مراجعات
يارا شاهينرحلة البحث عن بصمة سمير سيف
2020.04.01
مصدر الصورة : آخرون
رحلة البحث عن بصمة سمير سيف
في أحد حواراته التليفزيونية تحدث سمير سيف عن تغير المشهد السينمائي في مصر أخيرًا؛ إذ اختفت «بصمة» المخرج المميزة لكل فيلم، فسابقًا كان من الممكن التعرف إلى مخرج الفيلم بمجرد مشاهدته، الأمر الذي رأى سيف أنه لم يعد موجودًا في الأفلام المعاصرة. استوقفتني هذه الجملة كثيرًا، ليس اتفاقًا مع سيف بالضرورة في تقييمه للمشهد السينمائي المعاصر، بل بحثًا عن بصمته هو شخصيًّا في أفلامه المتعددة ومسلسلاته القليلة. فأين موقع سمير سيف ابن جيل الموجة الجديدة للسينما المصرية التي بدأت في منتصف السبعينيات واستمرت حتي نهاية الثمانينيات؟ وما هي ملامح «بصمته السينمائية»؟
تميزت أفلام الموجة الجديدة بالواقعية؛ كالتصوير في الشارع وفي المواقع الحقيقية كما فعل محمد خان، إذ حملت على عاتقها هزيمة 1967، وحاولت الانتصار لجيل مهزوم حاول أن يقاتل هزيمته لكن سياسات الانفتاح جاءته في مقتل، وزادت من مرارة الهزيمة مع عاطف الطيب، وتساءلت تساؤلات اجتماعية في لحظة ملتبسة مثل أفلام علي عبد الخالق، وهكذا تنوعت «بصمات» مخرجي تلك الموجة كما كان تنوع المرحلة بكاملها، ومن هنا بدأت رحلة مشاهدة أفلام سيف للغوص والبحث في عالمه وبحثًا عن بصمته المميزة.
في رحلة البحث استوقفني سيف مرة أخرى في أحد حواراته، حين كان يحكي عن لقائه الأول مع حسن الإمام. لم يكن اللقاء الأول في فيلم «خلي بالك من زوزو» كما يؤرخ له عادة، و لكن كان لقاءً عابرًا في شوارع وسط المدينة بالمصادفة عندما قدمه أحد الأصدقاء إلى الإمام، قدم سيف طالب معهد السينما نفسه للمخرج الشهير وأخبره بأنه في ذلك اليوم حاضرهم المخرج صلاح أبو سيف عن أفلامه. وكان رأي أبو سيف أن أفلام الإمام نموذج للأفلام الجماهيرية ذات المضمون الضعيف، وعلى الرغم من أن سيف لم يصارح الإمام برأي أبي سيف، لكن الإمام توقع هذا الرأي، وقابل سيف بجفاء سيختفي لاحقًا عندما يصبح سيف مساعدًا للإمام في كل أفلامه بداية من «خلي بالك من زوزو» ومرورًا بالسكرية وغيرها من الأفلام.
وهكذا قدم لي سيف مفتاح البحث في عالمه؛ عن بصمته التي تمزج بين تتلمذه على أيدي أساتذته في معهد السينما، وخبرته العملية من تجربته بالعمل مع الإمام؛ مزيج من الحرفية والثقافة السينمائية الواسعة، مع عين دائمة على الجماهير في صالة العرض وفي شبَّاك التذاكر.
المغامرة والتجريب مع نور الشريف
لا يمكن مشاهدة سينما سمير سيف والبحث في ثرائها وتنوعها دون التوقف قليلاً عند نور الشريف، ليس فقط نور الشريف النجم صاحب العدد اللانهائي من الأفلام والمسلسلات، بل أيضًا نور الشريف المنتج الواعي والقناص للجيل الجديد الصاعد من المخرجين، والذي يستطيع معه أن يكمل رحلة نجوميته السينمائية ويضخ دمًا جديدًا في المشهد السينمائي السبعيناتي المتشظي بعد النكسة.
