رؤى
إلهام عيداروسقوانين الأسرة.. هل من سبيل للمواطنة؟
2020.01.01
مصدر الصورة : وكالة الأناضول
قوانين الأسرة.. هل من سبيل للمواطنة؟
مئة عام مرت على إصدار أول تشريع لقانون الأحوال الشخصية للمسلمين رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ (الذي يعتبر القانون العام للدولة وتوجد بالتوازي معه قوانين تحكم الأحوال الشخصية لغير المسلمين بشرط أن يكون الزوجان متحدي الملة والطائفة). لم يتوقف النقاش العام قط طوال هذه السنين ولم يتوقف النضال من أجل التطوير، وخاصة من فئتين كبيرتين في المجتمع المصري هما النساء والمسيحيين نساءً ورجالاً.
أتناول هنا سريعًا محطتين حديثتين: الأولى هي ما تلا ثورة ٢٥ يناير مباشرة، والثانية هي تبعات ظهور مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية للمسلمين في فبراير ٢٠٢١.
بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، برزت دعوات وتحركات بدأت من أبريل ٢٠١١ تنادي بالعودة عن تعديلات قوانين الأحوال الشخصية التي تمت منذ عام ٢٠٠٠، واصمة هذه التعديلات بأنها «قوانين سوزان» أي تنتمي للعهد البائد الدكتاتوري أو المتخلي عن شرع الله مركزة هجومها على ما اعتبروه ظلم للرجال والآباء في عدة نقاط منها اقتصار رؤية الطفل المحضون للطرف غير الحاضن (الأب عادة) على ثلاث ساعات في الأسبوع في مكان عام وحرمان غير الحاضن من استضافة أبنائه لديه ورفع سن الحضانة، واتخذت هذه التحركات مسميات مثل ثورة آباء مصر أو رجال مصر، وفي مقابلها برزت تحركات تعبر عن صوت الأمهات مثل جمعية رعاية الأمهات الحاضنات (أشهرت رسميًّا كجمعية أهلية في ٢٠١٤). وبالتوازي مع الهجوم على وضع المرأة في قوانين الأسرة، حدثت أيضًا تراجعات في الوضع القانوني لمشاركتها السياسية مثل نص قانون الأحزاب على أن يكون مؤسسو الأحزاب السياسية والقياديين فيها من أب مصري وإلغاء كوتة المرأة في البرلمان.
كذلك، تصاعد حراك المسيحيين والمسيحيات (وخاصة من الأقباط الأرثوذوكس) المطالبين بالحق في الطلاق والزواج الثاني بعيدا عن سلطة الكنيسة التي ترفض إعطاء تصريح بالزواج الثاني للأقباط الحاصلين على أحكام بالتطليق من محاكم الدولة. تنوعت أشكال هذه الحراك في السنوات التالية على الثورة وفقا للمواقع السياسية والفكرية للقائمين عليه وتنوع كذلك الداعمين له من السياسيين، فبعضه انشغل بالضغط على الكنيسة لتبني رؤية دينية متناقضة مع قناعاتها الجديدة في عهد البابا شنودة المختلفة عن لائحة الأحوال الشخصية الصادرة عام ١٩٣٨، والبعض الآخر رفع شعارات المواطنة والحقوق الدستورية وطرح مطالب محددة من الدولة مثل تعيين وزارة العدل لموثقين مدنيين (وليس كهنة) لتوثيق عقود الزواج بل والمطالبة بإصدار قانون زواج مدني «للمسيحيين» موازي للزواج الكنسي.
وإزاء هذا الحراك المجتمعي المتنوع حاولت الحركة النسوية والأحزاب «الديموقراطية» الناشئة وقتها التفاعل مع هذا الحراك المجتمعي كل حسب موقعه السياسي والأيدلوجي.
