عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

خالد قطب

قراءة في الخطاب الثقافي التنظيري لثورة 1919

2019.05.01

قراءة في الخطاب الثقافي  التنظيري لثورة 1919

تقوم أي ثورة – وخاصة الثورة السياسية – على عامل رئيس هو «عامل التجديد»؛ إذ تنطلق الثورة من فكر تجديدي يتجاوز حالة السبات التي تسبّب فيها النموذج الفكري الإرشادي القديم الذي توّقف عن التفكير والإبداع، وفشل في حلّ المشكلات التي من المفترض أنه معنيّ بحلّها، وتجاوزها. ومَارَسَ هذا النموذج الفكري الإرشادي كلَّ صنوف التضليل، واحتكار الحقيقة المطلقة، وتهميش و/ أو إقصاء كل من يخالف هذا النموذج. إذ يروّج النموذج الفكري الإرشادي القديم لمنظومته المعرفية، والقيمية، والسلوكية من خلال خطاب معرفي يوجّه من خلاله الشعوب؛ إذ يضع النموذج الفكري الإرشادي القديم منظومة من المقولات المعرفية، والقيمية التي تشكّل الذات، وطريقة تفكيرها، ونظرتها إلى الواقع، والعالم وأيضا تطلعات هذه الذات إلى المستقبل. ومن ثمة كانت هناك علاقة وثيقة بين السلطة التي لديها قوة التحكم السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي، وبين المعرفة السائدة بمقولاتها، وأحكامها المتعلقة بالصواب والخطأ، أو بالصدق والزيف، أو بالخير والشر، باختصار الأحكام المتعلقة بما ينبغي، وما لا ينبغي في المجتمع. 

وتنطلق «الثورة السياسية» من برنامج معرفي فكري يعمل الثوريون على تحقيقه، وإنجازه على أتم وجه هذا البرنامج ليس من صنيع السياسيين فحسب، بل يشترك في تأسيسه، والتنظير له خطابات فكرية متعددة، ومتباينة. إذن، تهدف «الثورة» إلى التغيير، تغيير النموذج المعرفي الفكري الإرشادي القديم الذي يحرّك الفكر، ويوجهه نحو طرُق محدّدة سلفًا من التفكير، والممارسة، هذا النموذج الذي يمارس أشكال التزييف، والعنف، والقوة بهدف إبقاء الأوضاع على ما هي عليه. 

و«الثورة السياسية» ليست مجرد رغبة في إحداث تغيرات سياسية، و/أو اجتماعية، و/أو اقتصادية جذرية فحسب، بل هي – قبل كل شيء –: وعي ناشط يهدف إلى تغيير هادف، ومؤثر ينعكس أثره على المجتمع. أو بعبارة أخرى، الثورة ليست تغييرًا في البنية السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية لشعب من الشعوب، أو مجتمع من المجتمعات، بل هي تغيير في الثقافة ذاتها، وأعني بالثقافة هنا: مختلف أساليب، وأشكال الممارسات في المجتمع. كما أنها تغيير في منظومة القِيَم، والمسلَّمَات التي يسلِّمُ بها النظام السياسي، و/أو الاجتماعي، و/أو الثقافي، و/أو الاقتصادي، إن الثورة وعي بفقد الحرية بأشكالها المتعددة التي لا تستقيم الحياة بدونها، تلك الحرية التي تمثل حقًّا طبيعيًّا للإنسان، وهي – كذلك –: الوعي بأن سلطة ما جائرة تعمَّدت كبْتَ هذه الحرية، وقمعت المنظّرين لها، والمطالبين بها؛ ولهذا تمثل الثورة السياسية حالةً واعية من الغضب، والاندفاع نحو التغيير الواعي، والهادف.

وهناك عدة سمات تميز الثورة السياسية، منها: السمة اللاتنبوئية، فعلى الرغم من أن أشكال عديدة من المقاومة تسبق الثورة إلا أننا لا نستطيع التنبؤ بمكان وزمان الثورة، الأمر الذي يجعل «الثورة السياسية» لها سمة التدرّج؛ إذ يسبق الثورة الكثير من المقدمات، والأزمات، والقطائع التي يتم التعامل معها على شكل مقاومة، فالثورة السياسية لا تحدث فجأة، أو طفرة دون مقدمات، وأزمات تؤدي في النهاية إليها، ومن ناحية أخرى، هناك سمة ثالثة تميّز الثورة السياسية، وهي: طابعها الجمْعِي، بمعنى أن الذي يقوم بالثورة ليس فردًا / بطلاً، بل أفراد المجتمع عندما يتراكم لديهم الوعي بضرورة التغيير، والتخلص من النموذج المتسلّط.

تهدف – إذن – «الثورة السياسية» إلى تحقيق هدف محدّد نظرًا؛ لحملها برنامج محدّد المَعَالِم، ونهائي تأمل تحقيقه، وإنجازه على أحسن وجه، إن هذا الهدف الذي تسعى إلى بلوغه «الثورة السياسية» يتضح في تعريف الثورة السياسية ذاته، وهو أن الثورة السياسية هي نوع من التغيير الواعي الهادف والمؤثر. ولهذا يمكن القول إن ثورة 1919 م لم تبدأ من فراغ – وخاصة – في بُعْدِها الفِكريّ الثقافي، وإنما كانت امتدادًا لتطور فكري، وثقافي سبقها، ومهَّد لها، أو بعبارة أخرى كان ثمّة تراكمات فكرية، وثقافية شارك فيها مختلف التيارات الفكرية الإصلاحية منها، والعلمانية، والتي أدّت بشكل مباشر في بعض الأحيان، وبشكل غير مباشر في أحيان أخرى إلى هذه الثورة؛ ولهذا يمكن القول بأن ثورة 1919 لم تكن ثورة يتبناها حزب من الأحزاب، أو شخصية من الشخصيات بل كان لها طابعها الجمعي التراكمي التدرّجي هذا الطابع الذي اجتمع على ضرورة تجاوز النموذج المعرفي الفكري الإرشادي الذي وضعه «الفكر الكولونيالي الإنجليزي» الذي أكّد على مفهوم الحماية من الأخطار التي تتعرض لها مصر، وكأنه يقدم قيمة أخلاقية للمصريين تستوجب الشكر منهم. ولكي يتم التجاوز كان من الضروري وضْعُ فلسفةٍ جديدة تقوم على مبادئ تُخَالف الطرح الخِطَابي الذي يطرحه الفكر الكولونيالي الإنجليزي، أعني: مبادئ الحرية، والمساواة، والعدل.

