عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919
يحي محمد محمودثورة 1919 في مصر والهند.. مُقارَبة في ديناميّات النضال الثوري
2019.05.01
ثورة 1919 في مصر والهند.. مُقارَبة في ديناميّات النضال الثوري
خلفية تاريخية
كانت الهند مسرحًا لتجربة فريدة في تاريخ الاستعمار، فقد استعمرت الهند شركة تجارية وهي شركة الهند الشرقية البريطانية التي تأسست عام 1600م بعد أن سمح لهم بتأسيسها إمبراطور المغول أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر بن همايون الحاكم في ذلك الوقت، وقد حققت الشركة أرباحًا ضخمة، مكَّنتها من بناء آلاف المخازن لتخزين منتجاتها بها لحين الشحن إلى أوروبا، وكان لا بد من توفير حراسة لها، فاستعانت بجنود هنود، زودتهم ببنادق بريطانية، وألبستهم لباسًا أوروبي الطابع، وأحضرت ضباطًا بريطانيين لتدريبهم وقيادتهم، وبذلك تمكنت الشركة من بناء جيش من الهنود (السيبوي) بقيادة بريطانية استخدمتهم في احتلال الهند، وأصبحت سلطة إمبراطور المغول شكلية، وأوقعت بين المسلمين والهندوس وسادتهما معًا، وهكذا أصبحت الهند مستعمرة لشركة الهند الشرقية ببنادق أبنائها المسلحين ببنادق بريطانية وتحت قيادة ضباط بريطانيين.
اندلعت الثورة في معسكرات الجنود السيبوي في عام 1857م، حين حاول الضباط البريطانيون تدريبهم على استخدام طلقات رصاص جديدة مشحمة بدهن الخنزير والبقر، فرفضه الجنود المسلمون بسبب شحم الخنزير، ورفضه الهندوس بسبب شحم البقر، واتحدا معًا ضد البريطانيين واندلعت ثورة مسلحة بلا قيادة ولا هدف إلا قتل البريطانيين، كانت الظروف مواتية لبريطانيا فقد انتهت حرب الأفيون في الصين، فأرسلت بريطانيا جيوشها وقضت على ثورة السيبوي، وبررت ثورة الجنود السيبوي بأخطاء لشركة الهند الشرقية البريطانية؛ فألغت الحكومة البريطانية شركة الهند الشرقية البريطانية، وألغت إمبراطورية المغول، ونفت بهادر شاه آخر أباطرة المغول عام 1858م إلى جنوب أفريقيا، وضمت الهند إلى مستعمرات التاج البريطاني، وبدأت الحكومة البريطانية إصلاحات محدودة ادعت أنها لعلاج أسباب الثورة، وأصبحت لغة التعليم في المدارس المحدودة الموجودة هي الإنجليزية، وبدأ الهنود الاطلاع على الفكر الغربي، وبدأت أعداد من الهنود السفر لبريطانيا للدراسة حتى بلغ عددهم 1094 سنويًّا.
جاءت الحرب العالمية الأولى وكان على بريطانيا أن تحارب دون أولادها، فجندت بريطانيا 1.3 مليون هندي في صفوف جيشها المحارب في أوروبا، مات منهم أكثر من 43000 هندي دفاعًا عن بريطانيا، كما تحملت خزانة الهند 1250 مليون دولار؛ تكاليف هذه القوات من ملبس وتسليح وطعام وجميع مصاريفهم في سبيل الدفاع عن بريطانيا، كما موَّلت خزينة الحرب بمبلغ 500 مليون دولار، وبدأ التذمر في صفوف الهنود، وظهرت حركة مقاومة لمشاركة الجنود الهنود في الحرب عام 1915م قبل نهاية الحرب، وأطلق القوميين الهنود على تلك الحركة «تمرد الغدار»، ولكن الحكومة البريطانية عرفت بتلك الدعوة، واستخدمت القوانين العسكرية في القضاء عليها وعلى قادتها، ومن ثم استمرت المشاركة الهندية في الحرب وزادت رغبة الهنود في انتهائها وعدم المشاركة فيها لتنافي القتل مع المكون النفسي اللا واعي للهنود، إذ أن الهندوسية تحرم القتل لأي كائن به حس وحركة، وبالتالي كانت الحرب ذات تأثير سلبي على نفوس الهنود أصحاب المبادئ الهندوسية التي تجرم القتل.
