أعداد خاصة

شريف إمام

صورة سعد زغلول في الدراسات الأمريكية الباكرة.. جورج دونهام بيرس نموذجًا

2019.05.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

صورة سعد زغلول في الدراسات الأمريكية الباكرة.. جورج دونهام بيرس نموذجًا

كانت الحرب العالمية الثانية فرصة مناسبة كي تدنُو الولايات المتحدة من المنطقة العربية عمومًا ومصر خصوصًا؛ فلقد باتت القاهرة مركزًا للاستخبارات والدعاية لدول الحلفاء، واحتضنت المركز الرئيسي للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط عام 1942 . ولقد لمست واشنطن عن قرب مدى ضعف النفوذ البريطاني وسقوط هيبته؛ لذلك أوصت دوائرها السياسية بضرورة عدم ترك إدارة المنطقة لبريطانيا بمفردها والاستمرار في تحمل “مسؤولية” إدارة تلك المنطقة الحيوية لحاضر أمريكا ومستقبلها. في المقابل، عملت السياسة الأمريكية الجديدة –في البداية- على الملائمة بين مصالحها ومصالح حليفتها بريطانيا قبل أن تركن في نهاية المطاف إلى وراثة دورها.

وكان طبيعيًّا أن تدفع الرغبة الأمريكية في ممارسة دور البطولة في صناعة سياسات منطقة الشرق الأوسط إلى دراسةتاريخ وثقافة تلك المنطقة، ولقد تكَّفل مكتب الخدمات الاستراتيجية (المخابرات المركزية فيما بعد) بتقديم تلك المعلومات؛ ثم ما لبثت أن أنشأت لجنة خاصة بالشرق الأوسط تعمل على تطوير البحوث الاجتماعية الخاصة به، وبرزت مؤسسات كبرى مثل “روكفلر” و”كارنيجي” و”فولبرايت” وشاركت في تمويل تلك البحوث.وبالتوازي مع ذلك، عمدت الجامعات الأمريكية إلى وضع برامج لدراسات تلك المنطقة، كان في طليعتها جامعة برنستون التي أنشأت قسمًا لدارسات الشرق الأدنى عام 1947، وكانت قبلها بثلاث سنوات قد عينت المؤرخ اللبناني فليب حتى رئيسًا لقسم اللغات والآداب الشرقية. وسريعًا آتت الاستراتيجية الأمريكية أُكلها؛ فما كاد العقد الأول لتلك الاستراتيجية يبرحُ ضحاه؛ حتى ظهرت الكثير من الدراسات الأمريكية لثقافات وتاريخ منطقة الشرق الأوسط، استحوذت مصر على قدر معقول من تلك الدراسات، وشكل تاريخها مصدر جذب للأقلام الأمريكية المتعطشة لسبر أغواره. 

فلقد شهد العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية طليعة الدراسات الأمريكية· عن ثورة 1919 وزعيمها سعد زغلول، إذ قدمت ماري مليرMary Miller أطروحتها “خلفية المعاهدة المصرية البريطانية عام 1936 ودلالتها” ، وحصلت بمقتضاها على درجة الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا في أكتوبر 1945. وناقش جورج دونهام بيرسGeorge DonhamBearce أطروحته للماجستير عن “سعد زغلول والقومية المصرية عام 1949” في جامعة ويسكونسن، وخلص إسحق هالويلIsaac Hallowellمن عمله «الوفد والتجربة المصرية الكبرى عام 1954 في جامعة برنستون. 

ويعد عمل بيرس الأبرز بين تلك الأعمال والأكثر نضجًا. ولذلك سنقوم بعرض تلك الرؤية المبكرة عن سعد زغلول والتي سبقت أول دراسة علمية مصرية تناولت شخصية زغلول بأكثر من عقدين تقريبًا. وتكمن إشكالية هذه الورقة في البحث عن الصورة الأولية التي تشكلت في العقلية الأمريكية- والتي تمثلها دراسة بيرس – عن زعامة سعد زغلول وفجر الحركة القومية المصرية، ما مادة تلك الأطروحة المبكرة وما هو المعين النظري الذي استقت منه رؤيتها؟ ما المسار الذي رسمته الدراسة لزعامة سعد؟ وكيف نظرت لوسم سعد «بالتطرف» من قبل الكُتَّاب البريطانيين في فترة قيادته للحركة الوطنية؟ ما مكتسبات ثورة 1919 وأين كانت مواضع إخفاقها؟

في استهلاله لدراسته لا يُخفي الباحث الطابع الوظيفي لدراسته؛ فيذكر «قبل شروعي في تلك الدراسة، كنت متخوفًا من التجاهل الذي قد تقابل به دراسة عن «زغلول باشا»؛ فالدولة المصرية ليست من القوى الرئيسة الفاعلة في التاريخ المعاصر.ومع ذلك، كنت متيقنًا من أنني سأشارك في مهمة جديرة بالاهتمام إذا تمكنت من إلقاء بعض الضوء على وضع مصر في الإمبراطورية البريطانية وعلى ظهورها كأمة مستقلة. فمن المؤكد أن هذا سيساعد على فهم الوضع السياسي لمصر اليوم، والنضال المستمر بين الحكم الملكي المطلق والديمقراطية، وطبيعة النفوذ البريطانيفي منطقة قناة السويس، والحرب الأخيرة القصيرة وغير الناجحة بين مصر وإسرائيل» ومن ثم فإن هدف فهم مصر الآن كان شاخصًا أمام الباحث، وهو هدف سياسي بامتياز يتماهى مع الاستراتيجية التي سبق الإشارة إليها. ويعود الباحث ليؤكد أن هناك أهداف علمية دفعته لدراسة سعد زغلول؛ فيذكر أنه بالرغم من كثرة ما كتب حول القومية المصرية -وخصوصًا خلال السنوات بين 1919 و1927  فإن أيًّا من تلك الدراسات لم تفرد لشخصية سعد زغلول دراسة مستقلة، كما إن معظم هذه الكتب – بحسب زعمه-تفتقر إلى العمق، فضلًا عن أن كثير منها كُتب من قبل البريطانيين، وتعكس التحيزات البريطانية. وعليه كانت مهمتي القيام بتحليل شخصية سعد زغلول وتأثيره على الحركة القومية ·