الفكر الكولونيالي الإنجليزي ومحاولة تفريغ العقل المصري:

يستند أيُّ «فكرٍ كولونيالي» على أسس معرفية محدَّدة تبرّر له استعمارَه للدّول، والشعوب المستَعمرة، إذ تستند هذه الأسس على توجهات أيديولوجية، وتفسيرات مغرضة، ولعل أهم هذه الأسس، وأكثرها التصاقًا بموضوعنا المطروح في هذه الورقة، هو فكرة حتمية المسار التاريخي الذي تحكمه قوانين ثابتة لا يمكن أن تشذ، أو تخرج عن هذا المسار. 

يؤكد «الفكر الكولونيالي» أن التاريخ يعكس مراحل سعي الإنسان نحو التقدم، الأمر الذي يجعل هذا الفكر يطالب بتاريخ عالمي موحَّد قوامه التحرّر من كل تاريخ محلي، أو قومي، فهو يسعى إلى تفريغ العقل الجمعي للشعوب المستَعمرة من أفكار الوطنية، والقومية التي تتشكّل من تراث هذا العقل الفكري، والثقافي. وقد نتج عن هذا التصور الأيديولوجي المغرض تأكيد مقولة المصير المحتوم، والمعروف للأحداث التي سوف تأتي في المستقبل؛ لأنها تتبع نفس المسار الحتمي الذي ساد أحداث التاريخ؛ ولهذا يحاول خطاب «الفكر الكولونيالي الأيديولوجي» أن يقدم أسباب مشروعيته، واستمراره على المستويَّيْن التاريخي، والحاضر من خلال العمل على سيادة أيديولوجيا تُمارس نفوذًا على العقل بحيث ينتج خطابات معرفية، وفكرية تتناسب مع التوجه العام للفكر الكولونيالي المُغرِض.

ولهذا تشكّل الأيديولوجيا، كما يقول «لوي ألتوسير» الفيلسوف الفرنسي الشهير، «جزءا عضويًّا في كل وحدة مجتمعية؛ فالمجتمعات البشرية تُفرِز الأيديولوجيا كما لو كانت هي العنصر، والمناخ الضروريين لحياتها التاريخية.» ورغم هذا فإن الأيديولوجيا – في جوهرها – ضد التاريخ كونها تمارس نفوذَها، وتأثيرها لتشويه تاريخ الآخر، أو تاريخ الهامش، والأطراف البعيدة كلية عن المركز، والتنكّر لمَا قدَّمه في تاريخه من إنجازات، وعدم الاعتراف به، فتلجأ إلى تأويل أفكاره، وتصوراته وفقًا لمقولات أيديولوجية محدَّدة مُسبقًا تعتمد على منطق المصلحة، حيث يبدو الآخر المستَعمِر غير قادر على التفكير الصحيح، ومن ثمّة لا يقوى على إنتاج علم، أو معرفة. من هذه المقولات: تأكيد خطاب الثنائية الذي يؤكد على علاقة هرمية يُنظر فيها إلى المستَعمِر بوصفه الآخر بالنسبة للثقافة المستعمِرة. 

وليس هذا فحسب، بل يؤكد هذا الخطاب على همجية الآخر/ المستَعمر في مقابل المتحضّر/ المستعمِر. وكما تسعى الأيديولوجيا – أيضًا – إلى ممارسة نفوذ على المعارف، والعلوم فتطرح تساؤلات، وتستدعي نتائج؛ لتكون بمثابة أدلة على صحة مقولاتها التي يحملها خطابها الفكري. 

وانطلاقًا من هذه المقدمة نحاول قراءة كيف عمِلَ الفكرُ الكولونيالي البريطاني على مصر منذ احتلاله لها في العام 1882م تأكيد مفاهيم التبعية، والطاعة، والخضوع في المجتمع المصري على مستويين اثنين:

 المستوى الأول: مستوى فكري:

أي التبعية للفكر الأوروبي الذي يمثل النموذج المعرفي الفكري الأجدر بالاتباع، وهذا يعني (وهو المسكوت عنه) أنّ أي نموذج معرفي فكري غير أوروبي لا يمكن أن تقوم له قائمة كونه يعيق التقدم. 

المستوى الثاني: مستوى مجتمعي:

والذي هو نتيجة طبيعية، وفقًا لهذا الفكر الكولونيالي الأيديولوجي، وهو وضع خطاب فكري يعمل على إيصال الإحساس بالدونية العقلية، والفكرية، والسياسية لدى الشعوب المستَعمرة، وبالتالي عليها الطاعة والخضوع لمن يملك الفكر السياسي، والاقتصادي، والثقافي والعلمي وأيضًا القوة العسكرية، وهذا يفسّر لماذا استخْدَمَ خطابُ الفكر الكولونيالي الإنجليزي تعبيرَ «الحماية على مصر»؛ إذ تحمل كلمة «حماية» دلالات تعكس هذا الخطاب، فهي تحمل دعوات الإصلاح، والوقاية من المخاطر التي تهدّد الدول المستَعمرة عن طريق التدخل المتعمد لتحقيق أهداف محدَّدَة سلفًا – وفي الوقت ذاته – كما تُعَد دلالات الحماية شكلًا من أشكال اللاتكافؤ بين القائم على الحماية، والمُستقبِل لها، هذا اللاتكافؤ يجعل القائم على الحماية يفرض إجراءات صارمة، وعلى المستَعمر أن يطيع، ويمتثل؛ ولهذا ليس غريبًا أن نجد أول الإجراءات التي اتخذها المستعمِر الإنجليزي على مصر بعد «الحرب العالمية الأولى» فرْض الأحكام العرفية لعزل مصر، وتهميشها من خلال قَطْع علاقة مصر بالدولة العثمانية، وقد اتّخذت هذه الأحكام – على سبيل المثال –: منع التجمهر، والرقابة على الصّحف، والسيطرة على المؤسسات الحكومية. 