الهلع البريطاني في الهند مارس 1919
اندلعت الثورة المصرية يوم الأحد 9 مارس 1919م، وبدأت تظاهرات الطلاب السلمية من مدرسة الحقوق تهتف مطالبة بالاستقلال التام والإفراج عن الزعماء المنفيين، وقد أزعج ذلك السلطات البريطانية في الهند، فقد خافت بريطانيا من انتقال التظاهرات من مصر إلى الهند، وكانت الهند هي درة التاج البريطاني، لذلك سارعت بريطانيا بتشكيل لجنة لوضع قواعد وقوانين تحكم سيطرتها على البلاد برئاسة قاضي بريطاني Sir Sidney Rowlatt هو سيدني رولات، وقد رفعت اللجنة توصية بإصدار قانون لإحكام قبضة بريطانيا على الهند، وأصدر المجلس التشريعي البريطاني The Imperial Legislative Council في دلهي في اليوم التالي قانونًا تنفيذيًّا لتوصية لجنة رولات عُرف شعبيًّا باسم «قانون رولات» ”Rowlatt Act” « أو رولات الأسود في 10 مارس 1919م، أما اسم القانون البريطاني الرسمي The Anarchical and Revolutionary Crimes Act of 1919 أي قانون مكافحة الفوضى الثورية عام 1919 ، ويعكس إصدار ذلك القانون بعد يوم واحد من اندلاع الثورة المصرية حالة الهلع لدى السلطات البريطانية وإدراكها لخطورة الأوضاع في المستعمرات خصوصًا الهند، على الرغم من أنه لا فوضى في الهند ولا ثورة ولا ثوار، ولكن بالنظر إلى ضخامة الهند وأهميتها؛ كان حرص بريطانيا على وضع قواعد تسمح لها بالقضاء على أي ثورة أو اضطرابات في رؤيتهم في الهند.
سمح هذا القانون للسلطات البريطانية بسجن أي مشتبه به لمدة تصل إلى سنتين دون محاكمة، فلم تكن بريطانيا لتنتظر وقوع ثورة مماثلة في الهند، ولكن يكفي الاشتباه بأي مواطن لسجنه دون محاكمة ولمدة تصل إلى سنتين، كما أجاز القانون للسلطات البريطانية القبض على أي شخص دون أمر اعتقال، أي أن أي ضابط بريطاني يجوز له حجز أي هندي دون الرجوع لأي سلطة أعلى منه، كما أجاز للشرطة احتجاز أي شخص دون مواجهته بأي تهمة، وأجاز للشرطة عدم إطلاع المحتجزين على الأدلة الموجهة ضدهم، كما وضع القانون ضوابط صارمة على الصحف الهندية، مقيدًا ما تنشره، وأجاز للسلطات البريطانية مصادرتها بل ومنعها من الطباعة، وظن البريطانيون أن تلك القواعد الصارمة تضمن لهم عدم حدوث اضطرابات في أكبر مستعمراتها.
ثورة 1919 في الهند
مكن قانون رولات السلطات البريطانية من قمع كل معارض بسيط، في تلك الفترة كان غاندي (1869-1948م) قد عاد للهند من جنوب أفريقيا عام 1915م، وقد بدأ دعوته للتحرر من الاحتلال البريطاني، ولكن لم تنتشر دعوته بشكل كبير، فقد كانت الهند كبيرة، ووسائل التواصل بين مختلف المدن والقرى بطيئة، ولكن كان له بعض المناصرين والمعتنقين لآرائه، وبالتالي تمكنت السلطات البريطانية باستخدام هذا القانون من التنكيل بكل هؤلاء الأتباع، وبدأ الناس يتعرفون على مبادئ غاندي المستمدة من معتقداتهم الدينية وثقافتهم المحلية، وفي الوقت نفسه بدأت أخبار التظاهرات والمقاومة السلمية في مصر تصل إليهم، وبدأ التنكيل البريطاني بالهنود، وطول أبريل ازداد العنف البريطاني مع ازدياد نجاح الثورة المصرية، فقد أمر أللنبي Edmund Henry Hynman Allenby المندوب السامي الجديد في مصر بالإفراج عن الزعماء في 7 أبريل 1919، وسمح بسفرهم إلى باريس في 11 أبريل 1919م، وبدأ الوفد نشاطه بالدعوة لحقوق مصر في أوروبا، ومن ثم زاد الخوف البريطاني من انتقال عدوى الثورة للهند، وزاد الأمل الهندي في التخلص من بريطانيا أسوة بمصر، فكما نجحت التظاهرات المصرية السلمية في الإفراج عن الزعماء المعتقلين على الرغم من إطلاق البريطانيين النار عليهم يمكن للهنود تكرار الأمر، خصوصًا وأن سلمية تلك التظاهرات تتوافق مع الثقافة الهندوسية التي لا تميل للعنف ولا تستخدم القتل.