تراوحت المادة التي اعتمد عليها جورج بيرس في كتابة دراسته بين أوراق وزارة الخارجية البريطانية ومضابط مجلسي العموم واللوردات البريطانيين وتقارير دار (المعتمد) المندوب السامي البريطاني مع بعض كتابات الساسة البريطانيين أمثال كرومر وملينر وفالنتين شيرول واللورد لويد واللورد إدوارد سيسيل وغيرهم، فضلًا عن بعض المقالات المهمة في مجلتيThe Fortentight Review و Contemporary Review تحديدًا والتي كتب لهما مجموعة من الساسة والصحفيين أمثال بولسون نيومان Polson Newman والسير مالكولم ماكيلواريثMalcolm Mcilwraith. ويتضح من مطالعة دراسة بيرس عدم معرفته باللغة العربية وهو الأمر الذي سيميز دراسة الباحث الأمريكيلويس جوزيف كانتوريLouis Joseph Cantori والتي حملت عنوان “الأسس التنظيمية لحزب النخبة السياسية: الوفد المصري» والتي تغطي الفترة من 1918 إلى 1924 وقدمها عام 1966 معبرًا عن مرحلة نضج الكتابات الأمريكية المتعلقة بالثورة المصرية. كما أن بيرس يذكر في مقدمة دراسته أن المعلوماتعن حياة سعد زغلول المبكرة قليلة، ويبدو أن الشك والغموض يكتنف تواريخ معظم حياته المهنية المبكرة، وهو الأمر الذي ستتفاداه الدراسات الأمريكية عندما يضع راسل ييتس سميثRussell Yates Smith عام 1972 أطروحته التي تحمل عنوان”صناعة القومية المصرية: الوضع السياسي لسعد زغلول قبل 1919”، والتي حصل صاحبها بمقتضاها على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة أوهايو. 

ويقع بيرس في خطأ عندما يطلق حكمًا بأن سعد زغلول لم يترك أي مذكرات ، وهو الأمر الذي ستضع المؤرخة الأمريكية جانيس جوليس تيري Janice Joles Terry حدًّا له عندما تضع دراستها الشاملة تحت عنوان «الوفد1919-1952: حجر الزاوية في السلطة السياسية المصرية»The Wafd, 1919-1952: Cornerstone of Egyptian political powerوالمنشورة عام 1982 ، إذ استخدمت مذكرات سعد زغلول بقوة في دراستها، وأبانت عن بعض الأوراق الخاصة التي حصلت عليها من مقربين من أسرة زغلول، وهي الأوراق التي لم يتثن لأيِّ باحث مصري مطالعتها.

تكاد تخلو دراسة بيرس من التنظير واستخدام الأطر المنهجية، فبيرس يعمد إلى الوصف والتحليل بعيدًا عن وضع الأحداث في سياق تفسيرات كلية، وهو أمر يتناسب مع حداثة دراسته، وإن كانت الدراسات الأمريكية المتعلقة بثورة 1919 ودور سعد زغلول ستشهد بعدًا تنظيريا مع دراسة كانتوري عندما يطرح إشكالية كبرى، وهي لماذا فشلت الليبرالية السياسية في مصر التي أنتجتها ثورة 1919 في اختراق الهيكل الاجتماعي للمجتمع المصري واقتصر حضورها على شريحة واحدة. في المقابل فإن التساؤل الذي يحكم دراسة جورج بيرس يبدو بسيطًا ويقتصر في تتبع السياق السياسي والطبقي الذي خرجت منه زعامة سعد زغلول، وانعكاس ذلك على ممارساته كزعيم، من خلال تقديم سردية تاريخية عن دور سعد زغلول السياسي حتى وفاته 1927 وتقييم كل مرحلة. ويبدو تأثر الباحث بأفكار المؤرخ اليهودي الأمريكي هانز كوهنHans Kohn باديًا، وكان كوهن في تلك المرحلة قد أنهى عملين على قدر كبير من الأهمية في فهم القومية المصرية الوليدة، وهما دراسته عن القومية والإمبريالية في الشرق الأدنى عام 1932 والتي خص مصر بجزء كبير فيها، وورقة بحثية عنجمال الدين الأفغاني في العام نفسه. فكوهن مهتم بتلك القومية القادرة على أن تتعايش مع الكولونيالية في مركب واحد وتعمل على تحديث النظام السياسي تجاه الليبرالية السياسية باعتباره السبيل للاستقلال بدلًا من الثورات والعنف. وهو النموذج الذي يمثله سعد زغلول عند جورج بيرس.

وفي تقصيه لطبيعة الطبقة التي خرج منها زغلول يذهب بيرس إلى أنه ينحدر من الطبقة الوسطى من المتعلمين متوسطي الملكية، ويرفض استخدام لفظة «البرجوازية» لوصف تلك الطبقة، ويرجع ذلك إلى كون بيرس يرى تلك الطبقة من المزارعين لا من التجار، ومن ثم فإن طبيعة وحدة الإنتاج تُعد شرطًا لدى البعض في إسقاط لفظة البرجوازية على الطبقة الوسطى، وفي ذلك يقول «لم تكن هذه الطبقة الوسطى من التجار، لأنه خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت التجارة في مصر تتم حصريًّا بمعرفة الأجانب».ويرفض الباحث القبول بإن اللحظة التاريخية هي التي خلقت الزعامة السياسية لدى سعد زغلول، مؤكدًا على أن الرجل تشكل حسه الوطني على وقع أحداث الثورة العرابية وتحمس لدستورها، وتعرض للسجن نظير مشاركته فيها. وتجدر هنا الإشارة إلى أن سجن زغلول تم بعد الثورة وعلى خلفية تأسيس «جمعية الانتقام» عام 1883 بيد أنه من الإنصاف القول إن سعدًا فقد وظيفته على خلفية مشاركته في الثورة. 