يبدأ الشريف مغامرته الإنتاجية مع سمير سيف؛ فبدءا بتقديم فيلمهما «دائرة الانتقام» في عام 1976، لتكون مغامرة النجم الإنتاجية والمخرج الصاعد بقصة «الكونت دي مونت كريستو» التي لم تقدم فقط في السينما العالمية عشرات المرات، بل قدمتها السينما المصرية علي الأقل مرتين؛ مع نجميها أنور وجدي في «أمير الانتقام، 1951» ومع فريد شوقي في «أمير الدهاء، 1964». مغامرة الشريف كانت في محلها، فقد استطاع سيف أن يخلق عالمًا جديدًا معاصرًا من هذه القصة الكلاسيكية، ولم تظهر بصمته فقط من خلال السيناريو الذي قلب القصة رأسًا على عقب، بل من خلال تنفيذه الذي نقل سينما الحركة والأعمال البوليسية إلى مرحلة جديدة بصورة طازجة وإيقاع سريع وذكي يعي جيدًا فنيات الصناعة والروح في صالة العرض وهو ما سيستمر مع سيف طول رحلته.
يستعرض سيف في الفيلم عضلاته السينمائية، يحرك الكاميرا من زوايا غير معتادة، يصنع التشويق من داخل الدراما، يحكي القصة من داخل الفلاش الباك، ويقدم التحية لعالم الصناعة في مشهد النهاية الأيقوني «أرجوك سيبني أعيش»، ويوظف جميلات الشاشة من جيلين مختلفين، شويكار ومرفت أمين في توليفته الخاصة من حرفية الصناعة وروح صالة العرض التي يبدو، كأنه يسمع لهاثها وهو في غرفة المونتاج.
لم يوقف نجاح دائرة الانتقام سيف والشريف عن الاستمرار في المغامرة، بل ستكون مساحات التجريب أوسع في محطتهما الثانية «قطة على نار» ستكون مساحة التجريب أوسع بتقديم هذه المسرحية الأمريكية شديدة الخصوصية في سياق مصري، وستزداد الجرأة بالتعرض إلى مناطق شائكة؛ مثل إدمان الخمور والمثلية الجنسية لكن بروح متفتحة. ينجح سيف في السيطرة على طاقم تمثيلي طموح يود استعراض طاقته وإمكاناته السينمائية مع هذا النص المعقد، وإلى جانب الشريف، كان هناك فريد شوقي في مرحلته الانتقالية؛ من وحش الشاشة إلى دور الأب الذي حاول تنويع أدائه فيه بإصرار غير عادي ليستمر في العمل حتي النهاية، وهناك أيضًا بوسي، الباحثة عن مساحة لتثبت فيها موهبتها التمثيلية بعيدًا عن كونها الجميلة زوجة النجم. ينجح سيف في الاختبار،بل إنه وربما لم يكن سيحالف الفيلم نجاحًا في إيرادات الشباك لولا حرفيته الشديدة وقدرته على تطويع هذه الطاقة من طاقم النجوم الذي يصر على استعراض عضلات قدراته المهنية، بالحفاظ على إيقاع سريع وجذاب لقصة قد لا تلاقي مزاجًا واسعًا في صالات العرض.
عادل إمام: البطل الشعبي في مواجهة الأقوياء
رحلة سيف مع عادل إمام هي محطة مهمة أخرى؛ ستبدأ بعلاقة متوترة لكنها ستتطور ليقدما معًا 8 أفلام ناجحة، بعضها أيقوني. كثيرًا ما حكي سمير سيف عن لقائه الأول مع عادل إمام، وعدم تصوره له في واحد من تلك الأيقونات «المشبوه». مرة أخرى يبرع سيف في اقتباس فيلم عالمي، ويحوله إلى حالة مصرية خالصة، بعدها ستظل شوارع بورسعيد ومينائها الشهير عالقين في ذاكرة أجيال متعددة مع فيلم المشبوه. خاض سيف في المشبوه مغامرات جريئة متعددة، لعل أولاها ما ذكرها هو نفسه عن تقديم عادل إمام بعد نجاح ساحق في سلسلة من الأفلام الكوميدية لشخصية ماهر المركبة والمليئة بالعذابات ومحاولات الخروج من مصير محتوم في محاولات مكتوب عليها الفشل.
