قضايا
إيمان عوففاطمة زكي.. مسيرة نضال من نار ونور
2021.12.01
فاطمة زكي.. مسيرة نضال من نار ونور
فاطمة زكي؛ ليست فقط زوجة المحامي اليساري نبيل الهلالي، ورفيقة دربه، وشريكة نضاله، بل هي مناضلة من طراز خاص، كأنها جاءت من عالم الأساطير التي نسمع عنها في كتب التاريخ، وأفلام الحرب ومناهضة الصهيونية والرأسمالية التي تبرز النساء ودورهن في الحياة السياسية، إنها المناضلة الماركسية فاطمة زكي.
ولدت فاطمة زكي في 21 ديسمبر 1921، بمنطقة جزيرة بدران بروض الفرج؛ المنطقة الأكثر شعبية في مصر، لأسرة متوسطة الحال، فوالدها كان مفتشًا بوزارة الزراعة، وكان لديها عشرة من الأخوة والأخوات، لكن والدها فارقهم مبكرًا، فقامت والدتها التي كانت تتميز بسعة الأفق والعلاقات الاجتماعية الطيبة باستكمال تربية الأبناء جميعًا بالتعليم العالي، بل وعرف عن الأسرة أنها كانت تعلم كل من يلتحق بالخدمة لديها حتى أعلى مراحل التعليم.
نما وعي فاطمة زكي في ظل ذكريات ثورة 1919، وظلت تذكر جيدًا أن جدتها لأمها كانت تفاخر بأنها هي التي أخفت عن عيون البوليس الشاب إبراهيم الورداني الذي اغتال بطرس غالي عميل الاحتلال، وهي أيضًا نبتة في أرض حركة النساء اللاتي كانت لهن مواقف واضحة وأكثر حماسة في التظاهرات التي اندلعت لإعادة دستور 1930، شاركت في الاحتجاجات التي اندلعت في مصر ضد تصريح "هور الاستعماري" وترسخ وعيها اليساري في فترة الخمسينيات.
استطاعت فاطمة زكي بالرغم من صغر سنها بأن تربط بين الفقر الذي كان يعانيه الشعب المصري بالاستعمار، وآمنت بأن جوهر الاستقلال الوطني لا يمكن أن يتحقق إلا بتحقيق الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. وفي عام 1942 التحقت بكلية العلوم، وكانت الكلية بؤرة للنشاط الثوري، وجذبتها فكرة العدالة وهي بعد شابة في مقتبل العمر، وكانت تعتقد أن جزيرة السعادة الفردية في محيط من تعاسة الجموع أمر مستحيل، وأن على المثقف واجب واحد وهو الدفاع عن بلاده، وإجلاء المحتلين، والإطاحة بالنظام الملكي، وإقامة الجمهورية، ونشر الديموقراطية، وضرب الإقطاع، وبناء المصانع، وتمكين الناس من العلم والثقافة، كانت هذه أحلام فاطمة زكي، التي سعت على مدار عمرها لتحققها، دون مواربة، ودفعت ثمنها سنوات في السجن دون ندم، بل اقتنعت بأن السجن وسيلة المحتل ليستمر احتلاله.
كانت فاطمة زكي مثلما كان يقول عنها رفيق دربها نبيل الهلالي امرأة أصلب من الحجر وأرق من ورقة شجر، واستطاعت بعد دخولها كلية العلوم جامعة القاهرة أن تكون ركنًا أساسًا في الحركة الطلابية آنذاك، حيث قادة الحركة الطلابية والتظاهرات التي اندلعت ضد الملك والاحتلال في العباسية والمناطق المجاورة، وكان ذلك سببًا في أن يختارها زملاؤها لتمثلهم في مجلس اتحاد كلية العلوم، حيث السيطرة التامة للإخوان المسلمين، وخاضت التجربة ونجحت، لتصبح أول فتاة تفوز بمقعد داخل مجلس الاتحاد في تاريخ الكلية.
تعتبر فاطمة زكي أحد أهم النسويات اللاتي مررن على مصر، وقد اقتنعت بأن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق دون أن تكون قضايا النساء في مقدمة النضال على كل المستويات، فأصدرت مجلة "هي" عام 1946، وشاركت بقوة في الإعداد للانتخابات التي أثمرت فيما بعد عن "لجنة الطلبة والعمال" التي كان ظهورها حدثًا سياسيًّا ضخمًا في تاريخ مصر.