وينتقل الباحث إلى رسم المراحل التي خلقت زعامة سعد زغلول قبل ثورة 1919؛ فالنسبة للباحث فإن مسار الزعامة أخذ شكل مطردًا بصرف النظر عن كون سعد زغلول انتقل من معسكر الحركة الوطنية الثورية إلى معسكر «الاعتدال». فسعد اكتسب خلال تلك الفترة الكثير من الصفات والخبرات التي مكنته فيما بعد من قيادة الحركة الوطنية. فلقد أسلمته خيبة الأمل بعد الثورة العرابية إلى البحث عن مجال للترقي الوظيفي فتردد على الصالونات الثقافية، وبات أحد رجال النخبة بعد مصاهرة رئيس الوزراء مصطفى فهمي، بل إن كرومر تلقى نصيحة من بلنت ومحمد عبده بإدخال سعد زغلول في الوزارة، وهو الأمر الذي استجاب له كرومر بعد حادثة نشواي، بهدف امتصاص تداعياتها عبر ترويج فكرة مشاركة أوسع للمصريين في الوزارة. ويعلق الباحث على هذا المسلك «وهكذا جلب كرومر بذكاء إلى الحكومة المصرية رجلًا كان مهتمًا بشكل أساسي بالإصلاح السلمي، مع القبول بتغريب مصر، وبالتطور التدريجي للمؤسسات الديمقراطية، بدلًا من الدعوة للإخلاء الفوري البريطانيين» ويمضى الباحث ويقول كان زغلول يمثل«الجيرونديين» على حد تعبير كرومر في مواجهة المتطرفين من أنصار مصطفى كامل، ولقد عبَّر زغلول عن جوهر هذه القومية المعتدلة في بيان أدلى به لصحفي أوروبي في عام 1907: قال فيه «يجب أن نستوعب الأساليب الغربية؛ يجب علينا أن نغيَّر عقليتنا، لأن أساليبنا وقواعدنا أدنى منهم”. ولا يمنع ذلك بيرس من أن يمتدح قدرة سعد على الاستقلال بقراره في كثير من الأحيان عن المستشار البريطاني «دنلوب».

بالنسبة للباحث فإن عمل سعد زغلول كوزير قلل كثيرًا من دوره في الحركة الوطنية باعتباره جزءًا من النظام كما أن موقفه من مشروع مد امتياز قناة السويس قد أساء إليه؛ فالنسبة لبيرس وبتقييم معتدل«فإنه خلال فترة عمل زغلول كوزير للمعارف عانى بشكل متزايد من الهجمات على عمله، فلقد بدأ خطة واسعة للإصلاح، وكانت جميع عناصر مصر تتوقع أشياء عظيمة منه، لكنه لم يحقق أهدافه. وعندما غادر الوزارة كان التعليم في مصر في حالة أفضل من ذي قبل، لكن لم تحدث معجزات». وأخيرًا يذكر الباحث أن سعد زغلول أظهر - من خلال بقائه في الحكومة بعد تغييرها عام  1910- أنه لا يزال يأمل في إيجاد حكومة مسؤولة في مصر من خلال التعاون مع البريطانيين. ولكن مع مجيء كتشنر يمكن أن نلحظ خيبة أمل عنيفة لدى زغلول؛ فقد بدا من الصعب عليه تقديم رؤيته الإصلاحية خصوصًا في ظل توافق كتشنر مع الخديو مما دفع زغلول للاستقالة ويعلق بيرس «إن فترة تعاونه مع البريطانيين في وزارتي المعارف والحقانية أسفرت عن نتائج مخيبة للآمال»، لكنه يستدرك ذلك بقوله إن استقالته عام 1912 أبقت له رصيدًا شعبيًّا.

جاءت المرحلة الأكثر حسمًا في صناعة زعامة سعد  - في رأى الباحث -في أثناء عمله كوكيل للجمعية التشريعية التي يصفها بأنها لم تكن في طبيعة عملها تختلف عن غيرها من المؤسسات التمثيلية الشكلية التي عرفتها مصر، بل إن قانون الانتخابات بات مقصور على شريحة بعينها من الملاك والمتعلمين. وفي ديسمبر 1913 وصل سعد لمقعد النيابة عبر التنسيق مع خصومه من الحزب الوطني بعد أن أخلوا  له مقعدين ، وبعد اختياره وكيلًا يبرز سعد كقائد معارض في مواجهة الحكومة، لقد نجحت حملته في إسقاط وزارة محمد سعيد باشا دون أن تجبر الخديو على أخذ رأي الجمعية في اختيار خليفتها. ومع اندلاع الحرب بات لزغلول –حسب الدراسة- مكانة بارزة في السياسة المصرية؛ أولًا كأعلى مسؤول انتخابي في مصر، والثاني كزميل سابق لحسين رشدي رئيس الحكومة، استغل ذلك في الدعوة لمشاركة مصر في الحرب رفقة بريطانيا لعلها تحصل نظير لذلك على استقلالها. وما إن شارفت الحرب على الانتهاء، حتى بات صعبًا على رجل سبق له تبوأ  الوزارة ووكالة الجمعية التشريعية أن يبقى بعيدًا عن الأضواء طويلًا خصوصًا وقد صدر قرار بتعطيل عمل الجمعية التشريعية إلى أجل غير مسمى وفشل في أن يحصل على منصب وزير في التعديل الذي شهدته وزارة رشدي أواخر عام 1917، وعليه فإنه سعى لتعبئة أنصاره وتنظيم خططه، عبر التودد إلى طبقة المثقفين والتواصل معهم في أثناء الحرب. والحقيقة فإن جزءًا كبيرًا من الحلقات السياسية التي عقدها سعد كانت في أواخر عام 1918 وكانت نخبوية مقتصرة على جماعة بعينها وهم أصدقاء سعد في الجمعية التشريعية ولم تكن لها الطابع الجماهير.