يحكي فاروق الفيشاوي أنه أيضًا تردد كثيرًا في قبول دور الضابط الذي لن يقسو فقط على نجم الجماهير الأول بل سيضربه بشدة، لولا أن أقنعه سيف بأن الفيلم سيرسخ نجوميته، وسينجح في استمالة قلوب الجماهير مع مشهد النهاية، وإنقاذه لابن ماهر بعد مطاردة بوليسية، ورمية رصاص بعيدة ومحكمة لا يصنعها سوي سيف.
وتكتمل جرأة المغامرة المدروسة مع تقديم سعاد حسني النجمة الأولى في ذاك العصر في دور مساحته أصغر من البطلين الأساسين، والأصعب أنه ينتزع التعاطف مع فتاة ليل تتوق إلى الغفران، وبدء حياة جديدة و تكوين أسرة بلا أي أحكام وبقبول تام من شريك رحلة الغفران حتى لو كان «حرامي» سابقًا هو الآخر. يتجاوز فيلم المشبوه التصنيف التقليدي بأنه فيلم حركة «أكشن»؛ إذ يصنَّف سيف باعتباره متخصصًا في هذه النوعية من الأفلام، فهو يقلب الكثير من التصورات المسبقة عن بطل فيلم الأكشن ليكون المجرم وليس الضابط أو منفذ القانون. ويطرح على المجتمع إشكالية التوبة أو الغفران، ويضع جميع الشخصيات في صراعات داخلية معقدة متصاعدة جنبًا إلى جنب مع المطاردات البوليسية المتعددة ولهاث الجمهور المتعاطف مع المجرم التائب، والحانق من الضابط القاسي ويقدم له نهاية إنسانية؛ إذ يقبِّل طرفا الصراع أخيرًا بعضهما البعض. بعد المشبوه ستبدأ رحلة سمير سيف مع عادل إمام، الذي سينتقل من خانة نجم الكوميديا إلى نجم أفلام حركة ذي خصوصية شديدة، فهو البطل الشعبي الذي لا يمتلك المواصفات الجسدية لهذه النوعية من الأفلام لكن ينتصر في معركته ضد الأقوياء وينتصر لقطاعات واسعة من جمهوره من المقهورين وأصحاب الحظ السيء الذين يلفظهم المجتمع، في فيلم «المولد» و«مسجل خطر» لتنتهي رحلة الثنائي مع «شمس الزناتي».
ربما يعتبر فيلم «شمس الزناتي» الأكثر تعبيرًا عن سينما سيف وتوليفتها الخاصة، وهذا قد يفسر مريديه ومحبيه الكٌثر، حتي ممن لم يعاصروا عرضه الأول في عام 1991. الزناتي ليس فقط تتويجًا لبطولة عادل إمام الشعبية التي نمت وتطورت مع سمير سيف، بل هو أيضًا يحمل قصص ست شخصيات أخرى، لأبطال آخرين من عوالم الفقراء والمقهورين، ومن خلاله يطوِّر سيف طموحه في صناعة أفلام تدور أحداثها في أجواء الأربعينيات وذلك بعد أن سبق وقدم فيلم «شوارع من نار»؛ الذي أهداه إلى كل من حسن الإمام ونجيب محفوظ في تحية منه إلى عالم محفوظ كما صوَّره الإمام. مع فيلم «شمس الزناتي» يبني سيف موقع تصوير كاملاً، ويبذل جهدًا عظيمًا في حدود إمكانات الصناعة والتكنولوجيا المحدودة في التسعينيات من أجل تقديم فيلم حركة متكامل الأركان بمعارك معقدة ومراحل مختلفة متجاوزة المعارك الكارتونية المعتادة التي ملأت أفلام الثمانينيات.
