قضايا

أكرم إسماعيل

حماس.. وراثة "منظمة التحرير" تبدأ من فك الارتباطات

2022.01.01

مصدر الصورة : وكالة الأناضول

حماس.. وراثة "منظمة التحرير"  تبدأ من فك الارتباطات

في خطابه يوم 12 مايو 2021 من الدوحة، وبعد الوصول لاتفاق على وقف خط النار بين إسرائيل وحماس برعاية مصرية، توجه إسماعيل هنية بالشكر إلى ثلاث دول حصرًا؛ هم جمهورية مصر العربية، والجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة القطرية. بهذا التحديد أعلنت حماس عن خريطة تحالفاتها، وأعلنت أن مصالحها وفقط هي ما يملي عليها خريطة التحالفات ولا شيء آخر

في خطابه يوم 12 مايو 2021 من الدوحة، وبعد الوصول لاتفاق على وقف خط النار بين إسرائيل وحماس برعاية مصرية، توجه إسماعيل هنية بالشكر إلى ثلاث دول حصرًا؛ هم جمهورية مصر العربية، والجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة القطرية. بهذا التحديد أعلنت حماس عن خريطة تحالفاتها، وأعلنت أن مصالحها وفقط هي ما يملي عليها خريطة التحالفات ولا شيء آخر. فبهذا الإعلان فكت حماس الارتباط بالسعودية والإمارات عندما حيت الجمهورية الإسلامية في إيران التي شكرتها بصراحة ووضوح على دعمها لغزة بالمال والسلاح، وأكدت فك الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين وممثليها المتبعثرين بين تركيا وقطر ولندن والسجون المصرية، وذلك عندما شكرت الشقيقة مصر قبل وإن تستقبل الوفد المصري في غزة على ألحان أغنية "تسلم الأيادي"؛ الأغنية التي ارتبطت باحتفالات الدولة المصرية بعد فض رابعة والتخلص من الإخوان، وأخيرًا وقدمت تحية للوكيل الإقليمي المعتمد من قبل الأمريكان للتعامل مع الحركات الإسلامية ومملكة قطر. بهذا الإعلان الذي سبقته الكثير من الرسائل والعمل السياسي الدؤوب، أكدت حماس أنها تفك الارتباط مع التناقضات والاستقطابات المعطلة لها في المنطقة، فهي ليست طرفًا في الاستقطاب الطائفي السني/الشيعي، أو الصراع الإقليمي "حول الإخوان المسلمين" إلخ؛ فخريطة تحالفاتها تبدأ وتنتهي عند مصالح الحركة وقدرتها على الاستمرار والبقاء، بل كل ما يمكنها من وراثة قيادة النضال الفلسطيني وفق الشروط الإقليمية والدولية.

استقلال الإرادة هو الحل

انتصرت حماس سياسيًّا في المعركة الأخيرة ليس لأنها أرعبت الإسرائيليين بصواريخها الكثيفة والدقيقة، وليس لأنها أصابت نتنياهو إصابة حاسمة وأفشلته، بل لأنها توجت نفسها الفاعل السياسي الأهم وربما الوحيد على الساحة الفلسطينية؛ فهي من نادت عليها تظاهرات المقدسيين للرد على الإجرام الإسرائيلي، وهي القادرة على مواجهة عسكرية مع إسرائيل، وهي مركز كل المفاوضات والتفاعلات السياسية.

