فنون

أحمد عبد الحميد عمر

شجي وراقص.. بليغ حمدي مجربًا

2021.06.01

مصدر الصورة : ويكيبيديا

شجي وراقص.. بليغ حمدي مجربًا

في جلساتنا الخاصة التي لا تخلو من الغناء، أو للدقة يكون عمادها الغناء، وتتخلل "الوصلات" نقاشات موسيقية، تثار دومًا مسألة المقارنة بين ألحان عبد الوهاب وألحان بليغ حمدي. يُطرح هذا الموضوع عادة حين نغني لحنا لأم كلثوم، ويسأل أحدنا عن واضعه، فيكون عبد الوهاب وقد ظنناه بليغًا أو العكس. نتفق بسهولة حول أن ألحان عبد الوهاب لأم كلثوم كانت "بليغية" السمت؛ بمعنى أنها كانت أكثر ميلاً للخفة التي لم يكن عبد الوهاب، موسيقار الأجيال ومعلمها، من كبار أنصارها. وعند هذا المنعطف، يبدأ السجال حول مواطن الاختلافات بين ألحان الرجلين، بعيدًا عن الأغنيات المتأخرة لأم كلثوم. نكاد نتفق على أن عبد الوهاب أشبه بمفكر موسيقي، ومعماري، في حين كان بليغ حمدي حرفيًّا، وزخرفيًّا لا يُبارى. يحفّزك عبد الوهاب على التفكير في الكيفية التي فكر بها هو في اللحن، وتردد حائرًا "جابها إزاي دي؟"، في حين أن الجمل اللحنية لبليغ حمدي تأسرك، وتضعك بيسر بالغ في الحالة، فتطرب، فرحًا أو حزنًا (والطرب للمفارقة من ألفاظ الأضداد في العربية)، كأن مشاعرك قد لفّت عقلك بضباب الانفعال. كان عبد الوهاب أيضًا أكثر تجريبًا وجرأة. يحكي مفيد فوزي أنه كان يردد عن أعماله أنها حصاد "دي" مشيرًا إلى أذنه؛ أي أنه كان يسمع كثيرًا، ويجرب كثيرًا، محاولاً الوصول إلى صيغة شرقية أو مصرية مقبولة لما التقطته أذنه من موسيقى حول العالم. في المقابل كانت ألحان بليغ جميلة، ومهيّجة للمشاعر إن جاز لي القول، لكنها أقل تجريبًا. 

لم تكن مجرد مجاملة من مطرب ذكي أن يطري عبد الحليم حافظ بليغ حمدي، ملحن "مداح القمر"، قبل أن يغني الأول لحن الثاني للمرة الأولى أمام الجمهور عام 1971، بوصفه "أمل مصر في الموسيقى". بل إن عبد الحليم كرر الوصف مرتين، مرة في بداية تقديمه للأغنية ومرة في نهايته؛ بما يعني أنه كان يقصد الأمر قصدًا. صحيح أن عبد الحليم، المطرب الحريص على نجاحه، كان يُقدم أحيانًا على مثل هذا النوع من اللفتات اللطيفة، وهو الحريص أيضًا على تثبيت صورته لدى الجماهير بوصفه رجلاً رقيقًا مجاملاً، على نحو مسرف أحيانًا، لكن من حقنا أن نفترض أن شيئًا ما واقعيًّا كان وراء المقولة؛ شيئًا ما أكبر وأهم من المجاملة واللطف.
أي أمل كان يأمله عبد الحليم في بليغ حمدي؟ وأي أمل كانت تأمله الموسيقى في مصر؟ ربما تجدر بنا العودة إلى جذور بليغ الموسيقية؛ لأن بصيرتنا بما وصل إليه تتحدد بالضرورة بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها. خرج جيل الملحنين، الذي صعد مع عبد الحليم، وبه، من عباءة محمد فوزي. هذا أمر لم ينكره أي من الثلاثة: كمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، ويكاد يكون من المعلوم من الموسيقى المصرية بالضرورة. مدَّ كل منهم خط فوزي على استقامته؛ ذلك المزيج من التطريب، والخفة، والانفتاح على الأشكال الغربية، والأهم ذلك البعد عن استعراض العضلات الصوتية والمقامية. غير أن كلا منهم فعل ذلك بثلاث طرق مختلفة. كان كمال الطويل أشدهم ميلاً إلى البساطة في اللحن، وأقلهم ميلاً إلى التطريب في صيغته الشرقية، في حين كان الموجي "أثقلهم" بالمعنيين الإيجابي والسلبي، وأقلهم تنويعًا بزياراته المتكررة لمقامات الحجاز، والحجاز كار، والهزام المتقاربة (لنتذكر على سيبل المثال "أسمر يا أسمراني" لعبد الحليم حافظ، و"يامّا القمر على الباب"، و"يا تمر حنة" لفايزة أحمد، و"للصبر حدود"، و"اسأل روحك" لأم كلثوم). أما بليغ فكان أصدقهم عاطفة وأشدهم وشجنا.
