهي الصرف من الاعتمادات المخصصة لها، وبحث منازعات العمل الفردية لعمال المنشأة، وبحث المنازعات الجماعية دون عقد أي اتفاق جماعي، إلا بعد موافقة النقابة العامة، وتنفيذ برامج الخدمات التي تقرها النقابة العامة و في حدود اختصاصها.

كما بقي النص على تأسيس لجنة نقابية واحدة، ونقابة عامة واحدة لعمال المهنة (المادة 162)، واتحاد عام واحد هو الاتحاد العام للنقابات (المادة 182)، وألزمت النقابات العامة والاتحاد بتوفيق أوضاعهما طبقًا للقانون بحد أقصى 31 يوليو 1964، وإلا اعتبرت منحلة هي والاتحاد (المادة1).

تتكون الجمعية العمومية للنقابة العامة من ممثلين للجان النقابية، وذلك طبقًا لقرار وزير العمل.  ولها أن تُكون لجانًا فرعية لها في المحافظات التي بها عشر لجان نقابية تنتمي إليها، وتحدد لائحة النظام الأساسي كيفية تكوينها وقواعد وصلاحيات النقابات الفرعية وطريقة إدارتها (المادة 169). تعمل النقابات العامة على رفع كفايتهم الإنتاجية، وعلى تمكينهم من الإسهام في التطوير الصناعي، وتصون حقوق العمال ومصالحهم، كما تعمل على رفع مستواهم المادي والثقافي والاجتماعي (المادة 160). يحدد وزير العمل هذه المهن والصناعات. كذلك أعطت المادة 161 الحق للنقابات العامة في إبرام عقود العمل المشتركة، بالإضافة إلى إنشاء الجمعيات التعاونية وجمعيات الادخار والنوادي الرياضية والثقافية، وهذا الحق كان موجودًا من قبل.

أتاحت المادة 183 للاتحاد تشكيل اتحادات محلية بالمحافظات، بالشروط والأوضاع التي يصدر بها قرار وزير العمل.

وذكرت المادة 165 كيفية تقسيم إيرادات النقابات، بحيث لا تزيد المصاريف الإدارية للنقابة العامة واللجان النقابية عن 30 %، ويكون نصيب اللجنة النقابية من اشتراكات أعضائها فقط 30 %، تصرفها بمعرفتها على العمال في الشئون الصحية والثقافية والاجتماعية والمهنية. وأجازت المادة للنقابة العامة تعديل النسب الواردة بعد ترخيص من وزير العمل.

لأول مرة تحدد مدة للدورة النقابية، وهي سنتان (المادة 170)، ونصت المادة على أن “لا يجوز احتفاظ أي عامل بعضوية مجلس إدارة تشكيلين نقابيين في آن واحد”.

بقيت قرارات قبول أو رفض انضمام الأعضاء للنقابات العامة، وكذلك فصلهم، في يد مجلس إدارة النقابة العامة (المادة 173، المادة 174) ولا يجوز فصل عضو مجلس الإدارة في النقابة العامة أو اللجنة النقابية، إلا بموافقة الجمعية العمومية لكل منهما.

 وأتت المادة 167 لتفرض الوصاية على اللجان النقابية والنقابات العامة من قبل الاتحاد، بخلاف اختصاصت كل منهم،  فنصت على أن تخاطب الجهة المختصة، في حال اعتراضها على تكوين اللجنة النقابية أو النقابة العامة، الاتحاد العام للعمال ومجلس الإدارة، والحل يكون عن طريق المحكمة كما سبق.

ظلت كل المواد الخاصة بهيمنة وزارة العمل على النقابات، والتي ذكرت من قبل، وأتاحت المادة 175 لأول مرة نزول النقابات عن جزء من أموالها لأغراض قومية بشرط موافقة وزير العمل.

بدء الامتيازات لأعضاء مجالس إدارات النقابات، بمنحهم حق التفرغ بأجر كامل تدفعه المؤسسات الحكومية للعاملين بها، وتحددها النقابات العامة في تعديل المادة 185، ويصدر وزير العمل قرارًا بشروط و أوضاع التفرغ.

تمت إضافة المادة 231 بغرامة لا تزيد عن 100 قرش لكل عضو في نقابة، تخلف عن الإدلاء بصوته في انتخابات مجلس إدارتها.

كذلك تم تعديل المادة 171، لكي يحدد وزير العمل شروط العضوية، في مجلس إدارة النقابات العامة واللجان النقابية، واللجان الفرعية، بعد أن كان محددًا بالقانون من قبل.

بداية من القانون 85 وحتى إصدار القانون 62 كانت أموال النقابات المحلولة سواء اختياريًّا، أو بحكم محكمة، تئول إلى وزارة الشئون الاجتماعية والعمل، لإنشاء نقابة جديدة أو لتوزيعها في أمور نافعة للعمال. في المادة 181 من القانون 62 أصبحت تئول هذه الأموال إلى الاتحاد العام، لإنشاء نقابة جديدة أو بتوزيعها في وجوه نافعة للعمال، إذا لم تنشأ نقابة خلال سنة من حلها بموافقة وزير العمل. ظلت كل العقوبات على النقابات وأسباب الحل كما هي في القانون 91 لسنة 1959.

كان لهذين القانونين مع بقية الإجراءات التي اتخذتها السلطة، أثر في إضعاف الحركة العمالية بشكل عام، وإضعاف الحركة النقابية بشكل خاص. لم تعد تهتم النقابات العامة والاتحاد العام بمطالب العمال، فقد كانت تحتل رأس الهرم النقابي، بدون أن تضطر إلى النزول للقواعد، حتى إنها لم تهتم بتأسيس نقابات قاعدية لها.

عدد عبد السلام عبد الحليم أسباب ضعف وتفتت الحركة من وجهة نظره، والتي رأى فيها أن قانون 91 لسنة 1959 صدر لعلاجها عن طريق مركزية التنظيم “لقد فترت العلاقة بين القيادات النقابية وقواعدها، لأن العضوية الإلزامية والتحصيل التلقائي للاشتراكات، جعل القيادة النقابية لا تهتم بتوطيد علاقتها بالقواعد”. وعن مشكلات النقابات بعد 1959، ذكر عبد السلام عبد الحليم منها، عدم تكوين معظم النقابات العامة نقابات فرعية لها في المحافظات، حتى إن عددًا كبيرًا من العمال، كانوا لا يعرفون عنوان النقابة، وبقاء القادة النقابيين هم أنفسهم لا يتغيرون في أي انتخابات. كذلك تحدث عن ميوعة الحركة، فذكر أنه لم يجد أثرًا لكلمات مثل ساعات العمل والأجور والتأمينات، مما زعزع ثقة العمال بها.

ويبدو أن هذا الوضع استمر. فردًّا على ما قاله عامل في شركة الدلتا لحليج الأقطان سنة 1976، عن انسحابه من النقابة هو وزملاؤه “لأنها ما بتعملشي لهم حاجة”، وأنه لا يوجد لجنة نقابية في شركته، كتب عبد المنعم الغزالي مقالًا بعنوان (الانسحاب النقابي مسئولية من؟)، جاء فيه “التنظيم النقابي منذ إعادة بنائه سنة 1964 يوجه إليه النقد على أساس أنه تنظيم دفتري، لا يعيش حياة العمال ومشاكلهم، قيادته بعيدة كل البعد عن هموم الناس... هي غائبة عن النضال النقابي من أجل تحسين ظروف العمل والأجر... وليس أدل على فقدان القيادة النقابية وروح المسئولية، من موقفها السلبي من العاملين الذين تقدموا بطلبات انسحاب من النقابة ولم تتحرك”.

