دراسات

فؤاد مرسي

حكاية "مقصوفة الرقبة" وبنات الهوى

2021.06.01

حكاية "مقصوفة الرقبة" وبنات الهوى

يروق للبعض أن يبحث في جذور التعبيرات اليومية، لما تكشف عنه من كيفية إدراك العالم وتمثّله، ولعل تعبير "مقصوفة الرقبة" لم تسلم منه أية فتاة تخرج عن طوع المجتمع، ساعية وراء هواها الخاص، أما جذوره فتعود، في أحد مدارج البحث، إلى فتاة لم تكن قد تجاوزت بعد طور المراهقة حين رأت نساء الحملة الفرنسية يجبن شوارع القاهرة بكل حرية وهو الأمر الذي كان صعب المنال لفتاة مثلها تنتمي إلى عالم الحريم، تطالع الدنيا من وراء مشرفيات، تتيح لها أن ترى كل شيء دون أن يلمحها أحد، انتهزت الفتاة فرصة تقرب أبيها من رجال الحملة ومخالطته لهم، واستطاعت من وراء ذلك أن تحقق لنفسها بعض المكاسب البسيطة وتشق مجالا تعلن فيه عن أنوثتها. وإزاء تطور الأحداث وصعود نجم أبيها السياسي؛ تناهبت البنت الأقوال ووقعت، ضحية لها، في قبضة من قصف رقبتها!

ماتت زينب البكري، وسجلت مأساتها عدة سطور في تاريخ "الجبرتي"، لكن هذه السطور وجد فيها الرماةُ، على اختلاف مشاربهم طيفا من مسعاهم، كلٌ سعى أن يضرب عصفورين بحجر واحد ويظفر بمكسب يشرعن به مشروعه السياسي أو الفكري، أو في أصدق النوايا موقفه الاجتماعي، ناهضًا فيما بين يمين ويسار على جثة فتاة بائسة اسمها "زينب البكري"، كل جنايتها في الحياة أنها ابنة لأب غلبه طموحه.

تحولت، الواقعة وملابساتها، إلى منشور عاكس للصراعات السياسية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية، دون، ربما، أن يمنح أحد نفسه مهلة تأمل الحادث وتقليبه على جوانبه، بما يضع الأمور في نصابها، فالحداثيون اتخذوا خلفياتها متكأ شرعيًا للتنظير لفجر تحرير المرأة، ورأوا فيها ريادة مبكرة في زمن مشوّش، لم تكن فيه أفكار التحرر قد نضجت بعد ولا حتى صادفت حركة فكرية تُنظِّر لها، أما التقليديون، وأنصار بقاء الوضع على ما هو عليه وطرد كل من يخرج عنه من جنتهم فقد حولوا الوقائع ذاتها إلى أسنة يقصفون بها أقلام المعسكر الآخر، فيما عابها المحافظون واعتبروها خروجًا استثنائيًّا على تقاليد وأعراف المجتمع، كما اعتبروا "زينب البكري" مجرد فتاة مارقة لاقت ما تستحقه من جزاء، وقدموها تقية لبيوتهم ونسائهم، حتى ترتدع كل بنت تفكر في مثل ما فكرت فيه "زينب البكري".

ففي سياق التأريخ لمستهل عام ١٢١٦ه، الموافق ١٨٠١م، قال الجبرتي (باختصار):