هنا يتساءل الباحث عن سلامة وسم سعد “بالتطرف”من قبل السلطات البريطانية في الفترة التي تلت الحرب الأولى؛ فيشير إلى أن سعد يمكن قبوله متطرفًا في معرض مقارنته بجماعة عدلي يكن وعبد الخالق ثروت، لكن إطلاق اللفظة على عمومها بالقول إن زغلول كان قوميًّا متطرفًا غير صحيح بل إنه لم يكن كذلك أبدًا فلم يدعُ سعد أو أيٌّ ممن كانوا مؤيدين له للعنف. فالوفد لم يسع قط إلى محاربة البريطانيين، بل كان يأمل في التوفيق بين المصالح الأنجلو مصرية مع القبول بمساعدة بريطانيا في الحصول على الاستقلال المصري.وتنسحب تلك الرؤية إلى الثورة نفسها، فما حدث عام 1919 –حسب بيرس- لم يكن ثورة فلم يفكر أحد منالزعماء الوطنيين في تحدي وطرد البريطانيين في حرب استقلال طويلة،فالأمر لا يتعدى كونها حركة احتجاج جماهيرية كوسيلة سلمية لتحقيق أهداف سياسية سلمية.ويمض الباحث ويقول «الحقيقة الغريبة عن أعمال الشغب في مارس أنهم غير المخطط له، وغير متوقعة، لقد صدم الوفد وسعد زغلول ما وقع، وكذلك جميع الطبقات المتعلمة في مصر تقريبًا، ليس فقط من عنف أعمال الشغب التي حطمت المتاجر، وأوقفت الترام وقتلت البريطانيين، ولكن أيضا في حقيقة أن أعمال الشغب قد وقعت أصل. لم يكن الوفد أو كل الزعماء السياسيين يقصدوا إثارة الجماهير ودفعهم للتظاهر. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات قد خرجت عن إطار السلمية – والكلام للباحث-وجنحت إلى العنف في بعض الأحوال إلا أن ذلك لا يعنى قبول أنها ثورة بالمعنى الصحيح، فبعيدًا عن المدن، لم تظهر ثورة الاحتجاج في الريف بين الفلاحين بشكل كبير، ولم يبد صغار المزارعين سوى القليل من المشاركة في الحراك الثوري. وعلاوة على ذلك، فإن الفلاحين الذين شاركوا في أعمال «الشغب» في مارس لم يهتموا بالمساجلات السياسية والفاعليات التي تلت تلك الأحداث.

ولعل هذا التقييم مؤسس على أن ردة فعل المصريين تجاه إعلان الحماية – كما يذكر الباحث- اتسمت «باللامبالاة» وأن رجال الإدارة البريطانية في مصر كانوا قلقين أكثر من اللازم من خطورة عدم تقنيين مفهوم الحماية على الاستقرار الداخلي، في المقابل فإن الخارجية البريطانية قللت من خطورة ذلك. ومن ثم لم يكن ينتظر من شعب صمت عند فرض الحماية عليه أن يثور بتلك الطريقة..

ويعود الباحث إلى رسم المسار الذي قاد إلى صناعة الزعامة الثورية لسعد؛ فلقد تشكلت من مجموعة من الممارسات المتلاحقة بسرعة كبيرة، فمن أخذه زمام المبادرة ومقابلته للورد ونجت ثم حركة التوكيلات،إلى خطبه في السرادق المناهضة للحماية، ثم خطابه للسلطان فؤاد في الثالث من مارس بعد تقديم وزارة رشدي استقالتها مطالبًا إياه بأن تكون أي وزارة يتم تشكليها تعبر عن إرادة الشعب. وأخيرًا لقاؤه بالجنرال واطسون القائد البريطاني في القاهرة في السادس من مارس؛ والذيهدد سعد بالسجن إذا استمر في مسلكه،ومن ثم جاء اعتقاله ليجعل منه بطل.ويفرد بيرس مساحة مقبولة لموقف الولايات المتحدة من الثورة، فيعظم من صدى إعلان رئيس الولايات المتحدة ويلسون لمبادئه على سعد زغلول وجماعة السياسيين المقربين منه، لكنه لا يلبث أن ينتقده عندما يوضح أن ويلسون أبلغ سعد عبر أحد وزرائه عدم قدرته أن يقابله، وهو الموقف الذي استخدمه بعض زعماء مجلس الشيوخ الأمريكي لمهاجمة إدارة ويلسون، لكن ذلك لم يكن ليغير من الأمر شيء؛ فحكومة الولايات المتحدة اتخذت قرارها بالاعتراف بالحماية البريطانية على مصر حتى قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى وأعلن الرئيس الأمريكي لمبادئه. وحاول عبثًا وزير الخارجية «لانسينج» إرضاء الوفد المصري الذي سافر إلى أمريكا بأن أعلن في بيان تعاطفه التام مع التطلعات المشروعة للشعب المصري للحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي، لكنهم ينظرون بعين الأسف إلى أي جهد للحصول على تحقيق ذلك من خلال اللجوء إلى العنف. ولعله يمكن القول إن الموقف الأمريكي المتناقض قد جعل الوفد يظن أن بيان لانسينج برقية تأييد أمريكي لاستقلال مصر وشاع ذلك في الصحافة المصرية

يبدأ الباحث في استقصاء مرحلة جديدة من عمر زعامة سعد زغلول، وهو دوره كرئيس للوفد، فحسب رأى بيرس ما إن شعر سعد بأن الوفد بدأ يعاني من التصدع والخلافات الشخصية وآثر بعض أعضائه العودة للقاهرة ومباشرة أعمالهم الحاصلة على خلفية الإخفاقات التي منَّي بها الوفد في أوروبا، وما كاد يخبو لهيب الحركة الاحتجاجية حتى ألهبه سعد زغلول بدعوته لمقاطعة لجنة ملنر، لقد كسب مزيدًا من الشعبية من جراء موقفه هذا لقد صار بطلًا في الصحافة المحلية ونظر المصريون إليه كقائد،إذ أرسلوا آلاف البرقيات في باريس لشكره على عمله.لقد حصل سعد زغلول على نصر كبير فكل الزعماء السياسيين أمثال عدلي يكن وحسين رشدي وعبد الخالق ثروت يطلبون من لجنة ملنر مفاوضة سعد أولًا، والجمعية التشريعية تنعقد في بيته بالقاهرة في الذكرى الأولى لاعتقاله في التاسع من مارس لتعلن تأييدها لخطواته ورفضها الحماية البريطانية.

