صناع الثقافة

دار المرايا

عن الاستقلال والحلم.. شهادات ورؤى

2021.08.01

عن الاستقلال والحلم.. شهادات ورؤى

يحدث أن يتوّج الفيلم المصري 16 بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان الفرنسي في العام 2019، يليه في العام التالي فوز الفيلم المصري "ريش" بجائزة الفيبريسي لأفضل فيلم في المسابقات الموازية، بعد أيام من حصوله على الجائزة الكبرى في مسابقة أسبوع النقاد في نفس المهرجان. ما يعد بارقة أمل ووعدًا وبشارة لأبناء الاستقلال السينمائي. هؤلاء ممن لا ينتمون لمؤسسة ما غير فنهم ولا يؤمنون إلا بتحقيق الأفلام/ الأحلام.

العلاقة بين أبناء تيار السينما المستقلة تذكرك بالتعاون الذي كان بين مخرجي تيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية، كأن يكتب خان فيلم "سواق الأتوبيس" فيخرجه عاطف الطيب، أو أن يظهر خيري بشارة في مشهد تمثيلي في فيلم "موعد على العشاء" لمحمد خان.

ثمة تعاون بين مخرجي هذا التيار يمتد كمظلة على أفلامهم. فتامر السعيد مخرج فيلم "آخر أيام المدينة" 2010 يشارك في سيناريو فيلم "عين شمس" 2008 من إخراج إبراهيم بطوط الذي يكتب قصة فيلم "علي معزة وإبراهيم" 2016 ليخرجه شريف البنداري بمشاركة في السيناريو لأحمد عامر الذي يشارك في سيناريو فيلم الشتا إللي فات" لإبراهيم البطوط قبل أن يخرج عامر نفسه فيلمه الروائي الطويل الأول "بلاش تبوسني" 2017. غير متناسين مشاركة عامر في سيناريو فيلم "ريش" لعمر زهيري الفائز في مهرجان كان هذا العام أيضًا.

المتتبع لهذا التيار يمكنه تبيّن ملامحه واستفهاماته؛ كيف صمد هذا التيار؟ وهل الشغف وحده فقط هو ما يحرك أفراده؟ وهل يمانع النجوم المشاركة في مثل هذه الأفلام؟ أم أن النجوم والفنانين المكرسين قد وجدوا جاذبية ما لدى هذا التيار خاصة وقد شاعت أفلامه في المهرجانات العالمية حاصدة الجوائز؟

ثم هل تطور مفهوم الفيلم المستقل بالشكل الذي يجعله فيلمًا مؤسسيًّا بشكل ما؟

سنتدكر المثابر أحمد عبد الله السيد بمتوالية أفلامه: هليوبوليس/ ميكرفون/ فرش وغطا/ ديكور/ ليل خارجي. وسنتساءل لماذا لم تخرج هالة لطفي فيلمًا جديدًا بعد فيلمها الواعد "الخروج للنهار"؟ وسنسترجع أفلاما وحيدة لمخرجيها مثل "ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح، و"بعلم الوصول" لهشام صقر وقد مكثت في السينما لأسابيع محققة إيرادات معقولة. وسنسأل هل وجود كيان مثل شركة "زاوية" التي تخصص قاعات عرض للأفلام الفنية يساعد في تمكين أفلام هذا التيار وانتشارها بين الجمهور المصري؟ بيد أن السؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل يمكن لصناعة السينما (سواء المستقلة أو التجارية) أن تتنفس في ظل منظومة قانونية غير داعمة للفنون؟

هؤلاء الصناع أنفسهم غير مشغولين بتلك الأسئلة السابقة. منصرفين إلى أحلامهم، ومخلصين لها؛ لذا فربما كان من الأجدى لنا أيضًا الكف عن هذه الأسئلة وغيرها والإنصات لهم ورؤية أفلامهم.

هنا شهادات لأصوات مختلفة من صناع السينما المستقلة في مصر؛ المخرجة نسرين الزيات، والمنتج حسام علوان، والمخرج محمد حماد، وصانع الأفلام أحمد عامر.

محمد حماد: مهما يكن.. الولاء للفيلم

"مش قادر ألاقي تعريف حقيقي في الوقت إللي احنا فيه للسينما المستقلة"، ولا أميل لهذه التعريفات. وأعتقد أن الأفلام حاليًا حتى قليلة التكلفة تقوم بإنتاجها شركات متميزة تحت مظلة من المساندة من عدة جهات سواء صناديق الدعم أو المهرجانات، وجهات مانحة وأصبح هناك منظومة لهذا الإنتاج.