أثار قانون رولات الأسود مشاعر النخبة الهندية التي أدركت مغزاه، فدعا غاندي للإضراب في دلهي في 6 أبريل لمقاومة القانون الأسود لإدراكه عدم جدوى المقاومة الدستورية للقانون، وغلف الإضراب بغلاف ديني يستخدم التكوين الشعوري الشعبي للشعب الهندي، فدعا للصيام والتوقف عن العمل والتفرغ للصلاة؛ وهو ما عُرف تاريخيًّا باسم Rowlatt Satyagraha، وبذلك بدأت أول حركة مقاومة فعلية لبريطانيا بشكل عام وعرف الجميع برسالة غاندي.
وقعت أول مواجهة دموية بين الهندوس المسالمين والقوات البريطانية التي تستخدم السلاح لأبسط الأسباب في شمال الهند وبالتحديد في مدينة أمْرِيسَتار Amritsar، فقد ألقت القوات البريطانية القبض على اثنين من القادة السياسيين المنتمين تنظيميًّا لغاندي، وأخفت القوات البريطانية الرجلين في السجون، فاندلعت التظاهرات لمطالبة سكان المدينة بالإفراج عن زعمائهم أسوة بما حدث في مصر، وطوال أبريل عانى الهنود من العنف والمهانة البريطانية، وقد بلغت المهانة قمتها حين أعطى القائد العسكري المحلي البريجادير جنرال ريجنالد داير Colonel Reginald Dyer أوامره للرجال الهنود بالزحف على اليدين والركبتين على طول الشارع الرئيسي في مدينة أمْرِيسَتار، وتزامن الضرب العلني مع الزحف من قبل القوات البريطانية، وحظرت الحكومة التجمعات لأكثر من أربعة أفراد، بينما كان الآلاف من الهندوس يتجمعون في أعيادهم ومواكبهم الدينية أصبح ذلك أمرًا ممنوعًا اعتبارًا من 13 أبريل 1919.
في 13 أبريل 1919 كان يعقد في أمْرِيسَتار مهرجان سنوي في المعبد الذهبي، ويمر الهنود في أحد أكبر ميادينها وهو ميدان جليانوالا باج Jallianwala Bagh الذي تبلغ مساحته 4000م2، لحضور مهرجان بايسكي Baisakhi في المعبد الذهبي، وقد اعتاد عشرات الآلاف من الهنود على التوافد من القرى المجاورة إلى أمْرِيسَتار للمشاركة في هذا المهرجان، حيث يعرضون منتجاتهم في المعارض التقليدية ويشاركون في المهرجان، وكان ذلك غير مسموح وفقًا للقانون الأسود، وبعد تجمع عدد يتراوح ما بين 15000 و20000 هندي في الميدان أمر الجنرال داير القوات البريطانية بمحاصرتهم وإطلاق الرصاص عليهم عقابًا لهم على مخالفتهم لقانون رولات، استخدم داير مدافع رشاشة محمولة على سيارات مدرعة لإطلاق الرصاص على الهنود، أسفرت المذبحة عن مصرع 1000 هندي على الأقل، وفرض حظر التجول في المدينة، ومنعت القوات البريطانية تقديم الاسعافات للجرحى والمصابين، وهو ما أدى إلى اشتعال الثورة ضد بريطانيا.
