رؤى

كولين كوبمان

فوكو وتشريح السلطة

2018.05.01

ترجمة: محمد رؤوف

فوكو وتشريح السلطة

تخيل أنه طُلِب منك أن تكتب تاريخًا شديد الإيجاز للفلسفة، وربما واجهتَ تحدي أن تضغط في تغريدات قليلة ما في الفلسفة من تنوع هائل مترامي الأطراف. لعل أفضل ما يمكن أن تفعل أن تبحث عن الكلمة الواحدة التي تعبر عن أفكار كل فيلسوف ذي شأن. فهناك «المُثُل» عند أفلاطون، و«الذهن» عند ديكارت، و«الأفكار» عند جون لوك. ولاحقًا، هناك «الحرية» عند جون ستيورات مل. وفي الفلسفة المعاصرة، هناك «النص» عند جاك دريدا، و«العدالة» عند جون رولز، و«الجنوسة» عند جوديث بتلر. أما كلمة ميشال فوكو، وفقًا لهذه اللعبة البسيطة القصيرة، فمن المؤكد أنها ستكون «السلطة».

يظل فوكو أحد أكثر مفكري القرن العشرين الذين يتم الاستشهاد بأعمالهم. كذلك، وفقًا لبعض القوائم، هو الشخص الوحيد المنفرد الأكثر استشهادًا بأعماله في كل من الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. كما أن عمليه الأكثر إشارة إليهما، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن (1975) وتاريخ الجنسانية: الجزء الأول (1976)، يمثلان المصدرين الأساسيين لتحليله للسلطة. ولكن من الغريب أن فوكو لم يكن معروفًا دائما بتحليله للسلطة؛ إذ نال تأثيره الواسع في 1966 مع نشر كتابه نظام الأشياء. ولكن العنوان الأصلي للكتاب باللغة الفرنسية: الكلمات والأشياء، يعطي دلالة أفضل للسياق الفكري الذي كُتِب فيه. ففي ستينيات القرن العشرين، كانت الفلسفة مشغولة في المقام الأول بالكلمات، وخصوصًا بين معاصري فوكو.

ففي منطقة أخرى من باريس، كان دريدا يؤكد بهمّة ونشاط على أنه «لا يوجد شيء خارج النص»، كما حوَّل جاك لاكان التحليل النفسي إلى حقل اللغويات عبر دعواه أن «بناء العقل اللاواعي يشبه بناء اللغة». ولم تكن هذه مجرد موضة فرنسية، ففي عام 1967، قام ريتشارد رورتي، الفيلسوف الأمريكي الأكثر إثارة للجدل بين فلاسفة جيله، بتلخيص هذه الروح الجديدة في عنوان الكتاب الذي حمل مجموعة مقالات مختارة، وهو التحوّل اللغوي. وفي العام ذاته، نشر هابرماس، والذي سيصبح بعد قليل أبرز فيلسوف في ألمانيا، محاولته لـ «تأسيس العلوم الاجتماعية في نظرية للغة».

ولعقود قليلة أخرى على الأقل، تابع معاصرو فوكو السعي وراء هاجس اللغة الذي سيطر عليهم. فقد ظل العمل الأهم لهابرماس نظرية الفعل التواصلي (1981) مُكرَّسًا لدراسة الشروط اللغوية للعقلانية. كما تابعت الفلسفة الأنجلو-أمريكية المسار ذاته، وكذلك فعل معظم الفلاسفة الفرنسيين (عدا أنهم مالوا بدلاً عن ذلك إلى الطبيعة اللغوية للا عقلانية).

