أعداد خاصة

زكريا صادق الرفاعي

ثورة 1919 وتطور الكتابة التاريخية في مصر من التأريخ للأسرة إلى الـتأريخ للأمة

2019.05.01

تصوير آخرون

ثورة 1919 وتطور الكتابة التاريخية في مصر من التأريخ للأسرة إلى الـتأريخ للأمة

تاريخ مصر الحديث بين المد والجذر

كانت الثقافة التاريخية جزءًا رئيسًا من الدعوات الإصلاحية التي تبناها جيل الرواد، بل كان قسم التاريخ أحد الأقسام المهمة بكلية الألسن، وكان ذلك مواكبًا للتقدم المطرد الذي حققه علماء المصريات، وصارت فكرة مصر القديمة، وبعث مجدها السابق مطروحة بقوة في مصر آنذاك.

وخلال إدارة «رفاعة الطهطاوي» لمدرسة الألسن استطاع توظيف البعد التاريخي جيدًا، فكانت معظم الترجمات ذات صبغة تاريخية، وربما كان الباعث على ذلك مقتضيات النهضة بالدولة، وتقويتها، وهي الشغل الشاغل لرفاعة وتلاميذه، وإذا كانت بعض الترجمات قد غطّت الحاجات العلمية، والتقنية، فما زالت هناك مشكلة السلطة، وهي إحدى جوانب قوة الدولة أيضًا، وهو ما انصرفت إليه هذه الترجمات التي كان اختيارها من وحي تصور سياسي في المقام الأول.

ومن الملاحظ أن الاهتمام بتفاصيل التحديث في البلدان الأوروبية كان المحور الرئيس للكتب المترجمة حيث قدمت نماذج عديدة «روسيا»، «فرنسا»، «السويد»؛ ليصبح الدرس إذا كانت هذه الدول قد تقدمت، وصارت قُوى كبيرة، فهل يمكن تطبيق ذلك في مصر؟ . 

ويجب ألا ننسى في هذا الصدد أن «الطهطاوي» كان دائمًا ما قرن «محمد علي» بكبار الشخصيات التاريخية مثل: (الإسكندر، نابليون، بطرس الأكبر، شارل الثاني عشر) ؛ كنماذج للاقتداء، وكان يتم طبع ألف نسخة من كل كتاب، وكان بعضها يدرس في المدارس الحديثة، مما أدّى إلى توسيع دائرة الوعي التاريخي، وبذلك فقد قدّم رفاعة، وتلاميذه مجموعة من المؤلفات التاريخية عالجت مختلف العصور.

وقد شهدت الكتابة التاريخية في مصر مع مطلع القرن العشرين حراكًا ملحوظًا بغض النظر عن توجهاته وأهدافه، فدعت بعض الصحف في عام 1902م إلى إعداد، وتنظيم احتفاليات كبيرة بالقاهرة، وسائر المدن المصرية احتفاء بمرور مائة عام على وصول «محمد علي» إلى سُدَّة الحكم في مصر، وبينما تبارى البعض في الحديث عن مآثر، وأعمال محمد علي «باعث نهضة مصر وتقدمها»، كان للإمام محمد عبده (1849-1905م) رأي آخر فكتب مقاله الشهير بعنوان «آثار محمد علي في مصر» المنشور في يونيو في عام 1902م بمجلة المنار دون ذكر اسمه صراحة، مكتفيا بتذييل المقال بتوقيع «مؤرخ» 1.

وقد أوضح الإمام في ختام مقالته، وعلى النقيض من الصورة السائدة بأنه رغم جهود، وإنجازات «محمد علي» السياسية، والاقتصادية، إلا أنها أتت في تقديره بنتائج عكسية ، ولم يكن لها ظهير اجتماعي يدافع عنها فقال في عبارة موجزه، وجامعة: «ولا أظن أن أحدًا يرتاب بعد عرض تاريخ «محمد علي» على بصيرته أن هذا الرجل كان تاجرًا، زارعًا، وجنديًّا باسلاً، ومستبدًا ماهرًا، لكنه كان لمصر قاهرًا، ولحياتها الحقيقية مُعدِما، وكل ما نراه الآن فيها مما يسمّى حياة فهو من أثر غيره»2. 

