رؤى

محمد عبد النبي

رحلات بين أربعة جدران: تأملات حول العَزل والعُزلة

2020.07.01

رحلات بين أربعة جدران: تأملات حول العَزل والعُزلة

-١-

في 1972 كان هنري جوزيف دراجر الابن، الحارس في مستشفى كاثوليكي بولاية شيكاجو إلينوي، والذي يعيش بمفرده تمامًا في غرفة بالطابق الثاني من بناية لسَكن الطبقة العاملة، مريضًا إلى درجة تمنعه مِن الاعتناء بنفسه، فَتمَّ إرساله إلى مركز كاثوليكي اسمه القديس أُغسطين ومات هنالك في المكان حيث مات والده. وعندما قرر مالك البناية تنظيف غرفته التي احتوت مخلفات أربعين عامًا بمساعدة عامل وأحد السكَّان الآخرين، لإخراج أكوام الصحف والأحذية القديمة والنظَّارات التالفة والزجاجات الفارغة، في لحظة ما اكتشفوا كنزًا مخفيًّا، وهو أعمال فنية بألوان مائية ممتدة لمناظر طبيعية ذات زهور عملاقة وفتيات صغيرات بأجنحة فراشات وأخريات عرايا بلا جنسٍ محدد، وبدا كأن الرسوم تروي حكاية فانتازية ما، تلك الحكاية التي عرفت في ما بعد بقصة بنات فيفيان والتي وجدت مكتوبة في آلاف الصفحات، ثُمَّ نشرت لاحقًا إلى جانب صوره ورسومه ليصبح دراجر الابن أحد أكثر فناني القرن العشرين غرابة واغترابًا.

هذه نسخة شديدة الاختصار مِن حكايته الغريبة ولغز تكوينه النفسي الذي حاولت الكاتبة البريطانية أوليفيا لاينج Olivia Laing أن تقترب منه، في كتابها المهم المدينة الوحيدة (مغامرات في فن البقاء وحيدًا)، الذي صدرَ في اللغة الإنجليزية عام 2016 ونُشر في اللغة العربية عام 2017 بترجمة محمد الضبع عن دار كلمات - الكويت. وَلم يكن هنري دراجر هو النموذج الوحيد الذي قدَّمته أوليفيا لاينج لوجوه العُزلة والوحدة المتنوعة في المدينة الغربية الحديثة، بل كان حلقة من سلسلة شِبه متصلة لفنانين آخرين؛ مثل إدوارد هوبر وآنديوارهول وغيرهما مِن كتَّاب أو مصورين فوتوغرافيين. نماذج وتجارب ساعدتها هي نفسها على مجابهة وحدتها الاختيارية في مدينة نيويورك بعد انتقالها إليها إثر عَناء نفسي ممتد وتجارب عاطفية مخفقة. استطاعت عبرَ تسجيل رحلتها مع أولئك الفنانين، في حياتهم وأعمالهم، أن ترفعَ الوَصم الاجتماعي عن الوحدة وأن تسلط الضوء على ثمار العزلة المفروضة أو الاختيارية ألا وهي الأعمال الفنية شديدة الخصوصية والتي قد تعكس موقفًا شديد الاختلاف مِن العالَم والمجتمع خارج الجدران الزجاجية للذات المعزولة.

أخيرًا، بدا أن لدى أوليفيا ما تقوله لنا جميعًا، بعد أن أصبحَ ثلاثة أرباع سكَّان العالَم، ومعظم أبناء المدن الغربية، محاصَرين في منازلهم، مقيدي الحركة بسبب إجراءات الإغلاق العام وأوامر التزام البيوت، في محاولة من السُلطات لوَقف تفشي وباء كوفيد-19 المشهور بكورونا، والذي أعاد رَسم مشاهد الساحات والمدن والشوارع، على طريقته الخاصة، فَبدت خاوية مهجورة كأنَّ البشر هاجروا أو كأن الحضور الإنساني انكمش وتقلص وسكن الهامش إلى درجة ظهور نماذج من الحياة البرية، زوَّار من الغابات يسيرون عند خطوط مرور المشاة أو يختلسون النظر نحو واجهات المتاجر الموصدة.