وأما من مات في العام الماضي ممن له ذكر: الأجّل المبجّل والمحترم المفضل السيد خليل البكري الصديقي، ووالدته من ذرية شمس الدين الحنفي وهو أخو الشيخ أحمد البكري الصديقي الذي كان متوليا على سجادتهم ولما مات أخوه لم يلها المترجم لما فيه من الرعونة وارتكابه أمورًا غير لائقة، بل تولاها ابن عمه، مضافة لنقابة الأشراف فتنازع مع ابن عمه المذكور وقسموا البيت الذي هو مسكنهم بالأزبكية نصفين، وعمّر منابه عمارة متقنة وزخرفه وأنشأ فيه بستانا زرع فيه أصناف الأشجار والفواكه فلما توفي ابن عمه تولى (البكري) مشيخة السجادة وتولى نقابة الأشراف السيد عمر مكرم، فلما جاء الفرنساوية تداخل المترجم فيهم وخرج السيد عمر مع من خرج هاربا من الفرنساوية إلى بلاد الشام وعرّف المترجم الفرنساوية أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلدوه إياها واستولى على وقفها وإيرادها وانفرد بسكن البيت وصار له قبول عند الفرنساوية وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان، فكان وافر الحرمة، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة عندهم، فازدحم بيته بالدعاوى والشكاوى واجتمع عنده مماليك من مماليك الأمراء المصرية الذين فروا من الفرنسيس، واستمر على ذلك إلى أن وقعت الحروب في البلدة بين العثمانية والفرنساوية والأمراء المصرية وأهل البلدة فهجم على داره المتهورون من العامة ونهبوه وهتكوا حريمه وعروه عن ثيابه وسحبوه بينهم مكشوف الرأس من الأزبكية إلى الجمالية ، فشفع فيه الحاضرون وأطلقوه بعد أن اشرف على الهلاك، وأخذه الخواجا أحمد بن محرم إلى داره وأكرمه وبقي بداره إلى أن انقضت أيام الفتنة وظهرت الفرنساوية على المحاربين لهم وخرجوا من البلدة واستقر بها الفرنساوية، فعند ذلك ذهب إليهم وشكا لهم ما حل به بسبب موالاته لهم فعوضوا عليه ما نهب له ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم.

وكان له ابنة خرجت عن طورها في أيام الفرنسيس فلما أشيع حضور الوزير (العثماني) والإنكليز وظهر على الفرنساوية الخروج من مصر فقتل ابنته المذكورة بيد حاكم الشرطة فلما استقرت العثمانية بالديار المصرية عزل المترجم عن نقابة الأشراف وتولاها السيد عمر مكرم كما كان قبل الفرنساوية ولما حضر الوالي محمد باشا خسرو أنهى إليه الكارهون له بأنه مرتكب للموبقات ويعاقر الشراب وغير ذلك وأن ابنته كانت تذهب إلى الفرنسيس بعلمه وأنه قتلها خوفا وتبرئة لنفسه من الشهرة التي لا يمكنه سترها ولا يقبل عذره فيها ولا التنصل منها وأنه لا يصلح لمشيخة سجادة السادة البكرية، وعرفوه أن هناك شخصا من سلسلتهم أنسب لهذه المكانة فقلدوه إياها.

يواصل الجبرتي: وخمل أمر (خليل البكري) واشترى دارا بدرب الجماميز .. كما اشترى دارين من دور الأمراء وهدمهما وبنى بأنقاضهما وباع ما كان تحت يده من حصص الالتزام وسد بأثمانها ديونه واقتصر على إيراده فيما يخصه من وقف جده لأمه، وتصدى لإيذائه أنفار من المتظاهرين مثل السيد عمر مكرم النقيب والشيخ محمد وفا السادات وخلافهما حتى أنه كان عقد لابنه على إحدى قريباته فتعصبوا عليه بعد عزله من المشيخة والنقابة وأبطلوا العقد وفسخوا النكاح ببيت القاضي وتسلط عليه من له دين أو دعوى أو مطالبة حتى بيّعوه ما يملك.

ويشير الجبرتي أن "البكري" كان قد اشترى مملوكا في أيام الفرنساوية جميل الصورة فلما حصل له ما حصل ادعى عليه البائع أنه أخذه دون القيمة ولم يدفع له الثمن فلم يثبت عليه ذلك وكان المملوك ذهب من عنده وتم الأمر والمصالحة على أن عثمان بك المرادي أخذ ذلك المملوك لنفسه، ولم يزل المترجم على حالة خموله حتى تحرك عليه داء الفتق ومات ودفن عند أسلافه بمشهد السادة البكرية بالقرافة .

ويُفهم بوضوح مما رواه الجبرتي أن زينب بنت الشيخ خليل البكري، كانت قد تبرجت وجارت الفرنسيين في طباعهم وملابسهم، واتهمت بسبب ذلك السلوك في شرفها، فقد كان هناك من ذهب إلى أبعد من هذا وادعى عليها أنها كانت عشيقة لنابليون بونابرت!

أما الغلام المتنازع عليه فلم يثبت على الشيخ البكري أية إدانة بشأنه وحسم أمره، مع ذلك فسوف نلاقي بعد ذلك من يتغامز على الشيخ خليل البكري بشأن علاقته بذلك الغلام.