رد الفعل البريطاني
حاولت الحكومة البريطانية إخفاء وقائع الثورة في أمْرِيسَتار عن العالم، ولكن غاندي والساسة الهنود استخدموا الحادث بشكل كبير لفضح التعنت البريطاني مع الهنود، فعلى الرغم من مساهمة الهند الكبيرة في الحرب العالمية الأولى بالجنود والمال إلا أنها لقيت عكس هذا التعاون من الضباط البريطانيين في الهند، ولكن بريطانيا كعادتها في امتصاص الأزمات أمرت بتشكيل لجنة للتحقيق في أحداث ثورة 1919 في الهند، وقد استمعت اللجنة إلى شهادة الجنرال داير الغريبة التي تعبر عن طبيعة العقل البريطاني في الهند، فقد استدعي الجنرال داير للإدلاء بشهادته حول الحادث، فشهد أنه حاصر المتظاهرين في الميدان، ولم يقدم لهم أي تحذير بمغادرة الميدان، وأمر بإطلاق النار عليهم لأنه لم يسع إلى تفريق الحشد، بل إلى معاقبة شعب الهند بشكل عام، ولم يخجل داير من الإقرار باستخدام المدافع الرشاشة لقتل أكبر عدد من الهنود، وذكر في أقواله إنه كان يتمنى لو أدخل عدد أكبر من المدافع الرشاشة لقتل عدد أكبر من الهنود، وهو ما أثار اشمئزاز أكبر دعاة الاستعمار ونستون تشرشل Winston Churchill الذي وصف الأمر بأنه «حدث غير عادي، حدث فظيع»، وقد قبلت الحكومة البريطانية تقرير لجنة التحقيق في مارس 1922؛ أي بعد ثلاث سنوات على الحادث تقريبًا، وأعفت داير من منصبه دون توجيه أي اتهام له على جرائمه، أو حتى مقاضاته عليها، ولم تعتذر عن الحادث، ولكنها تكرمت بإلغاء قانون رولات وقانون الصحافة والقوانين القمعية الأخرى عام 1922م بحجة أنها سبب الثورة، وأنه بهذا الإلغاء تكون قد قضت على الثورة وأسبابها.
نتائج الثورة
حوَّلت الثورة الهنود العاديين إلى أشخاص مسيسين؛ فانضم ملايين الأفراد للحركة الوطنية الهندية، وأدت إلى التفات الشعب الهندي حول الزعامة الجديدة المهاتما غاندي، فتولى غاندي قيادة المؤتمر الوطني الهندي عام 1921م، وتلك القيادة التي ستقود الهند حتى الاستقلال عام 1948م، فقد قاد حركة من العصيان المدني عام 1922م ضد بريطانيا فور صدور تقرير لجنة التحقيق البريطانية حول أحداث الثورة في أمْرِيسَتار، وأدى ذلك إلى مصادمات كبيرة بين الهنود والقوات البريطانية التي اعتقلته وحكمت عليه بالسجن لمدة ست سنوات ولكنها عادت وأفرجت عنه مرة أخرى عام 1924م.
سياسة المهادنة
استخدمت بريطانيا العنف في البداية مثلما فعلت في مصر، فقد أيد حاكم البنجاب البريطاني سلوك القوات البريطانية في أمْرِيسَتار، واستخدامها العنف في مواجهة الهنود ولو كان دون مبرر منطقي، وعلى الرغم من دعم المحافظين للضابط البريطاني داير الذي أمر بإطلاق الرصاص على الهنود، واعتبار العديد من البريطانيين له بطلًا بريطانيًّا، فقد كرمه البرلمان ومنحه في مجلس اللوردات سيفًا مرصعًا بالمجوهرات، كُتب عليه «منقذ البنجاب»، إلا أنه كان من الصعب نقل تلك الصورة للهند، فقد عزل من منصبه أمام الشعب الهندي، ولكنه أعفي من المحاكمة ولم يدن بأي شكل في بريطانيا، غير أن وزير الخارجية البريطاني Montagu مونتاجو وصف المذبحة بـ«الخطأ في التقدير» فقط، ولكن علاج هذا الخطأ كان من خلال إرسال لجنة مكونة من سبعة أعضاء للتحقيق في الأحداث برئاسة اللورد هانتر Lord Hunter، وقد تكونت من WF Rice رايس سكرتير حكومة الهند، GC Rankin القاضي رانكين القاضي في محكمة كلكتا العليا، Major General Sir George Barrow و الميجور جورج باروا قائد قسم بيشاور، علاوة على ثلاثة هنود هم:
Sir Chimanlal Setalvad، Pandit Jagat Narayan، Sardar Sultan Ahmed Khan.