في 2 سبتمبر 1947 شاركت في التظاهرات التي استقبلت النقراشي، وقد حملها العمال هي وزميلاتها حكمت الغزالي وسعدية عثمان ولطيفة الزيات وآسيا النمر فوق مقاعد وهن يهتفن الجلاء بالدماء، في نفس العام1947 أنهت فاطمة زكي تعليمها، وفي التظاهرات التي جرت في 21 فبراير 1948 ألقي القبض عليها في ميدان سليمان باشا، ودفعها رجال البوليس بالقوة إلى السيارة مع زميلاتها، وارتبكت الفتيات، لكن فاطمة زكي ما لبثت أن قفزت من السيارة إلى أرض الشارع واندفعت مختفية عن أعين البوليس، لتواصل كتابة الاحتجاجات على جدران الشوارع وتوزيع المنشورات وتنظيم اللقاءات السرية.
عام 1949 انتقلت إلى الإسكندرية بتعليمات من التنظيم السري الذي كانت تنتمي إليه في هذه الفترة، وهناك عكفت على توعية عمال شركة "سباهي" وغيرها بحقوقهم، وهي تشير للجميع إلى طريق الخلاص الوحيد الذي تعرفه، وكان لها رؤية واضحة مخالفة أحيانًا لتوجه تنظيمها آنذاك، إذ كانت ترى ضرورة تمصير الحركة الشيوعية، لتخلوا من الأجانب، كما رفعت شعار أن يكون قيادات التنظيم من العمال، وكان هذا سببًا في خلافات استمرت بينها وبين التنظيم السري لفترات طويلة، إذ أبت قياداته أن تكون فاطمة من اللجنة القيادية وقتها، واعتقلت فاطمة زكي وظلت في السجن نحو عام، وكانت المسؤولة عن مطبعة سرية.
ما الذي جعل فاطمة زكي وهي شابة في تلك السنوات تفضل دفء الأحلام الكبيرة على دفء عش صغير، وتواجه السجن بشجاعة!
وعندما اندلع الكفاح المسلح في قناة السويس عام 1951 كانت وثيقة الصلة بتعبئة الممرضات وتقديم المساعدات والإسعاف وتدبير الموارد للفدائيين. وخلال العدوان الثلاثي على مصر تطوعت للدفاع المدني، وتلقت تدريبًا في معسكرات الجيش بالقلعة. وفي عام 1959 ألقي القبض عليها، وظلت رهينة الحبس 4 سنوات كاملة، نظمت خلالها إضرابًا عن الطعام من أجل تحسين أحوال المعتقلات، والإفراج عن الجميع. وكانت تلتقي زوجها النبيل نبيل الهلالي كمحام مدافع عن الطلاب الذين يعتقلون في تلك الفترة، وكان يحاول التقرب إليها، لكنها كانت تؤجل كل ما يرتبط بحياتها العاطفية وكانت تقول دائمًا "لدينا أولويات نضال ولا خلاص فرديًّا"، لكن أمام إصرار نبيل الهلالي الذي تقرب الى الأسرة وقتها، وتعرف على والدتها، وتمت خطبة فاطمة ونبيل بعد تخرجها في كلية العلوم عام 1949، وظلت الزيجة مؤجلة بسبب انشغال فاطمة بمسيرتها السياسية لسنوات عديدة، وكذلك بسبب رفض والد نبيل الهلالي الباشا زواج ابنه الوحيد من فاطمة زكي ابنة الطبقة الوسطى، وهو سليل الباشوات، إلا أن الزيجة تمت بالرغم من كل التحديات يوم 29 يوليو 1958، لم يهنأ العروسان بالزفاف، فبعد أقل من ستة أشهر، بدأت حملة اعتقالات واسعة للشيوعيين، واعتقل نبيل في أول يناير 1959، وأودع ليمان أبي زعبل، وفي مارس 1959، اعتقلت فاطمة وأودعت سجن النساء بالقناطر، وتروي فاطمة زكي واقعة طريفة عن ظروف الاعتقال والاتصال بنبيل "كنت موجودة في أثناء الاعتقال بعنبر المعتقلات بالقصر العيني، حيث أرسل لي نبيل أحلى رسالة حب عندما قام بحفر أسمي واسمه على (زلطة) تربطها سهام الحب، وألقاها أحد الحراس بجواري، فقد كنا نتحايل للاتصال بأي طريقة، وما زلت أحتفظ برسالته الغالية داخل إطار من ذهب". وفي السجن تعرضت للضرب المبرح فنظمت وزميلاتها إضرابًا عن الطعام وتحققت الاستجابة لبعض مطالبهن وأفرج عنها 1963 لتسافر إلى زوجها نبيل الهلالي في منفى المحاريق بالوادي الجديد. ثم عادت بعدها في منتصف الستينيات لتكمل عملها كمدرسة لمادة العلوم في مدرسة السنية الثانوية، واستطاعت أن تؤثر بصورة كبيرة في فتيات المدرسة، وكانت من أشهر المدارس التي خرج منها مظاهرات انتفاضة الخبز في فترة السبعينيات. كما عملت أمينة للمرأة في عابدين في إطار الاتحاد الاشتراكي، وكانت تجمع الأقمشة للفقراء، وأسست مع عدد من زميلاتها دور حضانة للمرأة العاملة، حتى فتح منبر اليسار، الذي تحول فيما بعد إلى حزب التجمع.
