حوارات

شين برلي

حول المقاومة اليومية مقابلة مع كيفين فان ميتر

2018.01.01

أجرى المقابلة: شين برلي  | ترجمة: شيرين أبو النجا

حول المقاومة اليومية مقابلة مع كيفين فان ميتر

 

برلي: لنبدأ بمفهوم «المقاومة اليومية» وهو الموضوع الذي يركز عليه كتابك الجديد «جيوش الرغبة» Guerrillas of Desire، ما معنى هذا المفهوم وما هو الميراث الذي ينهل منه؟

فان ميتر: “المقاومة اليومية” هي ببساطة أحد الطرق للإشارة إلى الأفعال التي تتم بعيدًا عن نظر الدولة وخارج التنظيمات الرسمية لليسار (الاتحادات النقابية، الأحزاب السياسية، المنظمات غير الربحية، الجماعات الدينية التقدمية، المؤسسات.. إلخ)، وذلك إقرارًا بوجود طرق كاملة للحياة وراء هذه الأشكال التنظيمية؛ طرق كاملة للحياة تعبر عن الإمكانيات والقوة العمالية والثورية. وقد أشار البعض للمقاومة اليومية بمصطلح «المشترك» أو «التشاركية»،  بينما يطلق عليها الماركسيون الاستقلاليون Autonomist Marxists “النشاط الذاتي” أو “التثمين الذاتي”. أما الأناركيون فيشيرون لها بمصطلح “الدعم المتبادل”. إذًا، فقد نظرت تيارات ثورية مختلفة إلى طرق الحياة هذه وخرجت بأسماء مختلفة لها، وبأساليب مختلفة للتنظير للكيفية التي تعمل بها. وفي حين أنني أنطلق في الغالب من التراث الماركسي الاستقلالي، إلا أنني أنهل من تيارات أخرى أيضًا.

إن الحياة لا تدور كلها داخل العائلة، أو في مكان العمل، أو أثناء وقت الفراغ، أو في منتديات تنظيمية رسمية. الحقيقة أن هناك فائض؛ هناك شيء ذو مضمون أكبر. وبوصفنا ثوريين، فنحن نسعى دائمًا إلى فهم هذا المضمون. ما الذي يسبق المنظمة؟ ما نوع العلاقات الاجتماعية التي تُنبئ بتشكلها؟ فكل شيء، بداية من الكنائس واتحادات البولنج، إلى النقابات والمنظمات الثورية، انبثق من أشكال سابقة للنشاط. ما هذا النشاط؟ المقاومة اليومية هي طريقة أخرى للتعبير عن هذا النشاط ولقياس طرق الحياة التي تقع خارج القنوات الرسمية بشكل كمي. فالأفعال اليومية وأساليب البقاء تُحفّز وتُطوّر كل أشكال التنظيم؛ النشاط الذاتي يجعل من التنظيم والعمل المنظم أمرًا ممكنًا.

«المقاومة اليومية» هو المصطلح الذي اخترته لأنه يوفر لنا تصنيفًا لهذا السلوك والنشاط. بعد ذلك يمكننا الحديث عن التمرد العلني، وهو شيء مختلف، يتضمن الانتفاضات المسلحة، والأحزاب الثورية، والاتحادات العمالية، والمشتركات الجماعية.. إلخ.

بداية من أواخر الأربعينات وبدايات الخمسينات من القرن الماضي، كانت المبادرات العمالية تتم خارج، وأحيانًا ضد، الهيكل الرسمي لاتحاد العمال، وذلك بالأخص في مدينة ديترويت، وبالتحديد حول شخصيات مثل الماركسي الترينيدادي الأصل سي.إل.آر. جيمس، والصينية-الأمريكية اللامعة جريس لي بوجز، ومؤرخ العبودية چورچ راويك، والناشط مارتن جلابرمان، وهو عامل سابق بمصنع سيارات. فمثلًا بعد قيام اتحاد العمال بتوقيع عقد عمل جماعي مع مصنع ما للسيارات في ديترويت، يبدأ الاتحاد في ضبط قوة العمل لتنفيذ شروط العقد، وهو ما ينتج عنه قيام العمال بفعاليات ضد الاتحاد أو من أجل الالتفاف على ما يشوب العقد من قصور. لنكن صادقين ولنعترف أن هذه الاتحادات -باستثناء اتحاد الـ  IWW- كانت تُدار بواسطة عمال من الذكور البيض المدربين، وتستبعد معظم العمال الآخرين وخبراتهم. ومن أجل تحدي هذا الاستبعاد، بدأت هذه المجموعة من المنظرين الثورييين المقيمين في ديترويت بتحديد أشكال الأنشطة اليومية والمستقلة، بداية من الإضرابات غير الرسمية وحتى إيقاف العمل، مشيرين لها باسم “النشاط الذاتي للطبقة العاملة”.