 وليست القضية هي الاتفاق، أو الاختلاف مع الرؤية التي طرحها الإمام «محمد عبده»، وإن كان من الصعوبة بمكان تجاهلها باعتبار مكانة، وأهمية صاحبها، وإنما المهم هي أنها شرعت تؤسس بقوة لرواية مغايرة بموازاة الرواية الرسمية المتداولة لتجربة «محمد علي» بكل تجلياتها السياسية، والاجتماعية من زوايا مختلفة، وتردّدت أصداؤها بدرجات متفاوتة في أعمال أخرى لاحقًا.

والواقع أن الصورة الذهنية متعددة الجوانب التي ارتسمت من قِبَل الكتّاب، والمؤرخين عن شخصية «محمد علي»، والتي أعيد إنتاجها مرارًا في فترات، ومناسبات تاريخية مختلفة، قد ساهمت بلا ريب في استمرار الجدل، والتباين حول سياساته، وأعماله، وعلى حدّ قول البعض فإنه: «على الرغم من تناول العديد من الكتب لها ( أي تجربة محمد علي ) فإن القليل منها قد تناولها على وجه صحيح، وربّما بصورة مرضية، على أن الكثير، قد كتب إمّا بواسطة أنصار الأسرة المالكة، وبتكليف منها، أو بواسطة من ينتقصون من قيمتها، وبالتالي فلسنا نملك سجلاً غير متحيز لذلك العصر» 3.

ومن زاوية أخرى شهد العقد الأول من القرن العشرين صدور كتاب «اللورد كرومر» (1841-1917م) مصر الحديثة في عام 1908م، وكان محاولة دعائية صريحة لتبرير السياسات البريطانية في مصر، والدفاع عن بقاء إنجلترا بمصر، وبذل ما في وسعه من خلال ما كان بحوزته من وثائق، وإحصاءات إثبات أن الإدارة البريطانية هي التي انتشلت مصر من حالة الفوضى، والاضطراب السائدة، ومنحتها وجهًا حضاريًّا آخر، ورغم ذلك النهج الدعائي الواضح، فقد وجَّه الكتاب نَظَرَ البعض –ربّما دون قصد – إلى طرح فكرة الإصلاح في تاريخ مصر الحديث، على نحو ما فعل «جورجي زيدان» الذي أعاد طبع كتابه تاريخ مصر الحديث الصادر في عام 1889م في طبعة ثانية في عام 1911م، كما صار الاهتمام بالجوانب الإحصائية للمؤسسات، وميزانيات الدولة أمرًا ملحوظًا في الدراسات التالية 4 ، ولم تخل تلك الفترة من صدور بعض الكتابات النوعية المهمة مثل: «الضرائب، والأطيان في القطر المصري» لجرجس حنين (صدر في عام 1904)، و»تاريخ التعليم في مصر بين سنتَي 1914-1915 لأمين سامي (صدر في عام 1917) 5، ولم تأت تلك الكتابات، وغيرها من فراغ بل كانت وثيقة الصلة بالتيارات الفكرية المتدافعة التي شهدتها البلاد على تنوعها منذ أواخر القرن التاسع عشر، فضلا عن تطور الصحافة، وازدهار نشاط الجمعيات الثقافية العلمية والأدبية، فضلاً عن افتتاح الجامعة الأهلية في عام 1908م، وما صَاحبَهَا من متغيرات متسارعة، كان في مقدمتها انخراط المرأة – بصورة ملحوظة– في العمل العام.

ثورة 1919 والفكرة القومية 

 كانت ثورة 1919 بتجلياتها المختلفة علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، فشاركت فيها حشود المصريين على تنوع انتماءاتهم الطبقية، والأيدلوجية، وعبّروا عما جاش في نفوسهم من آمال، وتطلعات، وبطبيعة الحال زادت الثورة بما رفعته من شعارات، وما قدمتْه من شهداء من رصيد الوعي الجمعي بالتاريخ لدى المصريين، فلم يعد التاريخ قاصرًا على استحضار الماضي، ومطالعته فحسب، وإنما صارت يوميات الثورة بزخمها، وأحداثها تاريخًا حاضرًا ملء السمع والبصر يشارك في صنعه الجميع على قدم المساواة 6 .