ولكن فوكو، من جانبه، واصل مساره بشكل فردي، إلى حد ما، من بين معاصريه. فبدلًا من البقاء في عالم الكلمات، حوَّل فوكو اهتمامه الفلسفي في السبعينيات إلى فكرة السلطة، وهي فكرة تُبشر بتعزيز تفسير كيف أن الكلمات، أو أي شيء آخر من وجهة النظر هذه، تُضفي على الأشياء النظام الذي هي عليه. إلا أن أهمية فوكو الدائمة لا تكمن في أنه اكتشف مفهومًا رئيسيًّا بمقدوره تفسير المفاهيم الأخرى جميعًا. فالسلطة، عند فوكو، ليست مصطلحًا فلسفيًّا آخر مقدسًا، ذلك أن الدعوى الحاسمة الأهم لدى فوكو حول فكرة السلطة هي أنه لابد أن نرفض معاملتها كما دأب الفلاسفة على معاملة مفاهيمهم المركزية، أي على أنها شيء موحَّد ومتجانس وبالتالي فهو مكتفٍ بذاته ويمكنه تفسير كل شيء آخر.

لم يحاول فوكو تشييد حصن فلسفي حول مفهومه الذي يُمثّل بصمته الشخصية، فقد شهد بصورة مباشرة كيف صارت حجج فلاسفة التحول اللغوي هشَّة ما إن انتشرت لتحلل أكثر فأكثر عن طريق الكلمات. ومن ثم، فقد رفض فوكو نفسه بوضوح تطوير نظرية مركزية عن السلطة. في بعض الأحيان، كان من يُجرون معه مقابلات يضغطون عليه ليقدم لهم نظرية موحدة، ولكنه كان دائمًا ما يعترض على ذلك، قائلًا إن مثل هذه النظرية لم تكن ببساطة غاية عمله. يبقى أكثر شيء يُعرَف به فوكو هو تحليلاته للسلطة، ويظل اسمه، عند أكثر المفكرين، مُرادفًا تقريبًا لكلمة «سلطة». ومع ذلك، لم يقدم فوكو نفسه فلسفة عن السلطة. فكيف يتأتَّى هذا؟

هنا يكمن الثراء والتحدي في عمل فوكو الذي يمثل مقاربة فلسفية للسلطة عبر محاولات دءوبة، مُحبِطة أحيانًا ومُبهِرة غالبًا، لتسييس السلطة ذاتها. فبدلاً عن استعمال الفلسفة لتجميد فكرة السلطة في ماهية سرمدية، ثم استعمال هذه الماهية لإدراك الكثير من تجليات السلطة في العالم. سعى فوكو إلى تحرير الفلسفة من عبء نظرها البارد في الإمساك بماهيات الأشياء. أراد فوكو تحرير الفلسفة ليقتفي أثر تحركات السلطة؛ توقّدها وضراوتها وهي تعمل على تحديد نظام الأشياء.

ولإدراك مدى أصالة مقاربة فوكو، فمن المفيد مقارنتها بالمقاربات السابقة في الفلسفة السياسية. قبل فوكو، افترض فلاسفة السياسة أن للسلطة ماهية؛ لتكن هذه الماهية السيادة، أو الهيمنة، أو السيطرة الموحَّدة. فقد حاجج المُنظِّر الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (1864-1920) بأن سلطة الدولة تكمن في «احتكار الاستخدام المشروع للقوة المادية». أما توماس هوبز (1588-1679)، الفيلسوف الإنجليزي والمُنظِّر الأصيل لسلطة الدولة، فقد رأى ماهية السلطة باعتبارها سيادة الدولة. واعتقد هوبز أن السلطة في أفضل حالاتها وأشدها نقاء تُمارّس من الموقع الفريد للسيادة، وأطلق عليها «اللفياثان».