ولم تعد منتشرة فكرة الإنتاج الفردي "أن يأخد صانع العمل الفيلم على دراعه" دون جهة دعم. وكان من الممكن أن نرى هذا في منتصف 2008 وحتى 2015. فعلى سبيل المثال لم يأخذ إبراهيم البطوط أي دعم في أفلامه الأولى، وفي فيلمي "أخضر يابس" لم أتلق أي دعم من أية جهة، وحين تدخلت شركة فيلم كلينك كان دورها في مرحلة ما بعد التصوير في التلوين والميكساج. وعن نفسي لم أعد أرى أفلامًا بالغة الاستقلالية، سواء على المستوى الاقتصادي أو المستوى الفكري؛ فثمة أفلام كوميدية وخفيفة وأفلام رعب وتم إنجازها بنفس المنطق المستقل. خاصة في السنوات الثلاثة الأخيرة. وهو ما يُخرجها من إطار الاستقلال الفكري لأنها أفلام مع التيار السائد main stream بشكل مقصود من صناعها الذين يستهدفون جمهورهم ويغازلون احتياجاتهم، وليس هذا مثارًا للانتقاد إذ أنهم بعملهم هذا -على اختلاف الأنماط الفيلمية- يخدمون صناعة السينما بشكل عام. ولكن ما أراهن عليه حاليًا هو المنصات التي بمقدورها أن توفر الانتشار للتجارب السينمائية المختلفة وتصل للجمهور بشكل أسرع. لا أحاول إشعار نفسي بأني أواجه هموم الصناعة حتى لا أُحبط، أقوم بإنجاز الأفلام لأنني أحب صناعة الأفلام. ولا أفكر فيها كمصدر وحيد للدخل، بل لا مانع لديّ من إخراج الإعلانات والأفلام التسجيلية الدعائية أو التجارية، مثل هذه الأعمال تجعل اختيارات الفنان في الأفلام أفضل وأكثر حرية كما تجعل شخصيته أكثر ثباتًا فيما يريد أن ينجزه.

شخصيًّا أرى أن الفيلم عندما "يوسع إنتاجيًّا" لم يعد فيلم المخرج، بل أصبح فيلم المنتج. وهاجسي هو كيف يظل الفيلم فيلمي، ليس فقط فيلم شخصي بل ملكي، أتحكم فيه، أعرف عناصره، حتى يظل فيلمي وليس فيلم الشركة المنتجة والموزعين. الأمر أقرب بإحكام سيطرتك على الممثلين؛ لا أن يتحكموا هم في الفيلم، وأظن أن لو للمخرج قوة القرار بعيدًا عن مخاوفه من نجاح الفيلم، أو بشأن جماهيريته المأمولة، أو توزيع الفيلم، لو أن لديه تلك الرفاهية لأمكنه إنجاز فيلمه كما يريد، المهم أنني حاولت -في رأيي الشخصي- "وبعمل إللي أنا شايفه وما بقدمش تنازلات".

الهموم تتركز في إيه؟

لازم يبقى فيه تنوع أكثر، ولازم ينفتح الفكر المقفول، بمعنى أن نتجاوز مخاوفنا عما يمكن تناوله أو تجنبه من موضوعات. لأن محاولات صانع الأفلام المستمرة في تمرير فكرة ما وطريقة معالجتها والتحايل في تجسيدها أو تجنبها بالأساس خشية ألا يتم الموافقة عليها، ستجعله "مخنوقًا" ولن يستطيع أن ينتج عملاً إبداعيًّا. المناخ المفتوح يتيح للمخرجين والمنتجين تناول قضايا جديدة في المجتمع ومواجهة مشكلاته وتقديم مواضيع وطريقة معالجة صريحة، وتجاوز تلك المحاذير والعُرف الرقابي. ونحتاج في الفترة المقبلة إلى أن نستوعب وجود تنوع، وأن نكون أكثر انفتاحًا.. ولعل هذا هو أكثر هموم صناع الأفلام. ولو سُئِلتُ ماذا بعد المهرجانات؟ لكانت إجابتي "حسب فيلمك التالي"، من الممكن أن ينجح فيلم لمخرج ما ويحقق جوائز، ويكون فيلمه التالي صعب التنفيذ، خاصة إذا ما أراد تجاوز منطقته الفنية المألوفة والوصول لأفق جديد يكتشف فيه نفسه. قد ترى بعض الجهات المانحة أن يبقى هذا المخرج في منطقته الآمنة، فيصبح فيلمه الفائز حملاً وعبئًا عليه، كأن يرغب في العمل بنمط إنتاجي مختلف ومع شركات وأفراد جدد؛ لكن رغبته تقابل بالرفض لكونه "مخرج/ة مهرجانات". على العموم فكرة المهرجانات مؤسسية أيضًا، لوجود مبرمجين لهم اختيارات معينة ويتعاملون مع موزعين معينين، والموزعين من أهدافهم إيجاد عرض أول للفيلم. الآن وبعد الكورونا أصبح هناك أفلام منجزة ومرهونة في العلب دون العرض انتظارًا لانقضاء الجائحة مع 2022 وعودة المهرجانات الحية كما يأملون، مما تسبب في ندرة الأفلام المشاركة في المهرجانات حاليًا.

كل وقت وله طريقة عرضه الملائمة. الآن أصبحت المنصات وسيلة جيدة للتعريف بالفيلم، المهرجانات توفر عرض خاص وكتابة صحفية والتعرض لجمهور أولي، وهو ما توفره المنصات وبشكل إيجابي -خاصة بعد الجائحة- حيث تتيح فرصة للنقاش حول الأفلام حتى غير ضخمة التكلفة منها.