أما المحطة الأخيرة لتصاعد النقاش العام حول قوانين الأحوال الشخصية فجاءت مع تسريب مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية للمسلمين للصحف، ثم دخوله لمجلس النواب وبالتوازي توارد أخبار طوال الشهور الأخيرة حول قرب انتهاء ممثلي الكنائس الثلاث الكبرى في مصر ووزارة العدل من الاتفاق على النسخة الأخيرة من قانون الأحوال الشخصية الموحد للطوائف المسيحية. بالطبع نصيب مشروع المسلمين من النقاش العام أكبر كثيرًا من مشروع المسيحيين الذي لا يبدو أنه يحظى بنفس الاهتمام حتى من الحركة الحقوقية والنسوية «العلمانية»، وهو محاط بسرية أكبر فلا توجد نسخة متكاملة منه منشورة للرأي العام.
مشروع قانون المسلمين
تنوعت ردود الأفعال على المسودة المسربة لقانون المسلمين بعضها لرجال ونساء معترضين من منطلقات دينية أو محافظة على ما اعتبروه تقييد لحق الرجل الشرعي في تعدد الزوجات لأن المسودة تضمنت إلزامه بإخطار الزوجة الأولى، أما غير ذلك فجاءت ردود الأفعال من منطلقات نسوية أو تحررية على اعتبار أن هذه المسودة تكرس وضع النساء المتدني في الأسرة بل وتؤدي للتراجع أكثر من حيث أهليتهن القانونية فلا تعترف بولايتهن على أنفسهن (إعطاء ولي الزوجة حق طلب فسخ العقد) ولا أطفالهن حتى إن كن حاضنات لهم وقائمات على رعاية شئونهن بالكامل حيث تبقى الولاية للأب ثم الجد. وفي نفس الوقت، لا تقدم المسودة حلول للمشاكل العملية والإجرائية التي تلاقيها النساء في مسائل مثل تنفيذ الأحكام المتعلقة بالنفقات والمسكن وتلقي بمسؤولية إثبات دخل الزوج على الزوجة وتضعف قدرتهن على استخدام قائمة المنقولات كورقة ضغط على الأزواج في حالة خروجها أو طردها من مسكن الزوجية وتعمل فقط على تحسين أوضاع الرجال (الآباء) في قضايا الاستضافة وترتيب الحاضنين دون تغيير التمييز في شروط الحضانة بين النساء والرجال.
من أبرز ردود الفعل الرافضة للقانون من منظور أكثر تقدمية أو مساواة التي أود التنويه لها:
- بيان «الضرورات الخمس» الذي طرحته عشرات الجمعيات العاملة في مجال حقوق المرأة والطفل وتمثلت نقاطه الخمس في ثلاثة مبادئ (الاستناد إلى الدستور المصري ومبادئ حقوق الإنسان (١) وإقرار الشخصية القانونية والأهلية الكاملة للمرأة المصرية، والاستناد إلى مفهوم المواطنة في دلالاته من حقوق وواجبات متساوية بين الجنسين في الأسرة أمام القانون بما يفيد ولاية النساء على أنفسهن وأطفالهن (٢)، وترجيح مصلحته الطفل الفضلى (٥))، أما النقطتين الأخرتين فهما لا تعنيان المساواة بالضرورة وإنما تحسين أوضاع النساء نسبيا مثل توثيق الطلاق أمام القاضي (٣) ووضع بعض القيود والضوابط على تعدد الزوجات (٤).
- كذلك، انطلقت حملة «الولاية حقي» والتي دعت إليها مؤسسة المرأة والذاكرة ودعمها منتدى النسوية الإسلامية (تحت التأسيس) وشاركت آلاف النساء قصصها على نفس الهاشتاج حول المعاناة التي تلاقينها بسبب افتقادهن للولاية على أنفسهم وأطفالهن حتى في أبسط الأمور التي تخص المرأة نفسها كالعمل وإجراء العمليات الجراحية أو أطفالها الذين في حضانتها مثل التسجيل والنقل من المدرس أو استلام التابلت المدرسي أو الصرف عليهم من أموالهم، وهو ما يذكرنا بهاشتاج أنا ولية أمري/أنا ولية نفسي الذي استخدمته السعوديات لسنوات تحديا لولاية الذكور على النساء في المملكة.