ونحن أمام نقطتين فارقتين:

الأولى: تعاون الشيخ خليل البكري مع الفرنساوية وتقربه البالغ من "نابليون بونابرت" وسعيه لديه لتنصيبه أمر نقابة الأشراف خلفا للسيد عمر مكرم، وهو أمر لم يكن مقبولا لدى عموم الناس لما كان يحظى به السيد عمر مكرم من شعبية كاسحة، ومن ثمّ، ربما، كان أحد أشكال الاقتصاص منه هو ابنته نفسها التي لم يزد جرمها - حسب رواية الجبرتي- عن حد ارتدائها الفساتين الملونة ومشيها وحدها في الشوارع، في زمن لم تكن تجرؤ المرأة فيه على الخروج وحدها إلا برفقة صبي أو عجوز تحصي عليها حركاتها.

وهنا يحق لنا سؤال أولي: إذا كان المجتمع قد هب تلك الهبة العنيفة والمنتقمة ضد الشيخ "خليل البكري" لتعاونه مع الفرنسيين، فلماذا لم تحدث مثلها في رشيد، وقد تعاون الشيخ "علي الرشيدي" مع الفرنسيين أيضا وصاهر القائد "مينو" الذي كافأه الأخير بتنصيبه وزيرًا، مع ذلك لم نقرأ أن أحدًا مسه بسوء بعد رحيل الحملة، بل وسافرت ابنته مع زوجها الفرنسي باطمئنان. ومع أن نساء رشيد كن قد خرجن في تلك الغضون في تظاهرة يطالبن بمساواتهن مع الرجال في الذهاب إلى الحمامات العامة، وذلك ردًا على قرار عمدة رشيد بحظر دخولهن الحمامات العامة، مع أنه كان أمرًا عاديًا في مصر، وتشير بعض أصابع الاتهام أن الحمامي الرشيدي هو الذي كان وراء تظاهرة النساء لترويج بضاعته، بما يعني أن كلا من البكري والحمامي كانت تحركه المصالح الخاصة، مع ذلك يقول لويس عوض: فالذي لا شك فيه أن خروج نساء رشيد في تظاهرة عامة يجب أن يعد حدثًا مهمًا في تاريخ المرأة المصرية وفي تاريخ الدعوة لتحرير المرأة في مصر .

الثانية: تداخل الفتاة "زينب البكري" مع الفرنساوية وانتهاجها مسالكهم، وهو الأمر الذي كان مرفوضًا على المستوى الاجتماعي، ربما، حتى لأبيها الذي أسهم في تسليمها بنفسه لمن اقتص منها وقطم رقبتها. مع ذلك بولغ في التعريض بابنته كانتقام ونيل منه شخصيًّا وعقاب باتر على تعاونه مع المحتل الأجنبي، بل وصارت مثلاً أبديًّا لكل من تسوِّل لها نفسها بمخالفة عادات المجتمع.

المرأة.. أيقونة الحملة الفرنسية

كانت المرأة حاضرة بقوة في يوميات الحملة الفرنسية على مصر، وقد اعتبروها مدخلاً لينا لقلوب المصريين الذين راحوا يستميلونهم بشتى الطرق، بدءًا من توجيهات بونابرت لجنوده وهو على ظهر السفينة "لوريان": إن الشعوب التي سننزل بينها تعامل النساء بطرق تختلف عن طرقنا كل الاختلاف، ولكن المغتصب الذي يهتك الأعراض يعتبر متوحشًا في البلاد جميعها".

مرورًا ببعض قادة الحملة الذين أعلنوا إسلامهم في سبيل الظفر بالمرأة المصرية وأشهرهم القائد "مينو" الذي تزوج من "زبيدة" ابنة الحمامي الرشيدي، ذلك الزواج الذي يفسر تارة على أنه كان بدافع الهوى والشغف بفتنتها وتارة من أجل دمج الفرنسيين في الحياة المصرية وتمكينهم من مفاصل الحياة المصرية.

نعم.. كان دخول الفرنسيين القاهرة نقطة تحول فارقة، ثمّ من ناهضها وحاربها، لكنها كانت - بالفعل- صدمة حضارية لمجتمع يرزح تحت عبء المماليك وربما رأى في الوافد الجديد بارقة أمل وخلاص من تكلس وجور رانا على يوميات المصريين، ففيما يعايشون صراع المماليك اليومي على السلطة وتوظيفهم للمرأة في ذلك الصراع وتكبيدهم الأهالي أموالاً طائلة في صورة مكوس يجمعونها مما أرهق كاهل الأهالي اقتصاديا، جاء النموذج الفرنسي ومعه منطاد الهواء ومطبعة الحروف والمجمع العلمي، بعلمائه الذين راحوا يجوبون البلاد، يصورون ويسجلون كل نأمة ويجرون أبحاثًا علمية استعانوا فيها بمجموعة من المصريين.. خالطوهم عن قرب ورشفوا من مناهلهم، وبذلك كشف مجيء الحملة الفرنسية عن عظم الهوة التي تفصل بين حضارة الغرب الناهضة المتقدمة وحضارة الشرق الآفلة، والتي لم يبق منها غير تلك الذبالة التي تلفظ أنفاسها في رحبات الأزهر، على نحو ما يقول د. "حسين فوزي النجار".