لم ينكر فوكو قط الوجود الواقعي لسلطة الدولة بالمعنى الذي حدده هوبز، إلا أن فلسفته السياسية تنبثق من تشككه في التسليم بأن السلطة الحقيقية الوحيدة هي سيادة الدولة (وكانت هذه إحدى المسلمات الخالصة إلى أن تشكك فيها فوكو). فقد قبِل فوكو بأنه توجد في العالم قوى واقعية تمارس العنف، وليس فقط عنف الدولة. فهناك أيضًا عنف الشركات بسبب التركيز الهائل لرأس المال، وعنف الجنوسة في صورة السلطة الأبوية، والعنف الصريح والضمني الناتج عن الاعتقاد بسيادة البيض وتفوقهم، والذي يظهر في صور مثل العبودية والحرمان من تملّك العقارات وضخامة عدد المسجونين. لقد أثبت عمل فوكو أن مثل هذه الممارسات هي مظاهر للسلطة السيادية، على شاكلة اللفياثان. وما كان يتشكك فيه فوكو هو التسليم بأننا يمكننا من هذه الملاحظة السهلة استخلاص واستنتاج الفكرة الأكثر تعقيدًا بأن السلطة لا تظهر أبدًا إلا في صورة على شاكلة اللفياثان.

وبإدراكه للخصوصية المتخيلة للسلطة، تمكَّن فوكو أيضًا من تخيلها مُعارِضة لذاتها. فقد استطاع افتراض، ومن ثم دراسة، احتمالية أن السلطة لا تتخذ دومًا صورة واحدة فقط، وأن هذا يقتضي أن صورة ما للسلطة يمكن أن توجد مع صور أخرى للسلطة أو حتى تدخل في صراع معها. وبالطبع، فإن هذه الصور من الوجود المشترك والصراعات ليست مجرد معضلات فكرية نظرية، وإنما هي ما يحتاجه المرء ليُحلل بشكل تجريبي حتى يفهم.

ومن ثم، فقد سمح هذا الافتراض الشكِّي لفوكو أن يطرح تساؤلات ودراسات دقيقة رصينة إزاء الوظائف الحقيقية للسلطة. وما تكشف عنه هذه الدراسات هو أن السلطة، التي ترعبنا بسهولة، تُطوِّر من نفسها وتصبح أكثر مكرًا وخُبثًا لأن صور عملها الأساسية تتغير كردِّ فعل لجهودنا المستمرة لتحرير أنفسنا من قبضتها. ولنأخذ مثالًا واحدًا فقط، يتحدث فوكو عن فضاء سيادي كلاسيكي مثل المحكمة القضائية، حيث كتب عن طريقة قبول المحكمة في إجراءاتها شهادة الخبراء الطبيين والنفسيين والذين كانوا يمارسون نفوذهم وسلطتهم دون الرجوع إلى العنف السيادي. إن تشخيص أحد الخبراء لـ «الجنون» اليوم أو «الدعارة» منذ مئة عام قد يخفف أو يعزز حكمًا قضائيًّا.

أوضح فوكو كيف أن سلطة اللفياثان السيادية (الملوك، المجالس التشريعية، رأس المال) أصبحت خلال القرنين الماضيين تواجه صورتين جديدتين للسلطة: السلطة الانضباطية (التي أسماها فوكو السياسات التشريحية للجسد البشري anatomo-politics، بسبب اهتمامها التفصيلي بتدريب الجسد الإنساني) والسياسات الحيوية. كانت السلطة الحيوية هي موضوع كتاب فوكو تاريخ الجنسانية: الجزء الأول، في حين كانت سلطة الانضباط، أي السياسات التشريحية للجسد البشري، هي بؤرة اهتمام فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة.