وبعد أن أغلقَ الذُعر على الناس أبوابهم وأعاد ترسيم حدود حياتهم أعادَ مفاهيم العزلة والوحدة من جديدة إلى قلب الاهتمام، وتحت عنوان (كيف تكون وحيدًا) نشرت أوليفيا لاينج مقالاً في نيويورك تايمز أواخر مارس 2020، جاء فيه: «جميعنا وحيدون الآن. جميعنا معزولون عن بعضنا، محبوسون خلفَ جدران منازلنا، في نسخة القرن الحادي والعشرين لنسَّاك العصور الوسطى، والمدينة المتأججة بالحياة في حالة إقفال تام، أو على وشك ذلك. التباعُد الاجتماعي ضروري، لكن ذلك لا يجعله سهلاً، وازدياد وحدتنا سيثمل إحدى تبعاته الحتمية.»1

تواصل حديثها حتى تصل للتنبيه إلى خطورة ما يحفزه الشعور بالوحدة من يقظة مفرطة لدرجة الشعور بالتهديد الاجتماعي، أي أن نخشى الاقتراب المادي والمعنوي من الآخَرين، وما يجعلنا شديدي الحساسية نحو علامات الرفض والاستبعاد وتركيزًا عليها أكثر من أمارات المودة والدفء. وهكذا تغذي مشاعر الوحدة حلقة مفرغة من الانعزال المضاعف، داخلنا وخارجنا، ويقوي جذوره مع مرور الوقت. وتنصح لاينج بأهمية الاعتراف بهذه الحالة وتصحيحها بوعي وقصد، عبرَ لقاءات الوسائط الاجتماعية في الوقت الراهن والرسائل المتبادلة ومد كل الجسور الممكنة لتخطي احتمالات سوء التفاهم والتحامُل الخاطئ وتكريس الانعزال النفسي.

وعلى الرغم من تلك التحذيرات، لا تفوتها الإشارة إلى الجانب المضيء للعزلة، وهو ما كرست له جانبًا كبيرًا مِن كتابها الذي سبقت الإشارة إليه، وتحديدًا على مستوى التجربة الفنية كثمرة للعزلة، وتستدعي في هذا المقال العبارة نفسها التي استخدمتها في الكتاب، جملة فرجينيا وولف التي كتبتها في مذكراتها عام 1929: «فقط لو أستطيع القبض على هذا الشعور: إنه شعور سماع غناء العالَم الحقيقي، تأخذني إليه الوحدة والصمت لأبتعد عن العالَم المليء بالبشر».

إذن ليس كل ما يحدث حولنا وفي داخلنا الآن سيئًا ومهددًا للغاية، ما دام بعض أصحاب التجارب الروحية العميقة من الفنانين والرهبان كانوا قد اكتشفوا في العزلة الاختيارية كنزًا لا يمكن العثور عليه وسط الصخب والزحام، فَهل يمكن لبقية الناس أن يتعلَّموا أي شيء مِن تجاربهم تلك؟

-٢-

لعل الروائي الأمريكي بول أوستر أحد أكثر المُنشغلين فنيًا بفِكرة العُزلة، عُزلة الفرد، لا عُزلة الجماعات والشعوب على طريقة ماركيز في روايته مئة عام من العزلة. ينشغل أوستر بعُزلة الفرد الاختيارية أو التي يُضطر إليها بسبب حبسه مِن قِبل آخرين، أو اضطراره إلى العيش بعيدًا في البرية أو في مكان شِبه مغلق. وكثيرًا ما كان الشخص المعزول أو المنعزل فنان أو كاتب على وجه التحديد، وكأن شرط الوصول إلى مُنتَج فني له مغزى هو اتخاذ مسافة من الواقع وتيار الأحداث الذي لا ينقطع وصخب الحياة اليومية وازدحام الأيام بالناس والمواعيد. كتب بول أوستر في كتابه اختراع العُزلة2: «سواء أكان الكتاب عن الوحدة أم الرفقة، فإنه بالضرورة نتاج العُزلة».

لا تقف قيمة العُزلة الاختيارية عند حدود التجربة الفنية أو ضرورات التفرغ للكتابة، بل تتجاوزَ مجرد النشاط الفني إلى شرطه الأساسي وحاضنه النفسي، أي فِعل التأمُّل الصامت الهادئ، والذي لا يستقيم مِن غير اتخاذ مسافة آمنة مِن موضوع التأمُّل، قد تكون تلك المسافة زمنية حتى نتمكن أن نستوعب شيئًا أو حدثًا جرى فيما مضى، أو مسافة مكانية، لكي نستطيع أن نرى مواضع وإحداثيات حياتنا وعلاقاتها بدرجةٍ معقولة مِن التجرد والموضوعية.