من يقرأ يوميات الجبرتي عامة يلحظ ذلك الانتقاد اللاذع لمن ساير الفرنسيين في أهوائهم وفرا فريهم، خصوصا بعض النساء اللواتي انخرطن معهن، وهن كما يلحظ ممن خرجن على تقاليد المجتمع وسرن خلف أهواء خاصة.

لكن د. "لويس عوض" يشير إلى أن: في تاريخ الجبرتي لعام ١٨٠٠ (تحت شهر ذي الحجة سنة ١٢١٥ ه) وصفًا لبدايات حركة السفور في مصر ووصف لبدايات حركة تحرير المرأة، ووصفًا لما أصاب بعض نساء القاهرة من الانطلاق نتيجة لمخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي السلوك.

وينقل "عوض" عن "الجبرتي" وصفه المطوّل لتلك الحالة التي اعترت البلاد ويُعلِّق عليها:

هذا الوصف الحي لحالة شرائح من المجتمع المصري عام ١٨٠٠ يستحق أن نقف عنده طويلاً في تأمل وتحليل. بصرف النظر عن تعليقات الجبرتي المعبّرة عن آرائه الخاصة في الموقف، وبصرف النظر عما يستخدمه من نعوت وصفات لإظهار سخطه على ما كان يجري أمامه. من مظاهر التغير الاجتماعي.

والذي يُفهم من كلام الجبرتي إذا قلناه بحذافيره - والكلام لعوض -، هو أنه كانت هناك "ثورة نساء"، أو "ثورة حريم"، أو على الأقل في القاهرة، عام ١٨٠٠، فقوله إن من الحوادث الجسام "تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء" كلام خطير إذا كان الجيرتي لا يلقي الكلام جزافا، لأن كلمة رغائبهن، مهما حملناها معنى المبالغة الناجمة عن الانفعال، فهي بغير شك تدل على وفرة عند النساء اللواتي خرجن على التقاليد حول عام ١٨٠٠ إلى حد جعل من خروج النساء على التقاليد سمة واضحة من سمات ذلك العصر، دون أن تكون الثائرات بالضرورة "غالبية النساء" بالمعنى الإحصائي الدقيق.

ويُستفاد من وصف الجبرتي - كما يقول عوض- أن تحرر المرأة المصرية في عصر الحملة الفرنسية قد تم درجة درجة: بدأ تلقائيًّا وفي حدود ضيقة ثم تفشى بعد ثورة القاهرة الثانية حين سبى الفرنسيون أجمل نساء بولاق وبناتها و"زيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال"، أي ألبسوهن، الفستانات، والشيلان الكشمير المزركشة والمناديل الملونة وأبرزوهن سافرات وعلموهن ركوب الخيل وغير ذلك من العادات وأساليب السلوك وربما الأفكار التي كانت تتميز بها المرأة الفرنسية يومئذ. هؤلاء النسوة والبنات السبايا لا شك من الحرائر، لأن الفواحش لسن بحاجة إلى سبي أو أسر للانتقال من المجتمع المصري إلى مجتمع الفرنسيين. وما تم ذلك - ويبدو أنه تم بسرعة مذهلة! - حتى "تداخل مع هؤلاء المأسورات غيرهن من النساء الفواجر" اللواتي "استلمن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصًا عقول القاصرات، و"الفواجر"، هنا نعت أخلاقي وتعليق شخصي من عند الجبرتي وليس وصفًا لطبقة أو فئة أو مهنة، وهكذا اتسعت طبقات النساء اللواتي حاكين المتفرنسات والعادات الفرنسية "فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار"، بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق. وهو أيضًا اجتهاد من الجبرتي غير معقول في تفسير هذه الظاهرة، لأن العقائل والحرائر وصاحبات الحشمة والوقار لا يحاكين السبايا إلا إذا كانت السبايا من العقائل والحرائر وصاحبات الحشمة والوقار، أي إلا إذا كان زوجات لا سبايا أي كان لهن وضع اجتماعي شرعي معترف بشرعيته. ومفتاح هذا الموقف موجود في الجبرتي نفسه، فهو يحدثنا عن إقبال الكثير من الفرنسيين (والأرجح أنهم كانوا من طبقة الضباط والفنيين) إلى اعتناق الإسلام والزواج من بنات أعيان المصريين استغلالا لنفوذهم واستفادة بجمالهم أو العكس. فما إن كانت المرأة المصرية تتزوج من الفرنسي المسلم حتى تتزي بزي المرأة الفرنسية وتتخلق بخلقها وتطبع بسلوكها الاجتماعي، وما دام الجبرتي لا يشير إلى عامل القهر فلا أحسب أن أعيان المصريين كانوا ليقبلوا الفرنسيين أزواجًا لبناتهم مها أشهروا إسلامهم إلا إذا كانت هناك شريحة كبيرة من الأرستقراطية المصرية لا تجد غضاضة من مصاهرة الحكام ما دامت تجري في حدود الشرعية، وهذا لا يتأتى مع المحافظة الشديدة، وإنما يدعو إلى افتراض مجتمع من الأعيان منفتح لحضارة الفرنسيين قابل لقيمهم الاجتماعية والفكرية والسياسية..