حاول «الفكر الكولونيالي الإنجليزي» تفريغ العقل المصري من تاريخه، وطموحاته المستقبلية من خلال قصر التعليم على نخبة محدَّدة يتم الاستعانة بها في الوظائف الحكومية وهي: «النخبة البيروقراطية» التي تحمل ولاءً لهذا الفكر، فقد عَارَضَ هذا الفكر الكولونيالي محاولات العقل المصري إصلاح التعليم حتى أنه كان يخصِّص أقل من 1 % من إجمالي الإنفاق العام على التعليم، وكانت الحجة المزعومة التي ينظُر لها هذا الفكر أنّ العقل الشرقي ليس لديه القدرة على التفكير، والإبداع؛ لأنه يحمل عقلية مثقلة بالعقائد الجامدة، وهو الزعم الذي روَّج له هذا الخطاب عندما وَضَع تفرقةً حاسمةً بين العقل الشرقي (السامي)، والعقل الأوروبي (الآري)، هذه التفرقة الجذرية التي تؤسّس لدونية الأول، وتفوق الثاني؛ إذ إن الشعوب المستَعمرة ذو منزلة أدنى بالوراثة، وهذه المنزلة كفيلة بأن تجعل هذه الشعوب خارج دائرة التاريخ، والحضارة من جهة، إضافة إلى كونها شعوبًا ليس لها مستقبل من جهة أخرى. 

ولهذا فَرَض «الخطاب الكولونيالي» معارفَه، وقِيَمَه على المجتمعات التي تخضع لسلطته الاستعمارية في محاولة منه تشكيل الواقع وفق مجموعة من الرموز، والممارسات التي تحدّد شكل العلاقة داخل المجتمع الكولونيالي. «إن الخطاب الكولونيالي متضمن – بدرجة كبيرة – في أفكار مركزيَّةِ القارةِ الأوروبيّة، حيث يضع هذا الخطاب منظومة المعرفة، والمعتقَد بشأن العالَم الذي تحدُثُ داخل أركانِه أفعالُ الاستعمار.» ومن هنا أصبحت أوروبا هي «المركز»، وكان بالبداهة أن يصبح كل ما حول هذا «المركز» يقع على «الهامش»، أو على حافة الثقافة الأوروبية، وأن الرسالة الاستعمارية التي يسعى «المركز» إلى تحقيقها هي جلب «الهامش» إلى مجال تأثير «المركز» الذي يتسم بالتنوير، وهذا يبرر للمركز السيطرة الاقتصادية، والسياسية على «الهامش». 

لقد روَّج «الخطاب الكولونيالي» لفكرة الهامشية في نفوس الشعوب المستَعمرة عن طريق التاريخ، وطريقة كتابته؛ فالتاريخ الحقيقي هو تاريخ الدول، والشعوب، والأنظمة الفكرية، والثقافية المهيمنة، أو بعبارة أخرى، إنه التاريخ الرسمي الذي يجب أن نقتفي أثر أحداثه، إنه التاريخ الذي يركّز على النخبة، ومقولاتها المعرفية، والفكرية، والقيمية. 

وقد أدّى هذا – كما سنرى –، إلى رَدَّة فعل مُضادة عندما اضطلع بعض المثقفين التنويريين في الشرق بمقاومة هذا «الخطاب الكولونيالي»، والتنظير لخطاب جديد يعي تحديات اللحظة التاريخية التي يمر بها، والقضايا التي تحتاج إلى حل جذري، وذلك من خلال صياغة خطاب عقلاني يؤكد على البعد الحضاري، والثقافي في التاريخ العربي، والإسلامي تارة، والتأكيد على إصلاح التعليم تارة أخرى.

والخلاصة سعَى «الخطاب الكولونيالي» إلى إقناع المستَعمرين بضرورة البحث عن منظومة معرفية أخرى غير منظومتهم المعرفية التقليدية التي ليس لها تاريخ، ولا حاضر، ولا مستقبل، وقد وجد هذا الخطاب من المثقفين الذين روَّجوا لأفكاره، وأيدولوجياته من خلال منابر ثقافية؛ كالصحف، والترجمات، وغيرها من الوسائل الأخرى.

دور المثقفين العلمانيين في التبرير للاحتلال البريطاني:

حاول «الخطاب الكولونيالي الإنجليزي» المدعوم من المؤسسة السياسية الإنجليزية استقطاب نخبة من المثقفين الذين يدينون بالولاء للفكر الأوروبي عامة، ولهذا نجد تيارًا ثقافيًّا نَخبَويًّا في مِصر ينظر إلى الجوانب الإيجابية في الاحتلال الإنجليزي لمصر من خلال الإصلاحات التي أحدثها المستعمر الإنجليزي على مستويات الزراعة، والري، وتنظيم الجيش، وتحسين النظم العامة. فنجد – على سبيل المثال – الطبيب اللبناني الذي أقام في مصر، ولعب دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي الثقافي المصري إبان الاحتلال الإنجليزي لمصر، أعني: «شبلي شميل». 