وفي أعقاب الثورة عاد للظهور مجددًا ذلك الجدل التاريخي الكامن الذي سبقت الإشارة إليه في مطلع القرن العشرين، وغَدَا اللجوء إلى التاريخ، وتوظيفه، وتطويعه خدمة لأغراض بعينها واقعًا ملموسًا في كتابات تلك الفترة التي برز فيها اتجاهين من الأعمال التاريخية على النحو الآتي: 

أولًا: التيار القومي، دراسات محمد صبري السربوني (أنموذجًا) 

ونعني بالتيار القومي ذلك النموذج الجديد من المؤرخين المحترفين اللذين بدأوا على الساحة، مثل: «محمد رفعت، ومحمد صبري السربوني، ومحمد شفيق غربال»، وكانوا نتاجًا لنمط التعليم الغربي 7 ، وهم عمُدُ المدرسة التاريخية المصرية، ومن خلال دراستهم، وتدريبهم كانوا على وعي كبير بأهمية استخدام المحفوظات التاريخية الأصلية ، كما أعلى هؤلاء – بحكم وعيهم للظرف التاريخي الذي عاشوا فيه، فضلاً عن نزعتهم الوطنية، واحتضانهم للفكرة القومية آنذاك من فكرة الدولة – الأمة في مختلف أعمالهم، وخطّت الكتابة التاريخية الأكاديمية – بفضل جهودهم– خطوات ملموسة، وينضم إليهم بطبيعة الحال صاحب الإنتاج الغزير «عبد الرحمن الرافعي» 8 .

وربّما كان محمد صبري السربوني (1894-1978)9 أكثر رفاقه تعبيرًا عن التوجهات القومية في صياغة تاريخ مصر الحديث، وقد ظهرت مبكرًا في عمله عن ثورة 1919 La Revolution Egyptienne، وقد صدر ما بين عامي 1919 إلى 1921م حيث عمل السربوني متطوعًا سكرتيرًا للوفد المصري خلال وجوده لحضور مؤتمر الصلح في باريس ، وعبّر في الكتاب عن رؤية الوفد المصري بزعامة سعد زغلول الذي تحمّس له منذ البداية معتبرًا إياه الجدير بزعامة مصر أكثر من الملك فؤاد الذي لا يحظى بقبول شعبي، ووصف لقاءه بقوله: «لقد قلت لسعد زغلول سنة 1919، وأنا سكرتير صغير له: إذا كنت تريد للثورة أن تستمر، فلابد قبل السلاح والحماسة أن تكتب تاريخ مصر»، ورأى البعض أن لقاء السربوني بالزعيم سعد زغلول كان الباعث الأول وراء شروعه في إصدار كتابه عن الثورة المصرية10، ومن ثَمّ فقد نجح السربوني في أن يجعل من فكرة الثورة نفسها –ربَّما للمرة الأولى– موضوعًا تاريخيًّا جديرًا بالدراسة11، وكان لنهجه في كتابة الحواشي بطريقة علمية منظمة سببًا في دعوة «جاك كرابس» Jack Crabbs إلى القول بأن ذلك الكتاب قد شكَّل بداية الكتابة التاريخية في مصر بطريقة علميَة، ومنهجية 12 .

وحتى يمكن فهم ما كتبه السربوني عن ثورة 1919 التي اعتبرها بعبارة صريحة أنها ابنة الثورة الفرنسية يجب الإشارة إلى تأثره الواضح بأستاذه في السربون «الفونس أولار» Alphonse Aulard 1849 - 1928 وكان مختصا في تاريخ الثورة الفرنسية13، وعلى قناعة بأن قيم الديمقراطية، والمساواة تجد طريقها الأمثل في التطبيق العملي من خلال النظام الجمهوري، وسعى في دراساته المتعددة عن الثورة الفرنسية؛ لإثبات صحة هذا التوجه، كما كان أولار من أشد المخلصين للأكاديمية الفرنسية وتقاليدها، فدراسة التاريخ هدفها الرئيسي هو: غرس قيم الوطنية في نفوس الشباب جيلًا وراء جيلٍ؛ ليكون ذلك باعثًا لهم على الولاء، والانتماء لوطنهم، وكان ذلك النهج هو ما حاول السربوني تطبيقه عمليًّا في تأريخه لثورة 1919 14 .