فالواضح إذن - كما يقول عوض- أن المجتمع المصري نحو ١٨٠٠ قد تبلورت فيه فئات اجتماعية على مستويات مختلفة كانت لا ترى بأسًا من مخالطة الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة، ولا ترى بأسًا من تفهم وجهة نظرهم عن المرأة سواء في موضوع السفور والحجاب أو في موضوع وضع المرأة في الأسرة وفي المجتمع ولا سيما بالنسبة لوليها أبًا كان أو زوجًا أو أخا. ووصف الجبرتي لما أصابته بنات الأرستقراطية المصرية أو بنات "الأعيان" يومئذ يدل على أنهن بلغن من الشوط مداه في تحرير المرأة المصرية!.

وينهي عوض تحليله بقوله:

وأيا كان الأمر فالخلاصة العامة لكل هذا هو أنه من المحقق أن بدايات حركة السفور في مصر، وحركة تحرير المرأة بوجه عام، يمكن تأريخها بعام ١٧٩٨، وهو عام تشقق سور الترك العظيم الذي ضرب سياجا من حول العالم العربي كله وحال دون اتصاله بالحضارة الأوروبية اتصالاً مباشرًا ثلاثة قرون كاملة، أي منذ أسس سليم الأول إمبراطورية العثمانيين، فما أن اتصلت مصر وغيرها من بلاد المشرق العربي بالحضارة الأوروبية اتصالاً مباشرًا بمجيء بونابرت حتى بدأت تتلاطم فيها مختلف تيارات الفكر الحديث والنظم الاجتماعية الحديثة، وكان في مقدمة هذه التيارات تيار السفور وتحرير المرأة، ولقد اندفق هذا التيار عنيفًا أول الأمر كما وصف الجبرتي بسبب وجود الفرنسيين في مصر بين ١٧٩٨ و ١٨٠١، فأدى إلى هذا التمرد الجماعي على حياة الحريم المتوارثة من العثمانية، ذلك التمرد الجماعي الذي جعل الجبرتي يتأفف من "تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء"، بتأثير الفرنسيين.

إذا كانت تلك الفترة بحسب قراءة د. لويس عوض هي فترة مخاض حقيقي لتيار السفور وتحرير المرأة، وأنه كان بالفعل نابعًا من ضرورة أو حاجة اجتماعية فلماذا لم يستمر ذلك التيار على امتداده، بل مر قرن كامل حتى بدأت تظهر تباشيره مع ثورة ١٩١٩؟ وهل كان فعلا رجال الفرنساوية يحملون مشروعًا لتحرير المرأة، أم مجرد استغلال وتوظيف لوضعها الأنثوي ومركزها الاجتماعي في ديوان السياسةـ ولنا أن نطالع الكثير من قصص الهوى المشبوبة بين الفرنسيين والنساء حتى نعرف أنهم بتعبير الجبرتي كانوا - الفرنسيين - يبحثون بالفعل عن "مطلق الأنثى".. أي أنثى.