- ظهر أيضًا فور تسريب المشروع حملة توقيعات غير معلومة المصدر بعنوان «من أجل قانون مدني موحد للأحوال الشخصية» التوقيعات عليها حتى الآن وصلت لحوالي ١٢٠٠٠ لكنها لم تتضمن بالتحديد ماهية تفاصيل هذا القانون المطلوب.
- ثم أصدرت مؤسسة المرأة الجديدة عريضة بـ١٢ مطلبًا أو مبدأ بعنوان «قانون عادل للأسرة موحد لكل المصريين دون تمييز» تتضمن منطقًا مغايرًا بالكامل لقوانين الأحوال الشخصية القائمة يقوم على المساواة في مسألتي السلطة والثروة، فتتجاوز مفهوم النفقات التقليدي باتجاه اقتسام الثروة المشتركة عند الطلاق، وتتضمن المساواة على أساس الدين والجنس في الحق في الزواج والطلاق، وحظر تعدد الزوجات وإلغاء أي تمييز بين الرجال والنساء في شروط الحضانة وتجاوز التقسيم التقليدي بين الحضانة والولاية باتجاه مفهوم رعاية الأطفال كحق ة مشتركة بدون تمييز على أن يكون الحاضن ولي أمر الطفل. كذلك انتبهت العريضة لمسألة العمل المنزلي غير مدفوع الأجر باعتباره عمل تقوم به النساء عادة وليس له مقابل مادي أو تأمين اجتماعي أو صحي. ولا أخفي انحيازي لهذه العريضة التي أفضل أن أسميها هنا (عريضة المواطنة).
وردًا على الجدل العام صرح رئيس الجمهورية بأنه وجه أن يتولى شيخ الأزهر إصدار قانون الأحوال الشخصية، مع العلم أن الأزهر كان قد قدم مشروع في أكتوبر ٢٠١٩ تضمن معظم الإشكاليات الموجودة في المشروع الأخير وخاصة حق الولي في طلب فسخ عقد الزواج. شكل هذا التصريح أو التوجيه الرئاسي صدمة للكثيرين والكثيرات ممن استنجدوا بالرئيس لوقف هذا المشروع خاصة مع وعده في ديسمبر ٢٠١٩ للمصريات أنه لن يوقع قانون للأحوال الشخصية لا ينصف المرأة، وخاصة أن مسألة الأحوال الشخصية وخاصة الطلاق الشفوي كانت محل جدل علني بين شيخ الأزهر والرئيس حيث طالبه الرئيس في يناير ٢٠١٧ بحظر الطلاق الشفوي قائلاً: «تعبتني يا فضيلة الإمام". وخلال أقل من شهر ردت هيئة كبار العلماء بالأزهر (التي كان عبد الناصر ألغاها في الستينيات وعادت بعد ثورة ٢٥ يناير) ببيان يؤكد أن الطلاق في الإسلام لا يحتاج شرعيا لإشهاد أو توثيق وأن ولي الأمر (الدولة) يمكنه وضع عقوبات على من يمتنع عن التوثيق.
مشروع قانون المسيحيين
لا يحظى قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين بنفس القدر من النقاش العام كما أسلفت. ومسألة إصدار قانون موحد للأحوال الشخصية للمسيحيين وخاصة للطوائف الثلاثة الكبيرة مسألة مطروحة في مصر منذ السبعينيات لكنها لم تقترب من التحقق فعلاً إلا بعد إدراج المادة الثالثة في دستور مصر ٢٠١٢ ثم ٢٠١٤ والتي تنص صراحة على أن «مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية". محتوى النسخ المسربة من المشروع الأخير تطرح عدة مشكلات منها:
- سعي الكنائس لإغلاق باب الاحتكام للشريعة الإسلامية في حالة تغيير الملة وهو الذي كان مهربًا أو مخرجًا للمسيحيين الذين لا ترضيهم قواعد كنائسهم، وهو مخرج طائفي به إشكالية سياسية حيث يعبر عن هيمنة الشريعة الإسلامية على المجتمع باعتبارها جزء من النظام العام لكنه في الواقع العملي مثل حلا لعدد من الناس.