وبحكم دراسته وجد السربوني أن الثورات الأوربية قد اتسمت دومًا بالحركة، والحيوية، وذلك ما ينبغي أن يكون عليه التاريخ الحقيقي بعيدًا عن الجمود والثبات، ومن جهة أخرى كان على قناعة بأن الكفاح الشعبي والوطني هو الذي يضع الأساس القوي للمساواة في المجتمع بين الرجل والمرأة، معتبرًا أن «حركة تحرير المرأة» في مصر هي إحدى ثمار ثورة 1919 15، وكان منطقيًّا أن ينصب الاهتمام الرئيسي للسربوني في كتبه التالية بتقصّي ورصد دور الشعب المصري في صنع تاريخه خلال الفترة من عام 1798 إلى عام 1919، وهو الأمر الذي سار عليه الرافعي، وكثير من المؤرخين المصريين – لاحقًا.

وقد أشار البعض إلى أن السربوني كان أول من صاغ مصطلح «الروح القومية المصرية»، كما أنه كان سبّاقًا عندما صاغ مصطلح «المسألة المصرية»16 عندما وضع دراسة بهذا العنوان في عام 1920م ، بل عدَّ البعضُ ذلك الكتاب منافسًا لكتاب شفيق غربال، عن «المسألة المصرية» ، ومما له دلالته – أيضًا – أن السربوني أعدّ دراسة عن «الحركة الاستقلالية في إيطاليا» ألقاها في الجامعة المصرية في عام 1922 ثم نشرها في كتاب في العام نفسه17. 

والسربوني الشاب المتحمس لاستعادة شعارات الثورة الفرنسية رأى أن المَلكيّة – كنظام سياسي – لم تعد مناسبة للأمة المصرية بعد قيام ثورة 1919م، وانحاز منذ البداية إلى جانب «سعد زغلول» في صراعه مع «الملك فؤاد»، ولعل تلك الآراء كانت وراء المقاطعة الرسمية لكتاباته، وأعماله بل ومصادرتها، ليس من قِبَل الملك فحسب، وإنما – أيضًا– من جانب السلطات البريطانية التي ندد بفظائعها في مصر أمام الرأي العام الخارجي 18.

ويمكن القول بأن: نهج السربوني، وحسه القومي الجارف، كان في جانب منه صدى للحراك السياسي، والاجتماعي آنذاك، لاسيما الاتجاه الرافض رفضًا لـ «سياسات العثمنة» إن جاز التعبير، وهو التيار الذي جسدته بوضوح كبير كتابات الجيل الثالث من ذوي الأصول التركية خاصة أعمال «أحمد شفيق، وأمين سامي»، فرغم قيمتها التاريخية الكبيرة، واعتمادها على الوثائق الأصلية ، فإنها قد انحازت للأسرة العلوية في المقام الأول ، حتى أن أمين سامي استبدل عبارات وألفاظ محمد علي الورادة في الوثائق بعبارات أخرى باعتبار أن هناك بعض الألفاظ غير اللائقة لا يجب أن تسند للمؤسس العظيم 19.

وكان السربوني –رغم ما صادفه من عقبات عملية في حياته– من أكثر جيله إنتاجًا للمعرفة التاريخية ، وربما كان أثر أعماله محدودًا؛ نظرًا لأنها كانت بالفرنسية 20، وظل الرجل على نحو دائم وفيًّا لقناعاته ، فدراسة التاريخ لها طابع وظيفي في خدمة الوطن لا غنى عنه ، فكتب دراسته عن «السودان المصري 1821-1898م» بالفرنسية في عام 1947م ، وهي الدراسة التي كلفته حكومة النقراشي باشا بإعدادها، وتم الاعتماد عليها خلال عرض القضية المصرية أمام مجلس الأمن، وتكرر الأمر مجددًا في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس ، وأصدر كتابه «أسرار قضية التدويل واتفاقية 1888م»، وأتبعه بكتاب «فضيحة السويس» كاشفًا فيه عن الأطماع الغربية التاريخية استنادًا إلى وثائق الأرشيفات الأوربية ذاتها 21. 

وكان السربوني حريصًا على الصرامة العلمية في مختلف كتاباته ، ومن ثَمّ كان حرصه متزايدًا في الاستعانة بالوثائق، والمصادر التاريخية الأصلية مهما كلفه ذلك من جهد ومال، فاستعان بالأرشيف النمساوي إلى جانب الأرشيفات الفرنسية، والبريطانية22، وأسعفته قدراته ، وملكاته على الإحاطة، والمتابعة لأعمال معاصريه في مصر وخارجها، وقد ألمح إلى تأثره بنهج الإمام «محمد عبده»، و«استعانته بذكريات المصلح الكبير» 23 ، ولم يغب عن بال السربوني الباحث المدقق التوظيف الأيدلوجي لتاريخ مصر الحديث فأعلن صراحة أن «هيمنة السياسة على التاريخ قد شوهت تاريخ مصر في عهد إسماعيل، كما شوهته في عهد محمد علي» 24، ولعل صرامته العلمية، وصراحته المفرطة قد كلفته الكثير في حياته العملية فكان أقل أقرانه شغلاً للوظائف العامة، ولم ينل من التكريم، والشهرة ما يستحق رغم نبوغه العلمي 25.

