حوارات

تامر وجيه

حوار مع طارق علي

2017.11.12

تصوير آخرون

تامر وجيه ودينا جميل

حوار مع طارق علي

ً لينين والبلشفية اليوم وغدا

 

تامر وجيه و دينا جميل «معضلات لينين: الإرهاب، الحرب، الإمبراطورية، الحب، الثورة»، هذا اسم آخر كُتب الروائي والمفكر الاشتراكي البريطاني ذو الأصل الباكستاني طارق علي. وقد نشرته دار ڤيرسو اليسارية المعروفة في شهر أبريل الماضي احتفاءً بمئوية الثورة البلشفية 1917، التي غيّر اندلاعها تاريخ العالم. يعيد علي في هذا الكتاب قراءة تجربة لينين وخبرة الثورة البلشفية، وذلك بغرض «وضع لينين في سياقه التاريخي الصحيح». فكل من الأصدقاء والأعداء استخدموا لينين، واللينينية، والتجربة البلشفية، لأغراضهم الخاصة، سواء الحزبية أو السياسية، دون ربط تجربته بزمانها ومكانها.

هنا نحاور علي حول الثورة والبلشفية ولينين، في محاولة للإجابة على سؤال رئيسي: ماذا تبقى من الثورة الروسية؟ بتعبير آخر: ماذا يهم العالم اليوم، والطامحين إلى مقاومة الظلم والاستبداد اليوم، من شأن هذه الثورة؟ وهل يمكن أن نتعلم منها، ومن أفكار لينين، شيئًا يساعدنا في مواجهة مظالم يعيشها عالم يفصله عن التجربة البلشفية مئة عام بالتمام والكمال؟

بعد مائة عام من اندلاعها، وبعد الآلاف من الكتب والمقالات التي كُتبت عنها، هل ترى أن هناك جديدًا يمكن قوله بالإضافة إلى المناقشات والأفكار المعروفة مسبقًا عن الثورة الروسية؟

عند مناقشة الثورة الروسية بعد مئة عام على اندلاعها، يجب أن نضعها في سياق الثورتين الأوربيتين الكبيرتين الأخرتين اللتين أنتجتا تحولات كبرى في القرون الأربعة الماضية: الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. إذا نظرنا إلى هاتين الثورتين، ومعهما الثورة الروسية، يمكننا أن نلاحظ الآتي:

الثورة الأولى -الإنجليزية- كانت قاطرة التطور الرأسمالي الأوروبي كله. فهي التي خلقت الأوضاع الاجتماعية الممهدة لاندلاع ما عرف فيما بعد بـ«الثورة الصناعية»، التي بدورها خلقت الإمبراطورية البريطانية وغيّرت العالم كله.

ما شهدته إنجلترا آنذاك إذن هو ثورة اجتماعية قضت على جوانب أساسية من علاقات الإنتاج الإقطاعية، لكنها رغم ذلك لم تمح جوانب مهمة من تلك العلاقات في الريف. وهكذا كانت النتيجة هي تحوّل إنجلترا إلى الرأسمالية بقوة، ولكن مع الحفاظ على بنية سياسية فوقية دمجت الأرستقراطية في الطريق الرأسمالي الجديد.

في هذا السياق يمكننا أن نفهم الأيديولوجية البروتستانتية، أو البيوريتانية (التطهرية)، التي كانت عمادًا فكريًا للحركة الثورية، والتي وضعت على عاتقها ما رأت أنه تنظيفًا للدين من جميع التقاليد الدخيلة، ودخلت في معركة ضد الكنيسة والنظام الملكي الداعم لها، وذلك بغرض تمهيد الطريق فكريًا أمام انطلاق علاقات الإنتاج الرأسمالية.

هنا ربما يكون من المثير للاهتمام إجراء مقارنة بين البيوريتانية والوهابية. بالطبع الوهابية مضادة للثورة ورجعية. لكن وجه التشابه الوحيد بينها وبين البيوريتانية هو أن الوهابية بحرفيتها ونصوصيتها ترى نفسها كذلك كتنظيف للدين من كل دخيل، ولكن هذه المرة لأغراض رجعية تمامًا.

مقارنة أخرى يمكننا إجراؤها هنا بين الثورتين الإنجليزية والإيرانية. فالثورة الإيرانية، تمامًا كالإنجليزية، أعطت مزيدًا من القوة لشرائح من البورجوازية والبرجوازية الصغيرة: تجار البازار المتوسطين، وفيما بعد التجار الكبار. من المثير جدًا أن نقارن هذا بما حدث في إنجلترا في القرن السابع عشر.

أما الثورة الفرنسية، فكانت مختلفة تمامًا عن الإنجليزية. فبينما بدأت الثورة الإنجليزية بالصدام السياسي والطبقي المباشر، سبقت الثورة الفرنسية حركة فكرية طويلة النفس، هي حركة التنوير، التي قضى كتابها وفلاسفتها على فكرة الإله، وقالوا إن كل ما هو موجود إنما هو موجود على هذه الأرض، ولذا فإما أن تقوم بتحسين هذا العالم أو لا توجد فرصة أخرى.

كان جان جاك روسو هو الأكثر جذرية بين فلاسفة التنوير. إذ حاول طرح فكرة نظام مختلف تمامًا عن النظام الاجتماعي السائد في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر.

كان الشيء الرئيسي بالنسبة الثورة الفرنسية هو الأفكار والمفكرين الذين سبقوا اندلاعها. حطمت الثورة الفرنسية الدولة القديمة، ودمرت الإقطاع إلى حد كبير جدًا، وأنشأت جيشًا جديدًا استخدمه نابليون في وقت لاحق لغزو وتحويل أوروبا. لقد كان تأثير هذه الثورة بالفعل أكثر عالمية من الثورة الإنجليزية.

فبينما أثارت الثورة اﻹنجليزية مخاوف الطبقات الحاكمة الأوروبية القديمة من إمكانية انتشار «المرض الإنجليزي»، ذهبت الثورة الفرنسية خطوة أبعد من ذلك. فقد اندلعت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر حيث كانت الرأسمالية الإنجليزية قد خطت خطوات بعيدة. وقد تبدى الأثر الأكثر دراماتيكية للثورة الفرنسية في هايتي، حيث اندلع أول تمرد ناجح للعبيد في تاريخ العالم، وهو تمرد تأثر بشكل واضح جدًا باليعاقبة، خاصة بروبسبير.

كان إلغاء تجارة الرقيق وقبول حقوق سكان هاييتي في حكم أنفسهم تطور خطير. إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي تقدم فيها نخبة في مركز العالم الأوروبي على دعم انتفاضة ضد أصحاب المزارع من أبنائها وضد تجارة العبيد التي تستفيد منها دولتها.

كان هذا مؤشرًا على ما يمكن أن يحدث في مكان آخر. وانتشرت أخبار هذه الثورة في كل مكان، حتى أن حكام أكثر راديكالية في الهند مثل السلطان تيبو، الحاكم المسلم لمايسور، كتب رسالة إلى نابليون، وقعها بالمواطن تيبو، يناشده فيها الحصول على دعمه ضد البريطانيين قائلًا: «نحن بحاجة إلى مساعدتكم في محاولة هزيمة الإمبراطورية البريطانية.»

هذا هو السياق الذي يجب أن نضع فيه الثورة الروسية، ولفهم ما الذي كان مختلفًا فيها. فهناك بعض الأشياء التي حدثت في الثورة الروسية ستبقى، بغض النظر عن كيف يراها البعض الآن. علينا أن نتذكر هذه اﻷشياء، لأن أحد التأثيرات المترتبة على الأفكار السياسية المهيمنة في عالمنا هو التقليل من شأن التاريخ كفرع من فروع المعرفة. فالناس في الكثير من أنحاء العالم لا تعرف تاريخها.

أعتقد أن هذا هو ما يحدث بشكل متزايد اﻵن مع الثورة الروسية. لذلك من المهم التأكيد على بعض الأشياء فيما له علاقة بها.

في البداية يمكن القول إنه على عكس الثورات الأوروبية الأخرى، كانت هذه ثورة اشتراكية واعية، تم الإعداد لها على مدى سنوات طويلة داخل تنظيم سياسي كان هدفه الوحيد هو القيام بهذه الثورة، وكان على رأسه قادة جذريين.