في هذه المعركة حققت حماس ما خططت له طويلاً بأن تصبح هي ولا أحد غيرها وريثة النضال الفلسطيني، وأن تصبح سلطتها ليست فقط مقبولة من أطراف مهمة في المنطقة، بل إن تتحول سلطتها إلى طرف في التوازن الإقليمي ورصيد حقيقي لحلفائها، فهي رصيد لمصر في التعامل مع قطاع غزة المتاخم لسيناء بؤرة التوتر والإرهاب، وهي صمام الأمان لمصر في مواجهة المخططات الإسرائيلية المتطرفة لتهجير بعض من السكان الغزاوية إلى سيناء، وهي حجر عثرة في مواجهة التوجهات الإماراتية المقلقة للمصريين، مثل السعي الإماراتي أن تتحول شراكتها مع إسرائيل إلى قلب للنظام الإقليمي الجديد؛ وهي ورقة تفاوض لإيران مع الغرب، كما أنها داعم سني مهم للإمبراطورية الشيعية يمنع التعبئة السنية الكاملة ضد إيران وحلفائها في الإقليم، وهي أحد مفاتيح قطر للعب أدوار إقليمية كبيرة يمنح مشايخها استحقاق الوكالة الغربية للتعامل مع الإسلاميين في المنطقة، بل إن إسرائيل نفسها تعتمد على حماس كسلطة مسؤولة عن الكتلة السكانية الهائلة والمقلقة في غزة.

ويبقى السؤال كيف انتزعت حماس هذه المساحة، وكيف تحولت إلى طرف مهم في توازنات الإقليم والممثل الأهم للقضية الفلسطينية، والإجابة ببساطة هي "استقلالها النسبي"؛ فاستقلالها بغزة عن التفاهمات الأمنية للسلطة مع إسرائيل، الأمر منح حماس الفرصة لبناء هذه القدرات العسكرية الذي وصفها المجدلاوي؛ أحد الناشطين الغزاويين اليساريين بأنها الرصيد "المادي" الباقي للثورة الفلسطيني! بينما تتحرك إسرائيل كما تشاء في رام الله لتجهض أي فاعلية نضالية، والقبض، بل قتل من تشاء داخل الضفة الغربية.

استقلت حماس كذلك عن أعباء الإخوان المسلمين ليس فقط على خلفية انهيار حكمهم في مصر بعد الصراع على السلطة بينهم وبين الجيش في 2012 والتوتر الشديد بين الدولة المصرية وتنظيم الإخوان وداعميه الإقليميين، بل إنها بذلك نأت بنفسها عن الصراع السني الشيعي التي تورط فيه تنظيم الإخوان المسلمين نتيجة مواقفه الحادة من نظام بشار الأسد، وخطابه الطائفي المعلن بينما هاجموا الدور السلبي للحرس الثوري الإيراني وحزب الله في وأد الثورة السورية وحمايته للنظام العلوي في دمشق. ترك خالد مشعل واخواته سوريا التي مكثوا فيها طويلاً على خلفية هذا الخلاف وانتقل إلى الدوحة الراعي الرسمي المقبول للإسلاميين، وأعلن خالد مشعل في ظهور حديث له عن انقطاع الاتصال بدمشق، ولكنه شكر مجددًا الجمهورية الإسلامية وحزب الله على دعمهم لغزة، في تكرار للرسالة التي أكد عليها إسماعيل هنية في خطابه.

ببساطة هضمت حماس عبر تضحيات وعبر تجارب مرة ووعي سياسي وبراجماتية، التحولات الكبرى في المنطقة، وخططت لانتزاع مكان لها في المشهد الجديد، بل حولت شبح الهزيمة الكاملة بعد الربيع العربي وتراجع القضية الفلسطينية، وانهيار حكم الإخوان في مصر، وحصار غزة القاسي، ورؤية ترامب للقضية وضغطه الهائل على الأطراف الفلسطينية إلى فرصة لها بأن تتحول إلى وريث لمنظمة التحرير والممثل الفعلي للقضية الفلسطينية، ولكن هذا لم يكن ليحدث دون انتزاع استقلال الإرادة انتزاعًا، من خلال عمل كفاحي صعب ومغامرات عسكرية وسياسية انتزعت بها مساحة مستقلة عن الهيمنة الإسرائيلية تسمى غزة، كمان أنها أدارت علاقات سياسية دون أي اعتبارات لارتباطات تنظيمية أو مذهبية، وأسست لهذا في وثيقة شجاعة أصدرتها في 2017؛ أعلنت فيها فك الارتباط بتنظيم الإخوان المسلمين، كما أعلنت أن القضية الفلسطينية هي قضية احتلال شعب، وأنها معركة مع الصهاينة وليست معركة دينية، وحيت كل الأحرار في العالم الداعمين للقضية وصاغت بمكر موقفها من دولة فلسطينية على حدود 67، واعتبارها خيارًا مقبولاً كهدنة في رسالة قبول للتعايش مع إسرائيل عبر عنها السنوار رئيس الحكومة في غزة في حوارات صحفية دون التورط في اعتراف صريح بإسرائيل. بل إن السنوار أعلن بوضوح أن حل القضيتين قد يكون الحل المناسب للتعايش حتى تتبدل الأحوال وتختفي هذه الأجيال؟!