هكذا لجأت بريطانيا لسياسة اللعب النظيف في الهند، وأصبحت هناك سياسة بريطانية لقتل الثورة من خلال لجنة هانتر التي زارت البنجاب، والتقت القيادات الهندية وأخذت تحقق وتحقق، وتستعرض المعلومات والوقائع الواحدة تلو الأخرى، ونجحت اللجنة في مهمتها، وتمكنت من تفويت الفرصة على القيادة الوطنية الهندية في استثمار ثورة 1919 لمدة طويلة فقد هدأت الأحوال الثورية، وهنا لجأت بريطانيا للحيلة نفسها مع مصر، فتقرر بعدها بخمسة شهور في22 سبتمبر عام 1919م تشكيل لجنة برئاسة ملنر Alfred Milner وزير المستعمرات البريطانية، وبتشكيل مماثل لتشكيل لجنة هانتر حيث ضمت في عضويتها: ا. ت لويد مترجمًا للعربية بدلًا من مترجم الهندية، وعضوية أنجرام مساعد سكرتير، ورنل رود سفير إنجلترا في إيطاليا في الحرب العالمية الأولى، وجون مكسويل قائد القوات البريطانية في مصر في فترة الحرب العالمية الأولى، وخبير زراعي هو أوين توماس عضو البرلمان البريطاني، وإعلاميًّا هو سبندر رئيس تحرير صحيفة وستمنستر جازيت، ومستشارًا قانونيًّا هو هرست المستشار القضائي بوزارة الخارجية البريطانية، وهو نمط تشكيل لجنة هانتر نفسه، على أمل أن تستمر اللجنة في التحقيقات كي ينسى الشعب المصري الثورة، وكي يتم القضاء على الثورة دون نفقات السلاح والجيوش، ولكن اللجنة قابلت مقاطعة في مصر، ولم تنجح في الالتقاء بأحد مثلما فعل هانتر في الهند، ولكن لقاء القادة الهنود مع هانتر نجح في القضاء على الثورة، بينما نجحت مقاطعة ملنر في تفويت الفرصة على بريطانيا في القضاء على الثورة، ولكن في الوقت نفسه أدى نجاح هانتر إلى فقدان أنصار التعاون المعتدل مع بريطانيا كوسيلة للجلاء إلى تأييد غاندي كداعية للمقاومة لبريطانيا، وانتقلت زعامة المؤتمر الهندي إلى غاندي، وسرعان ما دب اليأس في قلوب دعاة التعاون مع بريطانيا، حتى أن محمد علي جناح أحد رواد هذا الاتجاه السياسي في الهند هاجر لبريطانيا بعد نجاح غاندي في القيادة المطلقة للحركة الوطنية الهندية التي أصبحت حركة هندوسية.
الهندوسية مصدرًا للفكر السياسي عند غاندي والثورة
استمد غاندي وسيلته للمقاومة من الهندوسية، فالهندوسي يؤمن بـ (الأهيمسا) أي اللا عنف، فكل أشكال العنف محرمة عليه في حياته، فهو لا يضرب إنسانًا أو حيوانًا أو حشرة، بل إنه لا يقطع شجرة، لأنه يعتقد دينيًّا أن الآلهة تتغلغل في كل المخلوقات سواء كانت نبات أو حيوان10، والأهيمسا مستخدمة على نطاق واسع في الملاحم الدينية الهندية11، وهي واحدة من خمسة قواعد لضبط النفس في أحكام بانتانجاجالي الأخلاقية12، كما أنها مبدأ أساسي في نظام الطبقات الهندي (الفارنا)، وهو النظام الذي يقسم الناس إلى طبقات على أساس الخلق، إذ ينقسم الناس إلى براهما وكشاتريا وفيشيا وشودرا وفقًا لقانون مانو الذي يحدد العلاقة بين طبقات المجتمع13، ووفقًا للأهيمسا فإن أغلبية الهنود نباتيون لا يأكلون الحيوانات، لأنهم يؤمنون بعدم جواز قتلها أو معاملتها بعنف لا قتلها وأكلها فقط، بل إن الكثير من معتنقي الأديان الأخرى في الهند نباتيون، حتى أن كلمة حلال في المطاعم الهندية تعني أنها مطاعم نباتية تقدم النباتات فقط للهندوس.