كانت الأوضاع في روسيا، ولفترة طويلة جدًا، لا تسمح بنشاط جماهيري بشكل قانوني، وهو ما حدد طبيعة الحزب وشخصيته. فبالرغم من أنه كانت هناك فترات معينة ضعفت فيها الأوتوقراطية، إلا أن كل شيء كان منظمًا بشكل سري تحت اﻷرض توخيًّا للحرص. وعندما اندلعت ثورات 1905 و1917 في روسيا، خرجت الجماهير بعد أن كانت قد تعلمت من الأفكار السياسية، والمناقشات السياسية، التي كانت دائرة لمدة 20 عامًا داخل الماركسية وضمن التيار الاشتراكي الديمقراطي العريض، الذي كان هو الممثل السياسي للطبقة العاملة الأوروبية.

كان هناك قادة اشتراكيين قالوا بوضوح إن الثورة ضرورية. لكنهم لم يحددوا نوع الثورة بشكل واضح. اتفقوا أنها ستكون ديمقراطية بشكل أساسي. واتفقوا كذلك أنها ستكون برجوازية، لأن الرأسمالية تتطور في روسيا، لكنها لم تصل إلى الحكم بعد. لم يتوقعوا أن تكون الثورة التي ستحدث هي الثورة النهائية، بل توقعوا أنها ستكون الثورة الأولى من ثورتين أو ثلاث سيؤدون إلى التحول النهائي لروسيا. هذا التحول سوف يؤدي لتدمير اﻷوتوقراطية، وسيتم تأسيس روسيا التي سوف تلحق بركب تطور باقي أوروبا (فرنسا وألمانيا وبريطانيا). كان هذا هو هدف معظم الثوار.

لكن الحرب العالمية الأولى التي فككت الإمبراطوريات والاستبداد القيصري، خلقت إمكانيات مختلفة تمامًا. بمجرد أن بدأ الحبل الشوكي للاستبداد القيصري يتهاوى ويتفكك، ونعني به الجيش (الذي هو الحبل الشوكي لكل دولة، سواء جيش صغير، أو جيش كبير. الجيش هو الملاذ الأخير لدى الدولة لتدافع عن نفسها ضد القوى الخارجية والثورات الداخلية)، أصبح واضحًا جدًا للينين وآخرين أن هذا هو الوقت المناسب «للمضي نحو الجائزة الكبرى»، وأنه ليس هناك مجال للتوقف.

طوّر لينين مجموعة من الأفكار والاستراتيجيات والتكتيكات. لم يخلق لينين تلك الأفكار بنفسه، لكنه بدأ يجسد الفكر الماركسي بشكل سياسي منهجي. وهنا تكمن اﻷهمية اﻷساسية للثورة الروسية. فاﻷمر ليس أن كل شيء قاله لينين كان صوابًا أو خطأ، فهناك الكثير من الخلافات حول هذه الأمور، لكن هناك بعض الأشياء الباقية التي لا زالت تنطبق بقوة.

أول هذه الأشياء، هو ضرورة عدم إساءة الحكم على الوضع السياسي أبدًا. فإساءة الحكم على الوضع السياسي يمكن أن تؤدي إلى فقدان البوصلة لوقت طويل قادم. فإذا رسمت انتصارًا كهزيمة فأنت قد غرقت. الأهم من ذلك أنك إذا عرضت ما هو هزيمة واضحة باعتباره انتصارًا ستغرق أيضًا، لكن لفترة أطول.

ثانيًا، أثارت الثورة الروسية مسألة الثورة العالمية، وكان هذا فريد تمامًا. واجه لينين معارضة داخل الحزب البلشفي وخارجه عندما يتحدث عن تحول الثورة الروسية إلى ثورة اشتراكية. قال المعارضون: «لكن البيان الشيوعي يقول هذا»، «لكن ماركس قال ذلك»، «نحن لم نصل بعد إلى مستوى التطور الموجود لديهم في بريطانيا وألمانيا»، «من الصعب على اليسار أن يصنع ثورة». لكن لينين كان يجيب بشكل واضح جدًا على هذه الانتقادات: «سلسلة الرأسمالية تنكسر في أضعف حلقاتها أولًا». وهذا ما قد ثبتت صحته بالفعل، بغض النظر عن تطورات الأحداث بعد ذلك. ثبتت صحته ليس فقط في روسيا في 1917، لكن يمكنني أن أقول أيضًا إن نفس العملية حدثت في الصين في 1949 وفي كوبا في 1959. إن عملية انكسار السلسلة في أضعف حلقاتها واضحة، وما يحدث يعتمد على ما هي القوى الموجودة لديك على اﻷرض. لذلك هناك دروس عالمية معينة من الثورة الروسية لا ينبغي نسيانها.

هل يمكن أن تعطي أمثلة على تأثيرات الثورة الروسية على دول أخرى في العالم، وليس فقط في أوروبا؟

 

بالنسبة لي أقرب ثورة كانت الثورة الصينية في عام 1949، حيث أنها كانت تطورًا مباشرًا من الثورة الروسية. وكانت كذلك مهمة للغاية تاريخيًا، ومفتاحًا لفهم آسيا. فثورة أكتوبر 1917 أشعلت شرارة ثورة عالمية استمرت معظم القرن. لذلك لا يمكن النظر للثورة الروسية باعتبارها محصورة فقط داخل روسيا. كذلك لا ينبغي أن ننظر لما ارتكبه ستالين من قمع وقتل -وكل هذا صحيح بالمناسبة- ثم نشعر بالإحباط. هذه طريقة ضيقة في النظر إلى الثورة الروسية.

الطريقة الأصح للنظر للثورة الروسية هي أنها ثورة أدت لتأسيس أممية، وأن هذه اﻷممية خلقت منظمات في جميع أنحاء العالم، بعضها قوي، وبعضها أقل قوة. ترافق مع هذا بشكل واضح تبني فكرة ثورة في كل القارات وليس في أوروبا فقط. لم يركز لينين، وتروتسكي، فقط على أوروبا مثلما فعل بعض من خلفوهم. لقد كانوا مع النضال على نطاق عالمي. وإذا درسنا العديد من المناقشات والرسائل المتبادلة بينهم –أشرت إلى بعض منها في كتابي- سنجد أنهم كانوا يفكرون على النحو التالي: لقد فشلت الثورة الأوروبية في الوقت الحاضر، فماذا نحن فاعلون؟ كيف نضرب القوى الأوروبية وفي نفس الوقت نحرر أو نساعد في تحرير العالم؟

وفي مساء إحدى الليالي المتأخرة، وهو في أحد القطارات أثناء الحرب الأهلية الروسية، خطرت لتروتسكي فكرة، فكتب إلى لينين: لماذا لا نشكل وحدة خاصة من حوالي 30000 جندي للذهاب إلى الهند والهجوم على البريطانيين وتحرير الهند؟ لم تنفذ هذه الفكرة بالطبع، ولكن من يعلم ما الذي كان يمكن أن يحدث لو قاموا بهذه المحاولة؟ لو كانوا قد فعلوا ونجحوا، لربما تغير تاريخ العالم. لكنهم لم يفعلوا. لكنهم كانوا يتحدثون طوال الوقت حول هذه الأشياء وينظرون للثورة من منظور عالمي.

لذلك أعتقد أن الثورة الروسية قد علمتنا العديد من الدروس التي لا تزال صالحة. لكن تظل هناك أسئلة لا إجابات لها: كيف ستحدث الثورة في أجزاء أخرى العالم؟ نحن لا نعرف. دعونا نكون صادقين نحن لا نعرف كيف ستحدث هذه الثورة، ومن الأفضل أن نقول بصراحة إن مجرد تكرار نمط الثورة الروسية من حيث التنظيم، وغيرها من الأمور، أمر لا يصلح. التفكير بهذه الطريقة يختزلك إلى مستوى العصبة الضيقة الأفق وليس الحزب الجماهيري.

لذلك نحن بحاجة إلى منظمات سياسية واسعة تدور داخلها نقاشات ديمقراطية؛ منظمات منضبطة بشكل طوعي انضباطًا ليس مفروضًا؛ منظمات تنتج مطبوعات من نوع مختلف. لا نحتاج نمط منظمات القرن العشرين الصغيرة. لقد انتهى هذا. إذا تبنيت هذا النموذج من المنظمات فأنت لن تتحرك إلى الأمام. المنظمات من هذا النمط عادة ما تكون مجموعة صغيرة يلتف حولها عدد من البشر، ولا تتجاوز حجم معين. وعندما يزداد عدد أعضائها من 500 إلى 800 شخصًا تعتقد أنها حققت انتصارًا ضخمًا. لكن في الواقع هذا لا شيء. وأعتقد أن الشيء الذي يجب علينا أن نتعلمه من القرن العشرين هو عدم تكرار أخطاءه، لأن الجميع ارتكب أخطاء. لم يكن هناك من هو محصن ضد الأخطاء.

