مراجعات

وليد الخشاب

كارل ماركس شابًا: السينما كتجسيد للمادية التاريخية

2018.07.01

كارل ماركس شابًا: السينما كتجسيد للمادية التاريخية

يُحْكَى عن سيد درويش أنه كان قادرًا على تلحين الصحف. أيًّا ما كانت الحكايات -حقيقية أو مبالغًا فيهاـ فهي تحية لعبقرية ملحن قادر على تلحين ما يبدو مستحيلًا على الغناء. بنفس المعنى، فإن فيلم المخرج الهايتي راؤول بك “كارل ماركس شابًّا” أو “الفتى كارل ماركس” (فرنسا وألمانيا،2017) تجسيد عملي لقدرة مخرج فذ على تحويل الفلسفة إلى فيلم. لو ألقينا نظرة سريعة على الأفلام العربية والغربية التي تحكي قصة حياة كاتب أو مفكر، لظهرت لنا بوضوح ندرة الأفلام الناجحة التي تتصدى لعرض سيرة حياة مثقف ما -وبخاصة لو كان كاتبًا- وذلك على المستويات كافة في هذه الأفلام، مثل مستويات الفكر والدراما والتسلية. يرجع ذلك إلى طبيعة الوسيط البصري الذي يحكم السينما، حيث يستحب ترجمة كل فكرة وكل حدث إلى صورة، بينما يتطلب الجانب الفكري في حياة الكاتب استخدام الكلمة والخطاب المكتوب في المقام الأول؛ لأن الكلمة هي أوضح وسيط للأفكار، وأكثرها التصاقًا بعالم التفكير “الجواني”.

الفلاسفة على الشاشة

تزداد ندرة نجاح الأفلام التي تحكي سيرة حياة كاتب ما، لو كانت تعرض قصة حياة فيلسوف تحديدًا؛ لأن الجانب الفكري في ممارسة بطل الفيلم يحتل مساحة كبيرة في مجال النظرية، وهو المجال الحيوي للفيلسوف. يكفينا أن نسترجع على وجه الدقة مثالين لفيلمين يحكيان سيرتي فيلسوفتين ألمانيتين: “روزا لوكسمبرج” (ألمانيا الغربية، 1986) عن حياة المناضلة الشيوعية والفيلسوفة الماركسية روزا لوكسمبرج، و“حنا آرنت” (ألمانيا، 2012) عن حياة الفيلسوفة الليبرالية حنا آرنت (كلاهما من إخراج مارجريت فون تروتا ومن بطولة باربارا سوكوفا التي لعبت دوري الفيلسوفتين). نحن هنا بصدد فيلمين عن سيدتين تنتميان لثقافة ماركس نفسها (الثقافة الألمانية)، وتمارسان النشاط الفكري نفسه الذي كان يمارسه ماركس (الفلسفة في علاقتها بالسياسة وأحوال المجتمع المعاصرة للفيلسوف (ة))، وكلتاهما -مثل ماركس- تعرضتا لقمع النظام القائم في ألمانيا بسبب عوامل عدة: الأصول اليهودية والمنحى اليساري؛ فإن روزا لوكسمبرج يهودية من أصل بولندي، وحنا آرنت يهودية ألمانية، وماركس ولد لأب يهودي اعتنق المسيحية. 

في حالة لوكسمبرج، وصل القمع إلى حد اغتيالها في إطار تصفية الدولة للانتفاضة الشيوعية السبارتاكية سنة 1919، والتي كانت لوكسمبرج من قياداتها. أما آرنت فلم يتبلور اتجاهها إلى يسار الوسط إلا بعد هروبها من ألمانيا سنة 1933 في بدايات الحكم النازي. لكنها اختارت المنفى لأن يهوديتها أقفلت أمامها أبواب التوظف في ظل قوانين النازية العنصرية، لا سيما بعد تعرضها للاعتقال على يد البوليس السياسي (الجستابو) أثناء جمعها لمادة عن الإجراءات النازية المعادية لليهود.

بالمقارنة بهذين الفيلمين، فإن أحدث الأفلام التي تتعرض لحياة فيلسوف ألماني: “كارل ماركس شاباً”، من إخراج راؤول بك، يتفوق على أصعدة الفكر والدراما والتسلية تفوقًا يجعله من أفضل الأفلام التي تنتمي لهذا النوع الفني الصعب: السيرة السينمائية لحياة المثقف/الفيلسوف. فإنه يقدم مزيجًا موفقًا من الدراما والحركة والأحداث المتتالية، بحيث يمتع المشاهد على مستوى الحكاية. كذلك يقدم الفيلم تسلية من حيث الإيقاع غير الرتيب، ومن حيث الموازنة بين صرامة الموضوع: حياة مفكر يدافع عن الطبقة العاملة الكادحة، ولطف الحوارات بين شباب اليساريين ومرحها، نافيًا بذلك أن تكون الفلسفة ثقيلة الظل، أو أن تكون المادية التاريخية والتمرد على القيم المحافظة والنضال من أجل حقوق العمال ممارسات متجهمة عبوسًا. 