لم يكن غاندي مكتشف مبدأ اللا عنف؛ ولكنه كان مبدأ دينيًّا راسخًا في أذهان الهندوس منذ عام 1500 قبل الميلاد، حين دخل الفيدا ككتاب مقدس للهند، ولكنه كان أول سياسي يستخدم هذا المبدأ الديني في المجال السياسي، ولعل إيمان الهندوس بهذا المبدأ من الناحية الدينية هو ما أدى لنجاحه الواسع وتحوله لوسيلة التغلب على السياسة البريطانية، ويوضح غاندي في سيرته الذاتية ذلك بقوله «عند يأسي، أتذكر أن الحق والحب هما اللذان يربحان دائمًا على مدار التاريخ كان المغتالون والحكام المستبدون يعتقدون أنهم لا يهزمون ولو حتى في فترة من الفترات، ولكن دائمًا في النهاية يخسرون؛ فكر دائمًا؛ ماذا سيغير الدمار الجنوني من أجل الموتى، والذين بلا مأوى، واليتامى الذين يعملون تحت اسم الحرية والديمقراطية أو بسبب الشمولية. ستكون هناك العديد من القضايا من جراء مجازفتي بحياتي، لكن عندما أُقتل، فلن تكون هناك قضية واحدة»14.
هكذا كان غاندي يرى «القوة النابعة من الحب دائمة ومؤثرة آلاف المرات من الخوف النابع من العقاب. ويكون إنكار القول إن مواجهة العنف سيطبقه الأفراد وحدهم، ولن تطبقه الأمم التي ينشئها أولئك الأفراد. إن الفوضى الأكثر صفاءً هي ديمقراطية مبنية على مواجهة العنف الذي يقترب بشدة. ومجتمع ينظم ويعمل على مواجهة العنف بالكامل هو الفوضى الأنقى. ووصلت لنتيجة أن في دولة معادية للعنف يكون ضروري حتى لسلطة الشرطة. وستُختار الشرطة من الذين يؤمنون باللا عنف... والناس بشكل فطري ستقدم كل أنواع التعاون لهم، وسيتغلبون بسهولة على الفوضى التي ستتضاءل باستمرار. وسيتوفر تطبيق المبادئ الأساسية داخل مجتمع الغالبية العظمى فيه معادية للعنف، لأن الاضطرابات والصراعات العنيفة التي بين العمل ورأس المال (والأموال) ستصبح قليلة جدًا في دولة متصدية للعنف. وبالمثل (على حد سواء) لن يكون هناك تباين بين المجتمعات»15.
ورأى غاندي أن الشعب المتصدي للعنف لن يتعامل مثل الأشخاص المسلحين سواء في أوقات الحرب أو في أوقات السلام. «إذا كنت تتعرض لهجوم من خارج المجتمع اللا عنفي»، فهناك طريقتان مفتوحتان لمواجهة العنف: الطريقة الأولى عدم التعاون مع المهاجم ولكن الهيمنة. تفضيل الموت بدلًا من الانحناء (الخضوع). أما الثانية فهي اللا عنف الذي سيقوم به الأشخاص الذين نشأوا على طريقة نبذ العنف. الصورة غير المتوقعة والتي لا نهاية لها التي كونها النساء والرجال الذين يفضلون الموت عن الخضوع لرغبة المعتدي، ستُلين قلوب معتدييهم وعساكرهم. فالأمة أو المجموعة التي اختارت مبدأ اللا عنف رأيًّا سياسيًّا أساسيًّا لا يمكن إدانتها بالعبودية أو حتى القنبلة الذرية. فمستوى اللا عنف إذا جرى تطبيقه في هذه الدولة سيرتفع بشكل طبيعي، وسيُحترم بشكل عالمي16.
ومع ذلك لم ترق تلك الدعوة بجذورها الدينية للعديد من الساسة الذين رأوا فيها عائقًا لاستقلال الهند، منهم المسلمين والسيخ، لذلك وقعت ست محاولات لاغتيال غاندي، ونجحت المحاولة السادسة حين أطلق عليه النار أحد السيخ يدعى ناثوروم جوتسي ثلاث طلقات قاتلة أدت إلى مصرع المهاتما صاحب سياسة اللا عنف، ليلقى مصرعه في الثامنة والسبعين من عمره، بعد أن قال جملته الشهيرة «سيتجاهلونك ثم يحاربونك ثم يحاولون قتلك ثم يفاوضونك ثم يتراجعون، وفي النهاية ستنتصر».