فقد أشار «شبلي شميل» إلى أن أسباب تقدم الإنجليز هو تحريرهم للعقل من كل القيود التي من شأنها أن تعرقل مسيرة العقل التنويرية، والتقدمية. وقد انعكس هذا التحرير للعقل على كل مظاهر الحياة الإنجليزية. فقد كانت هناك «الثورة الصناعية، والتجارية، والسياسية، وكان جرّاء هذا أن أنشئت المعامل، وأنتجت التكنولوجيات الجديدة مثل: المحركات البخارية، وتراكمت ثروات البريطانيين؛ إذن، كانت بريطانيا تمثل أنموذجًا إرشاديًّا بالنسبة لشبلي شميل على الشرق أن تحاكيه، وتجاريه؛ ولهذا لم يعتبر شبلي شميل سيطرة الإنجليز على مصر خالية من النقاط المضيئة. 

فقد انطلق «شبلي شميل» من اعتقاد مؤداه أن الشرق يحمل مظاهر التخلف، والانحطاط؛ لتراخي أنظمته السياسية، وفساد حكامه، وانحطاط قدراته العقلية، وفساد الأخلاق لديه، وأن مآله إلى الزوال إلا إذا أخذ بأسباب التقدم التي يقدمها الفكر الأوروبي المتطلع إلى المستقبل. فنجد «شبلي شميل» على سبيل المثال: يصف اللورد كرومر بالمصلح الحقيقي، وبأنه من أعظم رجال العصر، ومن أصحاب العقول الراقية، ومن نادرة الرجال السياسيين، ولهذا عاب شبلي شميل على الناس الذين يعارضون وجود الاحتلال الإنجليزي في مصر مطالبًا إياهم برفع أي شكاوى للورد كرومر؛ لأنه القادر –وحده– على خدمة الأمتين المصرية، والإنجليزية، يقول شبلي شميل:«الإنجليز يُصلحون فلماذا يُكرهون؟! فمصر تحت سيطرة الإنجليز انتظم ريُّها، واتسعت زراعتها، وأثرى فلاحها، وصارت حياته ذات قيمة، وانتظمت ماليتها حتى صارت موضع ثقة العموم، وبلغت الحرية فيها مبلغا تفتحت له أبواب السجون.» 

نخلص من هذا إلى أن دعوة شبلي شميل هذه كانت نابعة من قناعة أنّ الاحتلال الإنجليزي على مصر حقق نفعًا كبيرًا للمصريين نتيجة الإصلاحات المختلفة التي أحدثها الإنجليز في مصر، وهذه الدعوة تكشف المسكوت عنه في خطاب شبلي شميل، أعني: التشكيك في قدرة العقل العربي عامة، والعقل المصري خاصة على بناء مؤسسات سياسية مدنية، وبالتالي لا يمكن أن تقوم نهضة للعرب، ولا لمصر إلا بالسير على نهج النموذج الغربي في التفكير، وبناء المؤسسات المدنية.

وقد روّجت إلى هذه الأفكار عدةُ مجلاتٍ ثقافية أبرزها جريدة «المقطم» التي حاول كل من «يعقوب صروف، وفارس نمر» الصحفيان، والأديبان اللبنانيان، أن يروجا إلى حق بريطانيا السياسي، والدولي لاحتلال مصر. ففي زعمهما أن الإنجليز يحاولون تأمين طريقهم التجاري إلى الهند عبر قناة السويس، وهذا يمثل حقًّا طبيعيًّا لحماية مصالحهم الخاصة. ولكن ماذا عن استغلال الإنجليز للمال المصري والتحكم فيه؟ يجيب كل من يعقوب صروف، وفارس نمر بأن الدافع وراء هذا هو استعادة النظام في الدولة حتى لا تعم الفوضى في البلاد.

ويمكن أن نلخص سياسة جريدة المقطم في تبريرها لوجود الاحتلال الإنجليزي على مصر في النقاط التالية: 

إن المحتلين (الإنجليز) احتلوا هذا القطر، ولا يخرجون منه إلا بإرادتهم، أو بقوة تفوّق قوتهم.

لا نفع للمصريين من معاندتهم، ومعارضتهم (للاحتلال الإنجليزي)، والاستعانة بالدول الأخرى عليهم؛ لأن المعاندة، والمعارضة تضران بالمصريين، ولا تُخرِجان المحتلين من القطر (المصري)، ولأن الدول الأخرى لا تحارب المحتلين لتخرجهم من برِّ مصر.

إنّ مصلحة المحتلين توافق مصلحةَ المصريّين؛ ولذلك يقصد المحتلون تنظيم أمور مصر، وإصلاح حال المصريين، فلذلك يقضي حسنُ السياسة علينا بمسالمتهم، ومحاسنتهم، ومعاونتهم على إصلاح احوالنا، وإصلاح بلادنا؛ لأن ذلك كله لخيرنا.

إن المصريين يَصبُون طبعا إلى بلوغ الاستقلال، والتخلص من الاحتلال، وكِلَا الأمرين يتوقف عليهم، فليجِدّوا، ويكدوا، ويسعوا في التعليم، ونشر العلوم والمعارف بين عامتهم، وتوثيق عُرَى الاتفاق، والإخلاص بين المحتلين، وحكومتهم، وليَعُدّوا أنفسهم حلفاء المحتلين، وأصدقاءهم لا خصومهم، ولا أعداءهم حتى تتم ثقة المحتلين بهم، ويسهل عليهم إنجاز وعدِهم بالجلاء عن مصر. 

ويبرران أيضًا التدخل الكولونيالي في مصر عندما قالا:"ظن البعض أن السبب الأكبر لعدم ارتقاء بعض الشعوب في الحضارة، والعمران هو اكتفاؤهم ببقعتهم، وعدم ترحالهم عنها، وعدم اختلاطهم بغيرهم من الشعوب، فكأن ماء اجتماعهم أَسِنَ بركودِه، ودم حياتهم جَمُدَ بعدم دورانه، فلو تغرّبوا، وسمحوا للغرباء أن يستوطنوا بينهم لاستفادوا من الغربة، وتفرَّج همُّهم، واكتسبوا معيشة، وعلمًا، وأدبًا وصحبة." 