في عام 1947 اشترك كل من جريس لي بوجز، باستخدام اسمها الحركي وهو ريتا ستون، وبول رومانو، وهو عامل في مصنع سيارات واسمه الحقيقي فيل سينجر، في كتابة مطوية بعنوان “العامل الأمريكي”. بحثت هذه المطوية في تلك الأشكال من الحياة التي تقع في المصنع، أشكال النشاط الذاتي التي تعضد من قوة اتحاد العمال الرسمي من بعض النواحي، وتحاول الالتفاف على جوانب قصوره من نواحي أخرى، بالإضافة إلى بحثها في التمييز الحادث في مثل هذه الاتحادات العمالية.

وبينما كانت تلك الأمور تناقش في ديترويت، كانت استنتاجات مشابهة، إن لم تكن مطابقة، تتبلور داخل مجموعة اسمها “الاشتراكية أو البربرية” في فرنسا، وقد أثّرت كلتا المجموعتين [الأمريكية والفرنسية] على العمالويين، أو بتعبير أوسع الإستقلاليين، الإيطاليين بعد ذلك بسنوات قليلة. فقد انتهى المطاف بالمطوية [الأمريكية] في إيطاليا، وكان لها تأثير كبير على الاستقلاليين الأوائل، الذين بدأوا يتساءلون “حسنًا، ها هو النشاط، كيف نبدأ في التحقق منه وفهمه؟” ونتيجة لذلك بدأوا تطوير أساليب بحثية جماعية ومسوح.

وقف الاستقلاليون الإيطاليون خارج مصانع السيارات، حيث كانت اتحادات العمال الكاثوليكية والحزب الشيوعي، وهم أنفسهم، يوزعون المنشورات. الشيء المختلف الذي فعله الاستقلاليون كان توجيه أسئلة للعمال، وليس فقط إخبارهم ما يحتاجون إلى معرفته. وكانت تلك أسئلة تستلهم تراث البحث العمالي: “ما هو شكل تنظيم عنبرك؟ من صاحب السلطة في القطاع الذي تعمل به؟ ما نوع الأنشطة التي تحدث؟

ب: كيف كانت العلاقة بين الاستقلاليين ومؤسسات اليسار المنظمة؟ كيف فهموا العلاقة بين النشاط الذاتي [للعمال] والرأسمالية؟

ف.م: لدينا مصفوفة من الأسئلة التي كانت تطرح في تقاليد البحث العمالي في إيطاليا. بداية، كان هؤلاء [الناشطون العماليون] أعضاءً في الحزب الشيوعي الإيطالي. لكن فيما بعد غادر الكثير من المناضلين الحزب، بعد أن فهموا أن الأحزاب الشيوعية والتروتسكية في الولايات المتحدة وإيطاليا لا تعبر عن النشاط الذاتي للطبقة العاملة، ولا تعبر عن احتياجات ورغبات الطبقة العاملة، بل هي هياكل تنظيمية إشكالية تحد من إمكانية النضال الثوري. وبوصفهم مناهضين للرأسمالية يهتمون بنضال الطبقة العاملة، فقد بدأوا يعلنون أن النشاط الذاتي هو «الثورة ضد العمل» و«رفض العمل».