وينتقل لتقفي أثر سعد زغلول كمفاوض، ويذكر أنه منذ الجلسة الأولى لمفاوضات سعد - ملنر بدا أن ما قطعه سعد للمصريين من تحقيق الاستقلال يعوق حركته كمفاوض.فقد كان يخشى أن يرفض الشعب مخرجات نقاشه مع ملنر خصوصًا وأنه لمس عن قرب عدم جدية بريطانيا في إعطاء مصر استقلالها، وهنا يتقاطع مع فرضية الباحثة الأمريكية ماري ملنر من أن الوفد وسعد زغلول وقعوا في «فخ» إرضاء الجماهير، فزغلول رفض الالتزام بمخرجات مفاوضاته مع ملنر لأنه لم يكن مستعدًا لتحمل المسؤولية وكان خائفًا من جمهورهم. ويخلص بيرس كما عند ماري ملنر إلى أن فكرة استشارة الأمة في المفاوضات - عبر ذهاب بعض أعضاء الوفد إلى مصر وشرح طبيعة مشروع المعاهدة وأخذ موافقة الشعب- كانت المخرج. وهذا استنتاج توصل إليه الدكتور عبد الخالق لاشين بشكل أعمق وذكر أن استشارة الشعب فكرة زغلولية لحمًا ودمًا، فكر فيها حتى من قبل أن يتم وضع أي مشروعات بالنظر إلى تيقنه من عدم جدوى الوصول إلى تحقيق الاستقلال التام من ناحية، ولعدم رغبته في تحمل أي مسؤولية تتعارض مع مركزه وتاريخيه ومطالب مواطنيه.

ويمضي بيرس ليوضح أن زغلول أصيب بخيبة أمل من تصويت الجمعية التشريعية لصالح مشروع المعاهدة مع ملنر بأغلبية أربعة وأربعين صوتًا مقابل ثلاثة،وامتناع عشرة أعضاء عن التصويت، معظمهم من أعضاء الوفد - الذين شعروا أنهم يجب أن يظلوا محايدين بالنظر إلى أنهم كتبوا الاتفاق - كما جاء إعلان مجالس المحافظات والنقابات الفرعية للمحامين المؤيد ليزيد الأمر تأزمًا على زغلول. ويعتقد الباحث أن التأييد الذي حظيت به المعاهدة هو ما دفع سعد لمزيد من التشدد وشرع في تقديم تحفظات للوفد البريطاني على أنها مطالب الجماهير. وهو تفسير يختلف عما توصلت إليه الدراسات المصرية من أن التحفظات التي أوردها سعد زغلول بعد مجيء الوفد جاءت بمثابة صياغة للتفسيرات الشفوية التي أدلى بها مندوبو الوفد للقاهرة، والتي لولاها ما وافق الشعب على نصوص مشروع المعاهدة. ويمكن القول إن مذكرات سكرتير الوفد كامل سليم قد أكدت على أن سعد قد عارض المشروع منذ البداية ومن ثم هو صاحب فكرة التحفظات لقناعته بأن المشروع بصياغته تلك أبعد ما يكون عن هدف الأمة.

وعلى كل، فبالرغم من أن تلك المرحلة من حياة زغلول – على حد تعبير بيرس - انتهت بأن قلل ملنر ووزير الخارجية كيرزون من جدوى تلك التحفظات التي قدمها سعد واعتبروا أنها ليست مقترحات الحكومة المصرية وفشلت المفاوضات، وتهلل خصوم سعد بسبب كبوته، لكن في المقابل استطاع زغلول بمهارة وعبر الصحافة الترويج لموقفه الرافض للحماية والمتصلب في. وجه المحتل مما رفع أسهمه لدى الجماهير.

يصل بيرس إلى نتيجة مهمة وهيأن فشل المفاوضات أدخلت «الثورة» في نفق مظلم بسبب مناورات مختلف المجموعات السياسية المصرية، السلطان فؤاد، المعتدلين مثل عدلي باشا، والوفد بقيادة سعد زغلول.فعلى الرغم من التأييد الذي نالته حكومة عدلي يكن التي تم تشكيلها - بهدف التفاوض- من كل أطياف المجتمع وخصوصًا أنصار سعد إلا أن الأمور تبدلت سريعًا. فبحسب الدراسة فإن سعد بدا قلقًا من أن يكون الوضع السياسي الجديد خارج عن إرادته، وقادته الرغبة في الوجود في موقع المسيطر على مجريات الأحداث في مصر، إلى الإعلان عن نيته العودة إلى بلاده والمشاركة في المفاوضات. كان موقف وزارة عدلي صعبًا وبات من المستحيل عليها استثناء سعد من أية مفاوضات مقبلة أو الإقدام على قبول أي شيء دونه.وما أن وطأت أقدام سعد القاهرة حتى تظاهر أربعمائة ألف شخص في الشوارع من محطة سكة حديد مصر إلى منزل زغلول «بيت الأمة».الوزراء والمسؤولين والوفود، الأمراء، السيدات، جميع الطبقات باستثناء السلطان «- تنافسوا على الترحيب بعودة زغلول. لقد صار سعد منتشيًا بزعامته حتى إنه قال «لقد سعيت وعانيت ليس ليذهب الأمر إلى عدلي، إذا كنت سأعمل معه، فسيكون ذلك فقط عندما يوافق على أخذ أوامره بالكامل مني، والاعتراف بتفوقي بلا منازع». ويعلق بيرس على ذلك «هذا الموقف من سعد مفهوم، بعد أن حظي بأكبر استقبال في تاريخ مصر، لكن موقفه من تلك الشعبية التي جناها حقق نتائج مؤسفة».رضخ عدلي لشروط زغلول إلا القبول برئاسته لوفد التفاوض، شعر أنه كرئيس للوزراء ينبغي أن يرأس الوفد الرسمي. أصر زغلول على موقفه وأطلق مقولته الشهيرة: إن مفاوضات عدلي مع الإنجليز أشبه بكون «جورج الخامس يتفاوض مع جورج الخامس».