وفىي هذا الفيلم يلعب سيف كل ألعابه مع المشاهد، يقدم تشويقًا وبطولة، وشخصيات ذات عمق إنساني، يداعب صالة العرض بإيحاءات عادل الإمام الجنسية المعتادة، ويبكيهم على وفاة الشخصيات التي أحبوها مثل «سلامة الطفشان» و«سبرتو»، ويرسل إشاراته الخفية بأنه يصنع سيرة شعبية مشابهة للسيرة الهلالية فيقدم مشهدًا لـ«صندوق الدنيا» حيث يشاهد الأطفال مشاهد من السيرة يحكيها الراوي ويذكر اسم «الزناتي خليفة»، فيمهد لمشاهديه أنه سيقدم لهم أكثر من فيلم «أكشن»؛ سيقدم ملحمة شبيهة بالأفلام الملحمية هوليوودية الطابع لكنه يستدعي فيها التراث الشعبي ليجذرها في سياقها المصري.
في شمس الزناتي يصل سيف إلى أوجه، ويضيف إلى الرافدين اللذين شكَّلا تجربته السينمائية؛ الخبرة العملية مع حسن الإمام والدأب الأكاديمي مع معهد السينما، خبرته الخاصة بعد أكثر من 19 فيلم مع أهم نجوم تلك المرحلة من ممثلين وكتَّاب سيناريو ومنتجين.
بين الاقتباس وإحياء عوالم وحيد حامد الإذاعية
إلى جانب تصنيف سيف باعتباره مخرج أفلام حركة بوليسية أو «أكشن» وهو تصنيف يسطح من تجربة سيف الثرية والمتنوعة، صنفه البعض باعتباره ملك الاقتباس. بالفعل قدم سيف العديد من النصوص والأفلام العالمية المقتبسة، فقدم شوارع من نار المقتبس من «إيرما لا دوس» وقد قُدمت سابقًا في أكثر من معالجة سينمائية، والساموراي السبعة في «شمس الزناتي»، إلى جانب «المشبوه» و«قطة على نار» وحتى «غريب في بيتي». قضية الاقتباس قُتلت بحثًا أكاديميًّا وجدالاً فنيًّا، ولعل المقياس دائمًا هو قدرة المقتبس على تقديم الفكرة في سياق مختلف تمامًا يتجاوز تقديم قصة محلية موازية ركيكة. لم يكن سيف وحده من قدم أفلامًا مقتبسة، بل إنه لو تم حصر الأفلام التي قدمتها السينما المصرية على مدار تاريخها الحافل ستكون نسبة الأفلام المقتبسة من أفلام ونصوص عالمية مفاجئة للجميع، لكن ربما التصق هذا التصنيف بسيف لنجاحه في تحويل العديد من هذه الأفلام المقتبسة إلى أفلام أخرى لا تشبه الأصل مطلقًا. هو نجاح يعود مرة أخرى إلى الرافدين اللذين شكَّلا شخصيته السينمائية؛ فالطالب النابه المتفوق الذي سيتحول لاحقًا إلى مدرس بالمعهد، والمطلع على السينما والأدب العالميين بحكم إجادته للغات الأجنبية سينهل من الإنتاج العالمي المتدفق وسيدرسه بتركيز، وسيمزج حسه الشعبي الذكي وفهمه للجمهور المتعطش «للحكاية» وهما ما سيمكِّناه من تمصير أفلامه المقتبسة، وتقديم شخصيات نابعة من قلب المجتمع المصري، من حواريه وشوارعه، من عوالم مكافحي الطبقة الوسطى وساكني القصور، ولكن الأهم من العوالم المعذبة للخارجين على القانون بكل تنويعاتها. بالطبع ساعد الكثير من كتاب السيناريو المتنوعين سيف، وعلى حسب اختلاف قصة الفيلم؛ مثل رفيق الصبان وأحمد صالح ومجدي هداية وغيرهم، لكن بصمته كانت واضحة منذ أول أفلامه «دائرة الانتقام» الذي شارك في كتابة السيناريو له، فالكونت دي مونت كريستو في عصر الدولة الحديثة لا يمكن أن يهنأ بعد انتقامه، بل يحرقه الانتقام، أما الشخصيات التي تساعده فهي مزيج عجيب بين مومس تخلص له إخلاصًا مطلقًا وتُكِن له حبًّا جارفًا من قبل حتى أن تراه، ورفيق السجن النشال وهنا تظهر براعة اختيار الممثلين ورسم الشخصية، فمن يصلح لدور «النُص» النشال سوى عبد السلام محمد؛ ببنيته الضئيلة مع وجه شديد الطيبة والحميمية، وهكذا تصبح تلك الشخصيات الخاصة جدًّا بصمة أخرى من بصمات سيف ستستمر في كل أعماله.
