نظر

مروة الناعم

ثورات أوروبا 1848 الربيع الأول للشعوب

2018.01.01

ثورات أوروبا 1848 الربيع الأول للشعوب

نتحدث اليوم، وبعد مرور قرابة المائتي عام، عن واحدة من أهم الموجات الثورية التي شهدها التاريخ الحديث، والتي أطلق عليها المؤرخون «ربيع الشعوب» أو «ربيع الأمم»، وأطلق عليها كارل ماركس «الثورة الجميلة».

شهد عام 1848 أول سلسلة حقيقية من الثورات العالمية. ففي الشهور الأولى من هذا العام، اندلعت موجة من الثورات المتزامنة في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا والمجر، ولم يقف تأثيرها عند هذه الدول، بل سرعان ما طالت العديد من الدول الأخرى تباعًا.

كان العبء الذي وضعته ثورات 1848 على عاتقها هو مهام برجوازية ديموقراطية، أي تدمير الهياكل الإقطاعية وتأسيس دول قومية مستقلة. سادت أوروبا في ذلك الوقت حالة من السخط على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكانت حركات الفلاحين والعمال تختمر في انتظار الوقود اللازم لانفجارها. وعلى الرغم من الفشل العملي الذي مُنيت به تلك الثورات في النهاية، إلا أن تأثيرها بقي في كل الطموحات والأفكار الاشتراكية والشيوعية التي عرفها العالم إلى يومنا هذا.

في البدء كانت فرنسا

يقول السياسي ورجل الدولة النمساوي كليمنصو مترينخ: «إذا عطست فرنسا أصيبت أوروبا كلها بالزكام».

كانت فرنسا مركز الصراع الطبقي الأوروبي. وجسدت الثورة الفرنسية العظمى عام 1789 ذروة الاحتقان الذي خلفه ذلك الصراع. حيث عاش الفرنسيون قبلها سنوات من القحط، فيما تمتع رجال الدين والطبقة الأرستقراطية بالعديد من الامتيازات.

تلت ثورة 1789 فترة من الانتشار الكبير للتصنيع في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مناطق متعددة من غرب أوروبا. ترك التصنيع آثارًا سياسية واقتصادية واجتماعية سيئة على العمال والفلاحين. وتسبب الاعتماد على الآلات في صناعة النسيج في انخفاض أسعار الملبوسات وتراجع كمية المنتجات المصنعة يدويًا. كما أدى ضعف وفساد المحاصيل الزراعية، خاصة التي يعتمد عليها العمال في غذائهم كالخبز والبطاطس، إلى ارتفاع أسعار الطعام. تشابكت كل هذه العوامل التي ساعدت على انتشار البطالة والفقر والجوع ليصبح لا مفر من الثورة.

عبّرت الثورات الفرنسية بداية من 1789 حتى فبراير 1848 عن مطالب برجوازية بالأساس في مقابل الاستبداد الأرستقراطي وامتيازاته. ولم يكن للطبقة العاملة -التي لم تكن قد تبلورت بعد- دورًا محوريًا مستقلاً بعيدًا عن البرجوازية حتى انتفاضة العمال في يونيو 1848.

لكن الطبيعة الدراماتيكية لثورة فبراير 1848 الفرنسية دفعت الحكومة الجمهورية البرجوازية الجديدة إلى تقديم عدد من التنازلات أمام مطالب الطبقة العاملة. وهنا ظهرت البروليتاريا/طبقة العمال بقوة في ساحة الصراع الطبقي. فبمجرد أن تطرقت الأسئلة إلى الاقتصاد والسيطرة على الثروة -وعلى السلطة- اشتدت التوترات بين الطبقات المختلفة منبئة بانتفاضة جديدة لا مناص عنها. وبحلول أبريل 1848 فقد اليسار والثوريون روح المبادرة واشتدت الانقسامات بين الطبقات، حتى حُمِلَ العمال في يونيو على الدفاع عن أنفسهم على المتاريس، ولكن هذه المرة ليس ضد الملكية بل ضد القوات البرجوازية التي حكمت الجمهورية الجديدة التي تكونت في مطلع 1848.

هُزمت انتفاضة يونيو العمالية بالدم، وسُحقت الثورة في فرنسا مما شجع ألمانيا والنمسا على الهجوم على القوى الثورية في بلدانهم.