نعود إلى البعد العالمي للثورة البلشفية، ونتحدث عن الثورة الصينية. استمرت الثورة الصينية تقريبًا منذ تأسيس الحزب الشيوعي الصيني في عام 1919 إلى النصر في أكتوبر 1949، حيث كانت عملية طويلة ضخمة. وفي هذه العملية، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، كان على هذا الحزب أن يقترب حقًا من الناس، ليس فقط الفلاحين الفقراء الذين كانوا قاعدته في الريف، ولكن حتى في المدن، التي كان القمع بها شديدًا. حيث توفرت للحزب شبكات ضخمة تحت الأرض.

إذن الفكرة القائلة بإن الثورة الصينية ثورة فلاحين خاطئة تماما. صحيح أنها ضمت نسبة كبيرة من الفلاحين الفقراء، وكان ذلك مصدر قوة لها لفترة طويلة. لكنها أيضًا كانت تسيطر على شبكات ضخمة في المدن، من عمال ونقابيين يناضلون في ظل ظروف صعبة للغاية. كان عليهم محاربة المحتلين اليابانيين للصين، ومحاربة الكومينتانج الذي كان يتعاون لفترة طويلة مع اليابانيين. وبالتالي فإن عدد الرفاق الصينيين الذين قتلوا في تلك الثورة من قبل العدو كان ضخمًا جدًا، وهذا ما أعطى هذه الثورة خصائص مختلفة، ببساطة لأنها لم تكن تكرارًا للثورة الروسية. لا يمكن أن تكون كذلك، وهي ليست كذلك.

إجابتك تفتح الباب لمناقشة عدة قضايا نود أن نستوضحها. فأولًا، يبدو أن رسمك للتاريخ الطويل للثورة في أوروبا، بدءًا من الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر وحتى الثورة الروسية في القرن العشرين، يركز على مستوى المثقفين والبنية الفوقية. أنت تعطي وزنًا كبيرًا للمفكرين والمثقفين والبنية الفوقية والتطور الأيديولوجي والوضوح الفكري، وذلك في سياق فهم الاختلافات بين الثورات. فهل هذا صحيح؟ ثانيًا، ما العلاقة بين ما سبق وتطور الجماهير الفقيرة والطبقة العاملة نفسها؟ بصياغة أخرى، يقول البعض إن الفرق الجوهري بين الثورات يكمن ليس فقط في التطور النظري والنضج الأيديولوجي، ولكن أيضًا، وربما بشكل أكثر أهمية، في تطور الطبقة العاملة نفسها، لذا فنحن في نهاية المطاف رأينا أن الطبقة العاملة في روسيا كانت أكثر تطورًا بكثير من غيرها بحيث أنها أجبرت المثقفين لإدراك قوتها. وهنا يمكن أن نربط هذا بثورات 1848، والتي ربما كانت الدورة الأولى من الثورات في العالم التي أظهرت القوة الحقيقية للطبقة العاملة، والتي وضعتها هي، وليس فقراء الحضر بشكل عام، في المقدمة، وهو ما بدأ تاريخًا جديدًا. ما رأيك في هذا؟

حسنًا، هناك بالطبع عنصر صحة قوي في هذا. لقد كتب ماركس في البيان الشيوعي عن بروز شريحة اجتماعية جديدة هي العمال. وقد حدث هذا بالفعل. كثير من الأشياء التي كُتبت في البيان الشيوعي لم تتحقق. فإذا نظرنا إليه كمجرد وثيقة تتوقع ما سيحدث، سنجد أن أشياءً كثيرة لم تحدث. لكن هذا لا يجعله وثيقة غير هامة. هو هام لأنه يحفزك ويجبرك على التفكير.

نعم صحيح تمامًا أنه بدون ظهور الطبقة العاملة، فهذه الأفكار التي كان يتم تطويرها، لم تكن لتجد أي علاقة بالجماهير. ولكن لهذا جانبه السيئ أيضًا، فعلى سبيل المثال لم يمكن كسر هيمنة الاشتراكية الديمقراطية التقليدية على الطبقة العاملة في ألمانيا. نعم كان هناك قمع، وبعد الثورة الروسية أصاب القلق والخوف الشديدين حكام ألمانيا وقاموا بالقتل على نطاق واسع، ودمروا قيادة الحزب. كل هذا صحيح، لكن يظل العامل الرئيسي، في اعتقادي، هو أنه في 1918، و1919، و1920، لم تكن الطبقة العاملة الألمانية في كليتها مستعدة للقيام بثورة. لو كانت مستعدة، كانت الثورة ستحدث. لكنها لم تحدث، والسبب في هذا هو أنها كانت تحت التأثير القوي للأفكار السياسية: الأفكار اليسارية لكاوتسكي، والأفكار اليمينية لبرنشتاين وغيره، ولم تستطع التخلص من سيطرة هذه الأفكار.

سيطرة هذه الأفكار تتضح إذا نظرنا إلى مؤتمر الاشتراكية الدولية قبل سنوات من الحرب العالمية الأولى. فقد كتب لينين مسودة قرار يقول إنه في حالة اندلاع الحرب بين القوى الإمبريالية -والحرب كانت تبدو محتملة جدًا آنذاك- «يجب أن ندعو إلى إضراب عام للطبقة العاملة الأوروبية بأكملها لوقف الحرب». إلا أن الألمان أشاروا إلى أنه يجب الأخذ في الاعتبار أنه سيكون هناك الكثير من الشوفينية، وبالتالي فربما يكون تحديد شكل النضال أمرًا مبكرًا، لذلك تمت إزالة هذه الفقرة.

إذن فالشوفينية داخل حركة العمال كانت قوية جدًا في ألمانيا وبريطانيا. كانت هناك معارضة محدودة لها، ولكن التيار العريض داخل الطبقة العاملة كان متأثرًا بهذه الأفكار، لأن الأفكار لا تهبط من السماء، الأفكار تنمو وتنغرس في العقول. لقد كنا نميل في الماضي إلى التقليل من أهمية الأفكار، والآن حان الوقت لتصحيح ذلك.

النظر إلى الانتفاضات العربية، ومنها الانتفاضة في مصر (التي تعد أهم دولة في المنطقة من زوايا متعددة)، يوضح هذا في نواح كثيرة. كان هناك نوعان من الأفكار المهيمنة عند اندلاع الانتفاضة في مصر: الأول كان أفكار الإخوان المسلمين، والتي كانت في الواقع نابعة من سياستهم اليمينية اجتماعيًا واقتصاديًا وخارجيًا، والثاني، كان أفكار ليبرالية حقوق الإنسان التي لا تقدم أي نقد للولايات المتحدة، رغم أنها الدولة التي مولت وحافظت على نظام مبارك منذ الأزل. وبينما هيمنت هذه الأفكار كان اليسار بأطيافه المختلفة، بما في ذلك اليسار القومي، ضعيفًا.

هناك الكثير من الأفكار المهمة التي نوقشت في تلك الثورة. لكن إذا استمرينا في الحديث إلى ما لا نهاية عن الطبقة العاملة على هذا النحو، فإن هذا ليس بسياسة وإنما تنظير في علم الاجتماع. وعلم الاجتماع من دون سياسة لا طائل منه. نعم يمكن أن نتناقش حول كيفية تطور الرأسمالية وهذا أمر جيد، ولكن لو كان لينين أو البلاشفة قد فعلوا ذلك فقط، لما تحركوا للأمام، ولكانوا قد فشلوا. فالسياسة والتدخل السياسي أولوية. وهنا فالسياسة تثير مسألة أولوية الأفكار، أفكار من التي تسود.

نقطة أخرى تتعلق بمسألة تأثيرات الثورة الروسية. لقد قلت إنه لا يجب النظر للثورة الروسية كحدث خاص في دولة واحدة، ولكن تأثيراتها امتدت وأثرت على معظم القرن العشرين، على الأقل حتى نهاية الستينات وربنا السبعينات. ولكن هناك وجهة نظر مضادة تقول إنه بين الثورة الروسية والثورة الصينية في 1949 كان هناك انتصار للثورة المضادة في روسيا، وانتصار النازية، وصعود الفاشية في أوروبا، والحرب العالمية الثانية وتأثيراتها، وما إلى ذلك، لماذا إذن نقول إن الثورة الروسية عكست نفسها في الثورة الصينية، لما لا نقول إنها الستالينية؟ لماذا لا نقول إن العالم الجديد خُلِق بسبب هزيمة الثورة الروسية؟

لا أعتقد أن الثورة الصينية كانت نتيجة لستالين أو الستالينية. صحيح أنهم حاولوا تحريفها، وقدموا نصائح خاطئة. ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أن الحزب الشيوعي الصيني أُسس في عام 1919، وكان ذلك بعد عامين من أكتوبر، وكانوا متحمسين جدًا بسبب الأحداث التي تجري في روسيا. كان هناك قدر كبير من الحماس في الجامعات وبين المثقفين، حيث أرادوا أن يعرفوا ما الذي يحدث في روسيا. وفي هذه اللحظة كانت هناك بالفعل مجموعة صغيرة من الناس الذين كانوا في عام 1911 يناضلون من أجل الاستقلال الوطني، وكانت مجموعات من الناس تؤيدهم. ولكن هذا لم يكن كافيًا، ثم جاءت الثورة الروسية وأعطتهم هذا الأمل.