وقد قامت بهذا الدور التبشيري للفكر الكولونيالي الإنجليزي في مصر جريدة أخرى هي “المقتطف”، ولكن هذه المرة كان التبشير بطريقة غير مباشرة، أعني: عن طريق التبشير للتمدن الأوروبي – وخاصة الإنجليزي –، إذ أصبح النموذج الحضاري المعرفي “الأوروبي / الإنجليزي” هو النموذج الإرشادي الواجب اتباعه، والأجدر على تطبيقه، والاقتداء به، والسير على نظُم، وخطط هذا النموذج في التعليم والتربية. 

لقد كانت “المسألة الشرقية” هي المسألة المسيطرة على الواقع الثقافي خاصة بعد الاحتلال الإنجليزي على مصر، فقد أثيرت إشكالية كيفية ارتقاء الشرق، وتقدمه من خلال المقارنة بين ما حقّقه الإنسان الأوروبي من تقدم في العلوم والفنون، وبين أبناء الشرق الذين تخلفوا، وتوقفوا عن الارتقاء. هذه الإشكالية جعل الخطاب الثقافي الشرقي الداعي إلى اتباع النموذج الإرشادي “الأوروبي/ الإنجليزي” يهتم بالكاتب الفرنسي “إدمون ديملان” الذي وضح في كتابه “سر تقدم الإنجليز السكسونيين” الأسباب الوجيهة التي جعلت الإنجليز يقفون على رأس أكثر الحضارات نشاطًا، وأرقاها تقدمًا، وأبرزها حِراكًا، ولهذا عكف “أحمد فتحي زغلول” وهو شقيق الزعيم الوطني سعد زغلول، على ترجمة الكتاب بعد صدور طبعته الأولى في فرنسا بعامين. فقد قارن إدمون ديملان بين التربية في أوروبا – وخاصة في فرنسا وألمانيا –، والتي وصفها بالتربية الخاملة، وبين التربية في إنجلترا، والتي هي رمزٌ للقوة والصلابة، الأمر الذي جعل الإنجليز السكسونيين يحقّقون تقدمًا، ورقيًّا هائلَين في تنازع البقاء. 

لقد أراد “إدمون ديملان” أن يبحث عن أسرار نجاح الإنجليز السكسونيين، ولعل السر الذي بحث عنه وجده في المؤسسات المدنية، فليس غريبًا أن نجد “أحمد فتحي زغلول” يسير على هذا النهج؛ لينتهي إلى أن الطريق الواحد، والوحيد لارتقاء الشرق هو السير على الطريق الذي سار فيه الإنكليز، والذي اعتمدوا فيه على أنفسهم، ولم يتكلوا على غيرهم، إضافة إلى تبنّيهم موقفًا عِلميًّا خاليًا من التحيّز، والهوى.

الفكر الاشتراكي والتصدي للفكر الكولونيالي:

كانت المفارقة الملفتة للنظر أنه نشأ صراع أيديولوجي بين المنظّرين للنموذج الغربي الإنجليزي، والمنظرين للنموذج الفكري الثوري الوطني الجديد، إذ إن هذا الصراع كان عاملا أساسيًّا على قيام ثورة 1919م، إذ كان هدف المنظرين للنموذج الفكري الثوري الوطني الجديد هو: التصدي للوجود العسكري، والسياسي للمستعمِر؛ ولهذا وجدنا خطاب هذا النموذج الفكري الثوري الجديد يرفع شعار المقاطعة، أو قُل القطيعة مع الفكر، واللغة، والمنتج الإنجليزي، وكل ما له علاقة من قريب، أو بعيد مع المستعمِر الإنجليزي. 

كانت كتابات “فرح أنطون” تمثل خطابًا اشتراكيًّا ثوريًّا استوعبه المجتمع المصري، وفطن إلى الرسالة التي يحملها هذا الخطاب، فقد استند هذا الخطاب على مطلب ثابت هو: المطالبة بجلاء المستعمِر الإنجليزي، وأنه لا مفاوضة معه إلا بعد الجلاء، ولم يقتصر هذا الخطاب على هذا المطلب، بل كشف عن الأيديولوجيات المحلية التي تهادن “الفكر الكولونيالي الإنجليزي”، خاصة لدى الكتّاب، والصحفيّين اللبنانيين الذين كان لهم موقفٌ سياسيٌّ معارضٌ للدولة العثمانية، وسياساتها، الأمر الذي جعلهم يؤيدون الحكم الإنجليزي على مصر. 

اعتمد “فرح أنطون” في نشر خطابه الاشتراكي الثوري على أسلوب الرواية؛ لأنه – كما يقول–: “هو أجمع وأوعى، فضلا عن كونه أشدَّ تأثيرًا، وأحسنَ وقعًا.” فقد كتب روايته الشهيرة العام 1903 “الدين والعلم والمال”: المدن الثلاث” ليضمنها مبادئه، وأفكاره التي يؤسّس لها، أو بعبارة أخرى، أراد فرح أنطون أن يقدّم من خلال روايته تلك بحثًا فلسفيًّا اجتماعيًّا يعكس العلاقة الجدلية بين الدين والعلم والمال؛ لينتهي إلى نتيجة تقول بأن الاشتراكية هي الحل الأمثل للأزمات التي تعاني منها مصر، وهي القادرة على إزاحة المستعمِر الإنجليزي عنها.