الفترة ما بين 1964 - 1976

خلال الفترة ما بين تأسيس الاتحاد وحتى 1967، بقي الاتحاد أداة في يد السلطة، وأجبرت النقابات على دخوله، ويبدو أن الحركة كانت قد ضعفت في هذه الفترة بفعل القمع، ومحاولات الاحتواء، وتردد التنظيمات الشيوعية -التي كانت تضم الكثير من النقابيين خارج الاتحاد- ما بين تأييد السلطة تارة، ومواجهتها تارة أخرى، ثم تنحية المطالب الخاصة بالطبقة العاملة لصالح القضية الوطنية في أحيان أخرى. ثم كانت قبضة 1959 للشيوعيين، التي كان بها عدد كبير من القيادات النقابية، والتي انتهت بالاتفاق مع السلطة على حل الحزب الشيوعي المصري لنفسه، وما تبعه من تبعثر النقابيين وانشغالهم في تدبير عيشهم، خصوصًا من كان منهم ضد قرار حل الحزب الشيوعي، كون السلطة كانت تحاربهم في أرزاقهم، ولا تسمح لهم بالوجود في النقابات.

كذلك كان صدور العديد من القوانين المنفذة لمطالب العمال بتحديد حد أدنى للأجور، وحد أقصى لساعات العمل، وقانون العمل والتأمينات، سببًا في خمود الحركة المؤقت. على الرغم من مقاومة أصحاب الأعمال لها وعدم تنفيذها في الكثير من الأحيان.

ذكر طه سعد عثمان الأثر السلبي لهذه الإجراءات، فقال “حولت هذه الإجراءات عمال القطاع العام إلى شبه موظفين، أعمالهم ثابتة وأجورهم مضمون تصاعدها بالعلاوات، ترتب على ذلك أنه بدلًا من كفاح العمال للحصول على مطالب ترفع مستوى معيشتهم، وتحسن ظروف عملهم، أصبحوا ينتظرون موعد الحصول على العلاوة والترقية، وتلاشى المزاج الصدامي. استمر هذا الوضع حتى منتصف السبعينيات، حيث أدرك العمال خطورة تنفيذ سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أعلنها السادات”.

كذلك ذكر عم طه -كما اعتدنا مناداته- أن ما حدث للنقابات منذ عام 1959 وإلى اليوم، هو عملية تجميع قسري للنقابات بقوة القانون، حتى تستطيع السلطة إحكام القبضة على عنق التنظيم النقابي، فلا ينطق إلا بما تريده السلطة، ولا يعمل إلا ما يخدم أغراضها.

ظل الاتحاد بدون انتخابات منذ عام 1964 وحتى عام 1971، دون أن يصاحب ذلك أي نضال من أجل إجراء انتخابات له، إلا بمطالبة السلطة السياسية بالسماح بها، وهو ما لم يحدث طوال هذه الفترة.

في هذه الفترة كانت قد صدرت القوانين التي تمنح العمال نسبة من أرباح الشركات، وأعطتهم نسبتهم في التمثيل في مجلس الإدارة، وكذلك نسبة 50 % في مجلس النواب. فكانت النظرة في الميثاق الوطني أقرب إلى التصالح ما بين الطبقات، وليس التصارع، لذا كان ينظر إلى النقابات كجزء من إدارة العملية الإنتاجية، حتى إن عبد العزيز بخيت سكرتير مساعد النقابة العامة للنسيج قال سنة 1967  “البعض يظن أن دور النقابات قد انتهى، وبخاصة في القطاع العام. يظن هذا البعض أنه يكفي أن يصدر قانون بتطبيق نظام معين في الأجور، وأن يوكل لإدارة الشركات تطبيقه، دون أن يكون للنقابات دور في ذلك. والحق -مع الأسف- أن هذا هو ما يحدث الآن تقريبًا في الفترة الأخيرة، وقد آن الأوان بعد تجربة دامت سنوات أن نعيد النظر في هذا الأمر... مع إعادة تنظيم الشركات والتوسع في القطاع العام، وتغيير النظم، لتتماشى مع النظام الاشتراكي... نؤكد هنا أن دور النقابات يمكن أن يكون دورًا مساعدًا للإدارة الاشتراكية”.

في هذه الفترة تركزت سياسة الحكومة تجاه الحركة النقابية كسلاح لزيادة فاعلية النظام الاقتصادي الجديد، وزيادة الإنتاجية. فقد ذكر بكلانوف أنه جاء في دليل النقابي الجديد سنة 1964 أن في المجتمع الاشتراكي الذي نقوم ببنائه، يجب ألا تقوم المنظمات النقابية على كل المستويات بالنضال ضد الإدارة وملاك المشروعات، ولكنها يجب أن تتعاون مع الإدارة بهدف حل مشكلات العمال، مثل زيادة الإنتاج وعلاقات العمل. وفي ميثاق العمل الذي صدر بشكل مشترك بين وزارة العمل واتحاد عمال مصر في مايو 1965، أعلن الميثاق رفض النقابات لطرق الضغط والتوقف عن العمل في حالة ظهور اختلافات بين العمال والإدارة، على أساس أن ذلك سينعكس على الإنتاج وسيتعارض مع السلوك الاشتراكي.

بعد هزيمة 1967، وإعلان عبد الناصر استقالته، اندلعت بشكل تلقائي مظاهرات قام بها الكادحون ومنهم العمال، مطالبين ببقائه، والقضاء على الرجعية، وتطهير الجهاز الحكومي، وتطوير الديمقراطية لصالح العمال.

في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، أخذت الحركة العمالية سمات جديدة في إطار التطور الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. فقد جرى إضراب عمال الحديد والصلب في أغسطس 1971، للمطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل. لم ترتب النقابة الإضراب ولكنها لم تعرقله. ولما طالبت الحكومة العمال بوقف الإضراب ولم يتوقف، أرسلت صلاح غريب رئيس اتحاد العمال ليبلغهم بإنذار الحكومة، فحاصره العمال ولم يستجيبوا لطلبه، فحوصر المصنع وتم التشغيل تحت الحصار. كان للإضراب صدى كبير، حتى إن اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي في حضور السادات، ناقشت الموضوع وأقرت بعدالة المطالب، ولكنها استنكرت الإضراب واعتبرته عملًا غير مشروع، وفعل نفس الشيء اتحاد العمال. بعدها فصل عدد كبير من العمال وحوكموا، ونقل آخرون، وعزلت اللجنة النقابية في المصنع لعدم قيامها بمنع الإضراب.

في فترة 1971 - 1972 صدرت قوانين خاصة بتحسين أوضاع القطاع الحكومي، فتصاعدت حركة عمال القطاع الخاص مطالبة بالمساواة، ولعبت فيها دورًا هامًّا العناصر الراديكالية في اللجان القاعدية للنقابات.