دعنا نوضح. حتى الحرب العالمية الأولى كانت الفكرة داخل البلاشفة أن الثورة القادمة ستكون وطنية ديموقراطية، وستؤدي إلى تطور الرأسمالية في روسيا وستجعلها تلحق بركب الآخرين. لكن الحرب العالمية الأولى والتطورات التي تبعتها حررت عقلية قطاعات معينة من الثوريين الروس ووضعتهم في اتجاه ثورة مختلفة، عالمية، اشتراكية وما إلى ذلك. ربما تكون دلالة الثورة الصينية هي العودة إلى ما قبل 1914، إلى نفس صيغة الثوريين في روسيا قبل أن يتحرر بعضهم. أي أنها (الثورة الصينية) كانت ثورة تحرر وطني؟

أنا أعلم أن هناك مجموعات تروتسكية كانت تقول إنه لا يوجد فرق بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بسبب الستالينية وإنه لم تحدث أبدًا ثورة حقيقية في الصين، أو كوبا. لذلك ما يبدو أفضل هو الولايات المتحدة، لأن هناك حرية للعمال والناس لكي يعبروا عن أفكارهم، هذا هو منطقهم. فالدولة الأخرى (الاتحاد السوفيتي) شمولية تمامًا، إلخ. وفي الواقع فقد استمرت الفترة الفعلية للديمقراطية في روسيا من فبراير 1917 ولمدة عام على أقصى تقدير، ثم انتهت. ثم حدثت عزلة لتلك الثورة عن جماهيرها، بسبب الحرب الأهلية وغيرها من الأسباب المعروفة. لقد تطورت تلك الثورة في ظروف تعيسة، وبالتالي لا يجب أن نتعامل معها بعقائدية. لينين كان يعرف أننا لا نعرف شيئًا، وكان يقول في كتاباته الأخيرة ما معناه: رجاءً لا تعاملوا الماركسية كعقيدة جامدة.

فيمكنك أن تكون ماركسي، ولكن هذا لا يعلمك كيفية إدارة الدولة، هذا لا يعلمك كيفية خوض حرب أهلية. والمناقشات التي شهدتها روسيا خلال الحرب الأهلية بين القادة العسكريين كاشفة جدًا في هذا الصدد، حيث المعركة بين العقيدة الجامدة والعقيدة غير الجامدة. كان تروتسكي وآخرون يدعون لتطوير الأمور وفقًا للمذاهب العسكرية التي طورت قبل فترة طويلة من الماركسية.

هذا هو الأمر، أنت لا يمكن أن تتجاهل أن هناك ثورة تحدث لأنها لا تتسق مع وجهة نظر معينة لديك كمجموعة صغيرة ذات تأثير محدود ومنقطعة عن العالم في نواح كثيرة.

نحن نعرف المناقشات التي جرت في الصين. كان الكومنترن المنظمة الوحيدة التي تقدم لهم دعمًا من أنواع مختلفة، بما في ذلك الأسلحة. وبالتالي لم يكن الصينيون راغبين في الاختلاف مع الكومنترن بشكل علني. ولكن هناك العديد من المعلومات الجديدة التي خرجت، والتي لم تكن متوفرة لدينا، عن العداء بين بعض الرفاق الصينيين وبين الروس الذين كانوا يحاولون فرض وصاية عليهم. لكنهم قاموا بموائمات مع ما كان ينظر إليه باعتباره الدولة الاشتراكية الوحيدة في العالم، لأنهم كانوا بحاجة لها. ولكن بالنسبة لتكتيكاتهم فقد كانت مختلفة تمامًا.

لذلك أعتقد أنه على المرء أن يحلل الثورات من خلال رؤية ما حدث في هذه البلدان وما كانت عليه، وليس على أساس ما قيل لنا إنه الطريقة التي يجب أن نفكر بها. 

التطورات التي حدثت في روسيا بعد ثورة 1917 في رأيي حدثت لأنهم كانوا تحت ضغط شديد جدًا من أيديولوجية البرجوازية الإمبريالية. كانوا يتعرضون للهجوم باستمرار، ولم يتمكنوا من الرد والاستجابة لهذه الهجمات، لذلك طوروا نظريات جديدة. هذه النظريات ليست اشتراكية على الإطلاق، والعديد جدًا من الهياكل المبتذلة تم تأسيسه خلال الحرب الأهلية.

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن جميع المؤرخين على اختلاف اتجاهاتهم متفقون على أنه لو كان لينين قد استمر على قيد الحياة خمس سنوات أخرى، ربما كنا نجونا من أسوأ هذه الكوارث. هذا في رأيي صحيح. ولكن حقيقة أنه أمر صحيح لا تخفي نقاط الضعف. لأنه إذا كنت مضطرًا للاعتماد على بقاء شخص واحد على قيد الحياة، فما الذي يقوله هذا عن حالك؟ الحزب نفسه لم يستطع فعل أي شيء كمؤسسة. لينين في كتاباته الأخيرة كان واضحًا جدًا في هذا الشأن. فهو يعود مرارًا وتكرارًا إلى هذا السؤال.

لذلك نعم كانت هناك ثورة مضادة سياسية مع ستالين دون أدنى شك. ولكن الهياكل الاقتصادية في الاتحاد السوفييتي كانت تعني الإلغاء التام للرأسمالية من جميع الأنواع. ثم هناك حقيقة أن هذه الدولة الخالية من الرأسمالية الغربية، قدمت القوات التي هزمت ألمانيا النازية. نعم ربما لا أحب حقيقة أن ستالين قاد هذه الحرب بدلًا من تروتسكي. ولكن الحقيقة هي أن الجيش الذي تم تأسيسه بعد الحرب الأهلية كان الجيش الذي دمر الرايخ الثالث. لا يمكن أن ننسى هذه الحقائق.

لننتقل إلى مسألة دور الفرد في التاريخ. تحدثت في مقدمة كتابك عن أن فشل الثورات الأوروبية، وخاصة الألمانية، كان حدثًا عارضًا، وليس مسألة هيكلية، وفي هذا السياق تحدثت عن الدور المحوري للينين. ثم ها أنت تكرر هذا مرة ثانية هنا. كيف يمكن إذن أن نفهم التاريخ وتطوره، والثورة وتطوراتها، في ظل عوامل الصدفة ودور الفرد في التاريخ، مع الوضع في الاعتبار أن أساس منظورنا هو أن البشر يصنعون التاريخ من أسفل، وأن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، والثورات هي محركة التاريخ، وهكذا. كيف يمكن إضافة مسألة الصدفة ودور الفرد؟ هل يجب علينا القول على سبيل المثال ونحن نتحدث عن الثورات إن وزن الصدفة والعوامل العارضة ودور الفرد يزيد، بالتحديد أثناء الثورات، وذلك لأن الثورات تفكك المؤسسات الراسخة وتغير الطرق التي تسير بها الأمور في الظروف العادية. ما هو تعليقك على هذا؟

 

حسنا، هناك أمران. أنا عادة لا أومن بإعطاء قيمة مبالغ فيها للأفراد. ولكن أعتقد أن لينين كان استثنائيًا جدًا في هذا الصدد. وفي كتابي الأخير أشير إلى أنه وفقًا لكل ما نعرفه كانت ستحدث ثورات في إنجلترا وفرنسا، بغض النظر عما إذا كان روبسبير أو كرومويل موجودين أم لا. أما في الحالة الروسية فقد كانت هناك ثورة فبراير 2017، وهي لم تكن ثورة تنبأ بها لينين أو ثورة لينينية على الإطلاق. لكن العملية بين فبراير وأكتوبر هي التي جعلت لينين مهمًا جدًا، لأنه كان الزعيم الرئيسي الوحيد لأحد الأحزاب السياسية في روسيا الذي قال إنه «لا يمكننا التوقف الآن»، وإنه لا يمكن أن تكون هناك فجوة طويلة بين فبراير والثورة الاشتراكية القادمة.