ترمز الرواية للمدن الثلاث، أو قلْ: أشكال النظم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تسود العالم، وهي المدن التي يحاول بطلَيْ الرواية استكشافهما، وهما: “حليم” و”صادق”؛ إذ ترمز “مدينة المال” إلى النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الرأسمالية، حيث يتحكّم رأس المال في اتخاذ القرارات المبنية على تحقيق المنفعة لأرباب الأعمال أنفسهم. وكذلك يسيطر على “مدينة الدين” مجموعة من الكهنة، والزهاد الذين يرون العالم من خلال منظور لاهوتي غيبي، أو ميتافيزيقي. يشهد كل من “حليم”، و”صادق” الصراعات السياسية، والاضرابات الاجتماعية التي تنشأ في مدينتي المال، والدين. ولعل أكثر أنواع هذه الصراعات، والاضطرابات السياسية والاجتماعية عنفًا هو الصراع بين العمال، وأصحاب رؤوس الأموال، حيث ينشأ هذا الصراع من مطالبة العمال بالإصلاح الاجتماعي، والتغيير الراديكالي، الأمر الذي يجعلهم يقودوا ثورة عنيفة في وجه النظام الرأسمالي. إلا أن هذه الثورة تعوقها بعض العوائق، وأهم هذه العوائق هُم “رجال الدين” أنفسهم الذين ينصحون العمال بأنّ الحياة الآخرة هي الحياة الجديرة بالعيش، والتطلع إليها، وليس الحياة القائمة على المساواة والعدالة. وهنا يبرز “فرح أنطون” دور “مدينة العلم” القادرة على حل هذا الصراع بين مدينتي المال والدين. فأهل العلم هم القادرون على التغيير لمَا لديهم من قدرة على تقديم حلول علمية عقلانية، ولعل أهم المبادئ التي تقوم عليها مدينة العلم هي المساواة، والأخوة المشتركة، والعدالة الاجتماعية، في حين أن المدينتين الأخريَيْن تقومان على الجشع، والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المستمدة من العقل الفعّال. لقد وضع أهل العلم مجموعة من المبادئ التي على أساسها تتحقق المساواة، والعدالة، والأخوة، أو قل الاشتراكية وهي:

تحديد مدة عمل العمال، وهي ثماني ساعات في اليوم فقط.

وضع حد أدنى للأجور.

إرساء ضوابط لعمل النساء، والأطفال.

إنشاء صناديق للمعاشات.

بناء المستشفيات.

تأسيس برامج تعليمية قائمة على المبادئ العلمية، والخبرة التكنوقراطية.

التوسع في الزراعة، والصناعة للقضاء على البطالة.

إلا أن هذه المبادئ الاشتراكية التي حملها خطاب “فرح أنطون”، من خلال روايته قد أغضبت الاحتلال الإنجليزي على مصر؛ إذ تقف هذه المبادئ ضد الاقتصاد الحرّ الذي يستند عليه “الفكر الكولونيالي الإنجليزي”، إضافة إلى أن فكرة الصراع بين العمال، وأصحاب الأموال تمثل خطرًا كبيرًا على هذا الفكر؛ لأن المستعمِر كان بالفعل يمارس سياسة الاستغلال للعمال. ولهذا يمكن القول بأن رواية فرح أنطون رسَّخت مبادئ الاشتراكية الرافضة للاقتصاد الحر، واستغلال الاستعمار الإنجليزي للعمال، وتقويض النزعات الفردية، والنفعية التي يقوم عليها الفكر الكولونيالي.

وقد عبّر المفكر الاشتراكي “سلامة موسى” عن رفضه للهيمنة الكولونيالية الإنجليزية على مصر. إذ يذهب إلى أن الهيمنة الكولونيالية أنتجت مساوئ، وفظائع كثيرة على مصر، وأن الطاغية كرومر – على حد تعبير سلامة موسى – قد أفسد التعليم عندما فرض أفكاره على منظومة التعليم المصري، وأيضًا منع تعليم المرأة، إضافة إلى تجاهله لبناء صناعة في مصر، واعتماده فقط على الزراعة؛ لتوفير القطن لتصنيعه ثم بيعه إلى الغرب. يقول سلامة موسى: “وكنت قد تركت مصر عقب خروج كرومر الطاغية الإنجليزي الذي عطّل بلادنا من التطور، وكان السبب لخروجه “فظيعة دنشواي” التي فضحت الاستعمار البريطاني في جميع أنحاء العالم المتمدن... لقد كان استعمارًا مُسرفًا في الاستعمار. فمنع التعليم، وخاصة تعليم المرأة، وقتل الصناعة المصرية، وأحال القطر المصري إلى عزبة للقطن.” 

لقد فطن “سلامة موسى” إلى أن الاشتراكية كفكر، وممارسة اجتماعية واقتصادية هي السبيل إلى التحرر من بطش الاستعمار الإنجليزي، ولكن هذا التحرّر لا يأتي إلا إذا ترسخت فكرة الوطنية المصرية في نفوس المصريين، والتخلي عن القوميات الزائفة، أو الطارئة. 

لقد أدرك الخطاب الفكري المستند على مبادئ الفكر الاشتراكي الخطر الذي يمثله الفكر الكولونيالي الإنجليزي على الهوية المصرية؛ إذ كان يعمل الفكر الكولونيالي الإنجليزي على تفريغ الهوية المصرية من تاريخها، وقوميتها. فعلى سبيل المثال، روّج بعض المثقفين الشرقيين المنبهرين بالنموذج الفكري الكولونيالي الإنجليزي أمثال: شبلي شميل إلى الوطنية العالمية، تلك الوطنية التي يذوب بداخلها القوميات المحلية، وقد اتضح موقف هؤلاء المثقفين الشرقيِّين الكولونياليِّين من معارضتهم الشديدة؛ لفكرة تأميم قناة السويس بحجة أن هذه القناة مِلْك العالم أجمع، وأن مطالبة مصر بتأميمها بحجة مصريتها هو أمر بعيد كل البعد عن العقلانية. 