لا يستطيع أحد أن يقر بأن المهرجانات تعطي دفعة للفيلم التالي. أرى أن المهرجانات تعطي دفعة لصناع العمل الأول أنفسهم وتقديرًا معنويًّا لهم، ومن الممكن أن تكون الجائزة دافعًا لعرض الفيلم وبمثابة دعاية جيدة له. لكن لا يمكن الجزم بأنها تؤثر على الفيلم التالي الذي عادة ما يكون بعد فترة من سابقه (ثلاث أو أربع سنوات) مثلاً حيث يخفت وهج التكريم السابق.

على صانع الأفلام أن يبحث عن مصادر لتمويل الفيلم. والولاء في النهاية للفيلم، وسأسعى لأي شخص يتحمس لفكرتي، أيا من كان. سواء كان أبي أو منتِجا بوعي أو منتِجا دون وعي، أو أي فرد لا ينتمي للصناعة ولكنه مقتنع بالمخرج. صناديق الدعم والجهات المانحة هي الوجهة التي يذهب إليها صناع الفيلم. بالنسبة لي كانت أفلامي القصيرة وفيلمي الأول الطويل بلا دعم من جهات. في فيلمي الثاني الطويل توجهت للجهات المانحة، ولكني لا أجيد السير طويلاً في هذا المسار، أُفضِّـل توفير جزء كبير من ميزانية الفيلم من جهة واحدة، ولولا منحة دعم مهرجان البحر الأحمر لكنت توجهت لعدة جهات وهو شيء مرهق ولا أستطيع السير بحثًا عن دعم من صناديق مختلفة.

وما لفت انتباهي أكثر مؤخرًا وجود صناديق اكتتاب مالي للأفلام يسهم فيها الجمهور الداعم للفيلم، وتبنى هذه الطريقة مخرجين كبار مثل: سبايك لي، وبهذه الطريقة يخلق انتماءً ودعمًا للفيلم من قبل أن يُنتج من أساسه، مع اعتماد سياسات ترويجية للجمهور كحضور يوم تصوير بالفيلم، أو الحصول على هدايا تذكارية من صناع الفيلم. هو أمر يبدأ بالعائلة ويتسع للأصدقاء وينتهي بالجمهور.

أيضًا يمكن الاعتماد على التعاونيات، ثمة سينمائيين لديهم كاميرات ولا يصورون بها طول الوقت، وثمة شركات تملك إمكانية الدخول لأماكن التصوير، شركة أخرى لديها أجهزة مونتاج، وشخص رابع يملك ستوديو للصوت، فما المانع من التشبيك والتعاون بين هذه الأطراف. المقايضة سلوك إنساني وفطري. وهناك تطبيقات إلكترونية توفر هذا التعاون. ومن المهم الآن أن يتعاون الجميع. أما بخصوص مشروعي القادم فهو سؤال مخيف، بحضّر له، مكتئب، أنظر للسقف. الأفضل أن يصرف الإنسان طاقته لإنجاز مشروعه لا للحديث عنه. هو فيلم ديو دراما عن قصة صداقة بين بطلين، تنتجه فيلم كلينك من مصر، وبدعم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وعدة منتجين أجانب، علاقتي به غريبة نوعًا ما بين الكراهية والحب، أهم ما أسعى إليه أن أصل لمرحلة الاستمتاع بالفيلم، ثمة خطوات إجرائية بشأنه تتعلق بالكتابة، وهي مرحلة صعبة.

حسام علوان: مشهد معقد وعراقيل كثيرة

تجربتي السينمائية وليدة الصدفة، فقد درست السيناريو والإنتاج السينمائي، لكن كل عمل شاركت في إنتاجه كان تحققه في ذاته وليد المصادفة. فتوفر تمويل لفيلم فني في ظل المنظومة المصرية شبه مستحيل، لذلك فالحل الوحيد هو اللجوء لشراكات مع منتجين غربيين، ولكي يتمكن المشروع من الانتقال من السوق المحلي للسوق الأوروبي يحتاج لتوفر من 30 % إلى 40 % على الأقل قبل الانتقال للسوق العالمي، ولتوفير هذا الجزء نضطر إلى بناء شراكات كثيرة تضعف وظيفة المنتج، وتفتت عائدات الأفلام. المنتج الأمريكي "تيد هوب" قبل انتقاله لستوديوهات أمازون كان قد أعلن اعتزاله الإنتاج، والسبب أن نوعية الأفلام الفنية لا ينتظر من ورائها إلا أجر المنتج، لذلك فلكي يقوم المنتج المستقل بتغطية نفقاته يحتاج لتطوير عشر مشروعات بدلاً عن مشروع واحد. للأسف.. أول مؤجلات الإنتاج تكون أجر المنتج، وفي الأغلب لا تصل لأن العائدات لا تكفي لسداد المديونيات فما بالك بأجر المنتج.