في السبعينيات ألقي القبض على نبيل الهلالي ضمن مجموعة من الطلبة، ولم تنكسر فاطمة أو تلين، بل كانت تلعب دورًا أساسيًّا في تهدئة الأهالي وتحريكهم للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين ومن بينهم زوجها، وكان لها دور فارق في انتفاضة الخبز والحرية في السبعينيات، فكانت مؤسسة حركة الأهالي التي قادت تحرك العمال في تلك الفترة، وكان لديها العديد من الخلافات في المواقف والرؤى مع حزب التجمع آنذاك، إذ رفضت بصورة واضحة التنسيق مع أي جهة أجنبية بها شبهة تمويل.
لم يتوقف نشاط فاطمة زكي ولو للحظة واحدة، فأسست اتحاد النساء التقدمي بحزب التجمع، وأشرفت على طلائع التجمع مع ليلي الشال وثريا إبراهيم، وثريا أدهم. وفي عام 84 أصبح حزب التجمع ممثلاً لقوى مختلفة، لكن فاطمة اصطدمت بالتجمع لإصرار قيادته على لعب دور التوازنات وأصرت على أن يكون اتحاد النساء التقدمي منبرًا مستقلاً نسبيًّا عن التجمع، فوضعت في اللائحة التنظيمية بند عدم اشتراط عضوية المرأة لحزب التجمع لكي تكون عضوة في الاتحاد، وتبنت حملات عديدة مثل حق الجنسية لأبناء المتزوجة بغير مصري، وحق المرأة في الترقي مثل الرجل، وشجعت النساء على المنافسة في الانتخابات، وأجبرت الحزب على أن يكون هناك حد أدنى من النساء في القائمة الانتخابية، بواقع امرأة فئات وامرأة عمال، وكان الاتحاد النسائي جاهزًا بالمشاركة في كل القوائم على مستوى الجمهورية، كما بدأت في تشجيع باقي الأحزاب والمؤسسات على تشكيل تكويناتهم النسائية، فحثت أمل محمود على إنشاء الجناح النسائي في الحزب الناصري، وفي حزب العمل أنشأت هناء شوقي جناحًا نسائيًّا، حتى أصبح الاعتراف بالاتحاد النسائي دوليًّا، فأصبح عضو في الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، وعضو الاتحاد النسائي العربي.
كونت فاطمة زكي أشكالاً جبهوية مثل المرأة والأسرة والتي كانت تستضيفها لجنة التضامن "الأفرو آسيوي"، وأسست لجنة المرأة باتحاد المحامين العرب، وعندما بدأ التجمع في أواخر الثمانينيات في سياسات مهادنة بدأت بالقرار الأردني الفلسطيني، ثم ظهر الحزب الناصري على الساحة وانسحب الناصريون من التجمع، وبدأت عملية فرز واسعة ودعاوى التفاوض المباشر بقيادة لطفي الخولي، انسحبت فاطمة من حزب التجمع لان التوجه السياسي للحزب أصبح لا يلائمها. وحتى وهي بعيدة عن التجمع ظلت تمارس أنشطة سياسية اشتباكًا مع القضايا العمالية، وبينما كانت على فراش الموت قرأت في إحدى الصحف خبر تكريمها من أحد المنظمات النسوية التي تتلقى تمويلات أجنبية، فرفضت بشدة وطلبت من وداد متري أن تعيد الجائزة التي تسلمتها بالنيابة عنها، وأن تعلن عن رفض فاطمة زكي تلقي جوائز من جهات تمويل، وظلت هكذا قابضة على الجمر متمسكة بآرائها حتى وفاتها المنية عام 2005، ليلحق بها رفيق دربها نبيل الهلالي بعد عام واحد فقط.