- استمرار تقييد الطلاق والزواج الثاني، وخاصة بالنسبة للأرثوذكس والإنجيليين ووضع أسباب قليلة وصعبة للطلاق مثل الزنا (مع التوسع في مفهومه) والإلحاد والشذوذ مقارنة بلائحة ١٩٣٨ الخاصة بالأقباط الأرثوذكس التي كانت تتيح الطلاق لتسعة أسباب منها استحكام النفور واستمرار الفرقة ثلاث سنوات، وكذلك استمرار حرمان الطرف «المذنب» من الزواج الثاني.
- يتبنى المشروع نفس الرؤية التقليدية لتقسيم الأدوار داخل الأسرة القائمة على أن الولاية والإنفاق للرجل والطاعة للمرأة، لكنه يضيف عليها إلزام الزوجة القادرة بالإنفاق على زوجها المعسر غير القادر على الكسب رغم أنه يسمح للزوج بمنع زوجته من الدراسة والعمل باتفاق بينهما عند الزواج.
- في حالة إقرار القانون الموحد للمسيحيين سيكون هناك اختلاف وتمييز واضح في المراكز والمعاملة القانونية للمصريين المسلمين والمسيحيين وللأسرة المسلمة والمسيحية في قضايا مثل تعريف الزنا وشروطه وشروط الحضانة وترتيب الحاضنين والسماح بخطبة وزواج القصر وإثبات وإنكار النسب.
وستستمر الكنائس في لعب أدوار من أدوار أجهزة الدولة بدلاً من محاكم الأسرة على سبيل المثال، وهو الأمر غير المفهوم وغير المبرر في ظل وضع تشريع خاص بالمسيحيين، فطالما هناك قواعد تشريعية ملزمة ما المبرر للاستمرار في اشتراط الحصول على تصريح بالزواج الثاني أو شهادة بخلو الموانع من الكنيسة في كل حالة بمفردها!
بالطبع هناك إيجابيات (من منظور الحرية والمساواة) يتيحها هذا المشروع أهمها المساواة في الميراث والتبني، لكن هذه الإيجابيات محدودة فمنظومة المواريث المسيحية كانت قائمة بالفعل وفقًا للائحة ١٩٣٨ أما التبني فمحدود بأن يكون الأطفال المسيحيين المتبنين معلومي النسب عمليًّا لكي نتأكد أنهم مسيحيون، وسيبقى السؤال مطروحًا أيضًا هل يجوز تنظيم مسألة لها تبعات مدنية وجنائية خطيرة كالتبني بطريقتين مختلفتين في المجتمع (الكفالة/الاحتضان للمسلمين والتبني للمسيحيين)!
كيف وصلنا إلى هنا؟
إن نظرة على القسم النسوي في برنامج الاتحاد النسائي المؤسس عام ١٩٢٣ تصدمنا بحقيقة أننا خلال قرن من الزمان لم نحقق الكثير ولا زلنا نطرح نفس المطالب بل ربما أقل منها، فقد تضمن هذا البرنامج مثلا «سن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا ضرورة كأن تكون الزوجة عقيمة أو مريضة» و"سن قانون يلزم المطلق أن لا يطلق زوجه إلا أمام القاضي الشرعي» والتعاون مع الدول الأجنبية في تنفيذ أحكام النفقة. وتفسير ذلك يعود لعدة عوامل أهمها في رأيي العوامل المرتبطة بالدولة والمرتبطة بالحركة النسائية.