ترسم الدراسة ملامح الصراع الداخلي الذي انقادت إليه الثورة المصرية، فيذكر بيرس في هذا المنعطف حشد سعد الجماهير ضد خصومه حيث علت الهتافات «لا رئيس إلا سعد»، وأريقت الدماء في هذا الصراع الداخلي واستمر سعد في حشد أنصاره ودخلت الثورة في موجتها الثانية وبدأت بعض العناصر تقوم بأعمال ضد الإنجليز والأجانب على غير رغبة سعد ورفقائه».لقد خشي سعد المعتدل–كما تذكر الدراسة- من أن تحسب تلك التظاهرات عليه فدعا أنصاره إلى التوقف عن جميع التظاهرات السياسية العدائية ضد حكومة عدلي.في صراعه الأخير ضد عدلي تخلى سعد عن أساليبه القديمة في حشد الجماهير عبر الخطابة والبيانات الصحفية؛فدشن ممارسات جديدة.ومثال ذلك: كتب عريضة حصل على مليون توقيع عليها يلتمس إجراء انتخابات تشريعية لاختياروفد رسميّ جديد للدخول في التفاوض،عمد إلى إرسال بعض رجاله الى لندن في أثناء مفاوضات عدلي لإقناع الشعب البريطاني بأن عدلي ليس لديه سلطة تمثيل الشعب المصري ولا يمتلك هذا الحق الحصري إلا سعد زغلول، حرك بعض التظاهرات للمصريين في بريطانيا ضد عدلي فعندما وصل عدلي لندن في 11 يوليو، التقى بتظاهرة صغيرة من الطلاب، تحمل لافتات حمراء مطبوعة عليه «لا تفاوض مع عدلي»، «يسقط عدلي»،بالإضافة إلى محاولة التأثير على الرأي البريطانيفي لندن،فلقد حاول زغلول التأثير على الحزبيينالبريطانيينمن خلال دعوة أعضاء من الكتلة النيابية لحزب العمال في 23 أغسطسالبرلمان ليزوروا مصر. كل هذا النشاط السياسي القوي من جانب زغلول أجبر عدلي باشا على التصرف بحذر في المفاوضات مع بريطانيا. ولم يستطع عدلي التنازل عن أي شيء لن يدعمه زغلول. ويعلق بيرس بنتيجة مؤسفة «تظهر تفاصيل مفاوضات عدليأنه لو كان زغلول قد قدم دعمًا صادقا لعدلي، ربما كانت المفاوضات لم تنهار».بحلول ديسمبرقدم عدلي استقالته،ووضع خليفته عبد الخالق ثروت الشروط التي سيتم على أساسها قبول تشكيله لمجلس الوزراء، وهي إلغاءالحماية البريطانية، وإعادة وزارة الخارجية المصرية، وإعداد دستور ديمقراطي لمصر.    

كان على أللنبي– حسب بيرس- مسؤولية إقناع الحكومة البريطانية فيلندن بقبول هذه الشروط. لم تكن هذه المهمة سهلة، لأنكيرزون لم يرغب في تغيير سياسة بلاده، وكانت تحركات زغلول مثار قلق للبريطانيين، شعر أللنبي أنه ليس لديه بديل سوى اعتقال زغلول،وبالفعل اعتقل سعد ويعلق بيرس «ومع ذلكلم يظهر زغلول أي مرارة تجاه البريطانيين، في المقابل احتج المصريون على اعتقال زغلول عن طريق أعمال الشغب، التي سرعان ما انتهت؛ ثم بالالتماسات إلى الحكومة البريطانية وإلى السلطان للإفراج عنه. ولم تفلح كل هذه المناشدات سوى في نقل زغلول من سيشل إلى جبل طارق».وفي منفاه الثاني–وفق رؤية الباحث-أظهر زغلول موقفًا تصالحيًا تجاه كل من البريطانيين وملك مصر، كما لو كان يرغب في إظهار حرصه على التعاون بمجرد إطلاق سراحه في يناير 1923وأعرب عن أسفه العميق لعمليات القتل «الإرهابية «الأخيرة للرعايا البريطانيين في مصر.

المرحلة الأخيرة في حياة زغلول هي مرحلة عمله كسياسي، فلقد رحب زغلول بالإفراج عنهوعبر عن الامتنان العميق لسلطة الاحتلال، وانتقل إلى دراسة الوضع السياسي في مصر، حيث تم عزله لفترة طويلة، تحسبًا لدخول الساحة السياسية. أصبح زغلول مستعدًا الآن للعودة إلى السياسةولا يزال يمثل القوة الأكبر في مصر، لقد أدركأنه وحزبه سوف يكتسحان الانتخابات المزمع انعقادها نهاية عام 1923. في 17 سبتمبر وقبل عشرة أياممن الانتخابات، وصل زغلول إلى الإسكندرية.وكان استقباله حافلًا، وإن لم يكن على نطاق ما تم عام 1921.بدا واضحًا،منذ اللحظة الأولى،كما يشير بيرس أن زغلوليرغب في التقارب معالبريطانيين والملكفلقد وصل سعد مصر كمعتدل، وبات يُتنظر في القريب تغير سياسته. وما أن انتصر في الانتخابات النيابية وشكل حكومته حتى أبان عن روح الاعتدال التي عادت إليه، فأعرب في الجلسة الأولى للبرلمان عن سياسة حكومته في تحقيق استقلال مصر والسودان بروح من الود،مع الاعتراف بمصالح بريطانيا العظمى. وصرح لصحيفة التايمز في مارس 1924»أثبت لي أن اهتماماتكممتطابقة مع اهتماماتنا؛ دعونا ندرس معًا في محادثات ودية مطالبات كل منا، ودعونا نحاول التوصل إلى تفاهم؛ ضعوا تصوركم لما تعتبره اهتماماتكمأماممقترحاتنا، وأنا على استعداد للتوصل إلى تسوية».