لقد شرح لينين ما تعنيه الثورة الاشتراكية، وهو أنها ثورة لن تمحو فقط الاستبداد بل أيضًا الرأسمالية، ونجح في كسب حزبه لهذه الفكرة، وهذا لم يكن بالأمر السهل، فكل الأشخاص الأساسيين في الحزب كانوا -كما يتضح من كتابات لينين- مختلفين مع هذه الفكرة. كان عليه أن يخوض صراعًا ضخمًا، لأنه بطريقة ما كان يختلف مع ماضيه هو نفسه. وقد نجح في ذلك بالفعل. فماذا لو لم ينجح؟ ما الذي كان سيحدث لو لم يقوموا بدفع الثورة للأمام؟

كان ما ساعد على نجاحهم بشكل كبير هو تفكك جيش القيصر، وما تبعه من تجذير الفلاحين الفقراء. والأهم كان هو الطبقة العاملة الروسية، والتي رغم صغر حجمها، كانت هامة في انتصار المدن، وبمجرد السيطرة على المدن، كان يجب التفكير في كيفية التحرك قدمًا والتقدم إلى الريف.

لقد فعل لينين هذا، وفعل الحزب هذا، وبدونهما لم يكن هذا سيحدث. لا أعتقد أن هناك اختلافات كبرى في هذا الشأن بين المؤرخين.

كذلك فمسألة الوعي الطبقي، وتجذيره شديدة الأهمية. وهنا يمكننا أن نقول إن الوعي الطبقي، حتى لو وصل لقمته لا يمكن أن يستمر كذلك إلا أذا كانت هناك شبكة أمان، وهي الحزب السياسي الذي يشجع العمال ويتحرك بهم للأمام. أنا أعتقد أن هذا أمر شديد الأهمية.

النقطة التي تخلق جدلًا هي ما هو نوع التنظيم الذي نحتاجه في الوقت الراهن. فحتى لو لم تكن الطبقة العاملة في قلب الحركات، كما رأينا في حركات «احتلوا» (Occupy) في الولايات المتحدة وفي الربيع العربي، فنفس المبادئ تنطبق. فالوعي السياسي لا يسير في خط واحد أبدًا. فهو يرتفع، ثم يتراجع، ثم يتصاعد مرة أخرى، ويتراجع، وهذا هو الوقت الذي يجب أن ندرك فيه أن هذه المعركة قد هزمت. لذا، ففي اللحظات الفعلية، عندما يكون الوعي السياسي في ذروته، يكون هذا هو الوقت المناسب لتوجيه الضربات سياسيًا. ولهذا بالضبط، فهذه هي اللحظات التي يشعر فيها المرء بفداحة غياب سياسة جذرية.

لقد مر علينا حوالي عشرين أو ثلاثين عامَا بدون أي تجذير، ثم فجأة تصعد حركات مقاومة في أمريكا اللاتينية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر جيد جدًا. ولكنها بدون أي سياسة، باستثناء سياسة فوضوية فضفاضة.

هذا يطرح مسألة الحزب البلشفي. ما هو تميز الحزب البلشفي؟ إذا أعطينا وزنًا كبيرًا لدور لينين في إعادة تسليح الحزب أيديولوجيًا وتغيير مساره، فهل هذا يعني أن الحزب البلشفي كان مجرد أداة في يد لينين. هل كان مبنيًا في هياكله، وتحضيراته، وما إلى ذلك، بطريقة تعطي للينين هذه الفرصة؟ وهل لو كان لينين في قيادة المناشفة، كان سيفعل هذا أو أمر مثله؟

لا أعتقد أن الحزب لم يكن سوى أداة للينين. هو نفسه لم يتحدث أبدًا عن الحزب بهذه الطريقة. لكنه كان يشعر أن الحزب ككل أداة يجب أن تشحذ لصناعة الثورة. لا يجب أن ننسى العالم الذي كان ولد فيه لينين، كان عالم النصف الأخير من القرن التاسع عشر الذي هيمنت عليه الجماعات الفوضوية والإرهابية. كانوا يؤمنون بالإرهاب، ويعتقدون أن الطريق لإيقاظ الجماهير هو القيام بالمهام نيابة عنهم ضد أعداء مشتركين. وهذا ما يجعل إرهابيو روسيا القرن التاسع عشر مختلفين جدا عن إرهابيي اليوم. فهم لم يقتلوا الناس العاديين، ولكنهم ضربوا في قلب الاستبداد: قتلوا القيصر، وقتلوا رؤساء الشرطة. فالحقيقة أن مسألة العنف لم تكن مشكلة في روسيا. كل التيارات السياسية في القرن التاسع عشر كانت عنيفة ضد الأوتوقراطية.

وبالنسبة للأحزاب السياسية فإذا نظرت إلى الوثائق التأسيسية للأممية الثانية، ستجد أنهم أوضحوا أن هدفهم هو الإطاحة بالرأسمالية وإقامة الاشتراكية. إلا أنه من بين كل هذه التيارات في الأممية الثانية، فالحزب الوحيد، الذي نجح بالفعل هو الروسي. لقد نجح الروس في البلد الذي كان يعتبر الأكثر تخلفًا. لذلك كانت هناك حاجة للحزب بالتأكيد. لقد أكد لينين على أهمية الحزب وشرحها في «ما العمل؟» الذي كان وثيقة هامة للغاية بالنسبة لروسيا وللعالم الذي كان موجودًا وقتها. ولكن أهمية «ما العمل؟» لا تقتصر على روسيا.

ففي معظم القرن العشرين كان الحزب الشيوعي الصيني يعمل بشكل سري في الريف. كذلك عمل الفيتناميون والفرنسيون والإيطاليون واليونانيون واليوغوسلافيون بشكل سري أيضًا. لذا فإن التدريب على السرية من وجهة النظر هذه أمر هام، ولا يزال هذا هو الحال حاليًا.

ما الذي تعتقد أنه قد تغير بين أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي والآن؟ ما الذي تغير في حقبة الليبرالية الجديدة؟ كيف يمكننا فهم الثورات في هذه الحقبة؟ كيف نفهم اختلافها عن الثورة الروسية؟

آخر فترة فيها ملامح ثورية كانت الفترة التي بدأت عام 1967 وانتهت عام 1975. في هذه الفترة كانت هناك إضرابات عامة، مثل الإضراب العام الفرنسي في 68 الذي كان الأضخم في تاريخ الرأسمالية. وقتذاك كانت هناك محاولة لتأسيس اشتراكية ذات وجه إنساني -اشتراكية ديمقراطية- في تشيكوسلوفاكيا، ولكن سحقتها دبابات بريجنيف، الرئيس السوفيتي آنذاك. وحدث ما هو قريب جدًا من «الثورة التقليدية» في البرتغال في 1974 و1975. وكان الجدال الذي أثير في البرتغال وقتها هامًا جدًا.

دار الجدال بين الحزب الاشتراكي بقيادة ماريو سواريز من ناحية، والحزب الشيوعي ومجموعات على أقصى اليسار متحالفة معه من ناحية أخرى. كان الحزب الشيوعي والمتحالفون معه مع الثورة، فيما كان سواريز يدعو للإصلاح. هنا علينا أن نأخذ في الاعتبار أن هذا بلد كان خارجًا للتو من 50 عامًا من الدكتاتورية. ما طرحه الحزب الشيوعي هو أن ما يدعو له هو ديكتاتورية البروليتاريا. ووجد أقصى اليسار أنه من الصعب معارضة هذا الخط لأنهم يؤيدونه منذ الأزل. أما ماريو سواريز فخطبه في ذلك الوقت كانت شديدة الذكاء. كان يخطب في الجماهير قائلًا: هل نريد الاشتراكية؟ فيردون عليه: نعم. ثم يسأل: هل نريد سيطرة العمال في المصانع؟ فيردون: نعم. ثم يسأل: هل نريد إصلاحات في الريف؟ فيردون: نعم. ويسأل: هل نريد أن نمزق الديكتاتورية وجميع هياكلها؟ فيردون: نعم. ثم يقول يا رفاق، هل نريد أن نستبدل ديكتاتورية بأخرى؟ هل نريد أن نخلق دولة الحزب الواحد على غرار الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، هل نريد هذا؟ فتهتف الجموع: لا، ولديهم في هذا أسباب منطقية.

كان سببهم في هذا هو ما تعلموه من هذا النمط من الدول. لأن الشيء الوحيد الذي تعلموه من هذا النوع من الدول هو أنه نفى تماما أي مساءلة أو ديمقراطية. لم يكن هذا ما يريدونه، لأنه كان موجودًا لديهم في شكل مختلف لمدة 50 عامًا. تعثرت الدكتاتورية، وكانت الثورة ناجحة جزئيًا، كما في فبراير الروسي، لكنها لم تتجاوز ذلك. وهنا أعتقد أن عجز اليسار البرتغالي في مجموعه عن فهم أهمية الديمقراطية الاشتراكية كان حاسمًا. وهذا يعود، في رأيي، في جزء منه إلى عجز اثنين من الإصلاحيين في الاتحاد السوفياتي: خروتشوف وجورباتشوف.