بالتضحيات الكبرى والبراجماتية السياسية تمكنت حماس من انتزاع قطاع غزة وتحريره من حسابات السلطة الفلسطينية، وحصنتها من الأذرع الأمنية لإسرائيل، لتتحول غزة حماس إلى واقع مادي في المنطقة لا يمكن تجاهله، الأمر الذي سمح لها ببناء قدرات عسكرية مؤثرة. ومكنها من مد الجسور وإدارة العلاقات مختلفة على أسس المنفعة المشتركة، ولكنها في المعركة الأخيرة تجاوزت هذه، ونجحت في حصاد عملها الدؤوب كله، فأصبحت ليست فقط الطرف الأقوى في المعادلة الفلسطينية، بل لاعبًا إقليميًّا مهمًا ونقطه اتزان دقيقه في التفاعلات السياسية في المنطقة.

وراثة منظمة التحرير: الاعتراف بدور أبي عمار ودفنه

في المؤتمر الصحفي الذي عقده السنوار بعد الانتصار الأخير، قال رئيس الحكومة الذي يمكن اعتباره الممثل الأهم للتيار البرجماتي الواعي في حماس "نم قرير العين يا أبا عمار" في اعتراف صريح لدور أبي عمار، الذي رأينا مشاهد عدة سابقة لحمساوية في غزة وهم يدوسون صوره. إلا أن السنوار الآن يرسل التحية لأبي عمار، ويعترف بقيادته للانتفاضتين وجلب السلاح والدفاع عن الشعب الفلسطيني. والسنوار هنا يفك ارتباطه ببساطة بالسردية الإسلامية وقيادتها. وينبئنا هذا التصريح بما يبحث عنه السنوار؛ فالسنوار الذي تعلم العبرية في السجن، ويقوم بعقد لقاءات صحفية مع صحف إسرائيلية، ويمد جسور التواصل حتى مع دحلان، ويأمر باستقبال الوفد المصري على ألحان تسلم الأيادي، لا يرى نفسه وريثًا لأحمد ياسين أو الرنتيسي، بل وريثًا لأبي عمار نفسه كرمز للقضية وقائد تاريخي للشعب الفلسطيني، فهم الأحق بمكانه القائد الشهيد الذي صفى خليفته أبو مازن أي فاعلية نضالية فتحاوية، وترك المنظمة والقضية بلا قائد فعلي، بينما غاب القادة الفتحوية الأشاوس في السجون الإسرائيلية منسيين بتواطؤ من أبي مازن ومن حماس أيضًا. فسلطة فاسدة وبلا إرادة أو مشروع مقاوم في رام الله هي الفرصة الوحيدة لحماس لتصفية فتح سياسيًّا ورمزيًّا، ووراثة قيادة الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير "نم قرير العين يا أبا عمار.. واذهب في طي النسيان يا مروان يا برغوثي"، فحماس جاهزة ليس كفصيل مقاوم بل كقيادة للشعب الفلسطيني.. نحو المتن السياسي إذن تتحرك حماس متخلصة من كل الأعباء بالقدر الممكن، فهي ليست الغريبة على النضال التحرري القومي العربي وما الذي يمنع أن تكون وريثته في عالم انقطع بالكامل عما قبله. فالنظام العربي القديم الذي طالما لفظها قضت عليه ثورات الربيع العربي؛ فها هي السعودية تغير جلدها سريعا كعربون محبة من الأمير للغرب، وها هي الإمارات تجعل من إسرائيل حليفها الأهم وشريكا أمنيًّا واقتصاديًّا أساسيًّا لها، ودويلات الخليج تتنافس لقيادة النظام العربي بعد انهيار العراق وسوريا وليبيا، وتعثر مصر وسقوط البشير وغرق لبنان في دوامة لا تنتهي من الفشل. عاد النظام العربي لمكوناته الأولية وأصبح المسرح مفتوحًا للاعبين جدد وتحالفات جديدة ولم يعد هنا نسق قادر على استبعاد حماس أو غيرها بل إن لاعب مثل حماس يستطيع أن ينتزع مكانًا له وسط كل هذه التحولات والسيولة والتوتر.