أولاً بالنسبة للدولة: رغم أن نضال النساء من أجل التحرر والمساواة ارتبط صعودًا وهبوطًا مع عملية التحرر الوطني، فإن دولة التحرر الوطني (سواء في نسختها الأولى المتمثلة في ثورة ١٩١٩/دستور ١٩٢٣ أو الثانية المتمثلة في حركة الضباط الأحرار ١٩٥٢ وقيام الجمهورية ودستور ١٩٥٦) قد قبلت تحرر النساء في المجال العام (التعليم، العمل، التصويت والمشاركة السياسية والنقابية.. إلخ)، واستجابت للضغوط النسوية بشأنه حتى ولو ببطء وبمقاومة شديدة لتشاركن في عملية التحرر الوطني وبناء الدولة لكنها لم تقبله في المجال الخاص (الأسرة) حيث بقى المجال الأخير أسيرًا لهيمنة الدين وتصوراته ومؤسساته دونا عن المجال العام، وبقت قوانين الأسرة هي الوحيدة المحكومة بالكامل بأحكام الشرائع الدينية على العكس من القوانين الجنائية والمدنية والتجارية.. إلخ. صحيح أن أول قوانين لتنظيم الأحوال الشخصية صدرت في عهد الملكية (١٩٢٠ بالنسبة للمسلمين و١٩٣٨ بالنسبة للأقباط الأرثوزوكس، لكن الجمهورية حين ألغت المحاكم الشرعية والملية في ١٩٥٥ أبقت على القوانين الدينية وكلفت المحاكم المدنية بتطبيقها وبالتالي أصبح الشكل مدنيًّا لكن المحتوى دينيًّا طائفيًّا أبويًّا.
ثانيًا بالنسبة للحركة النسائية: ترى آمال عبد الهادي أن العنصر الحاسم في تطور أوضاع النساء في المجال الخاص هو نضال الحركة النسائية وليس الدولة، وتؤكد - وأتفق معها - أن مطالب الحركة «تطورت في إطار الإصلاحات الجزئية عمومًا. تركزت مطالب الموجة الأولى في النصف الأول من القرن العشرين على المطالبة بتقييد الطلاق وتعدد الزوجات («تقنين الرخص»). أما مطالب الموجة الثانية.. فركزت على «تقييد الرخص»، أى تهذيب سلطة الأزواج فيما يتعلق بالتأديب وبيت الطاعة، وإعلام الزوجة الأولى بالزواج الثانى (أو الثالث أو الرابع). بينما انشغلت الموجة الثالثة بـ «تطوير الرخص» مثل تحسين شروط الطلاق بالنسبة للزوجات مثل الخلع والعصمة عبر الشروط في عقد الزواج". وهذه الطبيعة الإصلاحية الجزئية في مطالب الحركة تفسر محدودية ما أنجز خلال قرن من الزمان بالأساس لأن الحركة أولا «لم تجرؤ على تحد طبيعة العلاقة السلطوية بين النساء والرجال داخل الأسرة» وثانيا لأنها «سكتت عن التمييز بين النساء المسلمات والمسيحيات". أتفق معها وأضيف على ذلك أن الحركة في معظمها لم تجرؤ على تحدي الوضع الطائفي للدولة وهيمنت عليها المسلمات (حتى وإن كن علمانيات) وهيمن عليها خطاب النسوية الإسلامية (سواء العقائدي أو العملي).
بالطبع هناك عوامل أخرى عديدة منها وضع ومنهج الحركة السياسية التقدمية/اليسارية إزاء قضايا المرأة والحريات الخاصة والدين، ومنها الأوضاع التاريخية والقانونية للمؤسسات الدينية الكبرى كالكنيسة القبطية الأرثوذوكسية والأزهر، ومنها تعقيد الوضع الطائفي المتمثل في تركيبة سكانية تتضمن أغبية مسلمة وأقلية مسيحية كبيرة وتمييز ديني في الحقوق والواجبات التي تحكم علاقة المواطن بالدولة ومعدلات عالية من العنف الطائفي وخاصة في عصور بعينها. وهذه العوامل قد تساعد في تفسير اختلاف المسار الذي أخذته قضية الأحوال الشخصية في مصر بعد التحرر من الاستعمار عن دول أخرى مثل تونس أو حتى العراق.