وعلى حين لم يكتب «أحمد شفيق» شيئًا عن عصر عباس الأول، وسعيد بحجة أن ليس بهما أحداث مهمة 26، فإن السربوني رغم انتقاده لعصر عباس الأول (1850- 1854م) لم ينكر ما له من المزايا مثل: الحد من تدفق الأوربيين إلى مصر، والدفاع عن الاستقلال الذاتي أمام تعديات تركيا، ومحاولات القنصل البريطاني27، إضافة إلى إنشاءه مركزًا عسكريًّا مصريًّا لأول مرة في الطور في شبه جزيرة سيناء شمال البحر الأحمر، لحماية حدود مصر الشرقية 28، وأضاف السربوني أنه في عهد سعيد (1854-1863 م) بدأت لأول مرة في تاريخ مصر الحديثة تدخل كلمتا «الوطن»، و»الأمة» قاموس الأدب المتدوال 29.

ومن خلال وَلَعِه الكبير بالأدب شعرًا، ونثرًا وصف السربوني عصر الخديوي إسماعيل (1863-1879م) بقوله: «عَرفَ عهدُ إسماعيل العظمة، والبؤس في مجال السياسة، والاجتماع بالضبط كما حدث في عهد محمد علي»، وفي موضع آخر وصف إسماعيل بأنه: «لم يتخذ له نقطة ارتكاز شعبية تؤيده ، فحاشيته، والحكومة الاستبدادية قد عزلتاه عن الأمة» 30، ورغم إشادته بعصر محمد علي، وإسماعيل فإنه أوضح أن كلاهما لم « يُعْنَ بتحسين أحوال الفلاح الذي وقع تحت ضغوط الحرب، واحتياجاته المادية، وتنفيذ الأشغال العمومية؛ ولذا فإن كلاهما قد عصر الفلاح، وأثقلا عليه في الضرائب»، وهي نفس الرؤية التي طرحها الإمام «محمد عبده» من قبل 31.

وتقصَّى السربوني –على نحو لافت– إرهاصات الفكرة القومية بقوله: «أثمرت المحن القاسية في عهد إسماعيل عن نتيجة إيجابية، فالروح المصرية قد استيقظت، وتكونت أفكار اجتماعية، وسياسية جديدة، كما أن الطبقة الوسطى المصرية قد نمت في عهد إسماعيل، إضافة إلى تقدم علم المصريات، وصحوة الدراسات التاريخية» 32.

التيار الثاني: التاريخ الرسمي وإنشاء أرشيف عابدين 

في أعقاب ثورة 1919م بات واضحًا أمام «الملك فؤاد» أن الملكية المصرية تجابه تحديات كبيرة في وجودها، واستمرارها ليس فقط على الصعيد السياسي ، فلم يغب عن باله – منذ وقت مبكر – أن ثمّة لغة جديدة خاصة في صياغة تاريخ مصر القومي بدت ملامحها واضحة في الانحياز للشعب باعتباره «صانع التاريخ»؛ بكفاحه، وتضحياته ، وأضحت هناك حاجة ملحة لأهمية التأقلم مع ذلك «المد القومي المتصاعد»، الذي ربما طالت بعض سهامه شرعية، وهَيْبة الأسرة الحاكمة، ولاحت في الأفق محاولات متسارعة لضبط إيقاع المد القومي، واحتواءه من خلال وجود مؤسسة مهيمنة تصبح هي الناطق الرسمي لتاريخ الملكية المصرية على مدار ثلاثين عامًا 33.