كان لدى خروتشوف إمكانية إصلاح الدولة السوفيتية وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها، وهو ما فعله على مستوى معين. إذ أدان ستالين والستالينية في مؤتمر الحزب الشيوعي العشرين بلغة قوية جدًا صدمت العالم، لكنه لم يخلق عالمًا بديلًا. لو كان تبع ذلك بتدابير حقيقية، مثل حق الأحزاب السياسية الأخرى في الوجود مع الإبقاء على السيطرة على الدولة السوفيتية، وغير ذلك من التدابير الأخرى، لغير الكثير. كان هذا ممكنًا تمامًا في رأيي، وكان الناس ينتظرونه، لكنه لم يفعله. 

على أي حال، شكلت الهزائم في أوروبا على وجه الخصوص الأساس لما حدث في أواخر السبعينات والثمانينات. أدت الهزائم إلى قرار بقطع الصلة مع أي شيء به رائحة الجماعية في أي شكل. وفي الوقت نفسه حدث الأمر الذي لم يحسن البعض تقدير أثره، خاصة بعض المجموعات في أقصى اليسار، وهو انهيار واختفاء الاتحاد السوفيتي. هذا الانهيار الذي ينظر إليه تاريخيًا ليس فقط من قبل المثقفين، ولكن من قبل الجماهير ككل، باعتباره هزيمة ضخمة. 

لقد تحدثت إلى الناس في جميع أنحاء العالم، وليس المهتمين بالسياسة فقط. وكان انهيار الاتحاد السوفيتي أساس الشعور بأنه لم يعد هناك أي بديل على الإطلاق، فقد انتصرت الرأسمالية، وتفككت الدولة الروسية.

وعندما حدث تغير في عام 2008 مع انهيار وول ستريت الذي صدم النظام الرأسمالي، لم يخرج شيء بعد هذا الزلزال، وهو ما يأخذنا مرة أخرى في اتجاه السياسة الاشتراكية.

إن ما خلقته هذه الأزمة، وحتى ما خلقته الليبرالية الجديدة، هو الرغبة في العودة إلى الاشتراكية الديمقراطية التقليدية. دائمًا ما أقوم بتحليل انتفاضات أمريكا الجنوبية باعتبارها اشتراكية ديمقراطية أساسها الحركات الاجتماعية. لم تكن هناك رغبة في التخلص من الرأسمالية، لأنهم كانوا مقتنعين أنهم غير قادرين على ذلك، وتساءلوا: كيف يمكنك بناء الاشتراكية في بلد واحد؟ وهنا أتذكر حواراتي مع بعض الرفاق والمناقشات حول ضرورة وجود رؤية. فما هو موجود ليس بلدًا واحدًا، ولكن قارة. فلماذا لا يمكن تصور التعاون على نطاق قاري. كان النقاش يتطرق إلى البلدان التي لا تزال الولايات المتحدة تسيطر عليها، مثل المكسيك وكولومبيا والبرازيل. ما كان مثيرًا في هذه النقاشات هو أنها كانت تتم بالنظر للقارة كلها. 

ما أعنيه هو أن اشتراكية القرن الواحد والعشرين أصبحت حديثًا عن إعادة نشر فكرة الاشتراكية وخلق شعبية لها. هذا ما فعله بيرني ساندرز في الولايات المتحدة. وهذا يحدث على نطاق أوسع في بريطانيا مع جيريمي كوربين. ولكنهم جميعًا يسار اشتراكي ديمقراطي، أو اشتراكية ديمقراطية منتصف الطريق. يمكن القول حتى إن ما حدث في أمريكا الجنوبية كان أحداث اشتراكية ديمقراطية لها ملمح ثوري، لأنها كانت مرتكزة على قطاعات كبيرة من الفقراء، لكننا لم نذهب أبعد من ذلك، ولا يوجد بديل للرأسمالية في الأفق في الوقت الراهن بقدر ما أستطيع أن أرى. هناك أفكار ولكن لا يوجد شيء ملموس. هناك في الوقت ذاته ما تشهده الطبقة العاملة التقليدية من تحولات في معظم أنحاء أوروبا -بما في ذلك فرنسا وبريطانيا- باستثناء ألمانيا. الوقت الراهن يشهد تراجع التصنيع، والتفكيك الكامل لما كنا نسميه بدور الثورة المركزي في إحداث التغيير. وبالتالي فأسئلة مثل كيف يمكن تحقيق التغيير الجذري، ومن ستكون القوى الاجتماعية التي ستقوم بهذا التغيير، ليست أسئلة يسهل الإجابة عليها. 

نفهم مما تقوله إنك تعتقد أن فترة الليبرالية الجديدة الحالية هي العامل الأساسي وراء حركات المقاومة الحالية. ربما كان الفرق الوحيد بين الحاضر والماضي (البلشفي مثلًا) أن هناك ما يشبه سجن إيديولوجي، حيث لا يستطيع الناس التفكير أو تصور بديل، وهذا يضع مقاومتهم وانتفاضاتهم الصغيرة في سياق نوع من الإصلاح وليس أكثر. فهل هذا صحيح؟

هذا صحيح، وهو ما أعتقد أنه يحدث الآن عالميًا. فالليبرالية الجديدة خلقت ظروفًا وأوضاعًا جديدة على عدة مستويات غيرت من شكل وإشكاليات المقاومة.

هناك بعض الأشياء التي حدثت في مراحل تاريخية سابقة، والتي كانت أعمالًا أممية لا يمكن تصورها الآن. على سبيل المثال، عندما غزا جيش جنوب أفريقيا أنجولا وحاول هزيمة حركة تحرير أنجولا، التي كانت حركة التحرير الرئيسية في ذلك البلد، ألقى فيدل كاسترو خطابًا مدهشًا قال فيه إن معظم العبيد الذين تم جلبهم إلى كوبا كجزء من تجارة الرقيق جاءوا من ذلك الجزء من أفريقيا «ونحن مدينون لهم بدين دم، وسنرسل قوات كوبية لمساعدتهم في هزيمة الجنوب أفريقيين». أُرسلت هذه القوات الكوبية في كثير من الحالات -إن لم تكن كلها- على طائرات قدمها الاتحاد السوفيتي، واستطاعت هزيمة جنوب أفريقيا. وكتب نيلسون مانديلا أن «هزيمة جيشنا من قبل الكوبيين والأنجوليين معًا قصمت ظهر نظام الفصل العنصري. لقد أظهر هذا لأبناء بلدنا أن الجنس الأبيض ليس محصنًا، بل يمكن هزيمته». وكان لهذا تأثير كبير في حركة المقاومة في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري.

ولكن الآن ما يحدث هو العكس تمامًا. الأمريكيون يقاتلون سبع حروب في الوقت الراهن، والعالم العربي يجري تدميره. ويتم استخدام القصص عن بشاعة نظام صدام، والأسد، والقذافي كحجة للدفاع عما تفعله الولايات المتحدة أو كحجة للصمت إزاء تجولها في هذه الدول القديمة لتدميرها ولإعادة استعمارها. وفي هذا السياق يقوم الأمريكيون بإحياء العداوات القديمة: السنة والشيعة، ويخلقون ويشجعون ويسلحون جماعة جهادية، ثم جماعة أخرى، وهكذا. وبذلك يخلقون حطامًا شاملًا في العالم العربي.

وكما يخبرني أصدقائي اليساريون العراقيون والليبيون، فعند حديثهم مع مواطنين عاديين يقولون لهم إن الوضع كان أفضل في ظل الديكتاتوريات القديمة، أفضل بكثير، لأنهم لم يضطروا إلى تجربة ما يعيشون فيه حاليًا. وهكذا، فكل شيء يصبح نسبي في عالم الهزيمة الذي نعيش فيه حاليًا.

نحن كذلك نعيش في عالم انتقالي على مستويين: سياسيًا بالطبع، ولكن الأهم من ذلك على مستوى ما يحدث للرأسمالية نفسها مع كل التغيرات التكنولوجية الهائلة التي تجري.