أوروبا

أجبرت ثورة 1789 الفرنسية الملوك الأوروبيين على إجراء إصلاحات خوفًا من تكرارها في بلدانهم. إذ شهدوا الثورة تطيح بملك فرنسا وتقيم جمهوريتها الأولى، وتمنح مجموعة من الحقوق للشعب الفرنسي، وخاصة العمال والفلاحين.

وبعد ما يقارب خمسة عقود، لم تكن ثورات 1848 مفاجأة بالنسبة للكثيرين، ومن ضمنهم كارل ماركس وفريدريك إنجلز اللذين صدّرا “البيان الشيوعي” بالعبارة التالية: “شبحٌ يخيم على أوروبا.. شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في حلف مقدس قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترينخ وجيزو، الراديكاليون الفرنسيون وجواسيس البوليس الألماني”. 

الربيع الأوروبي

بدأت ثورات ربيع الأمم 1848 بمقتل 61 شخصًا في ميلان، بينما كان السويسريون يتصارعون في حرب أهلية، وبينما كانت أعمال الشغب تتفشى في باليرمو عاصمة صقلية.

من صقلية، وفي يناير، انطلقت الشرارة الأولى لثورات ربيع الأمم، وسرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم في صورة تمردات ذات طابع وهدف ديمقراطي، لتشمل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والإمبراطورية النمساوية، لتمتد بعد ذلك إلى حوالي 50 بلدًا أوروبيًا.

استطاع الصقليون انتزاع استقلالهم وإعلان دولتهم. فقد كانت هناك عدة ثورات سابقة ضد حكم البوربون -العائلة الملكية الأوروبية التي حكمت العديد من الدول منها صقلية وإسبانيا- نجحت الأخيرة منها في إنشاء دولة مستقلة لمدة 16 شهراً قبل عودة البوربون.

وفي الشهر التالي، فبراير 1848، قام الفرنسيون بثورتهم التي أنهت حكم الملكية الدستورية للملك لويس فيليب وأعلنوا الجمهورية الفرنسية الثانية.

وفي مارس 1848، اندلعت الثورة في الولايات الألمانية جنوبًا وغربًا للمطالبة بالوحدة الوطنية الألمانية وحرية الصحافة وحرية التجمع. ولم تكن الانتفاضات منسقة تنسيقًا جيدًا، ولكنها كانت متفقة في رفض الهياكل السياسية الاستبدادية التقليدية في 39 دولة من دول الاتحاد الألماني.

وفي الدنمارك، وبعد حكم بنظام الملكية المطلقة امتد منذ القرن السابع عشر، توفى الملك كريستيان الثامن في يناير 1848 خلال فترة من المعارضة المتزايدة من المزارعين والليبراليين. وقاد الحزب الليبرالي الوطني المُطالب بملكية دستورية مسيرة شعبية إلى قصر كريستيانسبورج في 21 مارس. حيث التقى الملك الجديد فريدريك السابع بمطالب الليبراليين وشكل حكومة جديدة تضم قادة بارزين في الحزب الليبرالي الوطني. أرادت الحركة الليبرالية إلغاء الحكم المطلق مع الإبقاء بقوة على دولة مركزية. وقبل الملك بالدستور الجديد الذي ينص على تقاسم السلطة مع برلمان من مجلسين يسمى ريجداج.

كانت معظم البلاد الأوروبية في حالة ثورية باستثناء انجلترا وروسيا وإسبانيا وبلجيكا، وهولندا والبرتغال وإسبانيا والإمبراطورية الروسية (بما في ذلك بولندا وفنلندا). كما أن السويد والنرويج لم تتضررا كثيرًا.

وتختلف أسباب عدم انتشار عدوى الثورة إلى بعض البلاد. ففي روسيا على سبيل المثال يرجع ذلك إلى عدم قدرة المجموعات الثورية على التواصل مع بعضها البعض. أما في البرتغال وسويسرا فكان السبب أن كلاهما كان يعيش أجواء حرب أهلية في تلك السنوات. وفي هولندا، لم تندلع أي مظاهرات كبيرة لأن الملك قرر تغيير الدستور الهولندي لإصلاح الانتخابات والحد من فعالية السلطة الملكية.