وبدا أن ملامح المشروع التاريخي للملك فؤاد قد تعلّق في جوهره بترسيخ فكرة « المؤسس» لجدّه محمد علي، ثم الإلحاح على وصف «المجدّد» لوالده الخديوي إسماعيل في المقام الأول ، وقد فاز «إلياس الأيوبي» ( 1874-1927) بجائزة أفضل كتاب عن حقبة الخديوي إسماعيل، وكتب في مقدمته مخاطبًا الملك فؤاد بقوله: « فلم يك والدُك الجليل نورًا ساطعًا فحسب ، بل كان شمسًا متألقة في سماء مصر، ولا غرْوَ إذا اتجهت رغبتك يا مولاي – وأنت أبر أبناء هذا المصلح العظيم – الذي تمت على يديه جميع هذه المدهشات إلى أن يفصل التاريخ وقائعها ...» وقد أمر الملك بتوزيع الكتاب على مدرّسي التاريخ بالمدارس المصرية مجانًا 34، وقد عرض على «الأيوبي» مبلغًا إضافيًّا آخر نظير ترجمته لكتابه إلى الفرنسية ربّما؛ ليكون خطوة في مواجهة كتابات «السربوني» لكنه رفض في نهاية المطاف 35.

 وقبل إنشاء «أرشيف عابدين» كانت المحفوظات التاريخية المصرية متفرقة بين عدة جهات، فهناك عدد ضخم من سجلّات المحاكم الشرعية، والتي غطت فترة طويلة من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، وهناك أرشيفات عديدة لوزارة الأوقاف، وسجلّات المحاكم المختلطة، إضافة إلى وجود مجموعات وثائقية نادرة بالأزهر، والجمعية الجغرافية، ومكتبة القصر العيني، كما وجدت مكتبات خاصة بلغت شهرة بعضها الآفاق مثل المكتبة التيمورية 36.

ولا نعرف –على وجه اليقين– المحاولات التي تمّت من خلالها الاعتماد على وثائق دار المحفوظات المصرية في إعداد الدراسات التاريخية، ويبدو أنها كانت محدودة النطاق، منها محاولة المستشار المالي المعروف «إدوراد سيسل» في عام 1893م للبحث عن معلومات مالية تخص عصر سعيد وقناة السويس ، ومن بين المحاولات البحثية تلك التي قام بها «يعقوب فريحان»Agop Farahyan الموظف بوزارة المالية حيث جمع، وترجم بعضَ مراسلات «محمد علي» ولكنها لم تنشر ، وفي عام 1913م أنجزت دراسة أخرى عن مراسلات «محمد علي» خديوي مصر (1807-1848 م)، ولكنها لم تنشر في اللحظة الأخيرة ، وبالجملة وحتى عام 1920م لم تظهر كتابات تاريخية اعتمدت على الوثائق يعتد بها ، باستثناء أعمال «أحمد شفيق ، وأمين سامي» وبدرجة أقل «أحمد فتحي زغلول» اللذين تمكنوا بفضل مناصبهم في جهّز الدولة من الاطلاع على المحفوظات التاريخية 37. 

على أية حال استعان «الملك فؤاد» أولاً في بداية مشروعه بالإيطالي «إيجينو جرافني» Eugenio Griffini، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي عرض فيها استقدام جرافيني إلى مصر فقد دعاه الأمير فؤاد؛ للتدريس بالجامعة المصرية في عام 1910م ، ورغم اعتذاره عن الحضور فقد ظلّ باب التعاون مفتوحًا في المستقبل، وحاز الرجل على شهرة كبيرة باعتباره خبيرًا بالوثائق العثمانية، وعمل بليبيا، وتونس، والجزائر، واليمن ، وعندما قبل العمل في مصر أوضح أن أحد أسباب قبوله للعمل هو: السعي لإستعادة الثقافة الإيطالية مجددًا لمكانتها بعد أن حلت محلها اليونانية، والفرنسية، والإنجليزية ، وأصبحت مهمة جرافيني معروفة، ومتابعة مِن قِبَل الخارجية الإيطالية 38. 

ويبدو أن مشروع «الملك فؤاد» قد ظهر تدريجيًّا ، فكانت البداية هي تنظيم المحفوظات التاريخية بمكتبة قصر عابدين، ومع التكليفات بنسخ ما يتعلق بتاريخ مصر في الأرشيفات الأوربية، إضافة إلى ما تم نقله من دار المحفوظات بالقلعة، تحوّل المشروع منذ عام 1923م من مكتبة تاريخية بالقصر إلى أرشيف تاريخي كبير، ومؤسسة منوطة بتسجيل التاريخ الرسمي.