يكاد يجمع كل الذين عرفوا بليغ حمدي على أنه كان إنسانًا رقيقًا، وأن ألحانه كانت تشبهه: صادقة وشجية. في قصة حياة بليغ اتساقٌ واضح بين المنتج الفني والأحداث الواقعية، ذلك النزوع الواضح إلى الميلودراما؛ إلى وفرة التفاصيل العاطفية. بخلاف صوت كمال الطويل الأجش الواثق من نفسه، وصوت الموجي المكتوم كمن يخفي شيئًا، كان بليغ في حضوره الإذاعي والتليفزيوني ناعمًا أسيانًا، كمن يغني باكيًا أو يبكي مغنيًّا. ويظهر ذلك بوضوح في الفيديوهات المنتشرة التي "يحفظ" فيها ألحانه لوردة، مثل "العيون السود"، حيث الفارق الواضح بين أداء وردة المحايد المعتدل، وإحساس بليغ الفيّاض. 
الأمر المتصل بهذا السياق أن مواليد الثمانينيات أمثالي ربما يغلب عليهم الظن أن الأغاني العاطفية الوطنية لعلي الحجار وإيمان البحر درويش وآخرين كانت ابتكارًا محضًا من هؤلاء، لكنها في الحقيقة كانت امتدادًا طبيعيًّا لإسهام بليغ في هذا المضمار: إضفاء صبغة من الشجن على الأغنية الوطنية، بعيدًا عن الصيغ الحماسية الخطابية التي سادت في الخمسينيات والستينيات، كما في نموذجه الأشهر "يا حبيبتي يا مصر" لشادية. ولم تكن قط مصادفة أن تتحول تلك الأغنية، من بين كل الأغاني الوطنية، إلى ما يشبه الأغنية الرسمية لمنصات ميدان التحرير إبان ثورة يناير المغدورة. ربما كان هذا الفائض الانفعالي لدى بليغ، وامتلاكه لكاريزما عاطفية مميزة، هو ما أغرى الروائي طلال فيصل بالكتابة عنه من بين ملحني ذاك الجيل، فكتب سيرة روائية غَيْرِية بعنوان (بليغ)، مَزَجَ فيها التوثيق بالتخييل.
ليست مصادفة إذن أن يشيع استخدام بليغ حمدي لمقام "البيات"، مقارنة بأي ملحن سواه، وهو مقام شجي راقص في الوقت نفسه، ومصري جدًا، لا بد أن يستهل به قارئ القرآن تجويده، ويختم به كذلك، وهو المقام المعتمد للترانيم الكنسية. لنتذكر لبليغ ألحان "بعيد عنك" لأم كلثوم، و"بلاش تفارق"، و"بودعك"، و"انا عالربابة باغني" لوردة، و"قولوا لعين الشمس" لشادية، و"أنا بعشقك" لميادة الحناوي، و"حاول تفتكرني"، و"مداح القمر" لعبد الحليم حافظ، وهذه مجرد أمثلة. وإذا فارق بليغ مقام البيات فإلى "الكرد"، وهو نظير البيات باختلاف واحد، هو تحويل النوتة الثانية في المقام من نغمة ربع تون شرقية (نصف بي مول) إلى نغمة (بي مول)، وهي لعبة كان يجيدها بليغ: أن يُدخل المستمع في حالة من الشجن مع مقام البيات، مخفّفا إياها مع الكرد، ليجعل العودة إلى البيات محمّلة بشجن مضاعف. حتى حينما كان القالب غربيًا بوضوح كما في "تخونوه" التي لحنها من مقام "النهاوند"، والتي سيطر عيها "الجاز"، طريقةً في العزف أو طريقةً في التفكير الموسيقي، لم يستطع بليغ أن يترك نفسه للقالب، ولحَّن مستهل الكوبليه الثالث "قلبي اللي مهما يشوف منكم عايش بيكم/ ويبعدوه الناس عنكم برضه شاريكم" من مقام البيات، وإن عاد سريعا جدا إلى النهاوند.