تكاد لا تُوجد تجربة روحية كبرى أو قصة من قصص النبوة تخلو مِن عُزلة، إمَّا في قلب الطبيعة بعيدًا عن البشر مثل مدة الأربعين يومًا وليلة التي هامَ فيها المسيح في البرية، وإمَّا الانغلاق الآمن داخل موضع منعزل كأنه رَحم، مثل اختلاء النبي محمد بنفسه في غار حراء للتعبُّد.

الابتعاد عن ضجيج العالَم الخارجي ليس إلَّا خطوة، تتبعها خطوة أخرى أهم وهي مواجهة الضجيج الداخلي للمرء، الإنصات إلى أصواته الخاصة وغربلتها. ففي داخل كلٍ منا جوقة أصوات، جلبة متنافرة مِن الأدوار الاجتماعية والمواقف النفسية، تتنازعنا نغماتها وتتداخل أحيانًا لتصدر نشازًا مُفزعًا قد يدنينا مِن هاوية الجنون أو بئر الكآبة، فنتوق إلى عزف منفرد، ننشد الإنصات إلى نغمة واحدة واضحة نسلمها أنفسنا، وعندئذ تكون العزلة أيضًا هي الحل، لأن التأمل الصامت قادر على غربلة الأصوات الداخلية، سواء في تجربة روحية شديدة الوطأة يُمتحَن فيها إيمان صاحب الرسالة بمواجهات واختبارات مع كيانات شيطانية، أو عبر تنسيق فوضى الداخل وتنقية صخبه العنيف بالعَمل الفني عند الفنانين والكُتَّاب.

مع هذا، فبقدر ما للعزلة وللصمت مِن نِعم وهِبات تحيط بهما أيضًا الفِخاخ والمخاطر، فماذا لو استمرأ المرء عُزلته، سواء أكان صاحب تجربة روحية أم فنية؟ ماذا لو استجاب لنداء شياطين الوحدة توسوس له بأن يكتفي بموضعه هذا عن العالَم كله، وألَّا يشغل نفسه بما هو خارج كهفه؟ عندئذٍ لَما كانت نبوة ولا رسالة ولا منتَج فني ولا ثورة ولا اختراع ولا تغيير، فمِن غير أن تتجسَّد أي تجربة في لغة وأفكار، حتى تُنقَل وتختبَر وتتطوَّر، ستبقى ألعابًا ذهنية واستمناءً نفسيًّا، شيء أقرب إلى زبد موجةٍ في حُلم يتبدد بمجرد اليقظة.

-٣-

لأنطون تشيخوف قصة قصيرة عنوانها الرهان، استعيدت مؤخرًا بسبب ظروف العزل الذي نمر به. وهناك نسخة مصرية منها؛ سهرة درامية تليفزيونية من ثمانينيات القرن الماضي، متاحة على موقع يوتيوب، أعدَّ لها السيناريو والحوار شنودة جرجس وأخرجها أحمد صلاح الدين، وقام بالدورين الرئيسين فيها كلٌ من يحي الفخراني وعبد الرحمن أبو زهرة.

تدور أحداث القصة باختصار حول رهان بين رجلين، مصرفي يتكلم بلغة المال ومدمن على الدخول في رهانات ومحامي شاب عنيد وطموح. بدأت اللعبة بخلافهما حول عقوبة الإعدام وهل هي أرفق وأرحم مِن السجن ولو مؤبَّد أم أن السجن أشد قسوة مِن الموت. رأى المصرفي أن الإعدام أهون من السجن، فتحدَّاه المحامي المثقف بأن السجن مهما كان يمكن احتماله، وأنه أفضل مِن الموت. وسرعان ما أخذتهما حرارة النقاش ودخلا في رهان قيمته مليونا روبل يدفعها المصرفي للمحامي إذا استطاع أن يعيش وحده تمامًا (بمعنى أصح مسجونًا اختياريًّا) لخمسة عشر عامًا، وقبل المحامي الرهان وكتبا عقدًا على ذلك وبدأ المحامي مسيرته الطويلة في غرفة صغيرة في قبو منزل المصرفي، وأخذ يمضي أوقاته في القراءة والكتابة وعزف البيانو وتعلم أشياء جديدة. هل يُذكرنا هذا كله بشيء ما؟ كيف كانت هذه القصة ستختلف لو جرت في عصرنا الحالي مع وجود الإنترنت؟

