نظر

راند شعث

خارطة قلب

2018.11.01

خارطة قلب

 كانت جدتي في الثانية والعشرين -عانس في عرف ذلك الزمن- في النصف الثاني من ثلاثينات القرن الفائت. كانت تزور أختاها المتزوجات في يافا. ربما فكر والداها أنها فرصة كي يتقدم لها عريسًا هناك. أما جدي فكان من الفلسطينيين القلائل الذين درسوا في الجامعة الأمريكية في بيروت. ما أن سمعت أمه أن عروسًا «بيروتية» قد وصلت يافا أشارت عليه بخطبتها. اشترط شرطًا وحيدًا - أن يختلي للحديث معها مرة قبل القرار. تركاهما أهل العروس في غرفة الصالون - وإن تركوا الباب مفتوحًا. سألها إن كانت في السابعة عشر كما قالوا له. ردت بالنفي، وأكدت أنها في الثانية والعشرين، أعجبته صراحتها وتمت الخطبة.

سمحوا لهما بتبادل الخطابات في الأشهر التي سبقت إتمام العرس؛ الذي أقيم في بيروت. عاد العريس بعروسه وأهله إلى فلسطين بالقطار. ودعا بعض المدعوين في محطة القدس والبعض في محطة غزة، وانطلقا بنفس القطار إلى الإسكندرية لقضاء شهر العسل. العروس خجلة من الرجل الذي تختلي به لأول مرة بعد لقاء الصالون.

في أغسطس 1937 كان الجو رطبًا حارًّا. احتاجت لشراء حذاء مريح بدلًا من أحذية الجهاز ذوات الكعوب العالية للمشي في شوارع الإسكندرية. استحت أن تطلب منه، لكن في جلسة هادئة بالقرب من البحر -في مقهى الشاطبي- كتبت له على وريقة صغيرة السؤال الأهم الذي يشغلها. كانت تريد أن تعرف عدد الأطفال الذين يريد إنجابهم وتربيتهم. كانت إجابته مروعة؛ لا يريد أطفالًا. كتب مفسرًا: إنه خاف بعد إعلان الإضراب العام الكبير وانطلاق ثورة فلسطين الكبرى العام الماضي، والمعارك العنيفة بين مقاتلي الثورة والجيش البريطاني والعصابات الصهيونية - أن يضيع الوطن وأن يضطروا «للرحيل إلى الصحراء». لا يريد أبناء بلا وطن. خلال عام استطاعت إقناعه، وعبر الأعوام رزقا بخمس أولاد؛ أكبرهم أبي، الذي ولد في صفد.

1947

عمل جدي -بعد تخرجه- مدرسًا للرياضيات في مدرسة عكا الثانوية حتى صار مديرًا لمدرسة صفد الثانوية حيث ولد أبي، ثم مديرًا لمدرسة الخليل الثانوية حيث ولدت عمتاي، وبعدها مديرًا للمدرسة العامرية التجارية  بيافا؛ هناك ولد عمي. شارك هو وتلاميذ المدرسة -بتشجيع منه- في الإضرابات ضد الحكومة، ثم رفض تنفيذ الأوامر بفرض غرامات مالية على المعلمين واستقال بعد مضايقات، وقبل بوظيفة في الإسكندرية. سافر ومعه أسرته حتى تهدأ الأمورعام 1947. وولدت عمتي الصغرى في الشتات الممتد.

   1967

زار أبي غزة مارًا برفح قبل أن يسافر لاستكمال دراساته العليا. التقط له ابن عمته صورة تذكارية وحيدة أمام نصب الجندي المجهول مشيرًا بسبابته إلى القدس. غاب سنوات وعاد إلى الإسكندرية بشهادة الدكتوراه، وبأمي وطفلة في الرابعة تخاف النوم في الظلام وتربكها صيحة «غارة طفوا النور». مات جدي بعدها بشهور -عقب فرحة ولادة أخي ولي العهد- بعد أن أكدت النكسة غربته، فقد كان يحلم بالعودة إلى فلسطين.

1988

ملتصقة بزجاج النافذة أرقب تغير المناظر العابرة الواحدة تلو الأخرى. نقطة المرور في طريق السويس مبنية على طراز مسجد الصخرة. بعد مزارع الفواكه في الإسماعيلية نركب “المعدية” في القنطرة نعبر بها قناة السويس. تبدأ تضاريس الأرض في الاختلاف؛ أشجار زيتون وزهرات شجرات اللوز بنفسجية اللون يتخللها أثواب البدويات المطرزة. أصل رفح ومخيم كندا للاجئين الفلسطينيين. لم يصطنع السلك إلا بعد 1982 عندها فقط تم فصل رفح المصرية عن رفح الفلسطينية. فلسطين هناك عبر الحدود - وطن على مرمى حجر.

