عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

حازم مراد

وصار العبث واقعًا

2025.12.14

مصدر الصورة : آخرون

وصار العبث واقعًا

 

في سنوات عمري الأولى، عاصرت زمنًا كان فيه التلفاز يودّع مشاهديه بعد منتصف الليل بقليل، مختتمًا بثّه بالسلام الجمهوري والقرآن الكريم، ثم يعود إليهم في العاشرة صباحًا. وخلال ساعات النهار، كانت القناتان الرسميتان تبثان برامج الأطفال والأغاني والطبخ وما يُعرف ببرامج المرأة. أما السينما، فكان حضورها محدودًا ومتقطّعًا؛ أبرز محطاته فيلم الواحدة والنصف ظهرًا على القناة الأولى، وبعض الأفلام التي تُعرض على نحوٍ غير منتظم، وغالبًا لا تتوافق مواعيدها مع ما تُعلنه الصحف. ومع مطلع الألفية الثالثة، انطلق التلفاز إلى السموات المفتوحة بعد أن تسلح بالثنائي العجيب «الدش» و«الرسيفر» وتزايدت القنوات، واستحوذت «روتانا» على اهتمامي، فصرت أتابع ما تبثّه بانتظام؛ أفلامٌ كثيرة تمرّ دون أثر، وأخرى لا نذكر منها سوى نكات نرددها في جلسات الأصدقاء. مرّت السنوات حتى جاءت جائحة كورونا، وجثمت على صدر العالم. ومع العزل وتعطل اللابتوب واستحالة إرساله للصيانة، عدت إلى شاشة التلفاز أقتل الوقت لا أكثر بالترحال بين القنوات. وعلى مدار أيامٍ متفرقة، شاهدت ثلاثة أفلام: أنياب، والأفوكاتو، وسمك لبن تمر هندي. كنت أظنّ أنني أعرفها: فالأول فيلم غرائبي غير مترابط يستخدمه صُنّاع المحتوى للسخرية على «يوتيوب»، والثاني حكاية ساخرة عن محامٍ متلاعب، والثالث عمل غامض لا يفهمه أحد.

لكن تبين مع المشاهدة أن بينهم رابطًا هو العبث، وهذا العبث ليس قلقًا وجوديًّا، بل تشخيصًا للانهيار الاجتماعي الذي نما في تربةٍ خصبةٍ زرعتها سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي دشّنها أنور السادات، وامتدت وتمتد حتى اليوم آثارها العميقة إلى البنية الأخلاقية والاجتماعية للبلاد، محولةً الفساد من استثناء إلى قاعدة.

دراكولا المصري

أنتج فيلم أنياب عام 1981 في لحظة مفصلية تزامنت مع اغتيال السادات في ذروة تحول الدولة إلى سياسات «الانفتاح». ورغم طابعه الغرائبي، يعد قراءةً اجتماعية وسياسية حادّة لمرحلةٍ انقلبت فيها المعايير.

ومع توالي مشاهده، يتضح أن الفيلم لا يكتفي بتقليد الفيلم المأخوذ عنه «The Rockey Horror Picture show (1975)»، بل إنه يعيد تشكيله في سياق مصري خالص. فـ«دراكولا» الذي جسّده أحمد عدوية ليس مخلوقًا خرافيًّا، بل رمزًاٌ لجيلٍ جديد من المستغلّين يعيش على تعب الآخرين: الجزار الذي يبيع العظام على أنها لحمة بلدي، بينما يجري حوار تلفزيوني عن بدائل اللحوم من أرز وعدس ومكرونة، في مشهد يذكّر بـ«المصدر المسؤول» في قصيدة نجم والشيخ إمام؛ السائق الذي يضاعف الأجرة مع شح المواصلات، الطبيب الذي يرفع أجره نظير الزيارات المنزلية، والتاجر الذي يحتكر السلع ليبيعها سرًّا. في كل لوحةٍ من هذه المشاهد الكاريكاتورية القاسية، يؤدي عدوية كل الأدوار، ليطلّ في النهاية بأنيابه اللامعة، يخترق الجدار الرابع كأنه يقول للمشاهد: «دراكولا مش في القصر… دراكولا معاك وحواليك في كل حتة».