هل من سبيل للمواطنة؟
مبدئيا، لا أتوقع صدور قانون جديد للأحوال الشخصية للمسلمين قريبا وإن صدر لا أتوقع أن يتضمن تغييرات جوهرية عن الوضع القائم سواء في الاتجاه التحرري أو المحافظ. فالصراع في المجتمع أصبح أكبر مما يمكن احتواءه بالمنهج الأبوي الذي تعبر عنه وعود خطابات رئيس الجمهورية للنساء بالحماية والإنصاف. أما بالنسبة لمشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين، فأكثر ما أخشاه أن يصدر ليعمق الانقسام الطائفي في المجتمع ويحكم قبضة الكنائس على حياة أتباعها. فالكنائس المختلفة وخاصة الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية تدرك جيدًا أن الوقت الحالي هو الأنسب لخروج هذا القانون، حيث علاقتها بالسلطة السياسية في أفضل أحوالها منذ السبعينيات ويغيب عن التأثير السياسي الرسمي المباشر تيار الإسلام السياسي الذي طالما ساهمت مزايداته وتحريضه على الكنيسة والمسيحيين في إرباك موقع المواطنين المسيحيين المناهضين لتسلط الكنيسة وإحراج السياسيين العلمانيين الراغبين في دعمهم.
يمكن للسلطة السياسية تغليظ العقوبات على التهرب من النفقات أو عدم تسليم الميراث لمستحقيه (وهو ما تم بالفعل) أو تعديل النقاط التي تسبب غضب واحتقان الآباء مثل ترتيب الأب بين الحاضنين أو استحداث نظام الاستضافة، لكن أي تعديلات أخرى ستصطدم بجوهر الزواج في المنظومة التقليدية (سواء الإسلامية أو المسيحية وإن اختلفت المسميات وبعض التفاصيل). إذ تقوم هذه المنظومة على أنه على الرجال الإنفاق (ولهذا التمييز في الميراث) وعلى النساء الطاعة، وللرجال الولاية وللنساء الحضانة (أو بالأحرى عليهن واجب الحضانة باعتبارها حق للصغير)، وذلك كله في إطار مفهوم القوامة الديني الحاكم لعلاقة النساء بالرجال في الإسلام حتى لو لم تذكر كلمة «القوامة» صراحة في القوانين. خلال السنوات من السبعينيات وحتى الألفينات، اضطرت السلطة للقيام ببعض التحسينات لكي تسهل على النساء ممارسة دور راعيات الأطفال (الحاضنات) ولتقليل الأعباء المالية المطلوبة من الدولة كتلك التحسينات المتعلقة بمسكن الحضانة وتنفيذ أحكام النفقات والرؤية وكذلك منعت الاستضافة لكي لا تطالب الدولة بعمل ضمانات وآليات مراقبة وتنفيذ لحماية الأطفال من الخطف، وهو ما يفسر حديث الكثيرون من الرجال التقليديين عن انحياز الدولة للنساء و"تدليلها لهم". ومؤخرًا بدأت المؤسسات الدينية كالأزهر تقبل التغيرات في بعض الأمور «الشرعية» (مثل ترتيب الحاضنين ليكون الأب الرابع بدلاً من الرابع عشر تقريبا) في مخالفة للتصور الديني عن أولوية الحضانة للنساء دون قبول النقاش في مسألة التمييز بين الأم والأب في شروط الحضانة لا سيما الزواج بعد الطلاق أو الوفاة. أي تعديل أو تحسين جزئي آخر لصالح النساء سيتجاوز تسهيل دور النساء كحاضنات (راعيات أو خادمات) للأطفال تجاه تحسين أوضاعهن في مسائل الولاية (السلطة) ليصبحن مواطنات كاملات الأهلية، وهو الأمر غير المتصور أو المقبول لدى السلطة الأبوية سياسية كانت أو دينية.
