مراجعات

إسلام سعد

عن كتاب العدالة والعقاب

2017.09.12

مصدر الصورة : آخرون

عن كتاب العدالة والعقاب

 

يتعرض الباحث كريستيان لانج (Christian Lange) في أطروحته الصادرة عن دار المدار الإسلامي، 2016، بترجمة رياض الميلادي ومراجعة كيان أحمد حازم يحيى، لحقبة السلاجقة في العراق وفارس في الفترة الممتدة بين القرنين 5 و6هـ/ 11 و12م، وهي حقبة رأى الكاتب أنها فترة حكم يمكن وصفها بالقوة والبرجماتية ذات الطابع العسكري.

كتاب « العدالة والعقاب في المتخيل الإسلامي خلال العصر الوسيط»، تأليف كريستيان لانج، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2016 .

اهتمت الدراسة بالتاريخ الاجتماعي، على حساب الرائج بحثيًا، أعني دراسة التاريخ الاقتصادي لحقبة إسلامية ما، أو البحث في الاقتصاد والسياسة على حساب الاجتماع. وفي هذا تقترب دراسة لانغ كثيرًا من دراسة الباحث فهمي سعد «العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع للهجرة: دراسة في التاريخ الاجتماعي» التي انشغلت بـ«الاجتماعي» في التاريخ الإسلامي.

ينقسم الكتاب إلى مقدمة وثلاثة أقسام: سياسات العقاب، والعقاب الأخروي، والأبعاد الفقهية للعقاب. ويمكن القول إن متابعة قراءة الكتاب بترتيب أقسامه هذه تنقلنا من «السياسي»، الذي تمثله الدولة السلجوقية التي وصفها الكاتب بأنها كانت تتحرك في ظل نظام سياسي «غير مستقر ومُعَسْكَر عسكرة شديدة»، إلى «الثقافي»، الذي ينعكس في منظومة الأخرويات التي تم تبنيها إسلاميًّا في العصر الوسيط واكتسبت الذيوع والانتشار اجتماعيًّا من خلال طرقٍ عِدَة، إلى «الفقهي»، الذي بدا وكأنه يمثل مقاومة حقيقية تواجه تعسُّف الدولة السلجوقية في تطبيق العقوبات، خصوصًا على العوام.

سنتعرض هنا لبعض القضايا التي تناولتها الدراسة. ونبدأ بنظام العقوبات العلنية، كالإعدام والعقوبات الجسدية والسجن والنفي والإذلال، التي كانت تعكس دلالة سياسية مهمة بالنسبة للدولة، ولكن قبل ذلك فإنها، مع تفشيها، كانت تدل على أن هذا الزمن هو زمن مخاطر يزكي الشعور بنقص الأمان، بل وانعدامه في بعض الأحيان. كان نظام العقوبة العلنية كذلك دليلاً على تمكّن الحاكم من إدارة أدوات السلطة، والأهم، من تأكيد شرعيته. إذ عكس حضور العوام أو غيابهم وقت تنفيذ هذه العقوبات مدى تأييد أو معارضة النظام الحاكم. وعلى كل الأحوال، فبحسب لانغ «لا تترك القوة المقنعة والساحقة للعقوبة العلنية أي مجال للشك في شرعية الحاكم». اختصارًا، الهدف هنا تخويف العامة وترويعهم، وهو ما يبرز في حالات الإعدام بالصلب مثلاً.

في الدولة السلجوقية، كان ترسيخ قوة النظام يتم من خلال العقوبات العلنية، أي من خلال التشهير. وكان «الجسد» موضع تحقق هذه القوة الردعية، وبالتالي كانت الأجساد المبتورة، على سبيل المثال، تتحدث بنفسها عن «النظام القائم وعن العلاقات بالسلطة». وفي سياق آخر، انتصرت، على المستوى الثقافي والاجتماعي، الرؤية الإسكاتولوجية التي تذهب إلى ترسيخ الاحتمالية الضئيلة للنجاة في الآخرة. هنا لعبت المواعظ دورًا كبيرًا في نشر حالة الخوف بين العوام. بل إن الدور الرئيسي للمواعظ، بحسب ابن الجوزي، كان متمثلاً في «إثارة الخوف في قلوب السامعين»، وكانت الأحاديث هي الطريق الممهَّد لذلك.

واتساقًا مع هذه الرؤية الأخروية السائدة، قدَّم علماء الدين تنازلات يعجَب لها المرء في مسألة التصورات عن العذاب الأخروي. فعلى الرغم من وجود «آليات للتمييز بين الأحاديث الصحيحة والأحاديث الموضوعة، وعلى الرغم من أن علم الحديث يميز بكل دقة بين أنواع الأحاديث ويُقصي الكثير منها»، إلا أن اعتماد العلماء الدينيين للأحاديث الأخروية كان يتم بتساهل لم يكن مُعتَمَدًا «في المجاميع التي أُعدت ليُنتَفَعَ بها في مجال العلوم الشرعية». ولعل هذا يدل على مدى أهمية التصورات الأخروية لضبط الواقع الدنيوي.