ترصد القصة التطور الروحي لهذا السجين الاختياري، مِن الكآبة والشعور الحاد بالوحدة إلى الاجتهاد في الدرس والمطالعة وتعلم اللغات والعلوم، ثم الاتجاه إلى العقائد والأديان والكتب المقدسة، وأخيرًا دراسة العلوم الطبيعية معَ الترويح عن نفسه بشيءٍ مِن شعر بايرون ومسرح شكسبير. تكتمل اللعبة الدرامية برغبة المصرفي بقتل المحامي، لأنه خسر معظم ثورته خلال تلك السنوات وإذا كسب صاحبنا الرهان فسوف يشهر إفلاسه، وهكذا قبل يوم واحد من المدة المتفق عليها ينزل إلى محبسه عازمًا على قتله، لكنه يجد هنالك بدلاً من المحامي رسالة تنازُل عن مكافأته المالية، لأنه عرف في محبسه ما هي الثروة الحقيقية للإنسان.

لماذا خرج المحامي الطموح المثقف من محبسه قبل يومٍ واحد فقط مِن فوزه بالرهان وحصوله على الثروة؟ وإذا كان بلغ السعادة الروحية في محبسه فلماذا خرج مِن الأساس؟ ألم يكن بوسعه التنازل عن حقه في المبلغ الكبير، وأن يطلب استمرار الوَضع على ما هو عليه، مستمرًا في القراءة والترقي الفكري والروحي؟ ألم يخشَ مواجهة العالَم الخارجي بكل ما طرأ عليه مِن تغييرات خلال تلك السنوات؟هل المعرفة التي اكتسبها عابرة للأزمان والأماكن وقادرة على الصمود حقًا في وجه أي متغيرات وموضات في المجتمع؟ هل توجد هذه المعرفة أصلاً؟ أم أن المسألة كلها لعبة درامية لإثبات التحول الروحي الذي طرأ على السجين مع عكوفه على ترقيه الروحي بدلاً مِن الصراع المتواصل في العالَم الخارجي بنتائجه غير المضمونة مثل ألعاب المقامرة؟ وأخيرًا هل سينتفع أي شخص غيره بما بلغه في عزلته وهل لم يزل يملك القدرة على التواصل مع الآخرين لنقل خبرته إليهم، أم أن مجانين الشارع سوف يزدادون واحدًا وينتهي الأمر على ذلك؟

-٤-

تردد الحديث أخيرًا عن مخاوف مِن متلازمة نفسية تسرَّبت إلى ملايين مِن الإيطاليين والإسبانيين والصينيين (حتى مع ما يقال عن السيطرة على المرض هنالك)، وهي متلازمة الكوخ، وهي باختصار أن يجد المرء صعوبة بالغة في مغادرة منزله الذي أصبح ملجأ آمنًا بالنسبة له؛ يحميه من تهديدات العالَم الخارجي، وهو فيروس كورونا المستجد في حالتنا هذه. شُخِّص العَرض لأول مرة في مطلع القرن العشرين، وسط الصيادين والمنقبين عن الذهب في أمريكا، حيث كانوا ينتابهم قلقٌ بالغ إزاء الخروج من الأكواخ بعد ملازمتها لأشهر عديدة. وقد تصيب هذه المشكلة الشخص الذي اضطر لقضاء عطلة طويلة بمفرده في بيت ريفي، أو فترات طويلة في غواصة تحت الماء، أو انعزل عن الحضارة لسبب أو لآخر [لدى بول أوستر حالات شبيهة في روايته ثلاثية نيويورك].

لم يعد الخطر بيولوجيًّا فقط، ولم يعد في الخارج فقط. صارَ الخطر نفسيًّا، ويخالطنا في داخل الجدران كذلك، وهو ببساطة أن نعتادَ الجدران، بل أن نحبها إلى درجة ألَّا نتخيَّل إمكانية الابتعاد عنها. ولعل بعض الناس في مدن مثل القاهرة، المدن شديدة الازدحام والصخب والتلوث والمهددة للأعصاب والسكينة بألف طريقة، لعلَّهم أصيبوا بالفعل بمتلازمة الكوخ، حتى مِن قبل الوباء، وصاروا مستعدين لاستكمال ما تبقى من حياتهم في أمان بيوتهم، أمام الشاشات التي تتيح لهم تواصلاً افتراضيًا مع العالَم الخارجي.

وعلى عكس سجين تشيخوف وشخصيات أوستر المنحوسة، لم نُعزَل عن العالَم انعزالاً كاملاً، نخرج ونرجع ولو لقضاء مشاوير ضرورية سريعة، البعض مضطر إلى الاستمرار في العَمل والبعض فقدَ ذلك العمل، البعض يعمل من المنزل أصلاً ولكن عزلته أصبحت جديدة، شأنه شأن جميع الآخرين، بعد أن اتخذت سَمتًا اضطراريًّا بإضافة الحظر الليلي والإحساس بالخوف من التواصل مع الآخرين والاختلاط عمومًا.