في كتاب المراقبة والمعاقبة، أكثر من أي كتاب آخر، يُشيِّد فوكو أسلوبه البحثي الخاص وشديد التدقيق لتناول الميكانيزمات الفعلية للسلطة. وتكشف عملية النشر التي جرت مؤخرًا، والتي أوشكت الآن على الاكتمال، لمجموعة محاضرات فوكو في الكوليج دي فرانس (وهي، على الأرجح، المؤسسة الأكاديمية الأرفع قدرًا في العالم، والتي حاضر فيها فوكو من 1970 إلى 1984)، تكشف أن كتاب المراقبة والمعاقبة كان ثمرة خمس سنوات على الأقل من البحث الأرشيفي المكثف. وفي أثناء كتابة هذا الكتاب، كان فوكو منكبًّا بشدة على مادته العلمية، وترأس حلقات دراسية بحثية، وألقى عددًا هائلًا من المحاضرات العامة، والتي تُنشر الآن تحت عناوين مثل: المجتمع العقابي The Punitive Society، وسلطة الطب النفسي Psychiatric Power. تمتد المادة التي عالجها فوكو لتشمل نطاقًا واسعًا، بداية من ميلاد علم الجريمة الحديث وصولاً إلى تفسير الطب النفسي للهيستيريا القائم على الجنوسة. تعرض هذه المحاضرات فكر فوكو وهو ينمو ويتطوَّر، ومن ثم تقدم نظرة ثاقبة على فلسفته في غمرة تحولاتها. وفي آخر الأمر، عندما نظَّم فوكو مادته الأرشيفية على شكل كتاب، كانت النتيجة هي الحِجاج المتماسك والكفء في كتاب المراقبة والمعاقبة.

وفقًا لتحليلات فوكو التاريخية والفلسفية، فالانضباط هو إحدى صور السلطة التي تخبر الناس كيف يسلكون في حياتهم، وذلك بالتحايل عليهم ليضبطوا أنفسهم وفق ما هو «معياري». إنها سلطة في صورة تدريب تصحيحي. والانضباط لا يُلغي الذات المُوجَّه إليها ولا يسحقها كما تفعل السيادة، وإنما يعمل بطريقة أكثر دهاء، بل باهتمام مهذب جذاب، لينتج أُناسًا خاضعين مذعنين. وقد أطلق فوكو على منتجات الانضباط المعيارية الخاضعة تسميته المشهورة «ذوات ليّنة».

السجن هو التجلِّي النموذجي للسلطة الانضباطية. ويرى فوكو أن الشيء الأهم حول هذه المؤسسة، وهي مكان المعاقبة الأوسع انتشارًا في العالم الحديث (ولكن من الناحية العملية لم تكن موجودة كإحدى صور العقاب قبل القرن الثامن عشر)، ليس الطريقة التي تحبس بها المجرم بالقوة؛ إذ إن هذا هو الجانب السيادي الذي بقي واستمر في السجون الحديثة، ولا يختلف في الأساس عن الصور القديمة المهجورة للسلطة السيادية التي تمارس قوة عنيفة على المجرم، مثل النفي والاستعباد والأسر. وقد تطلع فوكو إلى ما وراء هذا الجانب الأكثر وضوحًا لينظر بشكل أعمق في مؤسسة السجن المعقدة. لماذا، عبر مسار الحداثة، جرى التخلي عن أساليب التعذيب والقتل الرخيصة نسبيًّا لصالح تعقيد السجن المكلِّف؟ هل فقط لأننا جميعًا، كما هو الاعتقاد الشائع، بدأنا نصبح أكثر إنسانية في القرن الثامن عشر؟ يذهب فوكو أن مثل هذا التفسير سيخفق في الوقوف على الأسلوب الجوهري لتحول السلطة حينما يتم تنحية مشاهد التعذيب جانبًا لصالح السجون التي تبدو كالمتاهة.

كذلك، حاجج فوكو بأنه إذا نظرنا إلى طريقة عمل السجون، أي إلى آلياتها، سيتضح لنا أنها مُصمَّمة ليس من أجل حبس المجرمين بالدرجة الأولى بل لإخضاعهم لتدريب يجعلهم خاضعين منصاعين. فالسجون قبل كل شيء وفي المقام الأول ليست مقرات للحبس والعزل، بل إدارات للإصلاح والتأديب. إن الجانب الأهم الذي يمثل عصب هذه المؤسسة ليس هو قفص زنزانة السجن، وإنما هو روتين الجدول الزمني الذي يحكم الحياة اليومية للسجناء. فما يجعل السجناء منضبطين هو أمور مثل التفتيش الصباحي الخاضع للإشراف، وأوقات تناول الطعام المراقّبة، وورديات العمل، بل حتى فترة التريّض تحت مراقبة حشد كامل من الحاضرين بما فيهم الحُرَّاس المسلحون وعلماء النفس الذين يدونون ملاحظاتهم ببراعة.