راهنت نفسي قبل كتابة هذا المقال أنني لن أعثر في أي من حلقات (غواص في بحر النغم) للراحل العظيم عمار الشريعي على تحليل لأي من أغنيات بليغ حمدي. استمعت للكثير من تلك الحلقات، في نسختيها الإذاعية والتليفزيونية، وأذكر - أحيانًا بالجملة وبإيقاع الكلام - الشرح والتحليل الذي كان يقدمه الشريعي لأغنيات من تلحين محمد عبد الوهاب، والسنباطي، وكمال الطويل، والرحابنة، وآخرين. لكن ذاكرتي لم تسعفني بشيء شبيه يخص بليغ حمدي. الافتراض الأولي هو أن الشريعي، جالسًا على مقعد الناقد والمؤرخ الموسيقي، لم يجد في ألحان بليغ الكثير مما يستحق الوقوف من منظور دوره في التطور الموسيقي! بعد بحث سريع على الإنترنت، وجدت تحليله لأغنية لم تصمد طويلاً أمام الزمن لنجاة، من كلمات مأمون الشناوي، بعنوان "راجع بتسأل". الدالّ في الأمر أن عمار الشريعي فصَّل القول طويلاً حول براعة الشناوي في الصياغة، وحول مهارة العازفين. وعند الحديث عن اللحن، اكتفى بطرح تقسيم نظري لألحان بليغ إلى مرحلتين (وأنا أقتبس كلامه بنصه مع تعديلات بسيط في الصياغة والترتيب): "ما قبل التعليم! القسم الفطري، قسم الموهبة، حين كان يعتمد على ما بداخله من موهبة، ويا لها من موهبة! امتازت هذه المرحلة بقصر المقدمات "مكانش "بيرغي" في المقدمة"، جملته كانت بسيطة شاعرية، يسهل ترديدها، تخلو من "الفذلكة"، ومن استعراض العضلات، ومحاولات إبراز القوة. في المرحلة الثانية، وتبدأ منذ منتصف الستينيات تقريبًا، مزج الموهبة بالعلم، وصار مسؤولاً أكثر عن الشكل النهائي الذي ينفّذ به عمله، لكنه خسر جزءًا من فطريته الجميلة". 
وأظن- وليسامحني الله على سوء الظن- أن عمار الشريعي لو أطلق لسانه دون تحفظ، لقال عن المرحلة الثانية، مستخدما لغة "الآلاتية"، إن بليغ كان "بينحت" فيها، في تعبير عن غزارة الإنتاج دون كثير عمق أو حرص على الإدهاش. أحد مشاهدي الحلقة على اليوتيوب التقط بذكاء التحفظ في لغة عمار الشريعي، فعلق كاتبًا: "رأيه ببليغ كتير مش لطيف". 
هذا المقال ليس محاولة لنفي أي من المقولات السابقة، على ما فيها من تبسيط مخل بالطبع، لكنه محاولة لتعديل الصورة قليلاً، بالحديث عن بليغ في نسخته التجريبية؛ تلك النسخة التي لو قدر لها الاكتمال، بأن أمهله القدر أكثر، أو كان تركيز بليغ حمدي نفسه في الأمر أكثر، أو بالأمرين معًا.. أقول لو حدث ذلك لربما كان بليغ تجسيدًا فعليًّا لما ارتجاه فيه عبد الحليم من أمل. كان الأمر بالنسبة لي أشبه بتجميع قطع بازل متفرقة، لا تؤدي بالضرورة إلى تكوين صورة متسقة ذات ملامح محددة، لكنها كافية في نظري لإثبات المطلوب.