على أي حال، أي تعديل حاليا للأسوأ أو الأفضل سيكون جزئيًّا وفي إطار نفس التصور التقليدي للأدوار داخل الأسرة. وربما آن الأوان أن يطرح التقدميون والتقدميات تصورًا مغايرًا للأسرة في المجتمع ويدافعون عنه ويحاولون كسب الأنصار له. وهو ما بدأ بالفعل وتمثل مؤخرًا في مبادرات مثل حملة التوقيعات المنادية بقانون مدني موحد أو عريضة المطالب الـ١٢ (عريضة المواطنة) سالفي الذكر. وبالطبع منهج المواطنة والمساواة هذا أمامه الكثير من التحديات. أوضحها بالطبع هو الرفض المتوقع (وربما التكفير) من أصحاب السلطة السياسية والدينية. لكن هناك أيضًا تحديان مهمان يستحقان التفكير: أولهما المسافة التي تفصل الحركة النسوية والتقدمية «العلمانية» عن قطاع مهم من المتضررين والمتضررات المباشرين من منظومة الأحوال الشخصية القائمة، وثانيهما عدم بلورة تصور إجرائي حول وضع «قانون مدني موحد للأسرة المصرية» في إطار المنظومة الدستورية والقانونية القائمة.
بالنسبة للتحدي الأول، يحضرني نموذجان من الجماعات أو التنظيمات المعبرة عن ضحايا منظومة الأحوال الشخصية القائمة وهما جمعية رعاية الأمهات الحاضنات سالفة الذكر ورابطة منكوبي الأحوال الشخصية الأقباط، وهما الجماعتان اللتان حافظتا على استمراريتهما خلال السنوات العشر الأخيرة بكل تقلباتها السياسية رغم اختفاء جماعات أخرى نشأت لنفس الأهداف؛ جمعية رعاية الأمهات الحاضنات مهتمة فقط بمواجهة مصدر التهديد المباشر لهن (الآباء) وتتشدد في رفض السماح للآباء بالاستضافة (خوفًا من الخطف) استنادا لقرارات مؤسسات دينية مثل قرار مجمع البحوث الإسلامية بأن تكون الاستضافة بإذن الحاضن وموافقة المحضون، وكذلك في رفض تغيير ترتيب الحاضنين باعتباره الترتيب الشرعي. لكنها غير معنية بمسألة المساواة والمواطنة، فلا تتحدى مثلاً شروط الحضانة التي تحرم النساء من الحق في الزواج مرة أخرى، وفعليًّا تتمسك بتصورات أبوية عن الأسرة وتقسيم الأدوار فيها. فهؤلاء النساء ما يحركهن هو الرغبة في الحفاظ على أطفالهن في ظروف قاسية، وفعليًّا يقود هذه الجمعية رجال هم جدود الأطفال المحضونين. كذلك، الكثيرات من النساء وخاصة الحاضنات تتمسكن بمنظومة النفقات القائمة على اعتبار أن هذه المبالغ الضئيلة تعينهن على تحمل أعباء الحياة ورعاية الأبناء وعلى اعتبار أن النساء تساهمن فعليا في الإنفاق في كل الأحوال مع أن القانون لا يلزمها بذلك والتحدي بالنسبة لهن هو كيفية جعل الرجال يساهمون، وهؤلاء النساء لا تتصورن أنه يمكن التخلي عن هذه المنظومة لصالح منظومة أخرى تقوم على المشاركة الرسمية في الإنفاق والحقوق أو اقتسام الثروة والعائد المشترك عند الطلاق بل ربما يخفن أن يستغل الرجال هذا للاستيلاء على مدخراتهن أو أجورهن أو ميراثهن. أما رابطة منكوبي الأحوال الشخصية الأقباط فهي جماعة خصمها الرئيسي هو «الحرس القديم» في الكنيسة القبطية وغيره ممن يستفيدون من التسلط على المواطنين الأقباط أدبيا لتعزيز سلطتهم الروحية أو حتى ماديا من خلال ما يسمونه مافيا تغيير الملة، لكن أيضًا هذه الجماعة يهيمن عليها رجال ذوي تصورات تقليدية عن الأسرة ويطرحون ضمن مطالبهم مطالب كالتي يطرحها الرجال المسلمون التقليديون مثل تخفيض سن الحضانة ويستخدمون نفس المفردات كالطاعة والنشوز.. إلخ.