صرنا على جزرٍ شِبه مستقلة، حدودها ليست المياه التي تحيط بها بل هي جدرانها، وإن لم تكن جزرنا معزولة تمامًا، لأنه حتى في أشد حالات فرض الحجر الصحي في بعض المدن الغربية تبقى لسكّان البيوت فرصة الإطلال على العالَم الخارجي عبر وسائط وشاشات عديدة. جزرنا الخاصة التي نعيش عليها ليست جزيرة روبنسُون كروزو، لأن فيها الراديو والتليفزيون وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة وخدمات الإنترنت بما تكفله من إمكانيات تواصل وتفاعل لحظي مع مَن نشاء متى نشاء. هل هي مصادفة أن يكون كاتب أشهر رواية في أدب الانعزال عن العالَم (روبنسون كروز) هو نفسه دانييل دافو Daniel Defoe الذي شهدَ في مستهل حياته طاعون لندن العظيم، الذي أودي بحياة نحو سبعين ألف شخص، والذي كتبَ عنه في ما بعد كتابه يوميات عام الوباء؟ فكأنَّ العُزلة التامة عن الآخرين لا تنفصم عن الخوف منهم ومن شبح الموت الذي يهدد الاختلاط بهم؟

-٥-

تُغرينا تلك النوافذ الإلكترونية والافتراضية، المطلة على العالَم الخارجي، بالاستغناء عنه مكتفين بصورته ونشرات أخباره، ربما كما فعلت الكتب مع بطل قصة الرهان. تلك النوافذ تزودنا أيضًا بإمكانات لا نهائية مِن فرص قتل الوقت والتسلية الرخيصة السهلة، الألعاب الإلكترونية على سبيل المثال، ثم ترسانة الأفلام والمسلسلات التي لا تنفد زخائرها مهما طال بنا العمر، والكتب الإلكترونية المجانية التي أتاحتها بعض المواقع مجانًا لوقت محدد، والبرامج والتسجيلات والندوات، إلى آخره. إنها مغارة على بابا الموجودة على شبكة الإنترنت تغري بتقبل السجن، بل والوقوع في غرامه، وعَدم الرغبة في الخروج منه ولو انقضى خطرُ الوباء بعد أشهر قليلة، أي تغري بفخ الكوخ وحالة السجين السعيد. لعل الصناعة الوحيدة التي يمكن أن تنتعش في مثل تلك الأجواء هي صناعات الترفيه والتسلية، لكنه ذلك النوع من الترفيه الذي يتجنَّب الأماكن العامة والتجمعات ويقدَّم للناس على انفراد في جرعات شخصية لا يزيد عدد متلقيها عن سكان البيت الواحد، بل لكل منهم على حدة في أغلب الأحيان.

الشوارع الخالية من التجمعات حلم كل نظام مستبد، وربما في هذه النقطة على الأقل تبدو إحدى نظريات المؤامرة التي ظهرت لتفسير الوباء محقة. تلك النظريات التي تعيد بدرجة ما أصداء وأجواء العصور الوسطى عند التعامُل مع الأوبئة، حيث الشر الخفي يتلاعب بنا ويسوق قطعان الجماهير لتصديق ما يريد. تجاهل أصحاب تلك النظريات أعداد الوفيات وصور طوابير التوابيت الخشبية المتوالية في بعض مدن إيطاليا، والأهم من ذلك تجاهلوا طغيان بعض الأنظمة، وانعدام حاجتها إلى خلق بُعبع إضافي لتستخدمه في إحكام السيطرة على شعوبها، وأن سجون تلك الأنظمة ممتلئة بالفعل بمَن تجاسروا وخرجوا عن الخطوط المرسومة للجميع.