عندما يخبرني البعض أن الأمريكيين قد انتهوا، أقول حسنًا سيكون رائعًا إذا كان هذا صحيح، ولكنه ليس صحيحًا، لأنه، سواء كان الأمر يعجبك أم لا، فإن التطور التكنولوجي الأكثر أهمية على مدى السنوات الخمسين الماضية جاء من الساحل الغربي في الولايات المتحدة. فها هو الإنترنت، الذي غير الكثير من الأشياء، التي تم تطويره في الولايات المتحدة من قبل هؤلاء الفتية في الساحل الغربي بدعم من الدولة على العديد من المستويات. لقد خلقوا نظامًا غير الاتصالات، ووفر أيضا إمكانات كبيرة للديمقراطية إذا تم استخدامه بشكل سليم. هذا تطور لا ينبغي بأي حال اعتباره رجعيًا. 

والآن هناك الكثير من الحديث عن استخدام الروبوتات كقوى عاملة، وهذا أمر يمكن أن يكون إيجابيًا. فلماذا يجب على العمال القيام بهذا العمل الفظيع المتكرر الميكانيكي؟ الفوردية قد اختفت تقريبًا من بعض أجزاء من أوروبا والولايات المتحدة. ولكن لماذا يجب على العمال القيام بهذا؟ من الأفضل بكثير أن تقوم الروبوتات بالعمل. ولكن هل من الأفضل أن يحل الإنسان الآلي محل العمال، إذا كان البديل الوحيد أمام العمال هو البطالة؟ أنا أقصد أنه في دولة اشتراكية، حيث يمكن تنظيم الأمور بطريقة تضمن أن كل مواطن لديه الحد الأدنى من مستوى المعيشة، ستكون الروبوتات نعمة. ولكن في ظل الرأسمالية يمكن أن تكون الاستعانة بالروبوتات كارثة كاملة.

في ظل ما تحدثت عنه من تطور رأسمالي وتكنولوجي، هل لا زال من الممكن الحديث عن أن الطبقة العاملة ستكون اللاعب الرئيسي في أي ثورة اشتراكية قادمة، وبالأحرى هل لازال من الممكن الحديث عن ثورة اشتراكية؟

لن تلعب الطبقة العاملة في العالم الغربي هذا الدور. هي لم تفعل هذا أبدًا. لقد تم دمجها، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، في الدولة من خلال منظومة الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية، ومن خلال توافق العهد الجديد (New Deal Consensus) في الولايات المتحدة.

الصين والهند هما الدولتان الأساسيتان اللتان لازال النمو الضخم للقوى العاملة بهما يتيح إمكانيات. في الغرب، وبرغم التفاوتات الضخمة، تغيرت الظروف. فالفقر كان يعني الحرمان والاحتياجات غير الملباة. لازال الحرمان، بالطبع، موجودًا، ويستخدم رأس المال التكنولوجيا على نحو متزايد كأداة لخلق فائض عمل. ولذا، فما تحتاجه بشدة أقسام ضخمة من السكان في العالم الغربي ليس تحسينًا داخل عالم الاحتياجات القائم، ولكن قطع كامل مع هذا العالم. وهذا أمر لا تستطيع الرأسمالية، ولن تستطيع، تقديمه لأغلبية السكان.

نحن بحاجة لقفزة نوعية تغير الاحتياجات والتطلعات: المادية والسياسية والثقافية. العائق الوحيد أمام هذا التحرر هو رأس المال وأجهزته المتعددة. من الممكن بسهولة تحقيق توسعات في الحدائق والشواطئ والغابات مع مزيد من وقت الفراغ والترفيه للجميع. كل هذا ممكن في ظل نظام آخر غير الرأسمالية.

لقد تحدثت من قبل عن أهمية وجود تنظيم للتعبئة وللعب دور شبكة الأمام للجماهير النشيطة، وقلت إن هذا التنظيم في الوقت الراهن يجب أن يكون مختلفًا عما عرفناه في القرن العشرين. هل يمكن أن تعطينا تفاصيل أكثر عن مسألة ما هو التنظيم الذي تعتقد أنه مناسب للقرن الواحد وعشرين؟

التنظيم الذي نحتاجه يجب أن يتميز بطرح الأسئلة، والسجالات، والمناقشات. هذه كلها أشياء حيوية للغاية ويمكن اعتبارها شريان الحياة لأي حزب. كان هذا هو الحال دائمًا حتى في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بما في ذلك البلاشفة. فالسجالات والمناقشات كانت تتم بشكل مستمر داخل الحزب البلشفي، وحتى عندما وصلوا للسلطة استمر هذا. على سبيل المثال، كان لينين ضمن أقلية من اثنين أو ثلاثة بالنسبة لمسألة التوقيع على معاهدة سلام طارئة مع الألمان. وهزم مرارًا وتكرارًا. ثم أثبتت الأحداث أنه على حق، وعند هذه النقطة غيرت اللجنة المركزية رأيها. وحدث هذا في مناسبات أخرى أيضًا. لذا، أعتقد في عصرنا الحالي، خاصة في الحالات التي لا توجد فيها ضرورة للسرية، فالنقاشات والسجالات أمر بالغ الأهمية. وفي هذا السياق يمكن استخدام التطورات التقنية لدعم حالة النقاش داخل التنظيم. فبفضل الإنترنت أصبح من الممكن إجراء هذه المناقشات طوال الوقت، وليس فقط في فترات المؤتمرات السياسية.

نحتاج لنمط جديد من الأحزاب السياسية، وهذه مسألة لا تواجه فقط أقصى اليسار، أو اليسار الماركسي، بل أنها تواجه أي شخص يحاول تأسيس منظمة سياسية في الوقت الراهن. 

لدينا حاليًا إمكانية إنشاء منظمات سياسية تجدد تيارنا الاشتراكي والديمقراطي، ولا تكرر أنماط الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية البرجوازية أو الحلقات والأحزاب اللينينية التقليدية أو النسخ الستالينية منها، والتي أعتقد أنها غير مناسبة على اﻹطلاق للوقت الراهن. الوقت الوحيد الذي تكون فيه التنظيمات من هذا النوع ضرورية وهو عندما تكون تقاتل حربًا أو حربًا أهلية أو عندما تكون هناك ديكتاتورية تسحق كل شيء ولا يمكن السماح بأي شيء.

الأمر الثاني الهام هو إنتاج نوع مختلف من الصحف. لقد حاولت دائما إقناع الرفاق أن هناك ضرورة لإنتاج نمط مختلف من الصحف، وأن نموذج الإيسكرا الذي تم تأسيسه في ظروف خاصة جدًا لنوع معين من الأحزاب ليس جذابًا لأي شخص. الوظيفة الوحيدة التي تلعبها صحيفة من هذا النوع داخل المنظمات الصغيرة هي الحفاظ على انضباط الأعضاء من خلال بيعها كمهمة حزبية. ولكن بالتأكيد هناك مهمات أفضل يمكن لأعضاء الحزب القيام بها.

ولكن أحيانًا تكون هناك ضرورة لمثل هذه الصحيفة، كما كان الحال أثناء حملة بيرني ساندرز الانتخابية في الولايات المتحدة. كانت هناك ضرورة لإصدار صحيفة لليسار تناقش العديد من القضايا، منها النضالات في المناطق التي يوجد بها عمال، وخاصة العمال البيض الذين صوتوا ﻷوباما من قبل والذين كانوا يهددون بمقاطعة الانتخابات أو بانتخاب ترامب. كان يمكن لهذه الصحيفة أن تتحدث مع هؤلاء العمال وتفهم منهم لماذا هذا الموقف. لكن هذا لم يحدث، وهي فرصة ضخمة خسرها اليسار العريض. وبالتالي فإنتاج مطبوعة لها تواجد على اﻹنترنت وتحتوي نقاشات وسجالات يمكن أن يكون شيئًا شديد الأهمية لليسار العريض اليوم.

السؤال الثالث الكبير ﻷي تنظيم سياسي اليوم هو: ما هي القوى الاجتماعية التي ستغرز نفسك وسطها والتي ستركز عليها؟ وهنا سوف تختلف اﻹجابة. بالطبع في بلدان مثل مصر وأجزاء أخرى من العالم حيث لازالت هناك قوى عاملة، من المهم عدم التخلي عن ذلك، والاستمرار في الحديث مع العمال. أنا لا أستطيع تقديم وصفة عامة لأن الوضع يختلف من بلد إلى آخر. ولكن أعتقد أنه بالإضافة إلى ما سبق، يجب على المرء أن يدعو للتشكيلات السياسية الجديدة أشخاصًا قد لا يكونون متفقين مع الخط أو البرنامج الكامل للتنظيم، لكنهم سيصلون له في مرحلة ما. فالتشكيلات السياسية الراديكالية هي أيضًا جامعات لتعليم الناس، وللمناقشة معهم، وللرد على الأسئلة، وخلال هذه العملية يمكن أن يصل هؤلاء الأعضاء للاتفاق مع البرنامج الكامل لهذا الحزب. 

