عدد 18-عن الفقد والافتقاد
خالد عز العربرمانة الميزان..
2020.11.01
..رمانة الميزان
يبدو أن دخولي المشهد كان فألاً سيئًا عليها؛ أصيبت بكسر في ساقها ألزمها المنزل. لا أذكر ملابسات الواقعة (أكانت عثرة معتادة في الطريق؟)، فالذاكرة مهترئة منذ سنوات عديدة، وهو ما سيمنحها هي وميريت خلال الشهور التالية مادة خصبة ومتجددة لمشاكستي.. كل ما أذكره أنني عندما توليت رئاسة تحرير أصوات مصرية كانت دينا جميل نائب رئيس التحرير، وكانت ساقها مكسورة. وزادني هذا الطالع السيء توجسًا.
(كنا قد تزاملنا قبل ذلك بسنوات في مكتب BBC العربية في القاهرة، لكننا لم نكن أصدقاء. كانت علاقة زمالة لم تتوطد كثيرًا، فكلانا يعمل معظم الوقت في فريق يتناوب «الشيفتات» مع فريق الآخر، فلا تتقاطع طرق أعضاء الفريقين إلا عندما ينجح أحدنا في انتزاع موافقة على «شيفت أوفر تايم» يتيح له رؤية زملائه في الفريق الآخر، ويضيف -وهو الأهم طبعًا- بضع ورقات في ذلك المظروف الذي نتلقاه آخر الشهر).
توجست لأنني كنت قلقًا من الأصل -قبل أن أعلم بخبر الكسر- من كيفية استقبالها أمر تعييني. فأنا في النهاية دخيل على مكان هي فيه من قبلي. وإن كان الأمر يتعلق بالخبرة أو القدرات فلديها منها ما يكفي ويزيد.
كان اللقاء الأول هاتفيًّا، وعلى الفور أزاحت كل أسباب قلقي. كانت مرحة الروح كالعادة، ودودة بلا تكلف، وجادة ومحترفة عندما بدأنا نتحدث عن العمل.
كان موقع أصوات مصرية قد نجح خلال السنوات السابقة في اكتساب سمعة حسنة كمصدر موثوق للأخبار، وكنت أرغب في البناء على تلك السمعة لتوسيع قاعدة مستخدميه بجعله أكثر حيوية وتدشين منتجات صحفية جديدة وجذابة.
استدعى ذلك الأمر تغييرات كبيرة في أسلوب العمل وفلسفته، وكأي مرحلة تحول كانت هناك تحديات كثيرة أمام فريق العمل. وهنا لعبت دينا دورًا محوريًّا لا أعتقد أن غيرها كان بمقدوره أن يلعبه. تشاركنا معًا في وضع خطط التطوير، ولكنها امتازت بقدرتها على التواصل مع أعضاء الفريق بشكل يوازن ما بين متطلبات التغيير من ناحية، ورؤى وتطلعات وتحفظات البعض من ناحية أخرى. كانت رمانة الميزان في المكان.. لديها حس إنساني مرهف بمشاعر زملائها، وفي الوقت ذاته حس مهني لا يقبل بأي تنازلات فيما يخص جودة العمل.
ومن خلال خبراتها وشبكة علاقاتها المتعددة، نجحت دينا في استجلاب مساهمات مجموعة من أمهر الصحفيين والكتاب للموقع، وزاد إقبال القراء على باب الرأي والعمود بعد أن تولت دينا مسؤوليته، وأذكر أن أحد الأعمدة التي لاقت رواجًا كبيرًا كان عمود «سلطنة»؛ الذي أقنعت دينا كاتبه العزيز ياسر علوي -سفيرنا الحالي في بيروت- بإعادة إحيائه في أصوات مصرية، بعد تجربته الناجحة في صحيفة الشروق.
لكن كل ما سبق على أهميته لا يمثل شيئًا مقارنة بالدور الذي لعبته دينا على المستوى الشخصي في حياة من حولها. بالنسبة لي تحولت سريعًا من زميلة إلى صديقة إلى الشقيقة الأكبر التي كنت أتمناها في صغرى.. قادرة على استيعابك في أي وقت، لا تبرر لك أخطاءك ولكن تساعدك على تجاوزها، أكسبتها خبرات الحياة حكمة تسعفك وقت الأزمات، عاطفية، ومع ذلك لديها حسٌ عمليٌ قادر على وضع كل شيء في نصابه، ومتلألئة طول الوقت بضحكتها وزينتها ولمعة عينيها.
أفتقدكِ كثيرًا يا دينا..