أرى أن المشهد الحالي لما يطلق عليه السينما المستقلة هو مشهد معقد لأسباب مختلفة؛ أهمها تخلي الدولة عن دعم النشاط الإبداعي السينمائي الفني والمستقل، ومن ثَم تتعثر المشاريع وتتوقف أو تنتظر البحث عن دعم عربي أو أوروبي في المقابل هناك شباب ينتجون أفلاما بمجهودات ذاتية، ولكن يفترض بعدها أن ينتقلوا لمستوى احترافي، وهو ما لا يحدث للأسف. تكلفة الإنتاج تزايدت كذلك، فلم يعد هناك مجال لإنتاج أفلام من خلال تعاونيات فنية صغيرة، ومن ثَم لإنتاج عمل على مستوى احترافي فإن التكلفة تقترب من تكلفة الإنتاج لأفلام تجارية مع فرق أجور الممثلين مثلاً، رغم ذلك حققت الأفلام المصرية المنتجة على هامش الصناعة وجودًا دوليًّا في المهرجانات السينمائية، بل والفوز في العديد منها.

مصريًّا هناك عداء من أهل الصناعة للمنتجين من أمثالي، لا توجَّه لي دعوة لعروض خاصة، ولا تقبل مشروعاتي في أسواق الأفلام المحلية، وأنا لا أعترض على ذلك. فالشللية وحسابات المصالح تحسب هذه العلاقات، وبالتالي لا أعتبر طرفًا فيها. الأمل يظل في ظهور صناديق دعم عربية تدعم منتجي الأفلام الفنية، وللأسف فقدت الأمل شخصيًّا في أي إمكانية لوجود صندوق دعم للأفلام المصرية.

بالنسبة للفيلم السوداني "ستموت في العشرين "فقد كان تجربة خاصة. فهو أول مشروع لي خارج مصر، وكانت تجربة شاقة جدًا على مدى ثلاث سنوات للبحث عن تمويل لفيلم في بلد لا توجد به أية بنية تحتية سينمائية، ولكنها غنية بالمواهب. أمجد مخرج متميز، وكان عونا كبيرا في إنجاز الفيلم بحكم اطلاعه على المواهب السودانية في جميع المجالات. هذه التجربة عموما كانت أبرح من التجارب المصرية، لأن الفيلم كان فنيًّا ولا نتوقع عائدات جماهيرية من خلاله، ومع ذلك وصل إلى عدد كبير من المشاهدين بعد بيعه لنتفليكس. في السودان لم يكن هناك دعم مادي ولكن كان هناك دعم لوجيستي، فلم ندفع أي شيء لتصاريح رقابة أو الحصول على تصاريح التصوير، وهذا في حد ذاته دعم ساعد الفيلم بشكل كبير، فأحيانًا يكون عدم وضع العراقيل أهم من الدعم المادي.

حاليًا أسعى لتطوير مشاريع فنية خارج مصر في السعودية والعراق ووسط أفريقيا، وأتمنى أن أساهم في دعم السينمات في وسط أفريقيا والسينمات الناشئة، لهذا الغرض أسعى حاليًا مع شركاء أوروبيين لتأسيس شركة إنتاج أوروبية تعمل كحضانة مشاريع للسينمات الناشئة، وأعتقد شخصيًّا أن الأمل الآن ليس في العمل من خلال منظومات سينمائية قديمة وبالية ولكن من خلال أدوات حديثة من بينها المنصات وخلافه.

أحمد عامر: دون أن نقع في فخ الاستشراق

 أنا خريج هندسة جامعة أمريكية وحاصل على ماجستير في التمويل، وعملت في أحد البنوك لمدة 6 سنوات حتى أصبحت مديرًا لأحد فروعه. وكان لدي طموح العمل بالسينما طوال الوقت ولكن لظروفي العائلية لم تكن هذه الفكرة مطروحة. لكن بالنهاية قررت الاشتغال بالسينما قبل أن أشعر بفوات الأوان. بالفعل، قدمت استقالتي من البنك واتجهت للسينما.

بالنسبة للسينما المستقلة لا أستطيع القول إن جيلنا الحالي هم من بدأها.. إبراهيم بطوط هو أحد أبرز رواد هذا التيار. وعن نفسي فقد كان أول شخص قرأ أعمالي ووفر لي فرصًا للانخراط في هذا المجال وعرّفني على سينمائيين. هناك أسماء كثيرة على الساحة مثل أحمد عبد الله السيد بأعماله المتنوعة التي يجرب فيها مسارات مختلفة مع كل فيلم، فضلاً عن حسه التجريبي العالي من فيلمه "هليوبوليس" لـ "ميكرفون" إلى آخر أعماله "ليل خارجي".

أيضًا المخرجة هالة لطفي الذي شارك فيلمها "الخروج للنهار" عدة مهرجانات. وكذلك الصديقة المخرجة أيتن أمين التي نتابع الآن فيلمها "سعاد" عبر عدة مهرجانات. وصولاً لفيلم "ريش" لعمر زهيري الذي كنت جزءًا مهمًا في كتابته وحاز على جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان هذا العام.