بعد أحداث مايو 1971، وفي إطار الحملة من أجل إعادة تنظيم الدولة بإبعاد المؤيدين لعبد الناصر، واليساريين، من أجهزة الدولة، جرت الانتخابات النقابية. خرجت الانتخابات بقيادة ردايكالية ويسارية للعديد من النقابات على المستويين المتوسط والقاعدي. فقد تم تجديد 80% من تركيبة الأجهزة النقابية، مما حدا بالحركة النقابية -رغم جهود العناصر اليمينية في اتحاد عمال مصر- إلى أن تصبح من أهم القوى السياسية الاجتماعية التي عملت على المحافظة على المكاسب الناصرية.

استمرت الحركة في الصعود، ففي عام 1974 وقع 400 إضراب، وفي يناير 1975 خرجت موجة من مظاهرات العمال في القاهرة والمحلة، ومن فبراير حتى مايو 1976 اجتاحت البلاد -ومنها المصانع الحربية- موجة من الإضرابات المطالبة بتحسين ظروف العمل ورفع الأجور. وجاءت كل هذه الاحتجاجات مقدمة لانتفاضة يناير 1977 .

طبقًا لما ذكر بكلانوف، فقد اتسم تطور الحركة العمالية في السبعينيات بزيادة حدة الصراع ما بين اليمينيين الذين كانوا يسعون للمحافظة على مناصبهم في قيادة الاتحاد، وبين قوى اليسار الديمقراطي المعبرة عن الكتلة الأساسية للعمال. وقد أدت تقاليد السيطرة الحكومية القوية على النقابات إلى بقاء اتحاد العمال في أيدي العناصر الانتهازية رغم تنشيط الحركة العمالية.

لم أرَ فيما طالعته من أدبيات، ما يشير إلى مطالبة العمال بتعديل القانون، فقد صدر من النظام الحاكم من بداية الانفتاح الاقتصادي، وفي فترة إقرار المنابر، وعلى الرغم من ذلك ظل على شروطه في وحدانية النقابات، للإبقاء على سيطرته عليها. يشير بكلانوف إلى أن الكثير من الأهداف المذكورة في قانون 35 لسنة 1976 كانت ذات طابع إعلامي، لأنه لم تكن هناك ضمانات أو ظروف لتحقيقها، ويعود السبب في ذلك بدرجة أو بأخرى، إلى سياسة القيادة المصرية منذ منتصف السبعينيات. وأشار بكلانوف تحديدًا إلى ما جاء به من بنود تنص على مشاركة العمال في خطط التنمية... وصولًا إلى زيادة دور النقابات المصرية في الحركة النقابية العالمية، وأن ذلك أتى في إطار توقيع اتفاقية كامب ديفيد.

قوانين النقابات في بداية حقبة الانفتاح

حل قانون 35 لسنة 1976  محل الباب الرابع في قانون العمل رقم 91 لسنة 1959، والخاص بالنقابات، ليتم العمل بموجبه في شأن النقابات.

شمل القانون العاملين في كل القطاعات، بما في ذلك عمال الزراعة وعمال الخدمة المنزلية والعاملين بالحكومة (المادة 2). كما نصت المادة 3 على حرية الانضمام إلى النقابة أو الانسحاب منها، طبقًا للقواعد المنظمة لذلك في لائحة النظام الأساسي للمنظمة النقابية. ونصت المادة 6 على عدم سريان القوانين الخاصة بالاجتماعات العامة، على اجتماعات أعضاء المنظمات النقابية، وذلك للبحث فيما يدخل في اختصاصها، طبقًا لهذا القانون، على أن يكون الاجتماع في مقر المنظمة النقابية.

وبخصوص الأهداف، ذكرت المادة 8 أن هذه المنظمات تستهدف حماية الحقوق المشروعة لأعضائها، والدفاع عن مصالحهم وتحسين ظروف وشروط العمل، وعلى وجه الخصوص: نشر الوعي النقابي، رفع المستوى الثقافي للعمال، رفع الكفاءة المهنية للعمال والعمل على صيانة المال العام وحماية وسائل الإنتاج، رفع المستوى الصحي والاقتصادي والاجتماعي للعمال وأسرهم، المشاركة في مناقشة مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحشد طاقات العمال لتنفيذها. وأجازت نفس المادة لهذه المنظمات إنشاء صناديق ادخار وزمالة وجمعيات تعاونية ونوادٍ رياضية.

تم النص بشكل واضح في القانون على فرض التشكيلات النقابية، وهي الجمعيات العمومية ومجالس الإدارة وهيئات المكاتب (المادة 1). كما تم النص بشكل واضح كذلك على الشكل الهرمي للتنظيم النقابي، حيث تكون قاعدته اللجان النقابية، وقمته الاتحاد العام لنقابات العمال، وبينهما النقابات العامة (المادة 7). أيضًا تم النص على الوحدانية في كل المستويات (المواد 11 و15 و16)، وتم النص على حق تكوين النقابات العامة بما لا يقل عن خمس لجان نقابية.

بقيت اختصاصات كل من المستويات الثلاثة كما هي تقريبًا، بحيث وضعت المستويات الأدنى تحت إشراف وسيطرة المستويات الأعلى. توضع اللجان النقابية والنقابات العامة تحت قيادة الاتحاد العام لنقابات العمال، فيرسم لها سياستها ويضع خططها وبرامجها المحققة لأهدافها داخليًّا وخارجيًّا (المادة 17)، كما أنه من يضع ميثاق الشرف الأخلاقي للعمل النقابي، ويفرض وصايته ليس على النقابات التي تنطوي تحت لوائه فقط، بل على كل العمال. فمن اختصاصاته إبداء الرأي في القوانين والقرارات واللوائح المتعلقة بشئون العمل والعمال. وأعطت المادة 18 الحق للاتحاد في إنشاء اتحادات محلية على مستوى المحافظات، لا تدخل ضمن الهرم النقابي، ويكون إنشاؤها ونشاطها وقواعد عملها طبقًا للائحة الاتحاد. وأصبح إيداع أوراق تأسيس المنظمات النقابية في الاتحاد العام، بالإضافة إلى الوزارة المختصة (المادة 63)، ولكل منهما الاعتراض على إجراءات التكوين وإنذار المنظمة النقابية، ولكل منهما حق اللجوء إلى المحكمة للمطالبة ببطلان التأسيس (المادة 64).

ويضع الاتحاد العام نماذج اللوائح للمنظمات النقابية (المادة 61)، و يضع اللائحة المالية التي تلتزم بها المنظمات النقابية (المادة 62)، وكل السجلات والدفاتر التي تمسك بها النقابات، تكون طبقًا للشروط والأوضاع التي يصدر بها قرار من وزير القوى العاملة بعد موافقة الاتحاد.

وُضع قبول أو رفض العضوية في يد مجلس إدارة المنظمة النقابية (المادة 20). ومُنح حق قرار وقف مؤقت لعضو المنظمة النقابية للمنظمة الأعلى منها، بمقترح من مجلس إدارة المنظمة النقابية الأدنى، إلى أن يعرض أمره على الجمعية العمومية لمنظمته النقابية، وفيما بعد يصدر القرار من مجلس إدارة النقابة العامة (المادة 27).