والكاتب محمد جلال كشك يلتقط من بين يوميات الوجود الفرنسي في مصر والقدس واقعة عاملة فرنسية في أحد مطاعم الجيش، قُتِّل زوجُها الفرنسي في إحدى المعارك، فأخذها الباشا العثماني وضمها إلى حريمه وحين طالب الضابط الفرنسي "ديزيه" إعادتها إلى معسكر الفرنسيين رفضت العودة وأكدت أنها سعيدة بإقامتها في بيت الباشا العثماني! أي مشهد مرتبك هذا، وعلي أي نحو يمكن أن نستخلصه. خصوصا بعدما سنطالع بعد قليل قصة الحب المشبوبة بين "زليمة" و"مواريه".

يشتبك الكاتب "محمد جلال كشك" مع رؤية د. لويس عوض للمشهد، حيث يرفض بداهة في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" الخلط بين الانحلال والتحرر، أو أن تكون الفئة المتحررة، الخارجة على تقاليد المجتمع قائدة ثورة تحررية، كما رفض أن يكون الشيخ البكري أيضًا زعيمًا أو قائدا للتحرر.

يقول كشك:

إن أحدًا لا يسمي هؤلاء ثوريات، ولا يجعل من انهيارهن بداية لتحرير المرأة لأن المرأة لا تحرر من نصفها الأسفل، ولا تتحرر في ذات لحظة فقدان الوطن لحريته.

والشيخ البكري، لسوء حظ المدرسة الاستعمارية - كما يقول كشك مناهضًا آراء عوض - أسوأ مثل يمكن أن يضرب على الانفتاح على الحضارة الحديثة.. فهو الذي سأل السؤال المضحك في بيت "حسن كاشف"، وأفحم "برتوليه" بتحديه له أن يكون في مراكش والقاهرة في نفس الوقت. واستدل به د لويس، نفسه على أن حضارتين كانتا تتواجهان للمرة الأولى. أما من هو "البكري"، فيكفي ما يثبته لويس، المعجب به.. "كان محبًا للحياة، وكان شرابه المفضل مزيجا من الكونياك والنبيذ البورجوني المعتق يشربه حتى الغيبوبة. وهو حب للحياة غريب.. يفضي إلى الغيبوبة عن الحياة.

ويتعجب كشك: أي رائد هذا البكري؟! وأي دور تحرري يمكن أن تلعبه ابنته؟!

أما السلوك العام لجيش الاحتلال، كما يقول كشك، فلم يعكس أكثر من بحث عن أنثى "مطلق الأنثى"، لتلبية حاجة مطلق الذكر، المتوتر في جيش يضم زهرة شباب فرنسا.

وعندما انتهت الحملة، وتقرر جلاء الفرنسيين، لم يسجل التاريخ للحملة الثورية حتى تحريرها للمرأة بالمعنى اللغوي الذي تصر المدرسة الاستعمارية على أنه المعني الوحيد الذي عرفناه، في حضارتنا، الحرية.. أي تحرير العبيد والجواري حتى هذا لم يتكرم به جنود الثورة الفرنسية، بل أصروا على بيع جواريهم وقبضوا الثمن نقدًا.. بعد أن عاشروهن سنة كاملة معاشرة الأزواج.

هكذا؛ من أجل تفنيد مزاعم واحد يخلط الآخر بين أوراق لا ولم يُجمع بينها بحال من الأحوال ولا يمكن أن توضع في ملف واحد، حيث كل قراءة التزمت بموقف صاحبها الأيديولوجي وانبرت مؤولة الحادث وملابساته بما يخدم اتجاهاته وليس بما يعين على استيعاب درس التاريخ وإدراك محركاته، رغم اعتراف الجميع أن "زينب البكري" كانت فتاة غير ناضجة، ولم تكن تحسب أن مجرد ارتدائها فساتين ملونة في زمن البرقع والعباءة سوف يؤدي بها إلى هذا المصير البائس، وفي جميع الأحوال استُبيحت وقائع بعينها لتدلل على مرامي أصحابها، وامتُطيت مقدمات لا يمكن أن تؤدي إلى النتائج التي أرادها أصحابها. فيما غُيّبت وقائع أخرى أكثر نصوعًا وإشراقًا، فإن أُدرك الأمر بحسابات السبق التاريخي وليس الأثر الكلي، فإن نساء القاهرة قبل سبعة قرون من هذا التاريخ، وتحديدا في أثناء الشدة المستنصرية، خرجن في تظاهرة، ينادين (الخبز.. الخبز)، قادت تلك المظاهرة سيدة آلمها صياح أطفالها جوعًا، ولم تسعفها أموالها في توفير رغيف خبز لأطفالها، فخرجت تندد بجشع التجار الذين استغلوا جفاف النيل، وأغلقوا مخازنهم على الغلال، لبيعها في السوق السوداء.. لولا تلك المرأة التي قادت حملتها النبيلة "وكان لهذه المظاهرة أثرها الفعال، فقد دفعت أولي الأمر إلى اتخاذ التدابير الحاسمة لإنقاذ الشعب المصري من مجاعة طاحنة كانت توشك أن تقضي عليه".