جاء «أنياب» في لحظة تحوّل حاسمة للسينما المصرية، مع صعود الواقعية الجديدة التي واجهت رقابة صارمة في سعيها إلى كشف آثار الحروب والانفتاح وصعود التيارات الدينية. قبله كانت السينما الرسمية قد انفصلت عن الواقع، واكتفت بالتسلية أو بتشويه المرحلة الناصرية دون رؤية نقدية حقيقية. في هذا المناخ، ظهر محمد شبل كمبدع طليعي اختار التجريب وكسر القوالب المألوفة.

قوة الفيلم تكمن في رمزيته السياسية والاجتماعية؛ فقد قدّم نقدًا لاذعًا لمجتمعٍ تحوّل بعض أفراده إلى مصاصي دماء باسم الربح والانفتاح. حتى الراوي -الذي أدّاه حسن الإمام كضميرٍ للحكاية- يتحوّل في النهاية إلى أحد الأنياب بل إلى دراكولا نفسه! لا يمنح الفيلم مشاهديه طمأنينة أو خلاصًا؛ بل ينقلب ضد نفسه، طارحًا سؤالًا مريرًا عن الإنسان والسلطة والهوية..

رغم فشله الجماهيري عند عرضه، يُنظر إليه اليوم كأول تجربة تجريبية حقيقية داخل السينما التجارية المصرية. فقد كسر شبل السرد الواقعي السائد، وابتكر رموزًا بصرية وصوتية قريبة من المدرسة الطليعية الأوروبية على خطى جودار وبونويل، ممهدًا الطريق -وان كان بشكل غير مباشر- لآخرين وعلى رأسهم رأفت الميهي الذي سيحوّل هذا التمرد الفني لاحقًا إلى نقدٍ اجتماعي وسياسي مباشر.

الأفوكاتو: مسرح القانون المقلوب

جاء الأفوكاتو بعد عامين أو ثلاثة من أنياب، ليواصل مسار العبث والتجريب الذي مهد له شبل، لكن بلغة أكثر وضوحًا وسخرية. فـ«الوحش» في هذا العمل لم يعد دراكولا الذي يمتص دماء المواطنين، بل صار القانون ذاته الذي يبتلعهم.

ركّز المخرج رأفت الميهي في هذا الفيلم على تفكيك منظومة العدالة في مصر، مقدّمًا إياها كخشبة مسرح تُدار عليها لعبة تحكمها المصالح لا استرداد الحقوق. يبدأ الفيلم بمشهد يحكم فيه على حسن سبانخ (عادل إمام) بالسجن شهرًا بتهمة إهانة المحكمة، بعدما شكك في الذمة المالية لأعضاء هيئتها أثناء مرافعته عن شخص من صغار تجار العملة. هذا الحكم المبكر يكشف طبيعة العالم الذي يسعى الفيلم إلى تشريحه، عالم مختلّ المعايير.

فالمحامي الذي يُفترض أن يكون حارس القانون وممثله، يتحول إلى منتهكه، ساعيًا إلى تحقيق مكاسب شخصية من دفاعه عن رجل أعمال فاسد. يقرر سبانخ أن يخوض اللعبة بقواعدها الخاصة، معتمدًا على المكر والدهاء، ليكشف الميهي من خلاله أن القانون لم يعد أداة للعقاب أو تحقيق العدالة، بل وسيلة لجني الأرباح وتكريس الفساد وتتشابك فيه قوى السلطة والمال والبيروقراطية من سليم أبو زيد (صلاح نظمي) أحد بقايا مراكز القوى إلى حسونة محرم (حسين الشربيني) رجل الأعمال وصاحب الثروة المشبوهة ومزارع الدواجن التي ملأت البلد بيضًا -في إشارة مبطنة إلى المليونير الهارب توفيق عبد الحي الذي استغل التنمية الشعبية في إغراق السوق بدواجن رخيصة الثمن غير صالحة للاستهلاك الآدمي- وبينهما العسكري عبد الجبار (علي الشريف) الذي يخدم سليم وحسونة ويعظم كليهما في رمز لجهاز الدولة الأمني الذي لا تنفك قبضته ولا تتبدل بتبدل الأنظمة.