معضلات القيادة.. سلطة حماس

عندما سألوا أبا عمار وهو خارج من لبنان مهزومًا جريحًا "رايح على وين يا أبو عمار؟" أجاب "رايح على فلسطين"، وأتصور هنا أنه بعد خبرة الأردن ثم لبنان كان أبو عمار قد قرر أن "إدارة الثورة الفلسطينية" من خارج الأرض غير ممكنة، بل يبدو أنه أصبح لديه قناعة ألا معنى لاعتبار هذا النضال ثورة أصلاً، فأن تتحول القضية الفلسطينية ونضال المنظمة إلى طاقة سياسية لتثوير المنطقة، ليعلم الأحرار في العالم حقبة قد انتهت وتبدلت الشروط، وأصبح المطلوب تأسيس سلطة على أي مساحة من الأرض في الداخل؛ ومن هنا جاءت أوسلو. وقد دفع ياسر عرفات ثمن خياره هذا، فخيار الجمع بين ثنائية -السلطة والمقاومة- التي اختبرت مع انتفاضة الاقصى عندما أدار ابو عمار السلطة والانتفاضة معًا؛ انتهى ليس فقط باغتياله بل بتصفية مشروعه، ليرث ياسر عرفات أبو مازن "كسلطة مهادنة وخاضعة" في رام الله، وحماس "كسلطة غير خاضعة ومقاومة في قطاع غزة"، فمحاولة أبي عمار الأخيرة كانت الجمع الصعب بين الشرعية السياسية للسلطة مع فاعلية المقاومة، وقد أدار هذه الثنائية بدهاء يحسب له، إلا أن هذا الترتيب قد تفكك سريعًا وبتواطؤ معظم الفاعلين من بعده إلى سلطتين، واحدة منزوعة الفاعلية ومعترف بها، وأخرى مستقلة ومقاومة وغير معترف بها. وفي المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية عدم الفاعلية لا تحصن أي شرعية، فها هي شرعية أبي مازن لا تحصن له سوى بقائه بينما تنتزع حماس الشرعية بالفاعلية والمغامرة، وقبلهم الاستقلال النسبي. ويبقى السؤال هل ما انتزعته حماس وتتويجها كالرقم الأهم في المعادلة يمكِّنها من قيادة الشعب الفلسطيني حقًا؟