ثم لماذا يصر هذا وذاك على مناقشة باب التحرر من سكة السفور تحديدًا، وفي تواريخ الحملة أيضًا الكثير من المواقف النسائية الأكثر عمقًا، من بينها خروجهن في تظاهرة احتجاجية على قيام الفرنسيين بهدم مقابر الأزبكية والبيوت المحيطة بها، بحجة محاصرة الأوبئة ومنع انتشارها، وهي التظاهرة التي أتت أكلها سريعًا، فقد أمر بونابرت بوقف الهدم فورا وقدم اعتذارا للناس.

كذلك يسجل التاريخ موقفا أكثر صرامة لنساء مصر، حين قرر المعلم يعقوب مصاحبة الحملة العائدة إلى فرنسا وبرفقته الفيلق الذي كوّنه، ورفضت النساء أن يتركن القاهرة ويسافرن معه، وتوجهن إلى الجنرال "مينو" ليتدخل في تحقيق مطالبهن.

ولماذا لا يُذكر قيام النساء الوطنيات بخداع الجنود الفرنسيين واقتيادهم إلى منازلهن وتصفيتهم جسديا في الخفاء، وهو الأمر الذي انكشف وحُكِم بسببه على سيدة بالإعدام!

مع ذلك، كما يلاحظ الكاتب حلمي النمنم، فإن الجبرتي يذكر لنا أنه بعد جلاء الحملة وعودة العثمانيين فإن هؤلاء اللاتي جارين الفرنسيين قد ارتدين النقاب وارتبطن بزيجات مع العثمانيين.

وهكذا - كما يقول حلمي النمنم - فإن طالبات التحرر بالأمس هن من عدن إلى النقاب اليوم، ولم يكن يطلبن حرية ولا يسعين إلى سفور وإنما يبحثن عن صاحب السلطة أيا كان.. عثمانيا أم فرنساويا، وعلينا أن نعترف بوجود هذه الفئة بين النساء والرجال في كل مكان!

عالم الحريم بين مواريه وزليمة:

ربما قد يكون من المناسب أخيرًا أن نقرأ المشهد على خلفية من أوضاع المرأة في ذلك الزمان. حين لم تكن المصريات جديرات بالمثول في بلاط آفروديت أو بالاستحواذ على قلب الرجل الفرنسي".. كما يقول ضابط الحملة"جوزيف ماري مواريه"، على الرغم من إشارات الجبرتي أكثر من مرة أن الفرنسيين بذلوا الأموال للنساء، وبالطبيعة فإن من قد يكُنّ استجبن لتلك المحاولات الرخيصة، لا شك، كن واقعات تحت ضغط الحاجة أو ربما بسبب سوء أخلاقهن وعدم انصياعهن لتقاليد مجتمع محافظ في أغلبه.

في شهادة "مواريه" عموما ما يفصح عن الوضع الاجتماعي للنساء زمن الحملة الفرنسية، وهي إن كانت شهادة تتعلق بالنساء المقيمات في مصر خصوصًا وليس المصريات؛ إلا أنها تكشف لنا عن الوضع في عالم الحريم عامة، حتى ترتسم أمامنا تفاصيل المشهد، يقول مواريه:

صحيح أنني قلت إن المصريات لسن جديرات بالمثول في بلاط آفروديت أو بالاستحواذ على قلب الرجل الفرنسي، ولكن هذا لا يعنى أن النساء المقيمات في مصر لسن جديرات باهتمام المسافرين. نحن نعلم أن البكوات وذويهم وضباطهم الكبار يأتون من جورجيا والقوقاز والشركس بأجمل النساء، يشترونهن ثم يرفعونهن إلى مرتبة الزوجات وهن بحق أجمل من أرقى نساء باريس أو ليون، ولكنهن حبيسات الحرملك، لا تقع عليهن إلا عيون أزواجهن. وقد كان محظور علينا أن ننتهك هذا الحرملك المقدس وإلا كان مصيرنا الموت. لم تكن هذه السيدات يخرجن إلا للذهاب إلى المسجد لحضور صلاة الجماعة. وحتى في ذلك الحين تصحبهن عبدات مسنات تراقبن حتى نظرات عيونهن ..