السجن هنا ليس مكانًا للردع وقضاء العقوبات وإنما نموذج مصغر للمجتمع حيث تباع الذمم وتصاغ التحالفات بين السلطة والمال وحتى حين يسقط سبانخ فإنه لا يسقط حقًّا، إذ يبدأ من جديد داخل السجن متحالفًا مع سليم أبو زيد وينتهي الفيلم هنا نهاية دائرية وكأن الفساد حلقة لا نهاية لها. هذه النهاية العبثية تؤكد أن الفساد ليس طارئًا على النظام في وقتها، بل هو جزء بنيوي فيه لا يمكن للمؤسسات، حتى العقابية منها، أن تسيطر عليه. الفيلم بذلك يقدم عبثًا مؤسسيًّا، حيث تظل الواجهة القانونية قائمة، لكنها في جوهرها فارغة ومحكومة باللعب والانتهازية. وقد أكد الجدل الحاد الذي صاحب الفيلم -الذي وصل إلى اتهام الميهي وعادل إمام وحمدي يوسف وموزع الفيلم يوسف شاهين بالإساءة إلى القضاء- أن الفيلم نجح في تشخيص واقع عبثي بات غير محتمل، ما أثار رد فعل عنيف من المؤسسات القضائية تجاه النقد الفني العميق ووصفها بمسرح العدالة المقلوب.

سمك لبن تمر هندي: العبث نظام عالمي

عام 1988 قدّم رأفت الميهي فيلم "سمك لبن تمر هندي" موسعًا دائرته من المحلي إلى العالمي. يمكن اعتباره جزءًا ثانيًا غير رسمي من الأفوكاتو فالبطل أحمد سبانخ الذي أداه محمود عبد العزيز هو شقيق لحسن سبانخ الذي جسده عادل إمام، الأول اصطدم بالواقع فلم يجد إلا العبث والثاني نجا لأنه ساير النظام ولاعبه بدل أن يواجهه.

العنوان نفسه المأخوذ من المثل الشعبي سمك لبن تمرهندي، ليختصر حال المجتمع الذي فقد اتزانه الأخلاقي، والمعرفي كل شيء فيه متداخل بلا منطق ولا نظام من خلال شخصية الطبيب الشريف الذي يصطدم ببيروقراطية غاشمة واتهامات عبثية، وبذلك يصور الميهي مأساة الفقراء الذين سحقهم جهاز الدولة بمعاونة الجهات الأجنبية.

أما مستشفى الإنتربول التي تدور فيها الأحداث فهي استعارة صريحة عن الهيمنة الغربية والنظام العالمي الجديد الذي يستخدم أجهزة الأمن المحلية لقمع الجماهير إذا طالبوا بحقوقهم او اصطدموا بعبثية المنظومة تحت ذريعة أنهم مشاغبو العالم الثالث وبذلك يتحول المكان إلى صورة مكثفة للاستعمار الحديث الذي يمارس سيطرته عبر المؤسسات لا الجيوش.

يتجاوز الميهي هنا النقد السياسي إلى تشريح روحي واجتماعي فالطفل المسخ الذي يظهر في مشاهد الفيلم الختامية كإنسان برأس حمار ليس مجرد خيال بل تجسيدًا لحالة الاستحمار الجمعي لإنسانٍ يشاهد فوضاه دون أن يفهمها وفي المشهد الختامي يسير الضحايا في جنازتهم ملفوفين بعلم الوطن في صورة مرعبة تلخص اندماج الجريمة بالسلطة والعدالة بالإنكار بينما يشاهدهم الكائن المسخ.