بالإضافة إلى الأفلام المقتبسة كوَّن سيف مع وحيد حامد ثنائيًّا مهمًا، فقدما معًا عدة أفلام لعادل إمام، وفيلمين لنور الشريف، وكذلك مسلسلين من أجمل ما قدمته الدراما هما «البشاير» و«أوان الورد». المفارقة أن اللقاء الأول بين حامد وسيف كان فيلمًا مقتبسًا وغير معتاد لكليهما، لكنه يعتبر ربما الأكثر حضورًا في ذاكرة أوسع قطاع من المشاهدين وهو «غريب في بيتي». ربما نافس سيف في هذا الفيلم أفلام الأخوين محمد وعمر العزيز مثل «البعض يذهب للمأذون مرتين» و«خلي بالك من جيرانك» و«يا رب ولد» و«الشقة من حق الزوجة» في تقديم الأفلام الكوميدية التي ستشكل اللغة الدارجة في الثمانينيات والتسعينيات، بل إن شخصية شحاتة أبو كف الخالدة سيعاد استحضارها مؤخرًا، ليس فقط في عوالم كرة القدم، بل حتى الآن في عوالم التواصل الاجتماعي، وهو يجري نشيطًا حاملاً «البقالة» في طريق عودته إلى المنزل، وبالطبع لن ينسى أحد «حنان» سبب «سوء حالة المنتخب القومي»، ومن يكن يتخيل، أو يجرؤ، أن تظهر سعاد حسني مرتدية نضارة نظر سميكة، وأُمًّا لطفل في أوج نجوميتها في أوائل الثمانينيات.
تنوعت لقاءات حامد مع سيف، ففي بداية تعاونهما قدما فيلمين مهمين لنجمي سيف الأثيرين؛ إمام والشريف، وهما «الغول» و«آخر الرجال المحترمين»، اشترك الفيلمان أيضًا في كونهما أساسًا مسلسلين إذاعيين سابقين لحامد قرر تحويلهما إلى فيلمين. في الغول استمرت الجرأة والتحديات؛ فإمام لم يكن البطل الشعبي المعتاد كما سيقدمه حامد وسيف لاحقًا في «المولد» و«مسجل خطر»، بل هو الصحفي ابن الطبقة الوسطى الباحث عن العدالة، لكنه سيحتفظ بموقع المقاتل في معركة ضد أقوياء ذاك العصر، عصر الانفتاح الذي طالما شغل مخرجي الموجة الجديدة، وكان السمة الرئيسية في أفلام السبعينيات والثمانينات. يتألق إمام مرة أخرى في دور مختلف عن صورته السينمائية المعتادة، وفي مواجهته سيقدم فريد شوقي دورًا من أنضج أدواره في تلك المرحلة بعيدًا عن دور الأب المكلوم أو المضحي. لن يتخلى سيف بالطبع عن المطاردات البوليسية وإن كانت قليلة، لكنها لن تطغى على تعقيدات صراعات أبطالها، وصراع الوجود بين الصحفي عادل والغول فهمي الكاشف، حتى النهاية الدامية الشهيرة والمميزة عندما يجلس عادل في انتظار الشرطة بعدما لم يجد طريقًا لتحقيق العدالة سوى بقتل الغول، ومرة أخرى ينتصر عادل إمام لكل المقهورين من رجل آخر من أقوياء هذا العصر.