شيء مبشر أن تبدأ هذه الأفلام المستقلة في خلق سوق لها خارج مصر، لتخبر العالم أن لدينا سينما جيدة ولدينا صناع سينما جيدين مثل سينما دول شرق أوروبا التي أصبحت نشيطة مؤخرًا في المهرجانات. وأتمنى أن تشهد الفترة القادمة رواجًا أكثر للفيلم المصري المستقل الذي أتشرف أن أكون جزء من صناعته وبانتمائي لعالمه. ولكن من الممكن أن يكون الوضع أفضل من حيث عدد الأفلام المنتجة لذا نحتاج لوجود دعم أكثر وتسهيل أكبر لصناعة الأفلام.

وكون مصر تملك صناعة سينما جيدة وتشارك في مهرجانات دولية شيء إيجابي، أتمنى أن نصبح مثل السينما الكورية التي أصبح لها سوق دولي كبير وأصبح الفيلم الكوري موجودًا في قاعات العرض السينمائي بأمريكا واليابان، أتمنى أن تصير سينمانا مثلهم كجزء من القوى الناعمة دون الوقوع في فخ الاستشراق لمغازلة السوق الأجنبي. نعم.. لدينا إمكانات ذلك؛ لدينا سينما شابة وجيدة ومحترمة تقدم مواضيع مهمة وشخصيات من مجتمعنا ونتكلم فيها عن أنفسنا بشكل صادق.

أظن أن أكبر مشكلات الصناعة هو الوقت.. لدي في رصيدي ثمانية أفلام كانت أغلب تحدياتها هو الانتظار لفترات طويلة لحين توفير ميزانية تكفل إنتاجها، فعلى سبيل المثال فيلم "ريش" بدأت كتابته عام 2015 وتم تدشينه هذا العام.. أي بعد 6 سنوات من البدء في العمل فيه، وهي نفس الفترة التي استغرقها فيلم "علي معزة وإبراهيم" من كتابته لعرضه على شاشات السينما. وكان من الممكن عدم استغراق كل ذلك الوقت لو توفر إنتاج أيسر.

كثير من الأحيان أشارك في الفيلم قبل أن نجد المنتج. أشارك مخرجين مبدعين في كتابة السيناريو وأعمل على تطوير النص لفترة زمنية معتبرة، فعلى سبيل المثال استغرقت سنة ونصف في كتابة فيلم "ريش" محاولين الوصول لنص قوي يمكننا من توفير تمويل له بخلاف استمرارنا عرضه على المنتجين، الفيصل هو مدى تحمسي للفيلم وإيماني أن هذا المخرج بمقدوره صناعة فيلم عظيم أحب أن أكون جزءًا من تجربته، أضع جزءًا مني في النص، وقد ذهبنا معًا أنا والمخرج عمر زهيري لورش تطوير، كتبت ما يقرب 10 مسودات للفيلم منذ 2015.

وأرى أن المهرجانات والجوائز شيء مهم جدًا. تعطي دفعة للمشروع التالي. وبلا شك الجوائز عامل دافع لمشاريعك القادمة، فالسينما محبوبتي بالدرجة الأولى. أغلب تجربتي تتعلق بالكتابة، أظن أنني أُقدِّر مواهب المخرجين المبدعين ممن عملت معهم، يملكون رؤية وطموح وعوالم مختلفة أحب مساعدتهم على تحقيق أحلامهم ورؤاهم. كثيرون منهم يملكون رؤية إخراجية عظيمة ولكن ليس شرطًا أن يمتلكوا نفس الخبرة في الكتابة والتطوير. وأحب أن أقدمها له. أعمل مع المخرجين سواء على أفكارهم أو أفكاري، المهم أن نأخذ الفكرة لعوالمه هو، أحيانًا أرغب في إخراج الفكرة بنفسي كما حدث مع فيلم "بلاش تبوسني"، وأعمل حاليًا على مشروع آخر قد يتم تصويره العام القادم، بخلاف قيامي بالتمثيل، ليس شرطًا أن تتساوى إجادتك لكل ما تفعله، ولكن المغامرة في حد ذاتها جديرة بالتجربة. ذهب فيلمي لمهرجان دبي، وعدت لأشارك مخرجًا آخر في كتابة فيلمه، وهو أمر دائم الحدوث طوال الوقت مثل العلاقة بين الأساتذة خان وبشارة والديك والطيب؛ وارد جدًا أن أُهدي فيلمي لمخرج آخر أتحمس لموهبته رغم وجود روح التنافس؛ لأن همنا الأساسي هو صناعة أفلام نستمتع بها في أثناء إنجازنا لها.