كان لحن "موعود" من أوائل الألحان التي حاولت تعلم عزفها على آلة الأورج. الأغنية من مقام النهاوند، مع كثير من التحويلات المقامية بما يتناسب بالطبع مع تعدد الكوبليهات وطولها. واحدة من المفاجآت الحقيقية بالنسبة إليَّ كان الكوبليه الثاني: "وابتدا المشوار/ وآه يا خوفي/ من آخر المشوار يا خوفي"، وتكمن المفاجأة في أنه ملحن من مقام "الراست"، وهو "أثقل" المقامات الشرقية، إن صحت المقارنة بين المقامات على أساس معيار كهذا، لأنه يضم نغمتي ربع تون (نصف بي مول)، هما الثالثة والسابعة. "الراست" هو المقام الذي لحن منه سيد مكاوي مطلع "يا مسهرني" مثلاً، ولحن منه بليغ نفسه مطلع "الحب كله"، على ما فيهما من طربية واضحة. لكن "الراست" في التيمة اللحنية السابقة على الكوبليه بدا مختلفًا: أسرع وأخف كثيرًا، إلى الدرجة التي لا يبدو فيها للسامع للوهلة أنه فعلاً مقام "الراست". ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي يفعل فيها بليغ ذلك. في أغنية ميادة الحناوي "مش عوايدك"، يلحّن بليغ الكوبليه الرابع والأخير "ياه عاللي كان بينك وبيني والزمن أخده ورماه/ عاللي ضاع منا يا عيني ونسيناه في بحر الحياة" من مقام الراست أيضًا، مسبوقا بتيمة لحنية تتسم بسرعة وخفة مشابهتين. 
"تغريب المقام"- من الغرابة لا الغَرب- أمر متكرر لدى بليغ حمدي، وهو نتيجة ممكنة دوما لفكرة أن المقام ليس قالبا تجريديا من تتابع النغمات، بل هو تجسيدات ذهنية عدة، قد تكون كثيرة للغاية، لكنها في النهاية تحمل سمات مشتركة، يصعب على الملحن متوسط الموهبة أو التقليدي أن يتجاوزها، وهذا ما يجعل الألحان في المقام الواحد تتشابه عادة. سأضيف مثالاً لطريقة بليغ حمدي في التعامل مع مقام "الصبا"، ولمن لا يعرف الصبا فهو أكثر المقامات العربية تعبيرًا عن الحزن والأسى. لنتذكر على سبيل المثال "هو صحيح الهوى غلاب" لأم كلثوم، و"سماح" لمحمد قنديل، والكوبليه الأول من الأطلال "يا حبيبا زرت يومه أيكه/...". لكن بليغ يستخدم "الصبا" في التيمة اللحنية السابقة على الكوبليه الثالث من "أنساك" لأم كلثوم "كان لك معايا/ أجمل حكاية/ في العمر كله"، ولا يبدو للمستمع في البداية أنه سيسلمنا إلى مقام الصبا لكثرة الجوازات اللحنية (الخروج على المقام) أولاً، ولاستخدامه ثانيًا لتكنيك شبيه جدًا بالأربيج الصاعد في الموسيقى الغربية (النغمة الأولى فالثالثة فالخامسة فالثامنة، التي هي الأولى نفسها من الدرجة الأعلى)، وروح القصبجي الخفيفة المتقافزة تحوم بوضوح في أجواء هذا اللحن. هذا التغريب المقامي مارسه أيضًا عبد الوهاب، لكن متأخرا عن بليغ (ومن المعروف عن عبد الوهاب أنه لم يكن من المغرمين بمقام الصبا) في أغنية وطنية قدمها بعد نكسة 1967 هي "حي على الفلاح"، من كلمات الأخوين رحباني. وربما ليست مصادفة أنهما- عاصي ومنصور- قد قدما لاحقًا أغنية وطنية بمسحة فلكلورية، هي "خبطة قدمكن عالأرض هدارة" من مقام الصبا أيضًا، تلك التي اشتهرت بوصفها كلمة السر لبدء عمليات حرب أكتوبر/تشرين على الجبهة السورية.
يحلو لكثيرين عند الحديث عن دور بليغ في التجديد الموسيقى الإشارة إلى دوره في استلهام وإعادة تقديم الفلكلور، وصولاً إلى رأي أراه متطرفًا، يدّعي أن بليغ لم يفعل سوى أن قدم الخمر القديم في كؤوس جديدة. ويكفي النظر للطريقة التي نفذ بها لحن "وانا كل ما اقول التوبة" للتأكد من تطرف الرأي. أنا لا أتحدث هنا فحسب عن قبول بليغ بالتوزيع الصاخب لعلي إسماعيل مستعملاً الآلات النحاسية والدرامز؛ التوزيع الذي أغضب مؤلف الأغنية نفسه، عبد الرحمن الأبنودي، لأنه أفسد كل صلة لها بالتراث فيما رأى. بل أتحدث أيضًا عن التيمات اللحنية نفسها، وعلى رأسها تيمة راقصة جدًا، حيث استخدام للأكورديون شبيه باستخداماته الشائعة في ألحان أوروبا الشرقية.