كان العمالويون Workerists الإيطاليون مهتمين بشكل خاص بالنضال المصنعي. لكننا في وقت لاحق رأينا الطلاب وقد بدأوا يرفضون بذل الجهد المطلوب منهم [أثناء الدراسة] إعدادًا لهم كي يصبحوا عمالاً؛ يرفضون تطوير قوة عملهم بغية الحصول علي عمل وأجر. ومن ناحية أخرى، وفي رد فعل لاستبعاد النساء، بدأت النسويات الناشطات في حملة تطالب بحصول النساء على أجر مقابل العمل المنزلي، ومنهن مارياروسا دالا كوستا وسيلفيا فيديريتشي، الحديث عن أن أهم سلعة تُُمكّن الرأسمالية من الاستمرار هي “قوة العمل”. فلا يمكن أن توجد أسواق أو سلع بدون “قوة العمل”. “قوة العمل” سلعة خاصة جدًا. صحيح أن الطاقة مهمة واستخراج الموارد مهم. لكن لا يوجد ما هو أكثر أهمية من [سلعة] “قوة العمل”. الأدهى من ذلك أنه يتم إعادة إنتاج قوة العمل بدون أجر.

وهكذا بدأت دالا كوستا وأخريات الحديث عما سيكون عليه الأمر إن رفضت [النساء] العمل المنزلي غير مدفوع الأجر. وفي هذا السياق تم توسيع تعريف العامل خارج حدود المصنع، ليتضمن الطلاب، وربات المنازل، والفلاحين، والرقيق، والعاطلين عن العمل، لأن العمل لا يُفرض فقط من مدير في مصنع، بل يُفرض أيضًا باتساع المجتمع على كل السكان، لأنك إذا لم تعمل لن تحصل على أجر، وفي هذه الحالة لن تتمكن من مواصلة العيش. العمل، إذًا، يُفرض على مستويات مختلفة وبأشكال مختلفة.

في السبعينات بدأنا نشهد حركة حقوق الرفاه التي قادتها النساء الملونات، وهي حركة اجتماعية مهمة بشكل استثنائي حازت اهتمامًا ضئيلاً في الولايات المتحدة. طالبت ناشطات هذه الحركة بزيادة مدفوعات الرفاه وبتقليص الرقابة على عائلاتهن وحياة أطفالهن. إذًا، فقد كانت تلك مطالبة بدخل منفصل عن العمل، لأنه في الحقيقة لا توجد أبدًا فرص عمل تكفي كل الباحثين عن عمل. فبالرغم من أن الإجبار على العمل يعد أمرًا أساسيًا للرأسمالية، إلا أن هذا لا يعني أن كل فرد يجب أن يعمل. من أجل إنتاج السلع في ظل الرأسمالية يحتاج الرأسمالي إلى جيش احتياطي من العمال الذين يتزاحمون بحثًا عن عمل، وفي المقابل يتم تهديد هؤلاء الذين يرفضون العمل بالجوع والموت، وذلك كله من أجل جذب الناس من طوابير البطالة إلى داخل المصانع أو المقاهي أو أي أماكن عمل أخرى. هذا بالإضافة إلى أن الرأسمالية تحتاج [حتى تستمر] أن تكون قادرة على الدفع للناس فقط مقابل وقت العمل ذي الأجر.

لقد مرت الرأسمالية بهذه المراحل والأزمات المختلفة لتتمكن من التعامل مع رغبتها النهمة في الحصول على [سلعة] قوة العمل، واحتياجها الشديد لفرض العمل دائمًا وفي كل مكان. يهتم [الماركسيون] الاستقلاليون بالمقاومة اليومية والدعم المتبادل والنشاط الذاتي، وبأساليب الحياة التي تحدث خارج المؤسسات الرسمية لليسار، لأنه هنا بالتحديد يكون التعبير  عن رفض العمل أكثر وضوحًا.

ب: أود أن أنتقل الآن إلى أمثلتك التاريخية عن مقاومة العبيد والفلاحين. كيف يفسر مفهوم “المقاومة اليومية” نضالات الفلاحين، سواء في ظل الحداثة أو إبان البدايات المبكرة للرأسمالية؟