بعد عام واحد يشارك حامد وسيف نور الشريف ليقدموا فيلم «آخر الرجال المحترمين» إذ يواجه بطلا آخر أكثر هشاشة؛ غولاً آخر وهو شوارع القاهرة وعوالمها المعقدة. يبرع سيف في التصوير الخارجي شديد الصعوبة في هذا الفيلم، ولا يتنازل عن تقنيات بديعة لنقل روح وإيقاع القاهرة من عزبة الحرامية لمقالب القمامة، في محطة مصر وداخل حديقة الحيوانات أو في شوارع الزمالك التي كانت واسعة وهادئة في ذاك الزمن. لا توجد مطاردات بوليسية عنيفة في هذا الفيلم بل توجد مطاردة لاهثة للوقت، لم تكن لتنجح في تكثيف مسلسل متعدد الحلقات في فيلم لا يتجاوز الساعتين دون قيادة سيف وبراعته في الانتقال المتوازي “cross cutting” بين رحلة البنت وخاطفتها الأم المكلومة ورحلة الأستاذ فرجاني بين الشرطة ومؤسسات الدولة الرسمية والعوالم الخفية للمدينة الكبرى التي تقدم له يد العون باهتمام ونظام محكم لم يتخيل المدرس التقليدي الرقيق وجوده.
الشخصيات رسمها حامد بدقة، سيبرع سيف في اختيار الممثلين الذين سيلعبون الأدوار الثانية مثل الرائع علي الشريف في دور المعلم «برغوت» أو المعلم الأستاذ «مغاوري» الذي لعب دوره محمد التاجي بوجهه الطفولي، تمامًا كما خلد من قبل فؤاد أحمد في فيلم المشبوه في دور «حمودة الأقرع» وهو ينادي بصوته المميز على «أفيونة» الذي لعب دوره أيضًا علي الشريف وكل رفاق «الزناتي» مثل جعيدي بجسده الضخم وقوته الغاشمة الممزوجة ببعض الطيبة ولعب دوره «إبراهيم نصر» وغيرها من الشخصيات الثانوية التي تظهر العناية الشديدة برسمها و إبرازها فلا ينساها المشاهد.
ستستمر رحلة وحيد حامد وسمير سيف وتنتقل من محطة إلى أخرى وتتجاوز رفيقي الرحلة نور الشريف وعادل إمام.
في مرحلة لاحقة للسبعينيات والثمانينيات المشغولين بالتغيرات الحادة التي أصابت المجتمع ونظام الحكم عقب الانفتاح، سيقدم الثنائي فيلمين مختلفين لكن يشتركا في تحليلهما لمرحلة حكم مبارك عبر ثلاثين عامًا. فبعد تجاوز الهزيمة والانفتاح ومعاهدة السلام يصبح السؤال، ماذا تبقى وكيف أصبح شكل مصر؟ بخفة وذكاء شديدين ينسج الثنائي رؤيتهما لهذا الواقع الجديد مبكرًا في التسعينيات مع فيلم الراقصة والسياسي، وهو الفيلم المبني علي قصة قصيرة خفيفة لإحسان عبد القدوس يقتنصها حامد فورًا ليصوغها في عوالم التسعينيات المشبعة بقصص فضح علاقات عالم السياسة والتخابر مع الفنانات والراقصات، التي امتلأت أرصفة الشوارع بكتب تحكي عنها. الراقصة والسياسي كبسولة مكثفة لقصة بسيطة بلا أكشن أو اقتباس أو مجال متسع لأي استعراض قدرات تمثيلية معقدة، لكنه خالد في الذاكرة، ليس فقط بحوار حامد وجمله الشهيرة بل بوعي سيف بكل هذه المفردات، فيستخدم الفلاش باك ليعلمنا بماضي علاقة الراقصة والسياسي، ويتركنا مع تصاعد القصة بين طرفي الصراع ليترك بساطة حبكة الفيلم ذاتها تفرض نفسها، ويطعمها قليلاً برقصات نبيلة عبيد شديدة الجمال، أو باستحضار براعته في الشخصيات الثانوية البارزة مثل فاروق فلوكس في دور «شفيق ترتر» مساعد الراقصة.