مثال آخر: فاجأتني الطريقة التي نفذ بها بليغ لحن "خدني معاك" لشادية، وهو مستلهم من تيمة فلكلورية معروفة كذلك، لكن القالب الغنائي أقرب إلى الموشّح! بداية بالحضور الواضح لآلات الإيقاع العربية، واستخدام أحد تنويعات إيقاع "سماعي دارج"، الثابت من أول الأغنية إلى آخرها، وليس انتهاءً بالمراوحة بين كورال نسائي يكرر المطلع وحده بأداء تقليدي محافظ "خدني معاك ياللي انت مسافر"، وآخر رجالي يكرر جملة واحدة، تبدأ من جواب المقام هبوطا إلى قراره، ثم تصعد في مرة أخرى لتستقر عند النغمة الثالثة.
وعلى ذكر الكورال، رأى بليغ في الكورال بطلاً يستحق أن يغني جمله الخاصة بعيدًا عن جمل المطرب نفسه. فعل ذلك على استحياء مع عبد الحليم حافظ، وتوسَّع فيه مع شادية، خاصة في أغنية "خلاص مسافر". الفارق الجوهري أن المقاطع التي غناها الكورال في "مداح القمر" و"حاول تفتكرني" مثلاً كان من الممكن نظريًّا أن يغنيها عبد الحليم بمفرده دون حاجة إلى الكورال، ودون أن تختل درامية الأغنية، لكن في حالة شادية، كان الكورال ينطق بصوت الحبيب الذي يعتزم السفر، في حين تقمصت شادية دور الحبيبة المودِّعة. لكن المشهد الأكثر تجريبا للكورال في ألحان بليغ حمدي كان في أغنية "بودعك" لوردة، حيث تبدأ التيمة اللحنية للكوبليه الأخير بالكورال وهو يؤدي الإيقاع بالصوت البشري: تؤدي المجموعة الرجالية صوت "الدُم"، وتؤدي المجموعة النسائية صوت "التَكْ"، ثم يتكرر الإيقاع وسط غابة من صاجات الرقّ مصاحبة للحن راقص، ويتواصل الصوت البشري الرجالي حتى نهاية التيمة اللحنية، بالوقوف على قرار المقام أكثر من مرة. ومن باب الدقة، ونسبة الفضل لأهله، نذكر القارئ فقط أن محمد فوزي كان أول من جرب تلك اللعبة- وهذا تجلٍّ لمد خط فوزي على استقامته عند بليغ- حين استخدم الكورال ليكون بديلاً للآلات الموسيقية في أغنية "طمني". لكن بليغ يفاجئنا باستخدام الكورال كآلة إيقاع! هو المشهد الأكثر تجريبا، لكنه يظل- مثل كثير من ابتكارات بليغ الموسيقية- مستقلاً عن بنية كلية؛ فهذا الصخب الذي نسمعه عبر مزيج من الأصوات البشرية وغير البشرية ممتعٌ كلعبة أسلوبية، لكنها تظل "لعبة" منفصلة عن جو الأغنية ككل؛ تفصيلة مبهجة ناتئة في أغنية تفيض بمشاعر تعكس قصة انفصال محزنة، مثل قصة انفصال وردة وبليغ. وربما يذكرني هذا بمقولة نسبت لعبد الوهاب، ولم أفلح في العثور على توثيق لها، وهي أن جمل بليغ اللحنية مثل "مجوهرات في علبة صفيح".
ربما كانت السطور السابقة مفيدة للقراء الذين يحبون أن يفهموا المزيد عن أعمال بليغ، أو ينظروا إليها نظرة كلية. لكن لعلها تكون كذلك تذكيرًا للمبدعين على اختلاف المجالات التي يبدعون فيها بضرورة إحداث التوازن بين الوفرة والجودة، وبأن التجريب ليس ممكنا فحسب بوصفه استجابةً لخاطرة تمر سريعا ببال المبدع، بل تكمن قيمته بالأساس في الطريقة التي يوظَّف بها داخل أبنية متماسكة؛ فجوهر التطور الفني ابتكار قوالب وأشكال جديدة، تصبح بعد حين، من منظور تاريخ الفن الممتد، القوالب والأشكال التقليدية المعتمدة، التي يسعى فنانون جدد بدورهم إلى التجريب وتجاوزها لاحقًا