ومن اللافت للانتباه، أن جميع عناصر منظومة المراقبة في السجن تكون مرئية وظاهرة بشكل مستمر، ومن هنا تنشأ أهمية العنوان الأصلي الفرنسي لكتابه المراقبة والمعاقبة. فلا بد أن يعرف السجناء أنهم خاضعون لمراقبة دائمة، وليس الهدف من المراقبة الدائمة تخويف السجناء الذين يفكرون في الهرب، وإنما إجبارهم على النظر إلى أنفسهم باعتبارهم خاضعين لعملية تأديب وتهذيب. فمنذ بزوغ الصباح إلى حلول المساء يخضع السجناء لتفتيش سلوكي لا ينقطع.

إن الخطوة الحاسمة في عملية السجن هي التحايل على السجناء ليتعلموا كيف عليهم أن يتفحصوا ويروّضوا ويهذبوا أنفسهم. وإذا ما كانت المراقبة مُصمَّمة بصورة فعَّالة، فلن يكون السجناء بحاجة إلى من يراقبهم، نظرًا لأنهم سيصبحون هم من يراقبون أنفسهم بأنفسهم. وهذا هو الخضوع والانصياع.

من أجل توضيح هذا الشكل الحديث للسلطة، استخدم فوكو في كتاب المراقبة والمعاقبة صورة أصبحت مشهورة عن جدارة، حيث استعاد من أرشيفات التاريخ تصميمًا، كان قد نُسي تقريبا، وضعه الفقيه القانوني وفيلسوف الأخلاق الإنجليزي جيرمي بنتام (1748-1832). فقد عرض بنتام مقترحًا لسجن ذي مراقبة شمولية وأطلق عليه «البانوبتيكون». كانت الفكرة المحورية في مقترحه هذا هي هندسة معمارية مُصمَّمة من أجل التأديب. في البانوبتيكون، نجد أن الطبيعة المادية المهيبة للأحجار الثقيلة والقضبان الحديدية اللازمة للسجن البدني أقل أهمية وشأنًا من عناصر غير ملموسة مثل الضوء والهواء، والتي يمكن بواسطتها، وعبر المراقبة، اعتراض أي حركة يقوم بها السجين.

كان تصميم البانوبتيكون بسيطًا؛ دائرة من الزنازين تحيط ببرج مراقبة مركزي. كل زنزانة في موضع مواجه للبرج من الداخل ومُضاءة عبر نافذة واسعة من الخارج حتى يتمكن أي شخص داخل البرج من رؤية الزنزانة من الداخل ليراقب بسهولة حركات السجين داخلها. كما أن برج المراقبة ظاهر تمامًا للسجناء، ولكنهم، بسبب نوافذه المعتمة المصممة على نحو متقن، لا يستطيعون رؤيته من الداخل ليعرفوا ما إذا كانوا خاضعين للمراقبة أم لا. إنه تصميم من أجل المراقبة الدائمة. إنها هندسة معمارية ليست مخصصة في المقام الأول لتكون مكان اعتقال، بقدر ما هي «طاحونة لسحق الأوغاد تمامًا» بتعبير بنتام نفسه.