هنا بلغ الميهي ذروة مشروعه إذ لم يعد العبث مجرد فكرة في فيلم بل صار هو شكل العالم نفسه.

وصار العبث واقعًا

على الرغم من اختلاف اللغة السينمائية بين رأفت الميهي ومحمد شبل، فإن أفلامهما تلتقي عند عدة نقاط الأولى هي تشخيص واقع الانفتاح الذي أحضر العبث إلى وادينا الطيب والثانية أن أعمالهم تنتمي إلى فئة سينما المؤلف والثالثة أن كليهما أدرك أن الواقع لم يعد قابلًا للتفسير، وأن الفساد لم يعد حدثًا استثنائيًّا، بل صار بنية عامة لذلك لجأا إلى الفانتازيا والسخرية لتفكيك منطق العبث. ففي الأفوكاتو تتحول العدالة إلى صفقة والقانون إلى أداة للمكر، وفي سمك لبن تمر هندي يتضاعف هذا العبث حتى يصبح تشويهًا للروح ذاتها أما شبل فقد استخدم العبث كوسيلة جمالية للتمرد لكنهم جميعًا التقوا في إدراك أن العبث لم يعد في السينما بل في الحياة نفسها، وما أدهشني أن مشهد شبل الذي رسمه عام 1981 في أنياب عاد بعد أربعة عقود في تفاصيل حياتنا اليومية. فمع الجائحة تضاعفت أسعار الكحول والكمامات وصارت تُباع «تحت الترابيزة»، وفي حلوان حيث أعيش ارتفعت ولا تزال ترتفع تعريفة المواصلات رغم توافرها، حتى لو كانت الرحلة ناصية واحدة. وأذكر منذ عامين حين خرج بعض الإعلاميين يصحبهم خبراء تغذية يتغنون بفوائد أرجل الدواجن كبديل بعدما تجاوز سعر البانيه مئة وستين جنيهًا، أدركت أن أنياب لم يمت، بل تسلل إلى واقعنا في صورة أكثر عبثًا.

أما الأفوكاتو، فقد تجاوز الشاشة وصار واقعًا نحياه؛ ففي أحد مشاهده يتعامل العساكر مع سليم أبو زيد (رغم أنه مسجون يؤدي عقوبة) كما لو كان لا يزال صاحب القرار، يقدمون إليه التحية ويأتمرون بأمره، ويجلس في زنزانة بها كل سبل الراحة من مشروبات دافئة وأرائك وثيرة وأجهزة حديثة تمامًا كما شاهدنا في محاكمات رجال مبارك بعد 2011 وسمعنا على ألسنة كثيرين عن الرفاهية الموفرة لهم في طرة وبدا أن النفوذ لا يُسجن بل يُؤجَّل أو يُعلّق. واليوم، لا يزال كثير من هؤلاء السليمين يمارسون أعمالهم بحرية، يحيون بيننا كرموز لتحالفٍ قديم بين الدهاء والسلطة والمال، تحالفٍ كان يفترض أن يُعدم لكنه تكاثر، مبدلًا جلده في كل عصر. هكذا تحوّل القانون إلى ديكور، والعدالة إلى مسرحية، وبقيت اللعبة بين سبانخ وسليم أبو زيد مستمرة بلا نهاية.

وما يزال سمك لبن تمر هندي يعيد نفسه على نطاق أوسع في عالم يعاد فيه تشكيل الوعي والسيطرة باسم النظام العالمي الجديد، وهو استعمار ناعم يمارس قهره عبر المؤسسات لا البنادق. وبذلك ثبَّت العبث أقدامه بيننا ولم يعد موضوعًا للفن بل صار هو نفسه واقعًا.