بحثت حماس عن صيغة للبقاء وفق شروط قاسية، الأمر الذي دفعها للتحلي بمرونة كبيرة مقارنة بتنظيمات إسلامية عربية أخرى، وربما هضمت حماس سريعًا معنى انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر مبكرًا، وتعلمت أن انتزاع الشرعية والقبول الإقليمي والدولي يلزمه بعض التنازلات القاسية التي يأتي أولها بالتنازل عن سردية "المخلص الإسلامي" وهي السردية الخاصة والمغتربة والتي توضع في مواجهة كل السرديات الأخرى لنخب الحكم في المنطقة، فأبي عمار الآن مناضل وقائد وليس خائنًا، ومنظمة التحرير هي الوعاء الجامع للنضال الفلسطيني، ومصر تحت حكم الجيش تظل الشقيقة الكبرى، بل إنها وعت أن ابتعادها عن النزاع السني الشيعي في المنطقة مصدر قوة، وأن العلاقة بإيران مفتاح الاستمرار في المقاومة والحفاظ على الاستقلال النسبي. تتحرك حماس من كونها فصيلاً إسلاميًّا يرى نفسه وتاريخه موازيًا للتاريخ العربي الرسمي الحديث، إلى كونها طرفًا في التوازنات الإقليمية، ولاعبًا يقبل شروط اللعب، بل التوظيف ربما من بعض الأطراف، ولكن في حدود المقبول للحفاظ على مشروعها، ويبقى السؤال: هل هذا يكفي لقيادة الشعب الفلسطيني نحو التحرير؟

 لقد بدأت منظمة التحرير ثورية ترى في نفسها ما هو أكبر من قضية الشعب الفلسطيني، وأصبحت ملهمة لأعوام لكل النضال التقدمي العالمي في مواجهة الإمبريالية، بل إن ياسر عرفات هو من طرح مبكرًا في ثمانينيات القرن الماضي شعار دولة علمانية واحدة على كامل التراب ليربك الحسابات، ويقدم نفسه للعالم باعتباره رمزًا تقدميًّا ويقدم القضية كمعركة إنسانية ملهمة قبل أن يتراجع تحت تأثير الضربات المتتالية والمؤامرات العربية، ورغم التخلي عن الآفاق الثورية والقبول بالتوازنات القاسية والحلول المجحفة بقيت انتفاضة الحجارة انتفاضة تلهم الملايين وتقدم النضال الفلسطيني كنضال للإنسانية قبل أن يبدأ مسار أوسلو ثم ينتهي بانتفاضة الأقصى لتتحول إلى المحطة الأخيرة لأبي عمار والمنظمة. كانت منظمة التحرير مشروعًا سياسيًّا مرنًا يهضم التجارب، ولكنها بقيت واعية طويلاً أن شرط استمرارها ونجاحها أن تبقى ممثله لما هو أكبر منها، وأن تظل القضية ممثلة لما هو أكبر منها، ولهذا استحقت قيادة الشعب الفلسطيني لعقود، قبل إن تغتالها إسرائيل رمزًا رمزًا وتحاصر بل تئد روحها. أما حماس فاتت من كونها مقاومة إسلامية تختزن كل طاقة العنف الرفض لكل ما لا يشبهها. تصر على المقاومة بتفجير أفرادها لأنفسهم في قلب تل أبيب، وتفرض هذا فرضًا على الانتفاضة، ولا يعنيها صورة القضية في أذهان شعوب العالم، تتغذى على المزاج الرجعي الصاعد في المنطقة، وتمثله في الصراع مع إسرائيل، وتملأ كل فراغ تتركه منظمة التحرير/فتح تحت تأثير الضربات والمواءمات. لا تعنيها أي اعتبارات سوى التأكيد على أنها طرف مقاوم عنيد، بل يعنيها أن تأخذ الصراع في المربع الهوياتي الديني بقدر الممكن. لم تقدم التنازلات إلا عندما امتلكت سلطة دفعتها لقبول شروط البقاء والحفاظ على سلطتها تلك -مشت على عكس طريق منظمة التحرير التي حاصرتها هذه السلطة التي امتلكتها وأجهضتها كجبهة سياسية نضالية للشعب الفلسطيني، بينما لم تتعلم حماس الدروس إلا دفاعًا عن "سلطتها"، فقبلت أن تتحول إلى طرف في توازنات الإقليم الرثة، بل مارست كل أشكال القمع والتنكيل وتصفية السياسة والمجتمع المدني وتغذية كل النوازع الرجعية والمحافظة داخل المجتمع الغزاوي، وهذا ما مكنها من الحفاظ على السلطة.