لم تكن الوطنية المصرية حاضرة في وعي المصريين – بشكل كبير – طوال التاريخ الذي مرَّت به مصر، وحتى أوائل القرن العشرين. إذ ظلّ المصريون تحت وطأة انتماءات، وهويات مغايرة للانتماء الوطني المصري، الأمر الذي جعل مصر تخضع إلى أشكال عديدة من الاستعمار الذي يستند على الدين تارة، فيفرض على المصريين شكل الانتماء الأمثل، أو الاستعمار الذي يستند على فكرة التوسع، وتكوين إمبراطورية بحيث جعل ولاء المصريين، وانتماءاتهم محصورة داخل هذه الإمبراطورية، فقد حال هذا دون تكوين الشعور بالوطنية. 

لقد ظل “العقل المصري” تحت مظلة انتماءات مغايرة له، ولتاريخه، وعندما شعر هذا العقل باختلافه التاريخي، والثقافي عن تلك الانتماءات الزائفة التي حاولت محو الهوية المصرية، ازداد وعيه الوطني، أو قُلْ ازداد وعيه بمصريته، وبدأ في المطالبة بالحكم الذاتي أولًا، ثم الاستقلال عن أصحاب السلطات الدينية، والتوسعية ثانيًا، وهذا يفسر لنا الفكر الدافع لثورة 1919 م، وكيف كان فكرًا يستند في المقام الأول على الوطنية المصرية المغايرة للوطنيات ، والهويات الأخرى التي حاولت أن تبتلع مصرية المصريين. ولهذا ليس غريبًا أن نجد “عبدالله النديم” يعي خطورة الفراغ الفكري الذي أصاب العقل المصري، والمتمثل في الانتماء إلى هويات دخيلة غريبة عن الهوية المصرية فقد قال: “ يا بني مصر، ليَعُد المسلمُ منكم إلى أخيه المسلمِ تأليفًا للعصبية الدينية، وليرجع الاثنان معًا إلى القبطي تأييدًا للجامعة الوطنية، وليكن المجموع رجلًا واحدًا، يسعى خلف شيء واحد هو حفظ مصر للمصريين.” 

ولا شك أن “الأدب الشعبي والفصيح” قد شكّلَا وعي المصريين، ونظّر – بشكل غير مباشر – إلى الوطنية المصرية، وبثّ روحها في نفوس المصريين من خلال الروايات، والأشعار، والزجل، والخُطَب، والأغاني، والمواويل الشعبية، فوجدنا “الموَّال الشعبي” يعكس الوعي المصري بأزمة غياب الهوية الوطنية المصرية، وأيضًا أزمة وجود “الكيان الكولونيالي الإنجليزي” على أرضه الأمر الذي جعله يستدعي تاريخ المصري القديم، أو قُلْ: تاريخ البطل المصري القديم أمثال: رمسيس، وأحمس، ومنقرع،، وغيرهم، يقول الموَّال:

يا مصر فين “طيبة” فين “صان الحجر”

فين “منف”، فين “رمسيس”؟ 

فين الجبابرة العتاة، يا مصر فين “أحمس”؟

لاجل يشوفوا الكتب لعبت بيها الأباليس

والعلم صار مهزأة، والجهل صار تمييز

والأزبكية فرح، والحمر دول أعلام

واللي بناه “منقرع” هدموه على الصهباء

أقولك أيه يا ابن سيدي، أقعد وأنا أحكي لك 

على خراب الزمن من يوم خراب “منفيس” 

الخطاب الديني الإصلاحي والموقف المزدوج من الفكر الكولونيالي:

كانت المؤسسات السياسية، والدينية الرسمية تقف موقفًا حياديًّا تجاه الاحتلال الإنجليزي على مصر، فعلى سبيل المثال: عندما تولّى الشيخُ محمد عبده منصب مفتي الديار المصرية العام 1988 م، والإشراف على المحاكم الشرعية، وتوصيته بتشديد الإشراف الحكومي على القضاء توجَّه المستعمِر إلى الشيخ محمد عبده؛ لاستشارته في قضايا عديدة، وليس أدلَّ على ذلك من الصداقة التي جمعت بين الشيخ “محمد عبده”، و”اللورد كرومر”، إذ ظل اللورد كرومر هو الحليف الواحد، والوحيد للشيخ محمد عبده، الأمر الذي جعل “الخديوي عباس” يأخذ موقفًا مضادًّا للشيخ محمد عبده، وليس هذا فحسب، بل شُنّت حملة صحفيّة ساخرة على الشيخ “محمد عبده” باعتباره يحقق المصالح الكولونيالية الإنجليزية في مصر. 

وكان ثمة جريدة أخرى حاولت أن تتصدى للفكر “الكولونيالي الإنجليزي” من جهة، وأيضًا تتصدى للحملة التي روَّجت لها جريدة “المقطم” من جهة أخرى، أعني: جريدة “ المؤيد” التي أنشأها “الشيخ الأزهري علي يوسف”، وهي الجريدة التي وصفها اللورد كرومر بأنها أبرز الصحف المناوئة للإنجليز في القاهرة. ولا شك أن هذه الانتقادات التي اضطلع القيام بها الشيخ علي يوسف من خلال منبره “المؤيد” أعادت الوعي للمصريين، وازدادت لديهم المشاعر الوطنية المناوئة للفكر الكولونيالي الإنجليزي، وممارساته الغاشمة، الأمر الذي جعل المصريين ينظرون إلى جريدة “المقطم”، وأفكارها، ومحرّريها على أنها عدوة للقومية والوطنية المصرية. لقد لعبت هذه الجريدة دورًا رائدًا في التنظير لثورة 1919م عندما أخذت على عاتقها تعبئة المصريين للكفاح ضد “الفكر الكولونيالي الإنجليزي” من جهة، ومقاومة “الآلة العسكرية الكولونيالية الإنجليزية” من جهة أخرى.