يُكرِّس لانغ مساحة كبيرة من القسم الثاني من كتابه للحديث عن أبعاد العنف والعذاب في الآخرة. ويرى أن صور العنف، المغرقة في العنف والوحشية والبشاعة، لم تكن مجرد برهنة «على الذوق الفجّ أو الخيال المريض لدى المسلمين من المصنّفين في أدبيات الآخرة، وإنما لتقوم دليلاً على أن لصور العنف في الأدبيات الأخروية في القرون الوسطى الإسلامية غايات تختفي وراء دغدغة أحاسيس جمهور مدفوع بغرائز بدائية أو بثقة ساذجة بمستقبل بعيد. لم تكن أشكال العذاب مجرد ابتداع مرضيِّ لعقول خلاقة أو لِمَن يبيعون الأفيون للشعوب. بل يبدو أن هذه التمثيلات كانت على الأرجح تُعين على غرس فكرة النظام الحاضر في عالمٍ لولاها لبدا في حالة فوضى لا تُطاق».

وفي نهاية هذا القسم يطرح لانغ، في سياق دراسته للأبعاد الإجرائية لمتخيَّل الجحيم عند المسلمين، سؤالاً يمثِّل المركز في النظرية الاجتماعية: هل هناك أوليّة للأفكار على الظروف المادية أم العكس هو الصحيح؟ وهو يحاول هنا الدفع في اتجاه أن المفاهيم الأخروية قامت بتشكيل طقوس العذاب في هذه الدنيا، ولا سيما الطقس الشعبي، التشهير، وبالتالي فقد حاول تقدير إلى أي مدى يمكن فهم المحاكمات بالتشهير في العهد السلجوقي باعتبارها «تشريعات أو إجراءات لمفاهيم تحمل بعدًا أخرويًّا».

التشهير في الجحيم أمر «طبيعي»، وهو، بطبيعيته هذه، ينعكس على التشهير الدنيوي في نظام العقوبة العلنية. حيث أن «الأعراف الأخروية المستعملة في مواكب التشهير توحي إلى الجمهور بأن ممارسة السلطة القضائية تندرج في ما هو «طبيعي وواقعي ومفيد من نظام الأشياء»، قياسًا على مجلس القضاء الإلهي يوم الحساب. فيكتسب التشهير شيئًا من «القداسة»، وبذلك يُحَوَّل الاستعمال الاعتباطي والمُفرط للعقاب إلى ما يشبه الإجراء الضروري والطبيعي للعدالة».

تلزم هنا الإشارة إلى أن النتيجة التي يخرج بها لانغ تتشابه إلى حد كبير مع النتيجة التي توّصل إليها هادي العلوي في دراسة مشهورة له حول تاريخ التعذيب في الإسلام. فعلى الرغم من اختلاف المناهج البحثية، إلا أن الأطروحتين تلتقيان في موضعٍ مهم. إذ يرى هادي العلوي «أن هذين الحكمين، عذاب الاستئصال والعذاب الأخروي، مندرجان في العقيدة، أي إنهما ملزمان أيديولوجيًّا ولا ينفصلان عن سائر الأركان والأصول التي يخلّ إنكار بعضها بسلامة الإيمان. ويعني هذا بدوره أن المؤمن يجب أن يكون موافقًا على هذه الألوان من التعذيب بوصفها من نتائج الحكمة الإلهية الموجهة نحو تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وإذ يتفاعل معها المؤمن بالتسليم، فهي لا بد أن تصير، بحكم الإيمان، جزءًا من منظوره الاجتماعي والأخلاقي. وبالتالي، ومع أن القبول بهذه الأحكام يرد على سبيل التعبد غير المقترن بالممارسة ما دامت الشريعة قد حرّمتها على الإنسان، فإن عدم تعارضها مع المنظور الأخلاقي للمؤمن يمكن أن يخلق لديه الاستعداد النفسي للتعامل مع هكذا أفعال حينما تصدر عن الإنسان ولو خرقًا للقانون. ومن المقرر في علم النفس الماركسي أن شخصية الفرد تتكيف بمعاييره الأخلاقية المستمدة من وسطه الاجتماعي والروحي أكثر مما هي بالمبادئ القانونية المفروضة عليه من فوق. وبسبب ذلك، فإن قدرًا ملحوظًا من الانفصام بين القانون والأخلاق لا يمكن أن يخلو منه أي مجتمع؛ فنجد القيم الأخلاقية تساهم أحيانًا في تخفيف القسوة وأحيانًا في تشديدها».