كيف ترى الثورات العربية في ضوء تحليلك لمراحل وطبائع الثورات؟ 

أعتقد أن وصفي الأول لهذه الثورات، عندما قلت إنها الطبعة العربية من ثورات 1848 الأوروبية، ليس خطأ تمامًا. لم تُثر في هذه الثورات مسألة المساواة كقضية أساسية. وبهذا المعنى، فهي متأخرة عن ثورات 1848 وحتى 1789.

المطلب الرئيسي حقًا في هذه الانتفاضات كان الحرية. وكان كل ما يتطلبه هذا، إذا نظرنا للأمور حرفيًا، هو تدابير ديمقراطية مع استمرار الهيكل الطبقي الاجتماعي كما هو. وربما لو تمت الاستجابة لمطلب الحرية، لخلق ذلك مزيدًا من التناقضات.

كانت النضالات التي حدثت شجاعة وهامة جدًا، ولا يسعني سوى اﻹعجاب بها. ولكن في الواقع كان هناك العديد من الأوهام حول مؤسسات القمع ودورها وطبيعتها.

وعلى الرغم من معرفتي بأن أحداثًا أخرى كانت تحدث خارج ميدان التحرير، في المدن الصغيرة وفي المصانع وفي الأحياء، لكن الصورة التي كانت تقدم كانت لانتفاضة ساكنة وراكدة أهم ما بها هو احتلال الميادين. وبمعنى ما كان هذا أهم شيء فعلًا بالنظر لحجم الجماهير، لكن تظل هناك أشياء أخرى كانت تحدث في السويس واﻹسكندرية وغيرها من المدن.

ولكن فيما يتعلق بالسياسة فقد كانت هذه اﻷحداث اﻷخرى، بما في ذلك اﻹضرابات في المصانع، مُسيطر عليها من قبل اﻹخوان وكان من الصعب وجود شيء آخر. كان اﻹخوان هم القوة السياسية المنظمة الوحيدة والتي عانت في ظل ظروف السرية، وتعرضت للقمع، بالرغم من تعاونها أحيانًا مع نظام مبارك. لذا كانت جماعة اﻹخوان ملوثة، لكنها أقل تلوثًا من التنظيمات الكبرى الأخرى. كان من الواضح أن اﻹخوان سيكونون التنظيم السياسي المسيطر، رغم أنهم قد استغرقوا بعض الوقت قبل أن يقرروا هذا. وعندما حدث هذا لم تكن هذه مفاجأة كبرى، خاصة في ظل عدم وجود تيار يساري واحد عريض يستطيع أن يمثل بديلًا لهم. كانت العلاقة بين القوى التي شاركت في الانتفاضة التي وقعت في مصر غير مواتية لليسار. وكانت الأيديولوجية الغربية المهيمنة، وهي حقوقية مقترنة بليبرالية اقتصادية وسياسية، هي ثاني أكبر قوة في الانتفاضة. لذلك لم تكن مفاجأة أن يرغب ثاني أكبر تيار في اﻹطاحة بأكبر تيار بالاستعانة بالجيش.

أمر آخر أود اﻹشارة إليه. بالنظر إلى أن مصر هي ثاني أكبر متلق للمساعدات اﻷمريكية بعد إسرائيل، فقد صدمت حقًا أنه لم تكن هناك إشارة حقيقية إلى ذلك بين الجماهير. كان هذا قرارًا اتخذه كل من الليبراليين والإخوان. وأحد التصريحات الأولى التي أدلى بها الإخوان بعد الانتخابات، بل حتى أعتقد قبل الانتخابات -ولا أستطيع أن أتذكر اسم قائل التصريح- كان: «نحن نريد أن نؤكد للولايات المتحدة أننا سوف نكون أكثر ولاءً حتى من مبارك». هذه هي الطريقة التي يعمل بها اﻹخوان، فليست لديهم إيديولوجية حقيقة.

هكذا وبالرغم من كونها تجربة ضخمة شاركت فيها أقسام كبيرة من الجماهير، إلا أنها انتهت في نهاية المطاف بالهزيمة، بسبب افتقارها لرؤية برنامجية، وهو ما تسبب فيه عدم وجود حزب على اليسار، بغض النظر عن نوع اليسار. مثل هذا الحزب لم يوجد في مصر، وهذه كما أعتقد مأساة ضخمة.

أعني أنه في العالم العربي تم محو التيار الشيوعي من قبل الديكتاتوريات القومية المحلية. ولكن حتى في الأماكن التي لم يحدث فيها هذا بشكل كامل، قضى الشيوعيون على أنفسهم. على سبيل المثال بعد يوم من الاحتلال الأمريكي لبغداد، خرجت بقايا الحزب الشيوعي العراقي، وسارت في الشوارع مؤيدية للولايات المتحدة. هذا ما فعله أيضًا عدد من الشيوعيين الأفغان الذين أيدوا الاحتلال الأمريكي لأفغانستان. جميعهم حاليًا يعيشون في المنفى، يتناقشون الآن في باريس ولندن ونيويورك وواشنطن كما لو أن شيئًا لم يتغير. لم يقدموا كشف حساب، ولم يتساءلوا هل أخطأنا وقتها؟ هل نحن مخطئون الآن؟ لا شيء على الإطلاق من هذا القبيل. وبالتالي لا يسعنا سوى أن نقول أنتم تستحقون الفناء، فهذه قوى سياسية منتهية.

ولكن أعتقد أننا بحاجة للنظر لكشف الحساب الأكبر للثورات العربية. لقد كان الوضع أفضل في تونس إلى حد ما. كانت النقابات قوية، ثم أصبحوا مثل غيرهم. الإسلاميون في تونس أكثر ذكاء، ولكن لم يكن لديهم برنامج اجتماعي سياسي حقيقي.

أما الوضع في اليمن فهو فوضى هائلة. أتذكر أنني سافرت إلى جنوب اليمن قبل عدة سنوات وقابلت العديد من الأشخاص في الجنوب، والذين كانوا شيوعيين في وقت ما، ثم أصبحوا مؤيدين للنظام الحاكم. ولكن بعيدًا عن هؤلاء، فقد تحدثت إلى الناس في الشوارع، والعديد من النساء قلن لي على سبيل المثال: «انظر لما نضطر لارتدائه على رؤوسنا الآن. نحن لا نريد ذلك، ولكن هذا هو القانون. لقد تصورنا أننا سنتحرر إلى الأبد في الأيام الخوالي، ولكن الآن هذه الأمور عادت مرة أخرى». إن الوضع في اليمن كارثة كاملة، حيث يعطي الأمريكان للسعوديين الضوء الأخضر لاحتلال البلاد. إن الأمر أسوأ حتى من بغداد.

عندما ننظر للعالم العربي ونقارنه بالثمانينات والتسعينات، نجد أن الأمر كارثي. لذا من المستحيل لمؤيدي الولايات المتحدة الحديث عن أن الأمور قد هدأت. فلا أحد يصدق هذا على الإطلاق.

ما هو مستقبل الثورات العربية في رأيك؟ وهل يمكننا الحديث عن إحياء للربيع العربي؟

لا أعتقد هذا. لقد تحول الربيع العربي إلى شتاء بسرعة كبيرة. لقد أساء الجيل الجديد بشكل كبير تقدير قوة الولايات المتحدة، بل ويعتقد الكثيرون أن هذه القوة يمكن أن تساعد في تغيير العالم الذي نعيش فيه. لم يكن هذا الحال أبدًا، وربما هو أسوأ الآن. لقد تم تقسيم العالم العربي –الذي كان موحدًا بشكل فضفاض في ظل الإمبراطورية العثمانية- من قبل الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية، وفي النصف الأخير من القرن العشرين تم تقسيمه من قبل الولايات المتحدة. ولم يعد للاستقلال والسيادة الوطنيان وجود. ونجح الانقسام السني–الشيعي الذي استخدمه المستعمرون الجدد في مساعدة قوى الثورة المضادة على السيطرة. ويتعرض اليمن للتعامل بوحشية، هذا بينما نحن نتحدث الآن. الجميع هجر الفلسطينيين. من المؤلم بشدة مناقشة الأمر كله. ولكن إذا كان المقصود هو هل ستحدث انتفاضات جماهيرية مرة أخرى في العالم العربي، فالإجابة هي نعم. ما سيحدد إمكانية نجاح هذه الانتفاضات هو الشكل الذي ستتخذه، والسياسات التي ستتبناها، وقدرتها على خلق تحالفات عربية واسعة.