انطلق “الشيخ علي يوسف” من فرضية تقول بأن التمدّن، والعمران لا يقتصران على العقل الأوروبي كما يروّج “الخطاب الكولونيالي الإنجليزي”؛ إذ يعتمد التمدن على الإنسان في المقام الأول، فهو محور العالم، الأمر الذي جعل الشيخ علي يوسف يؤكد على أن تقدم المجتمعات ، وتحقيق مدنيتها يتوقف على الإرادة الحرة للإنسان، هذه الإرادة التي تمنح المجتمعات المعرفة، والعلوم النظرية، والعملية التي من شأنها أن تحقق التقدم والرقي، إضافة إلى ضرورة وجود الأخلاق التي تنظم التربية في المجتمعات، ولا تكتمل أركان المدنية إلا إذا كانت هناك صناعة، وزراعة، وتجارة.

لقد أسس “الشيخ علي يوسف” خطابه المناهض للفكر الكولونيالي من خلال طرحه لعدة قضايا أولها: هي قضية حرية الفكر، والتي اعتبرها القضية الأهم في مقاومة الفكر الكولونيالي الإنجليزي؛ فحرية الفكر هي سمة تميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، وأنه ليس في استطاعة أية قوة أن تحجر على الإنسان أن يفكر في أي شيء كان مهما عظمت تلك القوة، وهذه الحرية هي التي تجعل الإنسان مستقلا غير منقاد” .

وأكد “الشيخ علي يوسف” على أن ثمة اختلاف كبير بين حرية الرأي، وحرية الفكر، فقد يكون لدى السلطة الكولونيالية الإنجليزية القدرة على حجب الرأي، أو فرض قيود عليه عن طريق إجراءات محدَّدة، إلا أنها لا تقوى على فرض قيود على حرية الفكر، ولهذا يقول الشيخ علي يوسف: “إن الأمة لا تعد في مصاف الأمم إلا إذا قويت فيها إرادة الرأي العام الذي هو بمنزلة فكر الإنسان، وحرية ضميره، ولا تتحقق إرادة هذا الرأي العام إلا إذا تصرفت بمقتضاه في جميع أعمالها، وهذا الرأي العام لا يوجد بدون حرية التصرف.” ولا يمكن أن تتحقق الحرية التي هي سبيل التحرر من الاحتلال الإنجليزي الفكري والعسكري، إلا إذا كان هناك نظامٌ تعليميٌّ يركز على قضيتين رئيستين هما: التحرّر من الاحتلال، والعمل على إيجاد دستور، ولا يمكن تحقيق هذا إلا في وجود طبقة مثقفة هي: الطبقة الوسطى القادرة على تنمية وعي المصريين بخطورة بقاء المحتل، والتطلع إلى وضع دستور مصري يعكس الطريقة التي يتطلع إليها المواطن المصري في الحكم. وإذا كانت قضية الحرية، والتحرّر، والتعليم، والدستور هي قضايا مهمة؛ لتحقيق جلاء المحتل، فلا يمكن إغفال أن قضية “تحرير المرأة” لا تقل أهمية عن القضايا السابق طرحها، بل هي قضية القضايا؛ لأن تعليم المرأة، وتأكيد حقوقها سينعكس على وعي المجتمع ذاته، ومن ثمة يتحقق التحرّر، والتقدم المنشودين.

كان الشيخ علي يوسف يدرك قوانين التقدم التي تحقق من خلالها الأمم نهضتها، وتقدمها، ورقيها، ولعل أهم خطوة في تحقيق التقدم المنشود هو تعزيز الشعور بالوطنية المصرية، والانتماء للوطن؛ لأن مثل هذا التعزيز يجعل المواطن المصري قادرًا على مقاومة الفكر والآلة العسكرية الكولونيالية الإنجليزية، ولهذا كانت فكرة تأسيس تحالفات وطنية هي الفكرة المسيطرة على المجتمع الثقافي المصري، الأمر الذي أدّى إلى تشكيل الأحزاب السياسية الوطنية، وزيادة القاعدة الجماهيرية الواعية بضرورة العمل الموحد ضد العدو الإنجليزي الكولونيالي لنيل الاستقلال تمهيدًا للحكم الذاتي الوطني، يقول “الشيخ علي يوسف” مخاطبًا الاحتلال الكولونيالي الإنجليزي: “إنكم أيها السادة ببقائكم الطويل فينا، علمتمونا شيئًا واحدًا ينمو فينا على الدوام هو حب استقلالنا، ونخشى أن نمو هذه المَلَكَة فينا يجعلنا نزيد في الحرص حتى لا نفتر بوعد، ولا نخشى وعيدًا، وحينئذ يكون مركزهم بيننا مبغضا إلى النفوس أضعاف ما هو الآن، وهو نتيجة لا تحبونها ولو كنتم قادرين على البقاء معها بقوتكم.” 

نخلص إلى نتيجة تقول: إن قيام ثورة 1919م كان نتيجة تنظير فكري واعٍ اضطلع به مفكرين، وصحفيّين، ومصلحين مصريين، حيث كان الهدف من هذا التنظير الفكري تأسيس خطاب توعوي هدفه ترسيخ روح الوطنية المصرية التي غابت طويلًا في نفوس المصريين أنفسهم، إضافة إلى بناء هوية مصرية قادرة على مواجهة الهوية الكولونيالية الإنجليزية المغايرة، فكرًا، وتاريخًا، وتطلعًا إلى المستقبل، الأمر الذي جعل الوطنية المصرية والتي تمثلت في جموع المصريين، تقاوم بكافة السبل الكولونيالية الإنجليزية، وتثور عليها في شكل ثورة جماهيرية مصرية جماعية، تضافرت فيها جهودٌ متنوعة، ومتعددة، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن نجاح ثورة ما من الثورات يتطلب هدفًا وطنيًّا، وليس حزبيا، أو أيديولوجيا، فضلا عن تضافر الاختلافات الفكرية، والأيديولوجية معًا تحت مظلة الوطنية، هذه المظلة القادرة وحدها على التصدي للفكر الكولونيالي وآلياته العسكرية على اختلاف أهدافه المتبدلة مكانيًّا وزمانيًّا.