نصت المادة 23 على احتفاظ العامل المتعطل بعضويته في عضوية النقابة، مع إعفائه من الاشتراك طوال مدة تعطله، كما أجازت للعامل المُحال للتقاعد الاستمرار في عضوية النقابة، مع دفع الاشتراك، وفي الحالتين لا يكون للعضو حق في الانتخاب أو الترشح.

تنعقد الجمعيات العمومية للمنظمات النقابية مرة على الأقل في السنة (المادة 30). تتكون الجمعية العمومية للجنة النقابية من كل أعضائها المسددين لاشتراكاتها (المادة 31). وتتكون الجمعية العمومية للنقابة العامة من ممثلين لكل نقابة، ينتخبهم مجلس إدارة النقابة من بين أعضائها. وتتكون الجمعية العمومية للاتحاد من ممثلي النقابات العامة، ممثلين عن كل نقابة، ينتخبهم مجلس إدارة النقابة العامة، وذلك طبقًا للإجراءات والقواعد التي يقترحها الاتحاد، ويصدر بها قرار من وزير القوى العاملة (المواد 32 و33 و34).

نصت المادة 39 على أنه لا يجوز الاحتفاظ بعضوية مجلس الإدارة في منظمتين نقابيتين، وإذا لم يختر العضو بينهما، تسقط عضوية المنظمة الأدنى.

حددت الدورة النقابية بثلاث سنوات، ولأول مرة تم توحيد مواعيد انتخابات المنظمات النقابية، بالنسبة إلى كل مستوى من المستويات الثلاثة للبنيان النقابي، وأن تحديد هذه المواعيد يكون بقرار من وزير القوى العاملة، بعد موافقة الاتحاد، وأن اللجان الانتخابية تكون تحت إشراف قاضٍ (المادة 41).

لأول مرة نصت المادة 48، على أنه لا يجوز وقف أو فصل عضو مجلس إدارة المنظمة النقابية من عمله، إلا بناء على حكم محكمة.

تميز القانون بزيادة مزايا أعضاء مجالس إدارة النقابات، حيث نصت المادة 24 على أن المهام النقابية والدورات الدراسية التثقيفية تحسب أيام عمل مقابل أجر، والتفرغ (المادة 45).  وألزمت الجهات الحكومية والقطاع العام بدفع أجرها للنقابيين. كما شمل الباب السادس من القانون والمعنون بـ “إعفاءات ومزايا” الكثير من الإعفاءات من الضرائب والجمارك، وخفض رسوم النشر للنصف، وكذلك الاستهلاك من المياه والكهرباء والتليفون، بتخفيض ثلاثة أرباع الاستهلاك، وأجور السفر وخلافه.

أصبحت هناك رقابة متعددة على المنظمات النقابية، فالرقابة المالية من وزارة القوى العاملة والتدريب، بالإضافة إلى رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات (المادة 68)، والرقابة من كافة النواحي للاتحاد العام (المادة 65). ونصت المادة 67 على إلزام المنظمات النقابية بتقديم نسخة معتمدة من الميزانية والحساب الختامي، للمنظمة النقابية، موقعًا عليها من محاسب قانوني، خلال 30 يومًا من اعتمادها من الجمعية العمومية.

وكفت القوانين منذ ذلك الوقت، عن إلزام مجالس الإدارات بنشر عوائد ومصاريف النقابات كل ستة أشهر، كما كانت تنص سابقًا.

وبما أن الجمعية العمومية أصبحت مغيبة، لا تعرف شيئًا عن نشاط اللجنة، ومن يتابع ويشرف هي المنظمة الأعلى، لذا نصت المادة 69 على أنه في حال ارتكاب مجلس الإدارة خطأ جسيمًا، يطلب من الجمعية العمومية للمنظمة النقابية التي أخطأ مجلس إدارتها حله، لتحل محله المنظمة الأعلى إلى حين انتخاب مجلس جديد خلال 60 يومًا من الحل.

وأعطت المادة 70 الحق لكل من الوزير المختص، والنيابة العامة، في التوجه إلى المحكمة، بطلب حل مجلس الإدارة، في حال مخالفتة للقانون وإنذاره بذلك، وذلك إذا ارتكبت جريمة من الجرائم التي سبق ذكرها، والآتية في قانون العقوبات.

ظلت نفس العقوبات المشددة على العمال والنقابات (المادة 73) والتي كانت موجودة في قانون سنة 1964، كذلك ظلت عقوبات أصحاب الأعمال على فصل العمال بسبب النشاط النقابي، ضعيفة وغير رادعة (المادة 75).

وألحق بالقانون جدول بالصناعات والمهن التي يتم بناء عليها تأسيس النقابات العامة، وعددها 21، أولها العاملون بالزراعة، وآخرها العاملون بالإنتاج الحربي.

أتى القانون وسط حركة احتجاجية قوية، بدأت مع بداية السبعينيات، وكانت مقدمة لانتفاضة 18، 19 يناير. أعاد القانون إلى النقابات القاعدية بعضًا من صلاحياتها، مع زيادة المزايا والإعفاءات للنقابات. استمرت الحركة في التصاعد، خصوصًا مع سوء الأوضاع المعيشية للعمال في ظل بداية الانفتاح الاقتصادي. فكان للقانون أثر على تنشيط الحركة النقابية القاعدية كما سنرى.

بداية الانفتاح الاقتصادي وأثره على العمال ونقاباتهم

مع بداية الانفتاح الاقتصادي مع السادات عام 1974، وبعد زيارة صندوق النقد الدولي مصر في نهاية 1976، شرع السادات في سياسة تخفيض الدعم على السلع الأساسية، فأتت انتفاضة 18، 19 يناير 1977، فما لبث وتراجع النظام عن هذه السياسة، وثبت الأسعار، ولكنه عاد لتخفيفها بشكل تدريجي. وقد ساعده في عدم الانصياع بشكل كامل لشروط الصندوق خلال هذه الفترة، زيادة عائدات النفط، وسفر العاملين للعمل في الخارج، وكذلك مدخراتهم.

مع الانفتاح في عهدي السادات وحسني مبارك، تغير الميثاق الذي كان موجودًا بين النظام والعمال، فلم يعد هناك في النهاية لا أمن وظيفي، ولا مستوى معيشي مقبول، ولا تعليم ولا صحة. بل إن سياسات التحرير الاقتصادية لم يقابلها تحرير سياسي، أو نقابي. ففي سنة 1977 ومع التعدد الشكلي للأحزاب، لم يمنح العمال حريتهم في التعدد النقابي من عدمه. بل إنه بعد احتجاجات 1975، وبعدها انتفاضة 1977، والتي كان للعمال بها دور هام، صدرت سلسلة من التعديلات القانونية لتعزيز قبضة الدولة على الاتحاد.

ولما كان للنقابات القاعدية دور هام في هذه الحركة، لم تستطع النقابات العامة ولا الاتحاد العام السيطرة عليها، كما رأينا سابقًا، فكان لا بد من منع تأسيس الجديد منها، ووضع الموجود تحت السيطرة الكاملة للنقابات العامة، كما طالت مدة الدورة النقابية إلى الضعف.