ف.م: ترك الأنثروبولوجي الفرنسي بيير كلاستر فرنسا في الستينات والسبعينات وتوجه إلى أدغال باراجواي، حيث بدأ التعرف على كل تلك الأشكال من الحياة الموجودة لدى ما يُسمى بـ”الشعوب البدائية” في مجتمعات السكان الأصليين. لم تكن هذه المجتمعات دون دولة فقط، بل كانت مُصمَمة من أجل منع تشكل الدولة، ومنع أنماط علاقات القوة التي تتجلى في صورة دولة بعلاقاتها التراتبية. الحقيقة أن هذه المجتمعات أوجدت لنفسها آليات تمنع الدولة من التشكل. وقد قال كلاستر وآخرون، حسنًا إذا كنا نرغب في العيش في مجتمع خال من هذا النوع من السلطة السياسية، دون دولة، إذًا كيف “نحكم” أنفسنا فعليًّا لنمنع تشكل الدولة؟ ما هي الآليات المتوفرة في مجتمعاتنا والتي تمنع القوة والثروة من التراكم والتجلي في شكل دولة، أو جهاز دولة يمتلك قوات شرطة، أو منظمات مدافعة عن تفوق الرجل الأبيض، أو عائلات أبوية، وكل العناصر الاجتماعية الأخرى التي تتطلبها الدولة لتعمل؟

وبعد ذلك بحوالي 15 أو 20 عامًا، بدأ جيمس سكوت، وهو أنثروبولوجي أمريكي من جامعة ييل، في النظر إلى شعوب التلال في جنوب شرق آسيا، وأوضح أن نشاط الفلاحين السياسي [هناك] لا ينتمي إلى ما يمكن اعتباره تنظيم سياسي تقليدي لكنه يشكل جزءًا من المقاومة اليومية. وكما يطرح سكوت في كتابه «أسلحة الضعفاء»: «إن النشاط السياسي المنظم الرسمي، حتى لو كان سريًّا وثوريًّا، هو تقليديًا حكر على الطبقة الوسطى والإنتلجنتسيا. وبالتالي فإن البحث عن نشاط الفلاحين السياسي في هذا المجال لهو بمثابة عبث».

لقد أدرك سكوت أن شعوب التلال في جنوب شرق آسيا لم تكن مهتمة بتشكيل اتحادات نقابية أو أحزاب سياسية، إلا أن ممارساتها اليومية –ومن أمثلة ذلك اتباعها لنظم زراعية معينة– سمحت لها بالبقاء وبمقاومة أشكال الإجبار على العمل. فأحيانًا كان الفلاحون يهربون ويفرون عائدين إلى التلال ليشيدوا مساكنهم خارج أنظمة الدولة لإيجار الأراضي.

ب: بالطبع يشبه ذلك مقاومة العبيد في الولايات الأمريكية المتحدة والأمريكتين. ما هو الدور الذي تلعبه مقاومة العبيد والتمرد؟ وكيف يساعدنا ذلك على فهم الرأسمالية والعمل؟

ف.م: بينما كان الراديكاليون يتابعون النشاط الذاتي للطبقة العاملة في مصانع ديترويت، كان هناك اهتمام ضخم متصاعد بين الثوريين السود بمقاومة العبيد. هل تم إنقاذ العبيد حقًا بصدور إعلان تحرير العبيد؟ لأنه إذا كان العبيد خانعين وقابلين بالعبودية، فإن هذا قد يعني أن السود خانعين وراضين بتفوق الجنس الأبيض. كانت تلك هي الصورة السائدة للعبد في ذاك الوقت؛ أن العبيد وديعون، وأغبياء، ومتقبلون لظروف معيشتهم. ربما هربت قلة منهم، وربما سببوا متاعب بين الحين والآخر، لكنهم لم ينخرطوا في مقاومة نشطة ضد نظام العبودية – كان هذا هو الافتراض. إلا أن المناضلين والباحثين عادوا للنظر في سرديات العبيد واكتشفوا أنهم كانوا في حالة تمرد مستمر، وأن «حرب عصابات العبيد» كانت تدور باستمرار.