وفيما يتعلق بالقسم الثالث والأخير من الكتاب، نجد أن المقولات الاعتيادية المشهورة عن الفقه غائبة، أو لعل التركيز لا ينصب عليها بالأساس؛ فلا نجد حديثًا عن بنية الفقه التمييزية بطبيعتها، أقصد انشغال الفقه، دومًا، بالتمييز بين الحالات المختلفة للحالات التي تُطَبَّق عليها الأحكام الفقهية، بل نلاحظ أن الفقه يشتغل، في هذه الحقبة على الأقل، في محاولة لتنظيم، وربما ترويض، السلطة السلجوقية المستبدَّة باستخدام المرونة في باب الفقه الجنائي ونظام العقوبة. يحاول الفقه إذن خلق إمكانات لتحررية أكبر داخل الفضاء العام للاجتماع، تحررية معاكسة لبطش الدولة من خلال رفضه لبعض ممارسات العقاب.

تتبدى المرونة الفقهية فيما يتعلق بمنظومة الفقه الجنائي تحديدًا، بشكل نسبي، حين نقرأ مذهبًا في ضوء مذهب آخر، على مستوى طرق الاستدلال والبنى النظرية الأساسية التي تُمهِّد لنتاجات القول الفقهي النهائي لكل مذهب. لكن هذا «النسبي» يتحول لشاغل عام، واضح تمامًا، إذا قُرئ في ضوء اعتباطية وتعسفية السلطة السلجوقية؛ مثالاً، يرفض الفقهاء التعذيب للحصول على الاعترافات، وهو ما يمثل الطريق الأسرع للحاكم لانتزاع الاعتراف من المتهم الواقع تحت طائلة التعذيب.

تنبني هذه المرونة على تباين في أسس كل مذهب، وتعكس، في ترافقها مع دقة في التحديد الجزائي، بُعدًا إيجابيًّا في منظومة الفقه، من خلال الفقه الحنبلي. لكنها، ولأسباب سياسية في المقام الأول، تفقد هذه الميزة من خلال مفاهيم أخرى، تأتي من خارج طرائق الاستنباط للحكم الفقهي أو العقوبة مثل التعزير. والتعزير هنا، عند الحنفية على الأقل، يُلجأ إليه بعد استحالة قياس حكم لحالة ما على حكم حالة منصوص عليها قرآنًا على الأقل.

ومن خلال مقارنة مكثفة بين الاجتهادات الفقهية الشافعية والحنبلية بخصوص إشكالية تطبيق الحدود من خلال مبدأ القياس الفقهي، يبرز حرص الحنفية على خلق قدرٍ من الشكِّ الذي ينصبُّ في مصلحة المسلمين. فقد ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قياس في الحدود، باعتبار أن الحدود من المقدرات، وهي حكم مفروض إلهيًّا، لا يلزم للمؤمنين معرفة أو تحديد الأسباب المادية التي تقف وراء تشريع الله له، ولا حاجة مُلحة للبحث عن الحكمة الكامنة وراءه، فهي بالتالي «معطيات» كما ذهب لانغ، وبناءً عليه، فإنها تتموضع خارج نطاق القياس بالكلية، وذلك على الرغم مما ذهب إليه الحنفية أنفسهم من أن «الاستدلال بالقياس «حجة أصلية» من أدلة التشريع الأساسية، وإن لم يجز عدُّه منهجًا يقود إلى العلم اليقيني».

ومن خلال التمييز العميق بين اللواط والزنا في فروع الفقه الحنفي وتبيان مدى جواز القياس بينهما، يحاول لانغ تفحّص الطريقة «التي رسم بها الفقه الجنائي الإسلامي الكلاسيكي الحدود بين المجالين الخاص والعام وهو ما يُعين على حماية الفرد من استعمال السلطة للردع استعمالاً اعتباطيًّا»، ويتمثل الهدف وراء ذلك في «توسيع حدود النظام الإسلام المعياري».

وعلى الرغم من انقسام المعسكر الفقهي الحنفي حول جواز قياس اللواط بالزنا، يتضح لنا أن القائلين بعدم الجواز يمتلكون حججًا أقوى من خصومهم المؤيدين لجواز القياس، وهو ربما يعكس الحرص على الالتزام بالمبدأ الذي أرساه أبو حنيفة. والحق أن حجج المؤيدين لا تكاد أن تجاوز حدود القياس الشكلاني بين الفعلين (اللواط والزنا). وترتب على ذلك أن انفتح الباب أمام التعزير بديلاً عن إقامة الحدود التي ساهم الفقهاء في تضييق مجالات تطبيقها في الفضاء العام. ويبدو، بشكل عام، أن التسامح الإسلامي، إن جاز التعبير، مع اللواط، على مستوى عدم القول بوجود عقوبة مقدرة له في الشرع، ليس بنيويًّا، ولا ينتمي لنظام الأخلاقيات التي يفرضها الإسلام على تابعيه. ويصل لانغ هنا إلى أن «خلاف الفقهاء في اللواط» ظل «نظريًّا إلى درجة كبيرة» وأن العلاقات الجنسية بين المثليين كانت دومًا أمرًا متسامحًا فيه لأنها كانت ممارسة تم التوافق عليها أو التصالح معها اجتماعيًّا، تسامحت معها الدولة طالما لم تنتقل للفضاء العام، ولم تخرج من الفضاء الخاص لتصير ممارسة علنية.