لذا كان  القانون رقم 1 لسنة 1981   وفيه قامت المادة 3 من القانون بإلغاء المواد 9، 10، 11 التي كانت تعرف كيفية تأسيس اللجان النقابية واختصاصاتها، كما ألغيت المادة 15 التي كانت تجيز للنقابات العامة تشكيل نقابات فرعية لها في المحافظات، بما يقل عن 5 لجان نقابية. وجعل الاشتراك في النقابات العامة مباشرة وفقًا للتعديل في مادة 13 منه. بالتالي قسمت اشتراكات الأعضاء بين النقابات العامة والاتحاد (المادة 52). وعلى الرغم من إلغاء هذه المواد إلا إن المادة 12 ظلت تذكر اختصاصات اللجنة النقابية، وكذلك مواد أخرى. حقيقة لا أدري أكان هذا خطأ في صياغة القانون، أم أن المشرع قصد الاكتفاء بما هو موجود من لجان نقابية، تابعة للاتحاد، دون العمل على تشكيل أو إنشاء نقابات جديدة، وإن كنت أميل إلى التفسير الثاني. جعلت المادة 41 المدة النقابية من الدورة التالية للقانون أربع سنوات.

جعل القانون فصل الأعضاء بقرار ثلثي أعضاء مجلس إدارة النقابة العامة، ووقف أعضاء مجلس الإدارة بقرار بثلثي أعضاء مجلس إدارة الاتحاد، وعرض أمره على الجمعية العمومية لنقابتة أو النقابة العامة، لسحب الثقة منه (المادة 26 و27).

واشترطت المادة 57 للتمتع ببعض الإعفاءات والمزايا المقررة بها، موافقة الاتحاد العام، بعد أن كان في القانون 35 للجهة الإدارية المختصة.

أضافت المادة 2 من القانون عددًا من المواد، من ضمنها المادة 74 مكرر، التي قضت بحبس صاحب العمل أو مدير المنشأة مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وغرامة لا تقل عن ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا امتنع عن تنيفذ حكم نهائي ببطلان قرار، طبقًا للمادة 48 من القانون (وقف أو فصل عضو مجلس إدارة أو نقله أو ندبه لأكثر من أسبوعين، بدون موافقة بعيدًا عن المدينة التي بها مقر عمله).

قانون 37 لسنة 1982 

جعل موعد انتخابات ممثلي العمال في مجالس إدارات الشركات، في ذات موعد إجراء انتخابات مجالس إدارة النقابات.

أدى التعديل الذي حدث على قانون النقابات عام 1981، إلى بداية انصراف العمال عن النقابات، فقد زادت الهوة بين العمال في القواعد، وقيادات التنظيم النقابي، ذلك نتيجة تخلي هذه القيادات عن تبني مطالب العمال، وعندما كان يتحرك العمال لنيل حقوقهم، كان الاتحاد العام يندد بحركة العمال مصطفًّا مع الحكومة وأصحاب الأعمال، حتى أصبح العمال يهتفون بسقوط النقابات. حتى عندما كان يقبض على العمال نتيجة احتجاجهم، لم يجد العمال من يقف معهم، فشكلوا لجانًا تقوم بدور تنظيم الدفاع عن العمال، وتنظيم الإعاشة للعمال وأسرهم. ويبدو أن هذه اللجان لم تتطور فيما بعد لشكل تنظيمي دائم.

الحركة العمالية أثناء حكم حسني مبارك

تحدث طه سعد عن الصحوة وسط العمال، مع بداية حكم مبارك، بعد مقتل السادات، حيث دخلت الحركة العمالية معارك كفاح، كانت غالبيتها خارج التنظيم النقابي الرسمي. وكانت الأسباب التي حركتها تجميد جدول الأجور الذي وضع عام 1961، والذي لم تكن العلاوات والترقيات المتضمنة به، لتجعله يكفي لمعيشة العمال، فحصلوا على مزايا أخرى بنضالهم، مثل حوافز الإنتاج، وبدل طبيعة العمل، وبدل الوجبة، والعلاوات الاستثنائية. وفي سبيل الحصول على هذه المطالب، دفع العمال الكثير من التضحيات، عبر اقتحام قوات الأمن بالدبابات والسيارات المصفحة، مثلما حدث في إسكو 1986، وفي الحديد والصلب 1989، والذي قتل فيه العامل عبد الحي، واعتقل العشرات في الإضرابين. وقد أدان التنظيم النقابي الرسمي الإضرابين، وطالب الحكومة بالضرب من حديد على القلة المنحرفة التي تثير الشغب. مما جعل العمال يهتفون في إضراباتهم بسقوط النقابة. بدأ العمال ينظمون أنفسهم في لجان خارج التنظيم الرسمي، مثل لجنة الدفاع عن عمال إسكو، ولجنة الدفاع عن عمال الحديد والصلب، وعمال السكة الحديد، واللجنة العامة للدفاع عن العمال بشبرا الخيمة. وكانت تقوم بمتابعة الدفاع عن المقبوض عليهم، وطرق إعاشتهم وأسرهم.

وقد أتى توقيع اتفاق مايو 1991 بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي، بالإلغاء التدريجي لحوالي 50 % من الدين العام الخارجي، تماشيًا مع تنفيذ الحكومة المصرية لما التزمت به في خطاب النوايا الموقع في مايو 1991، هذا بالإضافة إلى ما نصت عليه الاتفاقية من تقديم تمويل لمصر، وذلك بشرط تنفيذ اتفاقية التكيف الهيكلي مع البنك الدولي، وكان المطلوب من الحكومة تنفيذه هو: تحرير الأسعار، خفض الموازنة. مما أدى إلى الارتفاع الكبير في الأسعار، وتحميل الخدمات في التعليم والصحة على عاتق المواطنين بعد خفض الدعم عليهما، وتحرير التجارة الخارجية.

وتنفيذًا للاتفاقية، صدر قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991، وبدأت مرحلة جديدة في مسيرة القطاع العام، أساسها توسيع الاستقلال الإداري والمالي، وإخضاعه لذات القواعد التي يخضع لها القطاع الخاص، وتوفير الأساس القانوني لخصخصته. والذي بموجبه أصبحت حقوق العمال التي كانت مستقرة بحكم قانون العاملين بالقطاع العام، حقوقًا يتم التفاوض عليها، كذلك تم إنقاص حصة العمال من أرباح الشركات. لم تستطع الحكومة السير قدمًا في خصخصة الشركات، إلا بعد تنفيذ مسألة المعاش المبكر.

ولما كانت الحكومة تعلم بأن سياساتها سوف تزيد من إفقار الغالبية العظمي من الشعب المصري، ومنهم العمال، وأنه من المنتظر أن يحتج العمال على ما يحدث لهم من اعتداءات على حقوقهم. لذا عدلت الحكومة قانون النقابات لتضمن بقاء نفس رجالها في قمة الهرم النقابي، بدون تبديلهم بموالين آخرين، وهي لم تجربهم بعد، لتمرير هذه السياسات وإحكام قبضتها على النقابات القاعدية والعمال.