كتب هربرت آبثكر كتابه «العبد الزنجي الأمريكي يثور» ملاحظًا أنه بالنظر إلى السجل التاريخي كان هناك تمرد دوري في التجمعات المختلفة عبر تاريخ العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه التمردات، بالإضافة إلى أشكال المقاومة اليومية، كانت تزداد حدة في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية. ليس هذا فقط، بل كذلك كان هناك الملايين من العبيد في الولايات المتحدة وجزر الكاريبي وأمريكا الوسطى الذين يهربون من أجل تأسيس مجتمعات مغلقة للعبيد الهاربين. كذلك كان بإمكانك أن ترى مالكي العبيد يطورون فؤوسًا وأدوات أكثر ثقلًا، لأن العبد إذا حمل الفأس وطوّحه في صخرة فكسره، لن يكون عليه أن يعمل بقية اليوم. كذلك كانت هناك ظاهرة أن الكل يمرض يوم السبت ولا أحد يمرض يوم الأحد، بما أنه يوم إجازه العبيد. وكانت النساء تدعين الحمل لتحصلن على عمل أقل وحصة طعام أكبر. طبعًا كن ينكشفن في النهاية ويعاقبن، لكن إغراء الحصول على وقت [راحة] أطول والتملص من إجبار العمل كان يفوق كل شيء.

قام الباحثون بالتنقيب أكثر ليفسروا سبب الاحتياج للعبيد الأفارقة أساسًا. فالذهاب إلى قارة أخرى وأسر البشر وإعادتهم إلى هنا مهمة ضخمة بحق، ومنذ 500 عام كان هذا يبدو عملًا أقرب إلى المستحيل. لماذا تحتاج الرأسمالية العبودية؟ لأنها لا يمكن أن تجبر السكان الأصليين على العمل. فإذا قمت بأسر السكان الأصليين في البرازيل أو الولايات المتحدة وأجبرتهم على العمل فإنهم سوف يهربون، والميزة التي لديهم هي درايتهم بالمنطقة. أما العبيد الأفارقة فليست لديهم هذه الميزة، فقد أُسروا في قارة وجُلبوا إلى قارة أخرى، وعوملوا بوحشية وانفصلوا عن عائلاتهم، وتم تشويههم وتعذيبهم، ثم أُلقوا على متن سفينة عبيد. وحتى على هذه السفينة كانوا غالبًا ما يتمردون، وأحيانًا كانوا يلقون بأنفسهم في البحر ليغرقوا، رافضين حياة الإجبار على العمل.

إذًا فالإجبار على العمل دائمًا ما يُرفض ويُقاوم - من قبل العبيد والفلاحين، ولكن أيضًا من قبل العاملين في الحقول والمصانع والورش وغرف النوم والمطابخ والمدارس والسجون، وفي كل المواقع التي لا تُحصى للعمل المؤقت والعارض الآن. لقد ألقينا النظر على مجتمعات الفلاحين، والمصانع، والمنازل حيث تعمل ربات البيوت، وكذلك على العبيد والسكان الأصليين، ووجدنا أن هناك رفضًا دائمًا للإجبار على العمل. فالإجبار على العمل هو إجبار على شكل للحياة، إجبار على أسلوب للحياة يحول حياتك بأكملها إلى قوة عمل حتى ينتفي الاحتياج لك أو تموت.

هذه هي الرأسمالية، ولذلك يشير ماركس إليها بوصفها مصاصة للدماء. فهي تمتص طاقة الحياة التعاونية من الذات، من الفلاح، من العامل، من ربة المنزل، من الطالب. إنها تمتص الطاقة التعاونية والإبداعية من كل هؤلاء، تمتص قوة الحياة وتتركهم بلا شيء عدا أجر تافه في النهاية. على مدار السنوات كنت كثيرًا ما أسمع أننا نحتاج التعاونيات لأننا نعيش في مجتمع تنافسي وما نحتاجه هو مجتمع تعاوني. أعتقد أن هذا هراء، لأن الرأسمالية في الحقيقة تحتاج إلى التعاون - فأنت في احتياج إلى التعاون مع زملائك العمال لتنجز العمل. فالرأسمالية توظف الطاقة التعاونية وإبداع البشر في المجتمع الأكبر. وعليه، يُعرّف [الماركسيون] الاستقلاليون الرأسمالية على أنها الإجبار اللا نهائي على العمل، ويولون اهتمامًا كبيرًا للمقاومة اليومية، والنشاط الذاتي، وكل الأشكال الأخرى التي يُوظفها البشر من أجل البقاء والتنظيم في ظل الرأسمالية. ولكن لا بد أن نؤكد أن الرأسمالية خبيثة في كونها لا تسترق فقط قوة العمل، بل تسترق أيضًا إمكاناتنا الإبداعية والتعاونية التي يُمكن توظيفها لشيء آخر: لأجل خلق مجتمعات مغلقة (على غرار مجتمعات العبيد الهاربين)، لأجل السرقة من مخزن ما، لأجل تشكيل مجتمع جديد.