الخاتمة
عقب اندلاع ثورة 1919 في مصر سارعت السلطات البريطانية في اليوم التالي للثورة لإصدار قانون معد سلفًا لتقييد المجتمع الهندي لمنع الثورة من الانتقال للهند لأهميتها المطلقة للتاج البريطاني، ولجأت السلطات البريطانية لاستخدام السلاح حتى القتالي منه مثل المدافع الرشاشة في مواجهة المتظاهرين السلميين الهنود مثلما حدث في أمْرِيسَتار، واشتعلت الثورة التي استخدمت التظاهر السلمي ضد قوات الاحتلال البريطاني، أسلوب ثورة 1919 في مصر نفسه، وهو ما يتوافق مع الثقافة الهندوسية، توافقت القوى الناعمة للثقافة الهندية مع الأسلوب المصري في الثورة فخرجت ثورة 1919 في الهند متبعة الطريق المصري، عكس ثورة العراق التي أخذت الطابع المسلح فضربتهم بريطانيا بالطائرات، ولكن نجحت بريطانيا بسجن غاندي عام 1922 وتشكيل لجنة تحقيق لم تنتهي مهامها إلا بعد ثلاث سنوات عام 1922 في القضاء على الثورة الهندية عام 1919 في الهند، ولكن فشلت لجنة ملنر في مصر بسبب مقاطعة المصريين لها فلم تجد من تستجوبه ولا من يرد عليها، ومنحت بريطانيا لمصر استقلالًا اسميًّا في العام نفسه، فأصدرت تصريح 28 فبراير عام 1922م، ووضعت في التصريح نفسه بنودًا تسمح باستمرار الوضع على ما هو عليه، وقبله السلطان أحمد فؤاد، وأعلن نفسه ملكًا على مصر والسودان، بينما لم تحصل الهند ولا حتى على استقلال اسمي.
المصادر:
1 - د. يحيي محمد محمود، الحضارات والثقافة المعاصرة، جامعة الإمارات العربية المتحدة، العين، 2008، ص 203.
2- The Last Mughal: The Fall of a Dynasty, Delhi 1857pp4-5.
3- Sumner, Ian (2001). The Indian Army 1914–1947. Osprey Publishing. P148.
4- Vohra, Ranbir (2001). The Making of India: A Historical Survey, 2nd Ed. Armonk, New York: M.E. Sharpe. p. 126.
5- Barbara D. Metcalf and Thomas R. Metcalf (2006). A concise history of modern India. Cambridge University Press. p.169
6- Bond, Brian (October 1963). “Amritsar 1919”. History Today. Vol. 13 no. 10. pp. 666–676.
7- Nigel Collett (15 October 2006). The Butcher of Amritsar: General Reginald Dyer. A&C Black. p. 262.
8- Manchester, William. The Last Lion: Winston S Churchill, Visions of Glory (1874–1932). Little, Brown. p. 694.
9- Derek Sayer, “British Reaction to the Amritsar Massacre 1919–1920”, Past & Present, May 1991, Issue 131, p.131
10- Monier-Williams, Religious Thought and Life in India (New Delhi, 1974 edition (, p131.
11- Brockington, John, “The Sanskrit Epics”, in Flood (2003), p. 125.
12- Taimni، I. K. (1961), The Science of Yoga، Adyar, India: The Theosophical Publishing House, p. 206.
13 - د. يحيي محمد محمود، الحضارات والثقافة المعاصرة، جامعة الإمارات العربية المتحدة، العين، 2008، ص 212.
14- Bharatan Kumarappa, Editör, “For Pacifists,” M.K. Gandhi, Navajivan Publishing House, Ahmedabad, Hindistan, 1949.pp154- 155
15- Gandhi, Mahatma (1972). Non-violence in peace and war, 1942–[1949]. Garland Publishing. P 345.
16- Gandhi, Mahatma (1972). Non-violence in peace and war, 1942–[1949]. Garland Publishing.p455.