ربما يكون البانوبتيكون بقي مجرد حلم، فلم يُشيَّد سجن من قبل وفقًا لمواصفات بنتام بالضبط، ولو أن عددًا قليلًا من السجون كان قريبًا من هذه المواصفات. أحد السجون التي اقتربت من تلك المواصفات هو المبنى F في مؤسسة ستيتسفيل الإصلاحية بولاية إلينوي، الذي افتُتح عام 1922، وأُغلق نهائيًّا في نوفمبر 2016. لكن الأمر المهم بخصوص البانوبتيكون هو أنه كان حلمًا عامًا. لا يرغب المرء في أن يُحتجَز في زنزانة سجن ليخضع لتصميماته المخصصة للترويض الانضباطي. إن السطر الأشد إثارة للرعب والقشعريرة في كتاب المراقبة والمعاقبة هو آخر عبارة في القسم المعنون بـ«البانوبتية» Panopticism حين يتساءل فوكو بأسلوب ساخر: «ما العجب في أن تكون السجون مشابهة  للمصانع والمدارس والثكنات والمستشفيات، وكلها بدورها تشبه السجون؟» إذا كان فوكو على حق، فنحن نخضع لسلطة التدريب التأديبي حيثما جلسنا على مقاعد الدراسة أو حتى في أثناء عملنا في المصانع في خطوط التجميع. وربما معظمنا هكذا في زمننا هذا، في غرف نومنا التي اخترنا تفاصيلها الدقيقة بعناية شديدة، أو في أثناء عملنا في المكاتب المفتوحة التي انتشرت اليوم بكثرة فيما يُعرف بمساحات العمل.

لا شك في أن التدريب الانضباطي ليس عنفًا سياديًّا، وإنما هو إحدى صور السلطة. تقليديًّا، كانت السلطة تأخذ صورة القوة أو الإكراه، وكانت ممارسات العنف الجسدي تمثل صورتها الخالصة المحضة. أما ممارسات الانضباط فهي على العكس من ذلك، إذ تأسرنا في قبضتها على نحو مختلف، فهي لا تمسك بأجسادنا لتقضي عليها مثلما كان اللفياثان يهدد بهذا دائمًا. فالانضباط، بالأحرى، يقوم بتدريب أجسادنا وتمرينها و«تنميطها» بحسب تعبير فوكو نفسه. وهذا كله بمثابة صورة ماكرة وحشية للسلطة، كما يقول فوكو. إن رفض الإقرار بأن هذا الانضباط هو إحدى صور السلطة يعني إنكار كيف تتشكل حياتنا البشرية وكيف نحياها. وإذا كان العنف السيادي هو الصورة الوحيدة التي نحن مستعدون للإقرار بها، فنحن في موقف ضعيف لا يمكننا من فهم ركائز السلطة اليوم. وإذا عجزنا عن رؤية السلطة في صورها الأخرى، فسوف نعجز عن مقاومة جميع الطرق الأخرى التي تتخذها السلطة لتصبح فعالة ومؤثرة في عملية تشكيلنا.

يُبيّن عمل فوكو أن السلطة الانضباطية كانت مجرد صورة واحدة من الصور العديدة التي اتخذتها السلطة خلال القرون القليلة الماضية. تواصل السياسات التشريحية الانضباطية وجودها جنبًا إلى جنب مع السلطة السيادية وكذلك مع سلطة السياسات الحيوية. في كتابه التالي تاريخ الجنسانية جادل فوكو بأن السياسات الحيوية تساعدنا على فهم كيف أن هذا السيل الجنسي الطافح المبهرج يواصل وجوده في ظل ثقافة تقول عن نفسها بانتظام إنه يجري كبت نشاطها الجنسي الحقيقي. فالسياسات الحيوية لا تحظر النشاط الجنسي، ولكنها بالأحرى تنظمه في صورة أكبر قدر ممكن من الفائدة لصالح مفاهيم بعينها مثل التناسل والأسرة والصحة. فقد استخدم أطباء الأمراض النفسية والأطباء السياسات الحيوية ببراعة في القرن التاسع عشر عندما اعتبروا المثلية الجنسية صورة من «الانحراف والشذوذ الجنسي» نظرًا لفشلها في تركيز النشاط الجنسي في إطار التناسل الأسري الصحي. ولعله كان من المستبعد، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق هذا الأمر من خلال الممارسات السيادية مثل الإكراه الجسدي المباشر. أما الأمر الأشد تأثيرًا وفعالية بكثير، كان هو أفواج الأطباء الذين ساعدوا على تقويم مرضاهم من أجل مصلحتهم الخاصة المفترضة.