ب: هل هذا يعني أن المقاومة اليومية، أو الميل للمقاومة، يجب أن يُنظر إليه كعنصر جوهري في النضال الثوري؟

ف.م: تهمني الكيفية التي مكنت طرق الحياة المستقلة والتعاونية من مراوغة السيطرة الرأسمالية وسمحت للناس بالبقاء. عندما ينادي الاستقلاليون بالنشاط الذاتي، عندما نقول المقاومة اليومية، أو الدعم المتبادل، ينصب اهتمامنا على كيف يمكن لأشكال الحياة المستقلة والتعاونية أن تشكل مجتمعًا جديدًا خارج الرأسمالية. ومن ثم فإن مهمة الثوري هي أن يسأل: ما هي أنشطة الحياة، وكيف تستلبها الرأسمالية، وكيف نهرب من الرأسمالية لنخلق أساليب أخرى للحياة وأشكال مقاومة؟

أنا أطرح في كتابي أن أساس كل السياسة الثورية والحركات الاجتماعية هو المقاومة اليومية. فالمنظمة والتحالف والفيدرالية لا تنبثق كلها إلا من أشكال أولية سابقة للنشاط الذاتي. إن الأفراد يصبحون ثوريون لأنهم ينخرطون في هذه الممارسات اليومية. لكنك لا تحتاج أن تكون ثوريًّا لتنخرط في هذه الممارسات اليومية. فالسؤال لا يتعلق بالوعي الثوري، بل يتعلق بالنشاط وببنية النضال.

أيضًا لا يمكننا أن نحكم على هذه الممارسات بمفردها، فليست كل أشكال المقاومة محمودة. فعندما يتظاهر عمال بيض ضد ضم عمال سود أو نساء إلى المصنع يمكن اعتبار ذلك شكلًا من أشكال المقاومة، لكنها ليست بالضرورة شكلاً محل تقدير. إذًا فأنا أطرح أن المقاومة اليومية مهمة، وأننا يجب أن نهتم بها، فهي عامل في النضال والجيشان الثوري، ولكنها ليست العامل الوحيد الذي ينبغي أخذه في الاعتبار، فلا بد أن نضمن عوامل أخرى كالاستغلال والاضطهاد، والهيمنة والسيطرة.

السؤال الذي يجب أن نجيب عليه كثوريين متبنين لمنظور المقاومة اليومية والدعم المتبادل والنشاط الذاتي هو: كيف تعبر المقاومة اليومية عن رغبات المستَغَلين والمضطهدين الذين تهيمن وتسيطر عليهم الرأسمالية والدولة؟ هذا السؤال لا تمكن الإجابة عليه بشكل مجرد خارج السياق المحدد الذي تبحث وتنشط فيه. في كتابي كنت أريد ليس فقط التأكد من إضافة المقاومة اليومية إلى الخليط المسمى بالنظرية الثورية المعاصرة، ولكن كذلك أن أستخدم المقاومة اليومية كحافز لإعادة النظر والتفكير في النظرية والتنظيم. إذ أنه في حين أنني أرى المقاومة اليومية عامل مهم في النضالات الثورية، فإنه توجد عوامل أخرى علينا كذلك أن نعيد النظر فيها بشكل مستمر.

ب: يقوم كتاب «جيوش الرغبة» على فرضية أن كل ما نعرفه عن التنظيم خاطئ. كيف تفيد «المقاومة اليومية» التنظيم، وما الذي يمكن أن نفعله لندفع الحركات الحالية في اتجاه ثوري جديد؟