قانون 12 لسنة 1995 

أبقى القانون على كل القيود الموجودة في القانون السابق، وظلت العضوية في النقابات العامة مباشرة، وأشار التعديل إلى اختصاصات النقابات العامة والاتحاد العام، دون النظر في اختصاصات اللجنة النقابية. كما ذكرت المادة 30 اختصاصات الجمعية العمومية في كل من النقابات العامة والاتحاد العام دون ذكر للجنة النقابية.

أقر الإضراب بعد حكم المحكمة الدستورية في قضية محاكمة عمال السكة الحديد، بأحقية العمال فيه، ولكنها وضعت حق إعلانه في يد النقابات العامة (المادة 14).

جعلت المادة 41 مدة الدورة النقابية خمس سنوات، وألزمت المادة 45 القطاع الخاص بالإضافة إلى الحكومة وشركات قطاع الأعمال، بدفع أجور العمال المتفرغين في النقابات. وضعت المادة 62 تقسيمة لتوزيع الاشتراكات، نالت منها اللجان النقابية 60 % لتصرف منها على الخدمات.

عُدلت المادة 23، بحيث أضيف إليها أحقية العامل الذي أحيل للتقاعد في الانتخاب والترشح لمجالس إدارات النقابات -بعد أن كان حقه مقتصرًا على البقاء في عضوية النقابة- بشرط التحاقه بعمل داخل التصنيف النقابي للنقابة العامة، بدون فاصل زمني. وبذلك أصبح البقاء في مجالس إدارات النقابات لا يناله، سوى المرضي عنه من قِبل أجهزة الدولة المختلفة.

كان من نتائج القانون، استمرار نفس الوجوه في قمة الاتحاد النقابي، وعدم السماح لوجوه جديدة بالتواجد. وزاد ما تتمتع به هذه الطبقة من النقابيين من مزايا، فهم أعضاء في مجالس إدارات شركات القطاع العام، يتقاضون في مقابل ذلك بدلات الجلسات، ونسبة من الأرباح. وأيضًا أصبحوا يمثلون العمال في كل الصناديق واللجان الخاصة بهم. وقد استفادوا من مناصبهم تلك، في مقابل موافقة الحكومة في السير قدمًا في الخصخصة، وتشريد العمال، واتخاذ المزيد من السياسات التي تزيد العمال، مع جموع المصريين فقرًا.

وعلى الرغم من أن الدولة وقيادات الاتحاد كثيرًا ما تحدثوا عن تحريض القوى السياسية للعمال، على الإضرابات، ولطالما دعت العمال للبعد عن السياسة -سواء في السر أو العلن-  كون مطالبهم عمالية ونقابية، فقيادات الاتحاد كانوا غارقين في حزب الدولة، الحزب الوطني أيام مبارك. فكان حسين مجاور رئيس الاتحاد بعد انتخابات 2006، هو رئيس الكتلة البرلمانية للحزب بمجلس الشعب، ورئيس لجنة القوى العاملة، وممثل الحكومة في شركتي أسمنت طرة والسويس، واستفاد من منصبه ذلك، فكان مالكًا لشركة ناقلات، لديها تعاقد مع الشريك الإيطالي بالشركتين لنقل منتجاتها. ولم يكن وحده، فقد كان ستة من رؤساء النقابات العامة الـ 23 أعضاء في سكرتارية الشئون العمالية بالحزب، وكان محمد عبد الحليم رئيس النقابة العامة للعاملين بالزراعة، عضو لجنة سياسات الحزب، بالإضافة إلى كونهم جميعًا أعضاء في الحزب.

الحركة والنقابات مع تجذر الاتجاه النيوليبرالي

بدأ تطبيق الخصخصة وما صاحبها من اعتداء على حقوق العاملين، وإقرار لنظام المعاش المبكر في نهاية القرن العشرين وتم تعديل قانون العمل ليطلق يد أصحاب العمل في العسف بحقوق العمال.

أتت حكومة أحمد نظيف (2004-2011) لتعبر بشكل جذري عن التحرير الاقتصادي، ففي عام 2005/2006 وحده بيعت 59 شركة. هذا بالإضافة إلى التعديلات الكثيرة في قوانين الاستثمار، والتي أعطت الكثير من الإعفاءات لأصحاب الأعمال، والتي كانت كذلك تتغير باستمرار إلى الأسوأ بالنسبة إلى حقوق العمال و الرقابة على شركات الاستثمار فيما يخص قانون العمل.

بدأت الحركة العمالية تصعد من حركتها في مواجهة الخصخصة، حيث أدت الخصخصة إلى خروج الكثير من العمال بنظام المعاش المبكر، كذلك أدت إلى انتقاص حقوق من تبقوا في العمل منهم. كما كان للتحولات في الاقتصاد أثر على بقية العاملين في القطاع الخاص، بالإضافة إلى إغلاق باب التعيينات في الحكومة مما جعل القطاع الخاص يزداد شراسة.

وقد أتت انتخابات النقابات في الدورة النقابية (2006-2011) بالجديد في أشكال التزوير، حتى إنه وصل إلى اللجان النقابية القاعدية، بعد أن كان في الدورات السابقة يتركز في النقابات العامة والاتحاد، فاستبعد آلاف العمال من دخول الانتخابات، وكان تدخل الأمن سافرًا فيها، كما كانت التزكية سيدة الموقف.

وقد ذكرت نادين عبد الله أن تدخل الدولة بكل أجهزتها الإدارية والأمنية، في الانتخابات النقابية عام 2006، أدى إلى زيادة عدد الموالين للنظام، ولكنها أيضًا قد أبعدتهم عن القواعد، مما أدى إلى إغلاق جميع عمليات الوساطة بين العمال والنظام، فانطلقت الاحتجاجات بعيدًا عن الاتحاد.

بدأت الحركة العمالية مرحلة صعود في حركتها الاحتجاجية مع بداية الخصخصة، وخصوصًا بعد إقرار المعاش المبكر. وكانت سنة 2006 بداية لمنحنى صاعد بشدة في الاحتجاجات، ووصفها البعض بأنها لم تحدث منذ الأربعينيات. فقد بلغ ما تم رصده من احتجاجات خلال العشر سنوات، منذ عام 1998 وحتي 2008، 2623 احتجاج

وقد وصفت نادين عبد الله مطالب الحركة قبل عام 2011، بأنها كانت اقتصادية قصيرة الأمد -فيما عدا مطلب الحد الأدنى للأجور، الذي رفعه عمال غزل المحلة عام 2008 تخص الحوافز والأجور، وضد الفصل التعسفي، وللمطالبة بالتثبيت للمؤقتين. بينما ظهرت المطالب الاقتصادية بعد الثورة مضافًا إليها مطلب الحق في التنظيم.

وعلى الرغم من الحراك الهائل للحركة، وكونها كانت أحد محركات التغيير، وأحد مظاهره قبل الثورة، إلا إنها بعد الثورة كانت مهمشة سياسيًّا، ولم تستطع تغيير معادلة علاقات العمل بينها وبين أصحاب العمل، من الحكومة والقطاع الخاص.