فيما يتعلق بتجربتي الإنتاجية، بحكم كوني سيناريست لعدة مشاريع كنت أقوم بدور المنتج وبشكل غير رسمي: على من سنعرضه؟ أي ورش التطوير سنتوجه إليها؟ أي المهرجانات سيتعين علينا مخاطبتها؟ كنت أقوم بدور المنتج فعليًّا رغم كوني كاتبًا للفيلم، دون التصريح بذلك. إلى أن أقنعني المخرج أحمد فوزي صالح باتخاذ تلك الخطوة في فيلمه "هاملت من عزبة الصفيح" الذي أشارك فيه بالكتابة أيضًا، ولكن أشارك أيضًا به في الإنتاج للمرة الأولى. أيضًا أعمل الآن منتجًا فقط للفيلم التسجيلي "50 متر" للمخرجة يمنى خطاب عن علاقتها بوالدها. كما شاركت في كتابة فيلم "هدوة" وهو فيلم مستقل من بطولة وإخراج ظافر العابدين، تدور أحداثه في تونس وجميل أن أكون جزءًا من تجربة يتم إنجازها في دولة عربية أحبها كتونس.

ليس لدي أي مشكلة مع السينما التجارية، ودائمًا ما أرى أن هناك فيلما جيدا وفيلما غير جيد دون النظر لفئته الإنتاجية، ولا أنظر نظرة دونية للأفلام التجارية، فأفلام هيتشكوك لم تعتبر أفلامًا فنية وقت عرضها بل كانت أفلامًا جماهيرية وحققت أعلى الإيرادات حينها. ولا مانع من أن أنجز فيلمًا تجاريًا على أن يكون "فيلم حلو" وعناصره جيدة أيا كان هدفه. فليس هناك أحلى من مكوثك في قاعة السينما مع جمهورها التقليدي وهم مستمتعين بفيلمك المعروض على الشاشة.

بخلاف صناديق الدعم التي تستقبل مئات الأفلام كل دورة، ولجان الاختيار ونوعية الأفلام؛ لا غنى عن المنتجين المصريين، حاليًا نستعين بعدة منتجين من دول عربية مختلفة، ونأمل أن نرى ذات يوم فيلمًا مصريًّا تونسيًّا لبنانيًّا مثلاً، ونأمل أن تتجاوز المشاركات العربية سُلف التوزيع للفيلم بأن تشارك في الإنتاج الفعلي للفيلم. كما أن ظهور منصات للمشاهدة مثل "شاهد" و"فيوكليب" أسهم في إنتاج بعض الأفلام، ولكن الواقع الحالي يجعل المنصات جهات إنتاج بارزة مثلما موّلت نتفليكس فيلم سكورسيزي الأحدث.

 لصناع الأفلام المستقلين أخبرهم: اصنعوا أفلامكم أنتم. الأفلام التي تحبونها وتحسونها، وبالطريقة التي تريدونها. قد لا يحب الجمهور فيلمك في البداية ولكن بمرور الوقت سيألفونه. الناس عادة تميل للمألوف وتخشى التجديد. فاصنع فيلمك أنت. قد يستغرق الفيلم المستقل 7 أو 8 سنوات.. أعلم أنه شيء صعب ولكن لن نجتازه إلا بالإيمان بمشروعك

نسرين لطفي الزيات: الحلم رايح جاي.. ولا عزاء للمستقلين

ثمانية أعوام، كانت أطول وأعمق رحلة ذاتية مررت بها، أعترف أن القرار الذي اتخذته لأكون صانعة أفلام، دون دراسة للسينما مثل كثيرين. لم يكن سهلاً، خاصة وأني كنت أعمل على مدار سنوات محررة صحفية متخصصة في السينما.. الشغف والحلم في أن أحكي حكاية خاصة جدًا، لا يعرفها أحد، أشاركها مع الآخرين ممن لا يعرفونني، ولن يعرفون أبدًا تلك الحكايات كان أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لي. فلم تكن محاولة صناعة فيلم سهلة، والكثير ممن يعملون في هذا النوع من السينما يعرفون ذلك..

البداية كانت في عام ٢٠٠٨ عندما قررت أن أجد إجابات على الأسئلة التي تشغلني منذ وصولي للقاهرة عام ٢٠٠٢، قادمة من مدينة صغيرة في محافظة سوهاج. في ذلك الوقت كانت بعض الأسر ومنهم والدي تمنع بناتها من نزول الاحتجاجات السياسية، ومن وجهة نظره أن " البنت مينفعش تنزل مظاهرات!"، رغم فكر والدي المتحرر الذي لا تشبهه عقلية أي رجل مثله في الصعيد، وقتها ظلت الأسئلة معلقة في عقلي، أخذت الكاميرا وصنعت فيلمي الأول "عنبر ٦" عن تجربة اثنتين من الفتيات، ناشطتين سياسيتين اعتقلتا في تظاهرات ٢٠٠٦.. كان الفيلم محاولة أولى، وقتها لم يكن عندي الوعي أو الخبرة أن صناعة هذا النوع من الأفلام يحتاج إلى فريق يدعم صانع الفيلم.