وكان "مواريه" قد وقع في هوى "زليمة" زوجة أحد البكوات الذين لقوا حتفهم في معركة الأهرامات والتجأت إلى رجل تركي من أصدقاء زوجها يعيش في دمياط واتخذها زوجة له ليحميها من المطامع، لكن حب "مواريه" اقتحم قلبها من وراء البرقع وراحت تمده بأسرار عالم الحريم في مصر، عبر خطابات قامت خادمتها بإيصالها إليه:

- أعلم أن للمرأة دورًا كبيرًا في أوروبا، أما نحن فنعيش هنا في حالة الذل والسخرة، معزولين في جناح داخلي، ليس لنا من صحبة سوى الخادمات العجائز، لا نجتمع أبدًا بالرجال، ولا حتى على مائدة الطعام... وحينما نكون بمفردنا، نمضي وقتنا وسط الخدم في تطريز الأحزام أو الأوشحة أو نقوم بالغزل. ونصطنع سعادة تخلو منها قلوبنا، ونغني نغمات حانية أو مديحا لسيدنا وتصاحبنا بعض الدفوف والصاجات التي يعزف عليها العبيد... وأحيانا ما يسمح لنا بالتريض في الحدائق التي تمتد داخل القصور، وحتى لا يرانا المؤذنون من فوق المآذن يتم إرغامهم على إغلاق أعينهم وهم يؤذنون للصلاة. بل إنهم يذهبون في الحيطة إلى أبعد من هذا، فلا يختارون سوى كل ضرير ليعهدوا إليه بهذه المهمة.. ليتك أيها الحبيب الشاب والمقاتل الساحر تنتزعني من هذا البلد البغيض، خذني معك إلى فرنسا إذا ما نادتك أقدارك مرة أخرى إليها.

وأخيرًا: هوى

جمعت التحليلات المتعلقة بشأن "زينب البكري" بينها وبين الست "هوى" في سلة واحدة، واعتبرتا دالا على مدلول واحد في العديد من الأدبيات. و"هوى" تلك هي ربما من يعود إليها جذور تعبير "بنات الهوى" ويقصد به اللواتي يسعين وراء رغباتهن المشبوبة دون اعتبار للفضيلة، فقد كانت زوجة لأحد المماليك وهو إسماعيل كاشف المعروف بالشامي ثم هجرته وصعدت إلى الفرنسيين في القلعة وتزوجت من رجل اسمه نيقولا القبطان، وبعد أن أقامت معه بالقلعة هربت بمتاعها وجن جنون الرجل لهروب زوجته بهذه الطريقة المشينة وطلبها الفرنساوية وفتشوا عنها دون أثر، وبعد خروج الفرنساوية واستتباب الأحوال للمماليك ظهر زوجها الأول من جديد، فقد حضر مع من حضر وأعطاها الأمان أمنها وطمنها وأقامت معه أياما ثم استأذن الوزير في قتلها فأذنه فخنقها في اليوم نفسه الذي خنقت فيه زينب البكري وامرأتين من أشباههن.

لاقت "هوى" جزاء ما فعلت ولا ندري لما فعلت، فلم تكن من بنات الأعيان أو الساسة ومشاهير المجتمع، حتى يُسوِّد لها كتاب التاريخ صفحات في أسفارهم كما لا ندري هل هي مصرية أم من النساء المقيمات، لكن كل من زوجيها لم يكن مصريا، إلا أن الرماة أصابوها كما أصابوا "زينب البكري" ووضعوا رقبتيهما المقصوفتين بإذن الوزير العثماني في سلة واحدة، رغم بُعد الملابسات واختلاف السياقات، لكن القراءة القسرية للتاريخ بقدر ما تضع أيادينا على خلفية وربما نوايا أصحابها، إلا أنها تعلمنا أن قراءة التاريخ المجردة هي متعة في حد ذاتها، كما أن قراءة أي نص خارج سياقه الموضوعي والتاريخي والاجتماعي هي قراءة منقوصة، تفقدنا الكثير من الاستمتاع به، وفهم مجرياته في ذاتها، لا عبر تأويلاتها