2000

استمر احتلال جنوب لبنان أكثر من عشرين عامًا. أصاحب عائلة بيروتية كانت رحلتهم منظمة لزيارة الأراضي المحررة. معظم الأجيال الشابة لم ترَ هذا الجزء من بلادهم. تحركت الحافلة في السابعة صباحًا من جامعة بيروت العربية تحمل ثلاثين شخصًا من مختلف الأعمار. حملت ليلى خريطة لبنان وشرحت للجميع خط سير رحلتنا: سنمر بصور ثم النبطية. وبعد الإفطار والاستماع للموسيقى حل الصمت. أدركنا فجأة أننا نعبر أول قرية محررة «كفر رمان». انبرى الجميع بغناء النشيد الوطني اللبناني بحماس كبير. اتجهت أنظار كل من كان على متن الحافلة إلى النوافذ. سرنا عبر التلال لنتوقف في المحطة الأولى «قلعة الشقيف» في أرنون. قلعة صليبية حماها المقاتلون الفلسطينيون حتى عام 1982؛ صارت نقطة مراقبة للجيش الإسرائيلي بعد الاحتلال، دمر الإسرائيليون أجزاء كبيرة منها.

تحركنا ثانية إلى أن أعلن سائق الحافلة أننا نقترب من سجن الخيام؛ ذلك المكان الذي احتجز وعذب داخله أفراد المقاومة طوال اثني عشر عامًا. توقف الغناء فجأة. خرجنا من الحافلة في صمت. داخل السجن زنازين صغيرة ومظلمة. كان من المستحيل البقاء داخلها أكثر من بضع دقائق بسبب الرائحة غير المحتملة. سمعنا سيدة تنتحب بالقرب من زنزانة صغيرة؛ هنا قتل أخاها. استمعنا إلى قصص المعتقلين السابقين، والتعذيب الذي تعرضوا له، وكيف تم تحريرهم.

أخبرنا دليلنا في الزيارة -الذي اعتقل لسبع سنين داخل هذا السجن- عن ذعر الأسرى يوم انسحاب إسرائيل. سمعوا أصواتًا مدوية داخل السجن. اعتقدوا أنهم في طريقهم للموت. بعد دقائق طويلة من التوتر اكتشفوا أن سكان القرية حملوا أدوات المطبخ والمعدات الزراعية لكسر أبواب الزنازين. وقد فر حراس السجن وأخذوا المفاتيح معهم وتركوهم محبوسين. الوادي ممتد. حيث يعلو مرة ثانية تبدأ أرض فلسطين.

1990

طرحت فكرة السفر على أبي. طلب مني الانتظار حتى يستشير أصدقاءه ومعارفه بالداخل. لم يعد لي بأي رد. اختلق معي مشاكل غريبة لم تحدث بيننا أبدًا؛ أزرار قميصه ناقصة، مفتاح الخزانة ضائع، قهوة الصباح طعمها متغير، والطامة الكبرى حين صرخ في وجهي لأنني أرسلت السائق في طلب لي دون إذنه. هرعت إلى غرفتي باكية، ثم قررت العودة إلى غرفته في التو. دققت برقة باب غرفته الموصد وفتحته. كان هو أيضًا يبكي. لم يستطع أن يرفض ذهابي إلي فلسطين وفي الوقت ذاته كان قلقًا وخائفًا من زيارتي

تناقشنا في تفاصيل الفكرة. اعترف لي إنه اتصل بصديق في القدس، وإنه أكد له ألا خطورة علي. وأسوأ ما يمكن حدوثه أن يرفضوا دخولي. سألته عما يتمنى أن أحضره من البلاد، أو عن أماكن يريدني أن أزورها، أو أشخاص يبعث لهم السلام. لم يطلب أي شيء. كأنه كان متأكدًا أنني لن أستطيع الدخول.

حطت الطائرة في السابعة إلا خمس مساء. أرتجف طوال أربع ساعات من الطيران. أهدئ نفسي بفكرة واحدة؛ سأبقى فرحة وفخورة أن قدماي لمستا أرض فلسطين، ولو للحظات، وإن منعوني من الدخول. تلكأت في الطابور مرات حتى وصلت للجندي. وصرت خارج المطار في السابعة وخمس دقائق.