فقد كسبت الحركة العمالية أرضًا من ثلج فوق بحر الثورة، ذاب بعد وقت قصير مع بداية تراجع الثورة. فقد كسبت الحركة حق تأسيس النقابات المستقلة، الذي لم يستند إلى قانون، بل بقرار وزاري ذهب وتم التنكر له، حين ضعفت الحركة بعد 2013. وكان ذلك لأسباب كثيرة، ليس مكانها هنا، منها الذاتي والخاص بحركة تشكيل النقابات وهشاشتها -خصوصًا أنها أتت بعد فراغ نقابي في القواعد العمالية لعشرات السنين- وامتلاك العناصر الانتهازية للكثير منها، ومنها الخاص بمعاداة الدولة وأصحاب الأعمال معًا، مع عدم وجود سند سياسي أو اجتماعي لها.

وقد قاتل النظام من أجل عدم سقوط اتحاد العمال التابع له، فأصدر القوانين بالمد له منذ انتهاء دورته النقابية في 2011، وحتى صدور قانون النقابات عام 2017. كما قاتل لبقاء نفس القيادات النقابية، فعدل القانون 97 لسنة 2012، الذي كان قد أصدره مرسي -الذي قصد به وقتها سيطرة قيادات الإخوان والقريبين منهم على نفس الاتحاد بعد إزاحة “العواجيز”- والذي كان يقضي بترك قيادات الاتحاد لمواقعهم به، عند بلوغهم سن التقاعد، بإلغاء المادة 42 من القانون 35 لسنة 1976. فتم تعديله بالقانون 61 لسنة 2016، ليحافظ على رجال النظام في الاتحاد، وفي لجنة القوى العاملة في مجلس النواب، والذين كانوا علي وشك التقاعد.

قانون 213 لسنة 2017

أتى قانون النقابات 213 لسنة 2017 بعد حركة احتجاجية قوية، صاحبها تأسيس نقابات غير منصوص عليها في القانون الساري وقتها. أتى بعد أن فقدت الحركة سلاحها في الاحتجاج، ولكن تبقى لدى الإدارة السياسية مشكلة في وضعها أمام منظمة العمل الدولية، التي وضعتها وقت قوة الحركة فيما يسمى بـ “القائمة السوداء”، بسبب تعديها على حرية تأسيس النقابات. ولما كانت هناك نقابات مستقلة، فلم تستطع الإدارة السياسية تجاهل وجودها تمامًا. ولذا عملت قبل إصدار القانون، على استيعاب جزء منها، بمشاركة شكلية لرؤساء الاتحادات المستقلة بقيادتها الانتهازية في مناقشة القانون، وعدم الأخذ بالكثير مما أبدوه من اعتراضات على القانون، وقد تم دخول بعضهم فيما بعد بنقاباتهم في الاتحاد.

لذا كان لا بد من الاعتراف بنقابات المنشآت بعد توفيق أوضاعها، واشترط لذلك حدًّا أدنى للمؤسسين، فلا يقل عن 250 عضو (المادة 11)، واشترط لتأسيس النقابات العامة وجود 15 لجنة نقابية على الأقل، وللاتحاد العام 10 نقابات عامة (المادة 12)، وهي أرقام لم تأتِ في أي قانون من قبل. وذلك في محاولة من الإدارة السياسية لمنع تكتل ما تبقى من النقابات المستقلة خارج اتحاد العمال الحكومي. ولم يتم منع التكتل بما جاء من قيود في القانون فقط، فقد تدخلت وزارة القوى العاملة بامتناعها عن قبول أوراق أكثر من 14 لجنة نقابية للعاملين في الضرائب العقارية، حتى لا يستطيعوا تأسيس نقابة عامة. ومنحت الإدارة السياسية الاتحاد العام حق تأسيس اتحادات محلية (المادة 13) دون أن يكون موجودًا ضمن المستويات النقابية، قاطعة الطريق بذلك على الاتحادات المستقلة المحلية، التي كانت قد تشكلت من قبل، في توفيق أوضاعها ما دامت لا تملك اتحادًا عامًّا.

وعلى الرغم من عدم النص صراحة على وحدانية المنظمات النقابية، تفاديًا لانتقادات منظمة العمل الدولية، إلا إن النص بالألف واللام في المواد التي تذكر إنشاء النقابات، مثل تنشأ “اللجنة النقابية” في المادة 11، أو تنشأ “النقابة العامة” و“الاتحاد العمالي النقابي”  في المادة 12، يثير التخوف من فرض الوحدانية، كما أن العديد من النقابات المستقلة عندما ذهبت لتوفيق أوضاعها، قيل لهم إن هناك لجنة نقابية في هذا المكان تابعة للاتحاد العام، وبالتالي ليس من حقكم تأسيس لجنة أخرى، وجرت المحاولات من موظفي القوى العاملة للضغط على النقابة المستقلة للدخول في النقابة التابعة للاتحاد.

أتت المواد الثانية والثالثة من الإصدار، بتمييز واضح للاتحاد العام لنقابات عمال مصر ونقاباته، ضد النقابات المستقلة، حيث فرضت على النقابات المستقلة توفيق أوضاعها، في الوقت الذي أعفت فيه النقابات التابعة للاتحاد العام من ذلك.

حرمت المادة 2 من القانون العديد من الفئات، من حق تأسيس النقابات، فقد نصت على «فيما عدا العاملين بالقوات المسلحة وهيئة الشرطة وغيرهما من الهيئات النظامية» مما قد يفسر بعدم أحقية العاملين المدنيين الذين يعملون في هذه الجهات في تكوين نقابات لهم أو الانضمام إلى النقابات،  كما لم يتم ذكر أصحاب المعاشات، ضمن من لهم حق التنظيم، رغم أنهم  أسسوا نقابة عامة في فترة الانفتاح السياسي، وأودعوا أوراقها في وزارة القوى العاملة، وكان لهذه النقابة دور ظاهر في تحقيق بعض المكاسب الجزئية لأصحاب المعاشات.

على الرغم من عدم نص القانون على إلزام النقابات بالانضمام إلى النقابات العامة والاتحاد، إلا إن القانون قد وضع نفس الاختصاصات التي كانت موجودة لكل منهما وقت كان الأصل في الانضمام إلى النقابات العامة وليس إلى الجنة النقابية (المواد 15، 16، 17).

 تدخل القانون في أدق تفاصيل شئون النقابات، كما كان سابقًا. بدأ من فرض التشكيلات النقابية  والمستويات (المادة 1، المادة 10)، إلى وضع شروط للعضوية (المادة 21)، وشروط لعضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية (المادة 41). كما قررت المادة 25 فرض شروط انتهاء العضوية بالنقابات، ولم تتركها للنقابات نفسها. وتدخل القانون في وضع اختصاصات للجمعية العمومية (المادة 36 و37) و بتحديد عدد أعضاء مجالس إداراتها

ولم يقتصر التدخل على ما جاء بالقانون، فقد منح الوزير كما كان سابقًا (المادة 6) حق وضع نماذج للوائح النظام الأساسي والنظام المالي والنظام الإداري، ليتم الاسترشاد بها، والتي من المتوقع أن يحاول موظفو القوى العاملة إلزام النقابات بها، وإلا رفضوا استلام أوراق الإيداع، ومن هنا تصبح إلزامية وليست استرشادية.

وأعطت المادة 7 وزير القوى العاملة الحق في اللجوء إلى المحكمة بطلب حل النقابة. وأعطت المادة 19 لوزارة القوى العاملة الحق في اللجوء إلى المحكمة للاعتراض على تأسيس النقابة.