ثمة صور أخرى من السلطة تواصل وجودها بيننا، فالبعض ينظر إلى سلطة البيانات -أي سلطة معلومات وسائل التواصل الاجتماعي وتحليل البيانات والتقديرات الخوارزمية المتواصلة- باعتبارها نمط السلطة الأكثر أهمية وخطورة منذ وفاة فوكو في 1984.

لا يزال فوكو يحظى بأهمية فلسفية كبيرة، بالنظر إلى أنه كشف آليات عمل السلطة الحديثة، وبالتالي قام بتحليل هذه الآليات على نحو بارع، في حين رفض تطوير هذا إلى نظرية مفردة وموحدة حول ماهية السلطة. كما أن نزعته الشكية الحادة، التي ترسَّخ فيها فكره، ليست موجهة ضد استخدام الفلسفة من أجل تحليل السلطة، وإنما ترتاب، بالأحرى، في التبجح الكامن وراء فكرة أن الفلسفة يمكنها، ويجب عليها أيضًا، أن تكشف عن الماهية الخفية للأشياء. هذا يعني أن الكلمة التي تمثل بصمة فوكو –السلطة- ليست اسمًا لماهية قام فوكو بتحليلها، وإنما هي، بالأحرى، دليل ومؤشر لحقل كامل من التحليل لا بد للفلسفة أن تواصل مشقة وعناء العمل فيه.

بالنسبة لمن يظنون أن الفلسفة لا تزال بحاجة إلى تحديد الماهيات الأبدية، فهولاء سيجدون منظور فوكو غير مقنع على الإطلاق. أما من يعتقدون أن ما يبدو أبديًا لكل منا سيتغير عبر الأجيال والأماكن، فهؤلاء على الأرجح سيجدون الإلهام في مقاربة فوكو. وفيما يتعلق بالمفاهيم المركزية في الفلسفة السياسية، أي الثنائي المفاهيمي: السلطة والحرية، فقد كان رهان فوكو أن الناس على الأرجح سيظفرون بمزيد من الحرية عبر رفضهم مقدمًا تحديد كل الصور التي قد تأخذها الحرية. كما يعني هذا أيضًا رفض التمسك بتعريفات ثابتة للسلطة. وفقط عبر تتبع السلطة وملاحقتها في كل مكان تعمل فيه، تكون لدى السلطة فرصة جيدة للازدهار. وفقط عبر تحليل السلطة في صورها المتعددة، كما فعل فوكو، تكون لدينا فرصة لزيادة صور الحرية العديدة التي تقاوم كل الطرق المختلفة التي تحاول السلطة من خلالها وضع الحدود لمن يمكن أن نكون.

تمثل المفارقة الساخرة لفلسفة تدعي أنها يمكنها تعريف السلطة نهائيًّا وإلى الأبد في أنها تضع بذلك الحدود لماهية الحرية. إن فلسفة كهذه قد تجعل الحرية مكبَّلة تمامًا. هؤلاء الذين يخافون مما تتسم به الحرية من طلاقة وعدم قابلية للتنبؤ سيجدون في فوكو خطرًا شديدًا. أما مَن هم غير مستعدين لأن يقرروا اليوم ماذا ستعني الحرية في الغد، فهؤلاء يجدون في فوكو قوة مُحرِّرة، على الأقل فيما يتعلق بمنظوراتنا الفلسفية. ومن ثم، لا تقتصر أهمية مقاربة فوكو للسلطة والحرية على الفلسفة فحسب، ولكن أيضًا تتعدى هذا إلى ما يمكن للفلسفة أن تساهم به فيما يتعلق بالنظام المتغير للأشياء التي نحيا بينها.