لحظة وصولي إلى رام الله أتصل لأطمئن أبي في القاهرة. حينها كان في قمة الانفعال. بدأ في البكاء «لازم تروحي بيتنا في يافا، صوري لي بيتنا في يافا». لم يصدق أنني سأنجح، وبدأ يصف لي بيته والطريق إليه بالتفصيل. ترك يافا ولم يبلغ الحادية عشرة. وقد وعدته بأن أفعل.

اليوم الثاني

أمشي فوق السور العتيق، وكأني عصفور طائر فوق القباب والمآذن وأبراج الأجراس. أكاد ألمس قبة الصخرة الذهبية. أقرص نفسي عشرات المرات غير مصدقة أني هنا.

يشير زياد إلى موقع مدرسة “تيرا سانتا” للرهبان الفرنسيسكان في القدس؛ المدرسة التي درس بها جدي في الثانوي. أخطو كل خطوة فوق السور، أحمل معي في قلبي حكايات جدتي وأبي. سكنت قلبي خريطة، وفي خيالي وصف تفصيلي للبيوت والشجر والطعام. ولدت في الشتات. كما ولد إخوتي وأولاد عمومتي، وأولادهم.

نمشي في الشوارع العتيقة داخل أسوار المدينة. الأسوار رحم حنون. نتناول الإفطار التقليدي «مطبق» عند “زلاطيمو”،  ثم نتابع المشي في خان الزيت.

تذكرت رامي، مرت عشرون سنة تقريبًا على تخرجي في الجامعة. بعد معاهدة كامب ديفيد التحق بها عدد صغير من الطلبة الفلسطينيين؛ ثلاث طالبات من غزة، طالب من نابلس وثلاث من القدس. جمعنا نادي أصدقاء القدس، نقيم معرضًا أو ندعو لمحاضرة تشرح لباقي الطلبة عدالة قضيتنا. كان رامي من هؤلاء. بدأنا بتحدي ونقاشات سياسية حادة قلل من حدتها العمل المشترك. قبل أن يعود للقدس صرنا أصدقاء.

حكى لي رامي عن دكان أبيه في البلد القديم. يجمع الصور والمخطوطات القديمة ويعيد طباعتها للبيع. وصف لي القدس ومكان الدكان قرب باب الخليل.

نكمل الحديث ونحن نمشي في طريق الآلام. يشيرون إلى بيوت قديمة، يحكون لي تاريخها وقصص من عاشوا بها. أتحسس حجارة البيوت وأنا أمر بها. أريد لملمسها أن يُحفر في ذاكرتي.  تعرج بنا الدرب حتى اقتربنا من باب الخليل. ألقى يعقوب بنكتة لم أسمعها. فجأة جفلت وتسمرت مكاني. تلفت يمينًا ويسارًا. قلت لهم “هنا دكان أبو رامي” تركتهم وابتعدت. وأكملت طريقي كالمسحورة. تبعوني. سرت بخطوات واثقة واتجهت يمينًا. وصلت وحدي للدكان العتيق. كان رامي واقفًا بالباب.

بعد أسبوع

تأخذني كاميليا إلى يافا، شارع فيه سوق ممتد يبيع الأثاث والسجاد وأواني الطعام القديمة، أتنقل فيه محاولة تخمين أي قطعة كانت لجدتي. أحمل بكفي مرآة بيضاوية صغيرة بإطار معدني مزخرف، أرتجف وأطلب من صديقتي البدء في البحث عن بيت أبي. لقد وصف لي الطريق في الهاتف بتفاصيل منعطفات شوارع حي النزهة بدءًا من المدرسة العامرية وبيت الخالدي. نسي أن يقول لي: إن هناك غيمة بيضاء تظلل شجرة البرتقال. وفي المساء أتصل به، فيطلب مني وصف رحلتي بحذافيرها. أحكي ولا أسمع ردًّا سوى أنفاسه المتقطعة. فجأة يصيح بأنني أخطأت لأني اتجهت في آخر الطريق يسارًا بدل اليمين. وبهذا وصلت لبيت خالته أم شكري وليس لبيته. فأعده بالذهاب مرة أخرى.

ليست خاتمة 2018

يقيم أبي الآن في رام الله المحاصرة. وبقية العائلة ما تزال في الشتات. نكباتنا مستمرة. فكرت أن أنهي نصي بحديث عن تلك الحفلة المشئومة التي أقيمت في فندق يطل على ميدان التحرير. عدلت عن الفكرة السوداوية.  أنا ما يزال عندي أمل في العودة؛ عودتنا جميعًا.