ولم يترك «جرافيني» شيئًا عن طبيعة عمله القصيرة التي لم تزد عن خمس سنوات، ويبدو أنه عمل على ترجمة وثائق محمد علي منذ عام 1907م إلى عام 1813م من العثمانية، وكان هو الذي نقّب في أرشيفات «تورين، ونابولي، وفينسيا، وليفورنو، وتريستيا، وفيينا» ، وكانت في الأغلب الأعم حول حقبة محمد علي، وعزّزت من جوهر الفكرة الرئيسة للمشروع، وهي: «ترسيخ وتثبيت فكرة المؤسس الأول» .

 وفي عام 1925م شكل «الملك فؤاد» لجنة لبحث أمر المحفوظات التاريخية برئاسة «حسن نشأت، وأدولف قطاوي» سكرتير الجمعية الجغرافية، و«أحمد تيمور باشا، والقبطان جورج دوان» الملحق بشركة قناة السويس، وكانت مهمتها حصر الوثائق، وتصينفها، وترجمتها، وشكّلت لجنة خاصة لترجمة الوثائق من التركية إلى العربية، ثم من العربية إلى الفرنسية ، ونجحت اللجنة في الحصول على نسخة من الوثائق المتعلقة بعصر محمد علي، وحتى عهد إسماعيل في أرشيفات فرنسا، والنمسا، وبولونيا، وإنجلترا 39.

وتمت الاستعانة أيضًا بـ «جين ديني» Jean Deny بعد وفاة جرافيني، وكان خبيرًا أيضًا باللغة التركية، ووصل إلى مصر في عام 1926 ، واستمر عمله أربعة سنوات كانت مثمرة، فنشر في عام 1930 دراسة قيمة بعنوان: Sommaire Des Archives Turques Du Caire، وكلف آخرين مثل: «الإيطالي ساماركو، والبريطاني هنري دودويل، والأمريكي كرابتيس، والفرنسي شارل رو» 40، وأخرج هؤلاء العديد من الأعمال التاريخية المهمة على فترات مختلفة ، وقد حاول الجميع الإعلاء من دور، وشأن الجالية التي ينتمي إليها في الحياة المصرية .

وربّما بدت استعانة «الملك فؤاد» بالأجانب منطقيّة فهو – بحكم تكوينه الثقافي، وتعليمه – لم يعرف العربية، ولم يثق أيضًا بالمؤرخين المصريين اللذين –رغم علاقتهم الجيدة بالقصر الملكي، وتقريظيهم لسياسات محمد علي وإسماعيل– قد وجهوا في الوقت ذاته انتقادات مستترة إلى تلك السياسات، وأصبح أرشيف عابدين أمرًا واقعًا بعدما نقلت إليه من دار المحفوظات خلال الفترة من عام 1932م، وعام 1934م ، نحو: (16.589 سجلا) ، و(3176 ملفًّا) ، و(623.917) وثائق متفرقة، فضلا عن الوثائق التي نقلت – أيضًا – من الجمعية الجغرافية الملكية، والتي نشرت تباعًا بصورة متوالية من عام 1934 41.

ومن المجموعات الوثائقية المهمة ما تعلق بالأرشيف اليوناني جاءت عن طريق Polites Athanasios الموظف بوزارة الخارجية اليونانية، وترجم الحاخام «حاييم ناحوم» الفرمانات العثمانية ، ونقل «رينييه قطاوي» جانبًا من الوثائق الروسية ، ونقل «علي إسماعيل»، وهو من العاملين بسفارة مصر في واشنطن الوثائق الأمريكية عن حقبة الخديوي إسماعيل 42.

على أية حال فإن الحراك التاريخي الخصب الذي شهدته مصر في النصف الأول من القرن العشرين مدين – في جانب كبير منه – إلى ثورة عام 1919م، وتداعياتها ، وكان –بلا ريب – أحد نتائجها الباقية ، ومع التسليم بالتباين في المنطلقات، والأهداف، ورغم الجوانب الدعائية المعلنة حينًا، والمستترة أحيانًا، فقد تنوعت الاتجاهات، والمشارب التاريخية التي شهدتها تلك الفترة ، وربما استحوذت الأعمال التاريخية آنذاك على النصيب الأوفى في الطباعة والنشر ، ورغم المتغيرات السياسية، والاجتماعية التي طرأت على المدرسة التاريخية في مصر في أعقاب ثورة يوليو 1952م كمًّا وكيفًا ، فما زال الجدل محتدمًا ، والاتجاهات التاريخية المتباينة بأدوات وآليات جديدة .