حددت الدورة النقابية بأربع سنوات طبقًا للمادة 42 -بعد أن كانت النقابات المستقلة تضعها في لوائحها سنة أو سنتين، وإن لم تنفذ ذلك فعليًّا الكثير منها- كما جاء في نفس المادة الحق لوزير القوى العاملة في تشكيل لجان عامة في المحافظات، للإشراف على العملية الانتخابية بالمحافظة كلها، يرأسها قاضٍ أو ما يعادله، ومدير مديرية القوى العاملة عضوًا، وأحد أعضاء المنظمة النقابية المعنية عضوًا ثانيًا. وقد حدث بالفعل أن كان أحد المشرفين على الانتخابات في هيئة قناة السويس بالإسماعيلية، هو نفسه مرشح بها، واستخدم سلطته لمصلحته، مما جعل المحكمة تحكم ببطلان الانتخابات، بعد انتهائها. ومما زاد الطين بلة، هو تحويل كل القضايا التي تخص القانون إلى المحاكم العمالية (المادة 43)، بعد أن كانت من اختصاص القضاء الإداري، الذي حصل منه العمال في الدورات النقابية السابقة على أحكام ناجزة ومنصفة، مكنتهم من خوض الانتخابات عبر الجلسات المستعجلة.

وفتحت المادة 40 من القانون الباب، لاستمرار سيطرة قيادات معينة، ممن وصلوا إلى سن التقاعد على التنظيم النقابى، عبر بقائهم بعد وصولهم إلى سن النقاعد، وحقهم في الانتخاب والترشح.

وبعد أن اطمأن المشرع إلى أنه لن تنشأ نقابات بعيدًا عن سيطرة النظام، أورد لها معظم المزايا التي كانت موجودة في القانون السابق، من إعفاءات، وتفرغ بشروطهم، كما أتت المادة 54 لأول مرة على ذكر الإعانات التي تقررها الحكومة للنقابات سنويًّا، ضمن موارد المنظمات النقابية، دون أن تحدد قيمتها أو كيفية تقريرها، لا في القانون ولا في اللائحة التنفيذية له، لكي تبقى حافزًا للارتماء في أحضان الحكومة أكثر مما هو حادث الآن.

على الرغم من نص المادتين 47 و48 على التزام أصحاب الأعمال بحق العمال في ممارسة النشاط النقابي، وعدم معاقبة الأعضاء بسبب ممارستهم لهذا النشاط، إلا إن ضعف العقوبات في حال إثبات تعديهم على الحقوق الواردة بهما، بالمقارنة بالضرر الذي سيقع على العمال غير رادع.

المادة75 المادة الوحيدة التي فيها عقوبات رادعة لصاحب العمل، بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وغرامة ما بين خمسين ألف جنيه ومائة ألف جنيه، في حال عدم تنفيذه لحكم محكمة، يقضي بعدم فصل عضو مجلس إدارة النقابة عن العمل.

وفي سبيل إغلاق حق التنظيم لمن لا يستطيع توفيق أوضاعه، طبقًا للقانون، أتت المادة 67 لتعيد نفس نص المادة 39 القانون 85 لسنة 1942، لتعاقب كل من شارك في تأسيس ما يطلق عليه اسم نقابة، حتى لو في بلاغ موجه للجمهور، أو بالإشارة، بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، ولا تزيد عن عشرين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

أتت اللوائح الاسترشادية فيما بعد -والتي تطبق بشكل كامل على الكتلة الكبرى من النقابات التابعة لاتحاد العمال، كونه كان شريكًا في إصدارها- بالعديد من التفاصيل، التي حولت اجتماعات الجمعيات العمومية إلى اجتماعات شكلية، يسهل التحكم فيها من قبل عدد قليل من أعضاء مجالس الإدارة، كذلك أتى في هذه اللوائح تقييد حق الإضراب بشكل كامل.

كان من آثار القانون، أن تناثرت الحركة، فلم يبقَ منها بعد معركة توفيق الأوضاع، سوى أقل من 100 نقابة، واستتب الأمر لاتحاد العمال، كاتحاد وحيد بمساندة الحكومة وأصحاب الأعمال، وأعيد انتخابه، حيث استتب الأمر لنفس القيادات القديمة في الاتحاد العام، تستخدمه الحكومة في إصدار التشريعات المعادية للعمال، وتمرير السياسات التي تؤدي إلى مزيد من الإفقار للشعب المصري.

ما زال النقابيون في اتحاد العمال غارقين في سياسة تأييد الحكومة، على الرغم من النص في لوائحهم الاسترشادية على البعد عن الشعارات السياسية أو الحزبية أو الدينية، وعدم إقحامها في كل ما يتعلق بشئون العمل النقابي، فتطالعنا ليل نهار تصريحات قيادة اتحاد العمال المؤيدة للإدارة السياسية

خاتمة

كما رأينا، فأن النقابات قد نشأت في خضم الصراع الطبقي بين العمال من جانب، وأصحاب الأعمال والحكومة من جانب آخر، في كل العهود. حاولت كافة الحكومات السيطرة على نقابات العمال، ففي العهد الملكي كان يترأس النقابات ويدير شئونها شخصيات سياسية أو حزبية، سواء في الحكم أو في المعارضة. بدأ العمال يحاولون الاستقلال خصوصًا بالنسبة إلى الاتحاد العام منذ نهاية الثلاثينيات، ووضعت الحكومات المعوقات دون تحقيق ذلك، ومنها التشريعات. أتت حركة الضباط لتحكم قبضتها على النقابات، واستخدمت التشريعات من أجل ضمان الولاء الكامل لقيادة الاتحاد العام لها، ولم تسمح بتكوينه إلا عندما اطمأنت لذلك، واستمر هذا الوضع حتى الآن.

كان قانون نقابة الصنائع اليدوية، الذي وضعه شباب الحزب الوطني الأول، برئاسة محمد فريد، هو المضمون الأساسي لكل قوانين النقابات بعد ذلك، فقد حصر نشاط النقابة في تقديم الخدمات الاجتماعية للعمال، وحظر عليها الاشتغال بالسياسة، رغم أنه وقتها كان هناك دور هام في الحياة السياسية للعمال، خصوصًا في محطاته الرئيسية. كما أن كل القوى السياسية والحزبية، التي هيمنت على النقابات، استخدمتها في حسم خلافاتها السياسية مع خصومها، وهذا الوضع مستمر حتى الآن.

لقد كانت التشريعات تأتي نتيجة ضغط العمال أحيانًا، وأحيانًا كثيرة بهدف الهيمنة على الحركة. وقد حاول العمال أحيانًا استخدامها، وفي أحيان أخرى حاولوا الالتفاف حولها، لكي يستطيعوا أن يجدوا لنقاباتهم موضع قدم في النقابات القاعدية تحديدًا. عادة ما تعبر القوانين عن موازين القوى في المجتمع، وتأتي لصالح الفاعلين الأساسيين في صنع السياسات والقوانين. ولا أجد في النهاية سوى أن أختم بما كان يقوله دومًا عم طه سعد عثمان «القانون كخيط العنكبوت يقع فيه الضعفاء، ويعصف به الأقوياء».