في المقابل، فإن بيرس يفرد مساحة كبيرة للفساد الإداري في ظل رئاسة زغلول للوزارة ويصل إلى نتيجة خطيرةبشأن سياسة حكومة زغلول الداخلية فيذكر «لقد سمحوا باستخدام هذه القوة – يقصد الوزارة-لمكافأة الأصدقاء بالرعاية السياسية ومعاقبة الأعداء بسحب الامتيازات،لقد بدا أن الوفد يشارك في دعم فاضح للفساد السياسي».

والحقيقة فإن مسلك الوفد لم يكن جديدًا على الحياة السياسية المصرية، فلقد اعتادت الحكومات المتلاحقة معاقبة خصومها بالفصل والإبعاد ومنح أنصارها الاستثناءات واسترضاء الموظفين عبر بذل الامتيازات.وعلى الصعيد الخارجي تلقى سعد خبرًا مبشرًا بتولي صديقه القديم رئيس حزب العمال رامزي ماكدونالد رئاسة الحكومة وشرع في جولة مفاوضات مشبعة”بحسن النية». ويظهر مدى تحامل الباحث على الحقوق المصرية في السودان عندما يذكر أن بعض تصريحات سعد بشأن «السودان» تحديدًا كانت مثار استياء الإدارة البريطانية، وأن الحركة القومية السودانية والتي لقيت دعم القوميين المصريين تسببت في تشدد الموقف البريطاني مما دفع باللورد بارمور زعيم حزب العمال في مجلس اللوردات، ليعلن أن بريطانيا تعتزم عدم التساهل في التخلي عن السودان، دون أن يتطرق الباحث إلى شرح طبيعة الوضع السوداني وكيف تمت السيطرة غير القانونية من قبل بريطانيا عليه.ويعود بيرس للمفاوضات فيذكر «كان الوداع الحاشد الذي حظي به زغلول لا يمكن أن يعني شيئًا سوى رسالة إليه لتعزيز كل حججه عن استقلال مصر»ويرسم لنا صورة رائعة عن مفاوضات سعد ماكدونالد»وصل سعد إلى فرنسا ومكث فيها شهرًا للاستشفاء دون أي اتصال مع ماكدونالد بل إنه همَّ بالعودة دون رؤيته والتفاوض معه،ثم أرسل إليه ماكدونالدلإجراء مباحثات، قبل زغلول بشيء من القلق،ولم يتم إجراء أياستعدادات أخرى للمؤتمر، باستثناء تحديد التاريخ، وحتى التاريخ كانعرضة للتغيير: لم يتم تحديد أي برنامج للمناقشات. وفي 23 سبتمبر حل سعد كمواطن عادى وعلى نفقته الخاصة، كما لو كانتالمحادثات المقبلة محادثات غير رسمية،وليست مفاوضات رسمية.كان شاحبًا،وبدت عليه الشيخوخة.. وهكذا في جو من اللامبالاة جرت مراسم التفاوض».وينتقد الباحث رسالة سعد للأمة في أعقاب الجولة الأولى من التفاوض عندما أكد أن المفاوضات تجاوزت مرحلة سوء الفهم الماضي وأنها تسعى لبناء المستقبل، على حين أن ماكدونالد قالها بصراحة –في أثناء الجولة الأولى للتفاوض- أن القوات البريطانية لا تستطع مغادرة مصر، وأن المسؤولين البريطانيين قد عينوا في الحكومة المصريةلتقديم المساعدة اللازمة ولا يمكن سحبهم.وعلى الرغم من قبول سعد بتنسيق مصري بريطاني في إدارة منطقة القناة إلا أن بريطانيا لم تكن مستعدة لمنحه أية تنازلات فيما يتعلق بسحب قواتها من مصرأو مسألة السودان. وفي النهاية فشلت المفاوضات.

كان مستقبل سعد السياسي على المحك؛فالبرلمان شرع يصعد ضد الإنجليز حيث أقر قرارات مصرية منها وجوب أن تكون العملة مستقلة عن بريطانيا وهو أمر يصعب تحقيقه مما وضع الحكومة في مأزق،اضطرتإثره إلى إتخاذ بعض القرارات لتتماشى مع الشارع؛ منها تقليل الأخذ بمشورة المستشارين الماليين والقضائيين البريطانيين وغيرهم من المسؤولين البريطانيين بشكل عام، ازدادت حدة صحف المعارضة في نقد الحكومة وكذلك مؤامرات القصر. لكن الباحث يرصد كيف استطاع سعد الخروج من هذا المأزق ولو مؤقتًا؛ فيذكر «استغل سعد صراعه مع القصر وقدم استقالته؛كان ذلك حركة مزدوجة من جانب زغلول لإذلال فؤاد من جهةواستعادة شعبيته المفقودة من جهة أخرى، حيث خرجت الجماهير تدعو إلى عودته». في المقابل يمتدح بيرس عدم دعوة زغلول للجماهير لتحرك لنصرته في صراعه مع الإنجليز على خلفية مقتل السير لي ستاك «بأن سعدًا قبل الإطاحة به بشجاعة واعتدال ورفض أن يغامر بالسجن أو النفي مجددًا..في المقابل؛ فإن موقف سعد من إنذار أللنبى اعتبر لدى الكثير من المصريين استسلامًا مهينًا للمحتل، وعلق أحد المؤرخين على فعلة سعد في خصومته مع الملك ومسلكه معأللنبى«وهكذا وضح أن سعد قبل أن يوظف الشارع في الصراع الداخلي مع القصر وامتنع عن فعل ذلك في صراعه مع الإنجليز»