بالنسبة للتحدي الثاني، المتمثل في عدم وضوح التصور القانوني والإجرائي حول وضع «قانون مدني موحد للأسرة المصرية» في إطار المنظومة الدستورية والقانونية القائمة، فالمشكلة ليست فقط في أن قوانين الأحوال الشخصية كُتبت من منظور ديني ونُقل تطبيقها من المحاكم الشرعية إلى المحاكم المدنية، بل في أن الدستور نفسه يفترض أن للدولة دين رسمي هو الإسلام وأن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع وأُضيف عليه أن مبادئ شرائع المسيحيين هي المصدر الرئيسي لتنظيم أحوالهم الشخصية. لكن هناك طرح قانوني تقدمي يستحق الدراسة والنقاش قدمه المحامي والباحث القانوني المصري إسلام عوض عبد المجيد يطرح أن قوانين الأسرة العربية تعاني من أزمة «صلاحية» إذ أن تحويل أحكام الشريعة لقوانين وضعية مفروضة إلزاميًّا على المواطنين وليس كممارسة حرة جعل هذه القوانين غير مناسبة للأوضاع الاجتماعية الفعلية وغير متسقة مع طبيعة الشريعة الإسلامية المختلفة عن فكرة النظام العام الفرنسية، ويقترح في هذا الإطار استكمال القانون المدني المصري بإضافة باب بعنوان «نظام الأسرة» بهدف تحقيق المساواة النوعية وتدشين علاقات زوجية متكافئة. وبالطبع هذا الطرح يحتاج للكثير من النقاش والبلورة في جانبيه الشكلي والموضوعي وفي طبيعة الحقوق والواجبات التي تنشأ في الأسرة وفقا له بحيث يساهم في تخفيف المعاناة التي يلاقيها الناس في ظل الواقع الحالي ويسمح أيضًا بتجاوز التقسيم التقليدي للأدوار في الأسرة بشكل استراتيجي.
ختامًا
لا يمكن فصل السياق السياسي العام عن النقاش أو الصراع الدائر حول قوانين الأحوال الشخصية. فلا يمكن للحركة التقدمية أو التحررية سواء اليسارية أو النسوية تطوير طرحها وبلورته بدون أوسع نقاش مع جمهورها المستهدف بل وخصومها أيضًا، وهو ما يحتاج لمساحة من الحريات العامة المكبلة حاليًا كالحق في التجمع السلمي، والتنظيم والتحرك بحرية بين المواطنين وفي جميع أنحاء الجمهورية وكالحق في التعبير والنشر وتداول المعلومات بحرية دون التعرض للمساءلة والملاحقة بموجب قوانين تعسفية مثل قوانين التظاهر والتجمهر وازدراء الأديان وحماية قيم الأسرة أو حتى بالممارسات الأمنية غير القانونية. لكن ما يبعث على الأمل هو تجرؤ قطاعات كبيرة في المجتمع على تحدي المنظومة التقليدية القائمة ولو بالتعبير بالوسائل التكنولوجية الحديثة على الإنترنت.
المرأة والثورة من التنحي لرئيس جديد، أسمـــــاء صقــر- أميـــــرة اسماعيل- إيمــان عبد الرحمن - مـــنـــــار السيــــد - سماح موسي، مجلة حواء، ١٧ يونيو ٢٠١٢.
يمكن المقارنة في هذا السياق بين علاقة حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمين) بحركات الآباء، وعلاقة حزب غد الثورة (أيمن نور) بمجموعة أقباط ٣٨، وعلاقة حزبي التحالف الشعبي الاشتراكي والمصري الديمقراطي الاجتماعي بجمعية رعاية الأمهات الحاضنات وعلاقة حزب التحالف أيضًا بحركة الحق في الحياة للأقباط.