لاحقًا ستتبلور مساحة حامد في نقد المرحلة المباركية المعاصرة، وكقناص سيدرك حامد أن هناك مساحة تركها النظام السياسي لنقده سياسيًّا، وسيوظف هذه المساحة جيدًا مع عادل إمام في أفلام عديدة تعيد إنتاج البطل الشعبي لكن بأدوار تليق بمرحلة عمرية وتاريخية جديدة مع مخرج آخر وهو شريف عرفة. في 2002 يعود حامد للتعاون مع سيف في فيلم «معالي الوزير»، ولكن هذه المرة مع أحمد زكي للمرة الأولى. في ذلك العام كان الثلاثي قد وصل إلى قمة نضجه وتجربته مع بداية الألفية، وتبلورت بوضوح مفردات الحقبة المباركية وحدود مساحة النقد المتاحة التي طالت الوزراء وبعض أفراد الحكومة، وكأن هؤلاء الوزراء منفصلون عن واقع أوسع لنظام سياسي فاسد بأكمله. وعلى الرغم من ذلك كان الفيلم جريئًا في طرحه، ولعله الأول في سلسلة من الأفلام والأعمال الدرامية التي ستتناول فساد المرحلة المباركية في حدود الخطوط الحمراء التي وضعها النظام؛ بل إن الفيلم كان من إنتاج مدينة الإنتاج الإعلامي المملوكة للدولة.
وسط كل هذا التعقيد ومع ممثل صعب المراس جامح الموهبة مثل أحمد زكي تحرك سمير سيف كجراح بيدين رقيقتين؛ فكوابيس معالي الوزير المخجلة والمجرمة، تكبر واحدة تلو الأخرى لنتعرف إلى مدى إجرامه وفساده وتحلل شخصيته في حالة تشويق مستمرة، وكأنها حلقات مسلسلة، أو علبة غامضة ملفوفة في طبقات من ورق، كلما حاول المشاهد نزع طبقة تكشف له المزيد والمزيد من الطبقات. لا يحكي معالي الوزير قصته في شكل سردي تقليدي، بل يلقي إلينا بقطعة تلو الأخرى، ومع تجميع كل تلك القطع يكون معالي الوزير هو الآخر قد تحطم تمامًا وتحللت روحه ليرتكب الخطيئة الكبري ويقتل مساعده.
البصمة
يصعب تحديد ماهية بصمة سيف السينمائية؛ فقد أخرج أفلام الكوميديا إلى جانب الحركة التي اشتهر بها، طوَّع النصوص المقتبسة لروح مصرية تناسب العصر، بالإضافة إلى سيناريوهات مغرقة بتفاصيل محلية تعكس تغيرات سياسية واجتماعية مرت بها مصر منذ السبعينيات وحتى أوائل الألفية، نزل بكاميرته في شوارع القاهرة المزدحمة، و أبدع في تصوير حواريها الشعبية جنبًا إلى جنب مع خلق مواقع تصوير كاملة تدور في عصور وأزمنة أخرى، وهكذا طول رحلته السينمائية ومسلسليه الأكثر شهرة «البشاير» و«أوان الورد».
في أحد أحاديثه التليفزيونية تحدث سمير سيف عن رفاقه في مدرسة التوفيقية الذين أصبحوا جميعًا لاحقًا شخصيات سياسية واقتصادية مرموقة، وقال إنهم كانوا مدركين لمستقبلهم في أيام صباهم في المرحلة الثانوية "إننا لما نكبر حنكون مهمين".
ولم يخطئ وعي سيف المبكر بالبصمة التي سيتركها في تاريخ السينما المصرية الثمانينية تحديدًا، التي كانت تعاني من قلة الموارد وفقر الإمكانات التقنية، بالإضافة إلى سيطرة قلة قليلة من نجوم الشباك بخلاف شكل تلك الصناعة وتنوعها في الستينيات والسبعينيات. جاء سيف مع جيل الموجة الجديدة في الثمانينيات ليتصالح مع الجمهور، ويقدم له وجبة دسمة تسعده وتمتعه، ومن خلالها تستمر الصناعة التي عشقها لتتطور ويتسلمها جيل جديد في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية بعين حساسة لجمهور جديد واحتياج جديد. لكن مداعبة صالة العرض لم تمنع سيف في أي مرحلة من المراحل من التجريب وتوسيع المساحات التي يرسل بها رسائله؛ سواء كانت جمالية في كادرات جديدة مميزة، أو تقنية ليطور بها أفلام الحركة، أو سياسية حينما يبحر بهدوء حذر في مساحات الحرية القليلة والضيقة.