من حسن حظي، أن فيلمي الوليد الأول حصل على جائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم تسجيلي قصير، ضمن المهرجان القومي للسينما المصرية، وكان الفيلم المستقل الوحيد الذي حصد تلك الجائزة بين الأفلام المتنافسة والتي كانت مشاريع تخرج لطلبة معهد السينما. كان قلبي يرتجف فرحًا، وفي نفس الوقت، شعرت بخوف كبير، لأن العام ٢٠٠٩ والذي حصدت فيه تلك الجائزة كان ولا يزال مشروع فيلمي الطويل في رأسي.. فوز فيلمي الأول، كان بداية للرحلة، بداية لطريق لا أعرف كيف أسير إليه، مثل الأعمى، أو مثلما كتب ذات مرة الشاعر إبراهيم عبد الفتاح في إحدى قصائده "أتحسس الأرض بقدم لا تملك القدرة لترويض الظلام".

كنت في ذلك الطريق، أكتب، وأجلس مع أصدقاء، وأناس لا أعرفهم؛ فالقرار لم يكن سهلاً، خاصة وأن عملي كمحررة سينما قد يبدو متعارضًا إلى حد ما مع رغبتي في تحقيق حلمي في صناعة أول فيلم لي طويل.. 8 أعوام، الكثير من الأيام والشهور، ما بين فرح، وبكاء وغضب، قضيتهم وأنا ألاحق فكرة! هل أستطيع تحقيقها؟ أم سأفشل؟ الآخرون سوف يلقون باللوم عليَّ، لأني لم أدرس سينما على الإطلاق!

في العام ٢٠١٢ حملت الكاميرا وذهبت إلى بلدتي الصغيرة في سوهاج، وقتها لم أكن أعرف ما الذي أريد أن أحكيه؟ وعن ماذا تدور فكرة الفيلم؟ بداية الخيط كانت من الحجاب. ومرت سنوات، وأنا أركض، ألهث، أبكي، اضحكي، وأفرح، كل المشاعر المتناقضة مررت بها؛ أنا شخص لديه أسئلة يريد أن يجد لها إجابة، أهمها الحجاب وتعامل المجتمع معه! 

ولأني امرأة قادمة من الصعيد، محملة بالعادات والتقاليد، التي كادت تخنقني مع القاهرة، بصخبها، بجمالها وقبحها، وعلى النقيض تمامًا كنت أشعر بحرية داخلية اكتسبتها من تربية والدي لي. ولأجله كانت رحلة الفيلم صعبة ومرهقة، ومحملة بالكثير، فخرج فيلمي "ع السلم"، الذي عرض في مسابقة آفاق السينما العربية ضمن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الماضية.

الدخول والاندماج في سوق صناعة هذا النوع من الأفلام يبدو من الخارج مبهجًا وسهلاً، وأشبه بالجنة التي يحلم كثيرون بالمكوث بها.. كنت واحدة، ممن حلموا بهذه الجنة، المكان الوحيد الذي تمنحني فيه الحياة الحرية الكاملة، حرية ممتلئة بجمال الأحلام التي قد يتمناها من يحلمون سنوات بصنع أفلام تعبر عنهم، وعن أفكارهم وعن كل شيء لا يستطيعون التعبير سوي بهذا السحر وآلة السحرة.

لقد تحولت على مدار أعوام خلال عمل فيلمي الأول، إلى مصورة، ومهندسة صوت، ومدير إنتاج، وكاتبة، وأخيرًا إلى مونتير، وذلك لأن شركة الإنتاج لم يكن لديها المال الكافي، لتغطية كل الأدوار.. أو ربما لأسباب كثيرة، ربما لا أعرف منها الكثير أن المنتج، يحتاج لسنوات طويلة أن يكون منتجًا محترفًا، كي يستطيع توفير كل ما يحتاجه المخرج..

أعرف جيدًا أن صناعة فيلم خارج إطار السوق السينمائي/ التجاري، به تحد كبير، أوله لمنتج الفيلم، وتحديدًا لهؤلاء المنتجين الذي يسبحون ضد التيار، وقرارهم في محاولة خلق طرق جديدة ومختلفة تلين لهم طريق صناعة أفلام يرغبون في عملها، فاختاروا عمل كيانات يقوم عليها أفراد بإمكانياتهم المادية المحدودة، للتحايل على قانون لعبة السوق.. وفي المقابل، يقوم المنتج، والمفترض أن يكون هو الدينامو الذي يدافع ويقف بجوار المخرج بتركيزه فقط في الحصول دعم، لعدد من الأفلام التي يتولى إنتاجها، بينما يلقي على المخرج ما تبقى من العملية الإنتاجية بكل مراحلها المعقدة. لكن، في ظل الظروف التي يمر بها الاثنان (المنتج والمخرج)، فيتحول المخرج إلى ماكينة يدورها المنتج، من بعيد، يجب أن يقوم بدور المنتج والمصور والمخرج ومدير الإنتاج ومهندس الصوت.. إلخ، وبالتالي يتحول المخرج إلى آلة، ينقصف ذراعيها خلال الأعوام التي يصنع فيها فيلمه..