يمضي الباحث ليستكمل مسار سعد «هاجم سعد حكومة زيور دون أن يتورط في انتقاد الإنجليز مجددًا بل إنه صرح بأن الحكومة المصرية الحالية كانت أقل ليبرالية بكثير من الحماية البريطانية، فبحلول الوقت، أصبح أكثر اعتدالًا من بقية حزبه،وهو ما كان متوقعًا». بل إن الفترة التالية في حياة سعد عندما قبل الإنذار البريطاني بعدم تولي الوزارة عبرت -حسب الباحث- عن اعتدال متزايد وسلوك رجل دولة. وقبل سعد منصب رئيس البرلمان واستخدم منصبه للسيطرة على النواب، وقمع التحريض غير الضروري، ودافع عن البرنامج المعتدل لوزارة عدلي.

وكان آخر مشهد أراد أن يختم الباحث به دراسته عن سعد زغلول هو موقفه كرئيس مجلس النواب من الإنذار الذي قدم لحكومة عبد الخالق ثروت على خلفية زيادة عدد الجيش، فالباحث يذكر “كان زغلول مفتاح حل المشكلة سواءبالتنازل أو المقاومة -أمام الإنذار البريطاني-؛ فسيطرة المصريين على الجيش كانت دائمًاواحدة من سياساته، بلكان هو الذي أوجدها وقت رئاسته لمجلسالوزراء.لكن زغلول -الذي بات أكبر سنًّا وأكثر اعتدالًا، وعلمته التجربة صعوبة مقاومة الإنجليزواستغلال الملك مثل هذه الصراعات للإطاحة بالحكومة الدستورية-رأىأن الحفاظ على الدستورأكثر أهمية بكثير من الوقوف في مواجهة بريطانيا للحصول على حقوق مصر وهو أمر محكوم عليهبالفشل مسبقًا».قبل سعد الإنذار الإنجليزي، بل وكبح أعضاء البرلمانالذين كانوا على استعداد للنقد والمناقشة،وأنهى الأمور سريعًا.

وأخيرًا يصل الباحث إلى تقييم شخصية سعد زغلول «لقد كان صريحًا وقاسيًا، وكان في بعض الأحيان «مترددًا وخائفًا». لقد برع كمحاورذكي، ومتحدث عام بليغ، وقبل كل شيء قائد لا نظير له، وصل إلى درجة المعبود عند المصريين. لولا حركته لم تكن مصر لتتمتع بنظام دستوري كما هي الآن. لكنه لم يكن من نوعية «غاندي» أو «مازيني». فعلى الرغم من قدرته على التعبير عن قضية مصر بكل حكمة سياسية، وجاذبيته للجماهير، وكل خدمته التي لا تضاهى من أجل استقلال مصر،لكنه لم يحرك عقول الرجال بأفكار جديدة لتجاوز أفعاله. كان قد أثار الرجال للعمل، ولكن لم يدفعهم إلى التفكير: وهنا يكمن فشله».

هكذا انتهت دراسة بيرس إلى تقديم صورة لزعامة سعد زغلول للحركة الوطنية تبدأ من اعتباره معبرًا عن الجناح المعتدل في الحركة الوطنية والذي خرج من تحت عباءة الشيخ محمد عبده وتربى على أفكاره. ومثلت فكرة إقامة حياة دستورية سليمة بالنسبة له أولوية على مقاومة الاستعمار، وانحصرت فكرة القومية المصرية لديه في مناهضة الوصاية العثمانية مع إمكانية التعايش مع الاحتلال البريطاني والاستفادة منه ولو حتى حين. لم يكن سعد من خلال عرض بيرس زعيمًا ثوريًا بقدر كونه قائدًا إصلاحيًّا، لم يرد من حركته المبكرة في أعقاب الحرب الأولى تعبئة الجماهير في نضال مستمر وعنيف ضد سلطة الاحتلال للظفر بالاستقلال بقدر رغبته في تنظيم العلاقة بين مصر وبريطانيا ورفع الحماية وتحقيق استقلال ذاتي.

 تفاجأ سعد بالثورة ورفعت من سقف طموحه، لكنه أَوطف عليها من روح اعتداله دون أن يسمح لعنفوان حركتها أن يدفعه إلى أن يحيد عن مسلكه «المعتدل».استخدم الجماهير كأداة لمناورة خصومه الداخليين أكثر من مقاومة أعدائه الخارجيين.كانت النقطة التي انطفأت عندها لهيب «الثورة» هي تلك التي تحول فيها قائدها من زعيم أمة إلى قائد حزب سياسي يسعى لنيل الأغلبية النيابية للتنكيل بخصومة. لقد أبانت الفترة الأخيرة من حياة الرجل عن اعتدال وصفه بيرس في بعض المواضع «بالاستسلام»، برز ذلك في قبوله ثلاث إنذارات؛أحدهما دفعه للاستقالة، والآخر منعه من تشكيل الوزارة،وثالثهما أطاح بالائتلاف الوزاري ووزارة ثروت. بدأت مخرجات الثورة وفق بيرس تنحصر في الحكم الدستوري، ولو أطال الباحث أمد دراسته لوجد كيف عبث كثيرًا بالدستور وكم عانت الحياة النيابية من التعطيل وكم من البرلمانات أتى عليه الملك بمعول الحل دون أن يبدي أسبابًا، وكيف سعتأحزاب الأقلية إلى التودد إلى قصر الدوبارةحينًا وقصر عابدين أحيانًا؛ لكي يجدوا لديهما المعين على إيصالهم لدست الوزارة.في المقابل لم يحكم حزب الأغلبية سوى سنوات سبع منذ دشن الدستور وحتى إلغائه عام 1952.