الأمل الضائع

«لقد تعرضنا للضرب والإهانة ... تبعثرنا وسُجنّا ونٌزع سلاحنا وكُممت أفواهنا. لقد تلاشى مصير الديمقراطية الأوروبية من بين أيدينا.» بيير جوزيف برودون

سُرعان ما هُزمت الثورة «الجميلة» بعد شهور قليلة من بدايتها. ويذكر المؤرّخ البريطاني إيريك هوبزباوم بعض أسباب هذه الهزيمة قائلًا: «في 1848 توصل الليبراليون المعتدلون في غرب أوروبا إلى استنتاجين هامين: أولهما أن الثورة كانت خطيرة، وثانيهما أن بعض مطالبهم الأساسية، وخاصة المطالب الاقتصادية، يمكن تحقيقها بدون الثورة، لقد كفت البرجوازية فعلاً عن أن تكون قوة ثورية».

فسرعان ما أدرك الليبراليون البرجوازيون أنهم يفضلون التصالح مع النظام القديم عن تحقيق كل برنامجهم الديمقراطي. ومنذ خمسينات القرن التاسع عشر فصاعدًا أدركت معظم الحكومات الأوروبية أنها كانت في حاجة إلى  إصلاحات سياسية واقتصادية، لكن دون اللجوء إلى الثورة. ومن ثم تم السماح للعمال المهرة والحرفيين عام 1867 في بريطانيا بالتصويت، وذلك في تنازل لمطالب الحركة الشارتية. وفي ألمانيا قام «بسمارك» الذي يتسم بالمحافظة بإنجاز مهام 1848 عن طريق الاتحاد القومي. وفي فرنسا سرعان ما تخلص نابليون الثالث من دستور 1848 وحكم فرنسا لمدة عشرين عامًا، إلا إن حكمه انتهى بثورة أخرى.

الرؤية الماركسية

شعر ماركس بانتصار البرجوازية عندما شهد انصياع الملك ويليام الرابع -ملك انجلترا- لمطالبهم من أجل الحرية في حين ظل العمال هادئين مترقبين.

رأى ماركس أن ترسيخ الديمقراطية البرجوازية في مواجهة الاستبداد الأرستقراطي مرحلة أولى إلى أن تتمكن البروليتاريا من قلب البرجوازية

وكان ماركس منزعجًا من توجه البرجوازية إلى مصالحة النظام واسترضائه بدلاً من المطالبة بالتغيير في مصلحة الجماهير، واصفًا إياها بـ«البرجوازية التي تعثرت في محاولات متعجلة لتسوية خلافاتها..». إلا أنه آمن أن فرنسا لا تزال قادرة على القيام بثورة عظيمة.

بعد 1848 أدرك ماركس وإنجلز، اللذان تم نفيهما إلى بريطانيا، أن البرجوازية كانت تخشى العمال أكثر من خشيتها من النظام القديم. وفي منفاهما، استخلص ماركس وإنجلز الدروس من هزيمة ثورة 1848، وأيقنا ضرورة أن تنظم الطبقة العاملة نفسها لتقوم بالثورة ولا تعتمد على البرجوازية التي استطاعت أن توفق أوضاعها بقليل من الإصلاحات. فيقول ماركس موضحًا: «إنها مهمتنا في أن نجعل الثورة دائمة إلى اللحظة التي نستطيع فيها طرد الطبقات المالكة خارج وضعها المهيمن إلى اللحظة التي تستطيع فيها البروليتاريا الاستيلاء على السلطة ليس في بلد واحد فقط بل في كل دول العالم».

المصادر:

- «1848 والطريق إلى الثورة الدائمة»، دورية الاشتراكية الثورية، العدد 41، يونيو 1998 (غير منشور)

- مقالات متعددة من ويكيبيديا

- صور متعددة من ويكيميديا

- كتاب «ماركس-انجلز: البيان الشيوعي»، ترجمة العفيف الأخضر، منشورات الجمل بيروت- بغداد، 2015

Breunig, Charles (1977), The Age of Revolution and Reaction, 1789–1850 (ISBN 0-393-09143-0) -

 “Marx and the Failed Revolutions of 1848”:-

http://www.fsmitha.com/h3/karl_marx1849.htm

Europe In Retrospect A brief history of the past two hundred years , by Raymond F. Betts: -

http://www.britannia.com/history/euro/1/3_2.html

 -Reflections on The Communist Manifesto, Lindsey German, International Socialism, Jusly 1998:

https://www.marxists.org/history/etol/writers/german/1998/xx/manifesto.htm