يمكن لحماس بالتأكيد أن تحصن غزة من المغامرات الإسرائيلية وأن تستغل سلطتها في غزة للتعاون مع القاهرة، وأن تمنح إيران امتياز دعم المقاومة وأن تمنح قطر كارتًا يبقيها لاعبًا إقليميًّا مهما ولكنها لن تكون أبدًا قائدة للنضال الفلسطيني، ولن تكون تجربتها مهما غيرت من مواثيقها، ملهمة للأحرار في العالم، فالوثيقة غير كافية لإقناع العالم بالاستحقاق "الثوري" التي لا تدعيه ولا تقوى عليه، وكما لا يمكنها أن تخفي حقيقة هروب الأقليات الدينية من غزة بعد سيطرة حماس عليها، أو حقيقة أن جرائم الشرف والعنف ضد النساء منفلتة تحت سلطتها السياسية، بل إن أي فعل سياسي ومجتمعي في غزة يلزمه الإذن من مشايخها - تتصرف حماس ببرجماتية على المسرح الإقليمي والدولي، ولكنها لا زالت ترتكن بالأساس إلى كل الميراث الإسلامي السلطوي والرجعي للتعبئة وخلق الكوادر وإحكام السيطرة. باختصار حماس رمز للمقاومة وليس للحرية، وحدود مرونتها هي إرضاء القاهرة وطهران والدوحة وربما مد الجسور مع الإمارات وكل هذا لا يكفي لانتزاع استحقاق قيادة الشعب الفلسطيني ووراثة نضاله الطويل. وتتحدث حماس بمكر عن حل الدولتين، فهي لا تريد أن تقدم هذا التنازل الكبير، وأن تعترف بإسرائيل، ولكنها تعرف أنه الحل الأنسب لها كهدنة تمكنها أكثر من ترسيخ سلطتها ومكانتها الإقليمية. فدولة علمانية هو على كامل التراب الحل الذي لم يعد هناك غيره في تقديري، والذي لا يمكن أن يحدث إلا عبر مسار نضالي شاق قادر على انتزاع تعاطف دولي كبير، وخلق انقسام داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه لا يمكن أن تتبناه حماس قط - وهل هذا ممكن؟ هل حماس قادرة على أن تأخذ مسار "المرونة والتفهم.. إلخ"، وتتحول إلى فصيل مناضل من ضمن الفصائل والتيارات والمبادرات النضالية الأخرى ليتسع مسار النضال للشعب الفلسطيني ويتجاوز كل أشكال الوصاية من "السلطات" المعطلة في رام لله وإسرائيل وفي غزة، واستكمال نضاله المشروع ومراكمة الخبرات النضالية المتنوعة ورفع الشعارات الجريئة وفتح ألف طريق للتحرير؟

أكدت حماس أنها تفك الارتباط مع التناقضات والاستقطابات المعطلة لها في المنطقة، فهي ليست طرفًا في الاستقطاب الطائفي السني/الشيعي، أو الصراع الإقليمي "حول الإخوان المسلمين"..

بالتضحيات الكبرى والبرجماتية السياسية تمكنت حماس من انتزاع قطاع غزة وتحريره من حسابات السلطة الفلسطينية، وحصنتها من الأذرع الأمنية لإسرائيل، لتتحول غزة حماس إلى واقع مادي في المنطقة

حققت حماس ما خططت له طويلاً بأن تصبح سلطتها ليست فقط مقبولة من أطراف مهمة في المنطقة، بل وأن تتحول سلطتها إلى طرف في التوازن الإقليمي ورصيد حقيقي لحلفائها..

كانت منظمة التحرير مشروعًا سياسيًّا مرنًا يهضم التجارب، ولكنها بقيت واعية أن شرط استمرارها ونجاحها أن تظل القضية ممثلة لما هو أكبر منها، ولهذا استحقت قيادة الشعب الفلسطيني لعقود..