ف.م: دعني أكون واضحًا ومحددًا قدر الإمكان. في مقدمة الكتاب أقول إن «جيوش الرغبة» يقدم فرضية خلافية مفادها أن الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه التنظيم اليساري والراديكالي، بما في ذلك عدة توجهات أناركية، هو افتراض خاطئ. لا أقصد غير أمين تنظيميًّا أو غير ملائم أيديولوجيًّا أو لا أخلاقيًا، بل أقصد غير صحيح تجريبيًّا. فالاستراتيجيات الحالية والتاريخية لليسار والحركات الراديكالية مبنية على فرضية أن الطبقة العاملة والفقراء غير منظمين ولا يقاومون. وعليه، فإن دور الناشط والمنظم والمتمرد هو أن يُفعّل وينظم ويعلّم بشرًا غير مشتبكين بالقيام بمبادرات مختلفة. لكن إثبات أن المقاومة اليومية تعد عنصرًا من عناصر الثورة وشكلًا من أشكال السياسة، والتأكيد على أن تأثيرها على التمرد العلني والأزمات قابل للقياس، يتطلب قلب هذه الفرضية. فالطبقة العاملة والفقراء -كالعبيد والفلاحين والعمال في المصنع الصناعي والاجتماعي- بالفعل منظمين ويقاومون.

وفي حين أن ذلك الاقتباس يجيب على سؤالك عن الكيفية التي تتحدى بها المقاومة اليومية فرضياتنا حول التنظيم، إلا أنه لا يتناول بشكل كامل السؤال حول الكيفية التي يمكن أن تلهم المقاومة اليومية بها عملية التنظيم. في الواقع، ما أقترحه هو أننا إذا كنا متبنين للمقاومة اليومية والدعم المتبادل والنشاط الذاتي للطبقة العاملة، فإننا نحتاج إلى ثلاثة أشياء: نموذج جديد للمنظم، وآليات يستخدمها المنظمون لـ«تسجيل ونشر وتوسيع والتدخل في المجتمع الجديد بينما هو ينشأ»، ومجموعة من المبادرات الثورية ومن مبادرات «البقاء انتظارًا للثورة» المعبرة عن الاحتياجات والرغبات القائمة فعليًا للطبقة العاملة المنخرطة في النضال. وأيضًا، بما أن المقاومة اليومية تتعلق بالسياق بشكل واضح، فلابد أن ترتبط الآليات والمبادرات بشكل خاص بالسياقات التي يتم العمل فيها.

أعتقد أن الإجابة عن السؤال المتعلق بالاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه الحركات الثورية دائمًا صعبة، وغالبًا لا تكون صحيحة بشكل مجرد. بدلاً عن ذلك، أجد نفسي مهتمًا بالسؤال عن الكيفية التي ينشئ بها المنظمون المنظمات الثورية والحركات. فبهذا المعني، نحن لا ننظر إلى الأمر  من وجهة نظر المنظمة، ثم صعودًا إلى التحالفات، ثم الفيدراليات، ثم الإضرابات العامة والانتفاضات الثورية، بل ننظر في الاتجاه المعاكس - من المنظمة وإلى أسفل. سيفضي ذلك إلى مجموعة جديدة من الأسئلة.

ومن أجل الدقة دعني أقرأ جزءًا من الفصل الخاص بالتنظيم: «ما هي العوامل المتكاملة المكونة لمنظمة ما؟ أين سلائفها التنظيمية؟ من الذي قام بسرد القصص المقدسة التي سبقت تشكلها؟ ما الخبرات والتجارب التي نشأ منها المنظم؟ أين تم تسجيلها، وكيف يمكن لنا -نحن الذين يعملون بشكل مشترك- أن نوسع وننشر وننقل هذه الخبرات والتعبيرات؟ ما هي العناصر والقوى والعلاقات والمواد والاحتياجات والرغبات المُكوّنة التي التقت جميعًا وسمحت لهذه المنظمة بالظهور؟ تتطلب الإجابة على هذه التساؤلات أن يبحث المناضلون العناصر والقوى والعلاقات والمواد والاحتياجات والرغبات المُكوّنة التي يُمكن أن تظهر، والتي بالفعل تظهر الآن. أن تصبح متبنيًا لهذا التصنيف للنضال، أي لمبدأ المقاومة اليومية بهذا المعنى، فهذا يتطلب بدوره نموذجًا جديدًا للمنظم». والأمر متروك لقارئ هذه المقابلة والكتاب، إذا وجد ما أقوله ممتعًا أو مفيدًا بالطبع، أن يكتشف نموذج المنظم الذي يحتاجه في سياقه الخاص.