هذا ما حدث معي في تجربة فيلمي الطويل الأول "ع السلم"، تحولت على مدار 8 أعوام امرأة واحدة تقوم بجميع الأدوار التي يجب أن تكون مناصفة بين المنتج والمخرج. ونظرًا إلى قلة الدعم المادي، ولظروف الإنتاج المعقدة، اضطررت إلى أن أمكث عامًا ونصف العام على جهاز الكمبيوتر الخاص بي للقيام بمونتاج الفيلم، دون أية خبرة مسبقة في القيام بهذا الدور. ولأن المنتج، ليس لديه رأس المال الكافي لحماية الكيان الإنتاجي الصغير، يضطر إلى البحث عن دعم مادي لأربع أو خمسة مشاريع في آن واحد، وقد يكون ذلك مبررًا منطقيًّا للمنتج، لأنه قد لا يمنح كل مشروع ما يستحقه من الدعم، وكذلك يصبح ما بين مطرقتين؛ الأولى عمل أفلام مختلفة، والثاني الحصول على الدعم المالي، لكي يستطيع الاستمرار في تلك العملية الإنتاجية المعقدة للغاية.

فيلم "عين شمس" إخراج إبراهيم البطوط عام 2008، يعد واحدًا من التجارب السينمائية التي فتحت الطريق أمامنا، والتي منحتنا أمل في أن الثوابت القديمة المتعلقة بصناعة فيلم من الممكن أن تتغير مع أشكال جديدة من الأدوات السينمائية البصرية، في ظل كاميرات الديجيتال. وفيلم عين شمس أنجزه إبراهيم البطوط بإسهامات فردية، لم يكن لديه شركة إنتاج، ولا منتج، صوره دون ميزانية، بل اعتمادًا على المبادرات الفردية التطوعية من جانب فريق العاملين والممثلين، واعتمد على أن فكرته تستحق أن تعبر إلى طريق ومنحنى آخر في السينما المصرية. وهو ما أكده لنا "البطوط" بعد أكثر من عشرة أعوام أن الثوابت القديمة يمكن أن تتغير وتتعدل، بل وتتهاوى أيضًا مع زحف أفكار وأشكال وطرق جديدة، سواء في الإنتاج أو في التعبير. 

كنت أعتقد أن صناعة الفيلم الأول، وخاصة في وجود شركة معروف عنها دعم صناع الأفلام في عمل أفلامهم الأولى، خارج إطار السوق السينمائي المتعارف عليه. وهو أمر قد يجعلني أصنع فيلمًا مكتملاً في وجود داعم حقيقي وهو المنتج، لكن الحقيقة لم تكن بالجمال والرقة الذي تخيلته، رغم معرفتي السابقة بتجارب أشد صعوبة لمخرجين في أفلامهم الأولى.

 فالمنتج يتعامل مع الأفلام بطريقة ربحية، يسعى دائمًا للحصول على التمويل لكي يساعد صناع الأفلام الشباب في أفلامهم، وهو ما يجعل المنتج يتخبط ويرتبك، فأولوياته تغطية احتياجاته من مرتبات وتسديد فواتير كهرباء وصيانة وما إلى ذلك، وهو ما ينعكس على المخرج، الذي يصبح منخرطًا في أدوار ليست من شأنه القيام بها متعلقة بعملية الإنتاج، وبالطبع على النتيجة النهائية للفيلم. ولا يعني ذلك أنني ألقي باللوم على كيانات إنتاجية صغيرة، بل على شركات الإنتاج الكبرى، والتي دائمًا ما تتعامل مع أفلامنا المختلفة والمستقلة على أنها أفلام مهرجانات، وأن السوق وأيضًا الجمهور لا يحتاج إلى هذا النوع من الأفلام، بل يحتاج إلى أفلام سهلة وكوميدية، وأحيانًا دراما، لذلك نجد شركات الإنتاج الكبرى، تضخ كمًا هائلاً من الأموال، لأفلام ليس لها معنى، تنسى فور خروج الجمهور من قاعة السينما.

أتذكر أنه منذ سنوات طويلة، كان الأستاذ الناقد الراحل سمير فريد، يطالب بضرورة عرض فيلم مستقل قصير قبل عرض أي فيلم تجاري في قاعة السينما، وللأسف الشديد فإن منظومة التوزيع وخارطة التوزيع السينمائي هنا في مصر، لم تستجب.. لكن قد تكون هناك بدائل أخري قد يتبناها رجال الأعمال ووزارة الثقافة، في إعادة فتح قاعات السينما المغلقة في أماكن عديدة في أنحاء مصر.

فمنذ ما يقرب من خمسة أعوام، وعلى سبيل المثال سمحت الحكومة الكوبية مزاولة عدة مهن مختلفة في قطاع السينما للجهات الخاصة، مما يزيد من مساحة الحرية الجديدة التي بدأ صناع السينما المستقلة الشعور بها مؤخرًا. كما لا يمكننا إغفال الدور الاستثنائي الذي تقوم به سينما زاوية، في إتاحة الفرص لصناع الأفلام، من خلال منصة سينمائية مختلفة، تستهدف خلق جمهور جديد لهذا النوع من السينما. ذلك الدور الذي قامت به كوبا، هذا البلد الصغير، يجب أن تعيد وزارة الثقافة النظر إلى صناع الأفلام المستقلة، ومنحهم ما يحتاجونه أولهم تصاريح التصوير.