ربما يخطر أولئك السجناء على البال كثيرًا في حبسنا الراهن، الذي لا نطيقه مع أنه محكوم بساعات، ومع كل المتاح لنا مِن خدمات ومن نوافذ على العالم وآليات للاتصال به والتفاعل معه، وهي كلها رفاهيات لا يحلم بها أي سجين في العالَم، وخصوصًا في الأنظمة الاستبدادية. أولئك السجناء أيضًا لهم رحلاتهم التي عليهم أن يقطعوها يوميًّا، بين جدران زنازينهم. رحلة تمرير الأيام، ورحلة التفاوض والمقاومة للحصول على بعض الحقوق أو الاعتراض على الحرمان من بعضها الآخَر، ورحلة الحكي والاستعادة والنقاش وتبادل الخبرات، ورحلة تخيل الحياة وسيرها وشكلها في الخارج. تلك أيضًا رحلات روحية وفكرية سمعنا بها وقرأنا عنها، لكنها لا تصبح خفيفة هكذا أو أليفة إلَّا بعد أن تنقضي مدة العقوبة أو ينتهي الاعتقال غير المبرر، أمَّا طالما امتدَّ زمن السجن فقد امتد الكابوس وظلت تلك الرحلات عبئًا ثقيلاً مثل صخرة يزحزحها السجين وأهله ومعارفه وأصدقاؤه كل يوم حتى رأس جبل، لتتدحرج من جديد عند نهاية اليوم، وهكذا إلى أجلٍ غير معلوم في كثير من الأحيان.

إن تَشابه وضعنا الراهن مع حياة السجناء ليس مجرد مجاز طريف، فعلى الأقل من ناحية الإحساس بالزمن هناك مشتركات. ما دفعَ جوناثان فريلاند، كاتب عمود في صحفية الجارديان، للاتصال بإروين جيمس، الذي قضى عقوبة عشرين عامًا في السجن بسبب تورطه في جريمة قتل، وظل طوال تلك الفترة تقريبًا يكتب عمودًا منتظمًا للجارديان بعنوان حياةٌ بالداخل. ومع إدراك فريلاند أن الفرق شاسع بين التجربتين، فقد فاجأه رد جيمس بأنَّ أشياء كثيرة للغاية تعيد أصداءَ أيام السجن «إن أي سجين سوف يتعرَّف على تلك المفارقة المُنهكة للأعصاب [...] الأيام تمضي بخطى ثقيلة لكنك تستيقظ ذات يوم وقد مرَّ شهر وتقول لنفسك: «أي لعنة خطفت ذلك الشَهر؟».

يتطابق جوهرُ هذا الوَضع مع أحداث فيلم يوم فأر الأرض (1993 Groundhog Day)، فَعندما لا يختلف أي يوم عن اليوم الذي يليه بالمرَّة، يصير الوقت مُتخثرًا بلا شكلٍ أو قوام، ويصعب القبض عليه. يقول السجين السابق: «كأن الواحد يسير خائضًا في الدِبس، بالحركة البطيئة». أو بتعبير فيكتور سيرج؛ الثوري الروسي الذي قضى فترات سجن متتالية: «هناك ساعاتٌ تمر في لمح البصر، وثوانٍ تدوم كأنها الأبد».

-٦-

ليس في السجون فقط تتشابه الأيام، سواء السجون الحقيقية أو تلك التي يفرضها علينا الحظر والإغلاق والتزام البيوت. تتشابه أيام كثير من الناس عندما ينغلق عليهم روتين عمل غير إنساني يأكل أعمارهم ليكفلوا لأنفسهم ومَن يعيلونهم عيشَ الكفاف. تتشابه أيام كثير من الشعوب عندما تمر الأعوام والعقود مِن غير أن يقع فيها ما يحرك المياه الراكدة أو يهز نفوسهم.

حين تنعدم فرص اللقاء بالخارج، في الساحات والشوارع والميادين، وتحت الريح والشمس والنجوم، يتكرس مبدأ الاجتماع الافتراضي والتواصل عن بُعد، وتتبلور آليات النشاط الاجتماعي والسياسي من وراء الشاشات وحسب. وهكذا تضاعفت قدراتنا على السفر ونحن بين جدران غرفنا وبيوتنا، السفر عبر الكتب والأعمال الفنية، وعلى العمل مِن المنزل والحُب من المنزل والنضال من المنزل. القدرة الوحيدة التي يبدو أننها تنكمش وتتقلص مع الوقت حتى أمست مهددة بالانقراض هي قدرتنا على هدم تلك الجدران، أو تجاوزها ولو بخطوات قليلة، نحو بعضنا البعض، ونحو جميع المخاطِر القديمة الأليفة التي كنا نسميها ذات يوم حياتنا.

الهوامش:

1- ترجمته إلى العربية أمنية أبو بكر ونشر على مدونة كتب مملة (بورنج بوكس) بتاريخ 9 مايو 2020

2- ترجمة سامر أبو هواش، اختراع العزلة (بورتريه لرجل غير مرئي)، دار المتوسط، 2017.