يتميز فيلم راؤول بك بإيقاع أكثر حيوية من فيلمي مرجريت فون تروتا، كما تميز عنهما باختيار النقاط البارزة في الحياة الفكرية للبطل (ماركس)، وبتعميقه لعرض الأفكار الرئيسية للإنتاج النظري لهذا البطل، دون إملال أو إثقال. 

يواكب إنتاج فيلم “كارل ماركس شابًّا”، الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس (حيث ولد في مايو 1818). ويركز على شباب ماركس فيستعرض تنقله بين عدة بلاد أوروبية، دارسًا لأحوال الطبقة العاملة فيها، أو هاربًا من قمع الشرطة في بلد مولده ألمانيا (أيامها كانت نواة ألمانيا تقتصر على دولة بروسيا) أو من منفاه في فرنسا، أو مناضلًا منظمًا للحركة الشيوعية الأوروبية. ويخص السيناريو باهتمامه إنتاج ماركس الفكري منذ بداياته، مرورًا بالفصول التي كتبها في كتاب فريدريك إنجلز “العائلة المقدسة”، وكتابه في نقد مفهوم الملكية عند الفيلسوف الاشتراكي برودون بعنوان “بؤس الفلسفة”، حتى نشر “البيان الشيوعي” الذي كتبه بالتعاون مع إنجلز، إذ ينتهي الفيلم بصدور البيان. 

فيما يلي أناقش بعض القضايا الجمالية والفكرية التي تمثل أسباب نجاح الفيلم في إمتاع المشاهد وفي تجسيد بعض الأفكار الماركسية دون خطابة أو فجاجة، بعيدًا عن أية نبرة دعائية أو لهجة “تدجينية”.

العمل الفلسفي بالجدل والحوار 

أول ما يلفت النظر في فيلم “كارل ماركس شابًّا” هو أن قسمًا كبيرًا من المشاهد والحوارات يدور حول أفكار وحول صياغة هذه الأفكار في شكل كتب، دون أن يشعر المشاهد بالملل ولا بأن المضمون نظري مجرد. يعود هذا ابتداءً إلى إيقاع الفيلم الحيوي نسبيًّا، نظرًا للعدد الكبير من اللقطات المستخدمة لبناء المشهد الواحد، والتنوع المستمر في أحجام اللقطات وزوايا الكاميرا، مما يبعد شبح الملل عن المشاهد، بالإضافة إلى ديناميكية تتابع الصور. يزداد الإيقاع حيوية بسبب الحركة داخل الكادر، وسرعة الحوار/الجدل بين الشخصيات التي تناقش مفاهيم فلسفية بقوة وبساطة معًا، دون أن يكون الحوار “متقعرًا” أو متعاليًا على المشاهد.

بعد اللقاء الأول بين ماركس وإنجلز في مقر جريدة اشتراكية، يخرج الفيلسوفان الشابان ونراهما يتناقشان بحماس وبعفوية، بينما يتسكعان في شوارع باريس أو أثناء تناولهما الخمر في مقهى. قد ينسينا هذا أن الحوار يتطرق لمناقشات مهمة عن دور الفلسفة في المجتمع، إلى أن يتوقف ماركس وهو نصف ثمل ليلقي مقولته الشهيرة عن الفلسفة التي اكتفت حتى عصره بتفسير العالم، والتي آن لها أن تغيره. تستغرقنا حركة الكاميرا المتابعة لتمشية الصديقين وتواكب النقاش بينهما مع الشرب. هكذا نتلقى المشهد على أنه جزء من مخزون الذاكرة السينمائية التي تبني بصريًّا فكرة الصداقة بين شخصين بواسطة تصويرهما حين يتشاركان الشراب أو يتنزهان معًا. لكن في لحظات حاسمة، مثل اللحظة التي يتوقف فيها ماركس فجأة في المشهد الذي نذكره، ينتبه المشاهد إلى فكرة فلسفية مهمة، معروضة بأدوات السينما. حيث إن فكرة مثل: (طرح دور الفلسفة على أنه دور تثويري، وليس مجرد دور تفسيري) لا تظهر في شكل مسلمة يعظنا بها الممثل، بل تنتج عن إعمال الشخصيات لفكرها، خلال ممارسة مادية هي المناقشة والجدل.

في مشهد آخر، يحول المخرج السجال الفكري بين برودون وماركس إلى مناقشة سريعة خلال احتفالية اشتراكية في الهواء الطلق. يكتفي المخرج بـ“اتهام” برودون بالوقوع أسيرًا لخطاب قومي في بعض الأحيان، عن طريق تصويره خطيبًا فوق منصة في ظل علم فرنسي كبير الحجم. لكن الحوار يحمل نقد ماركس لنظرية المِلكية عند برودون. ينطق برودون أثناء خطابه بجملته الشهيرة: “المِلكية هي السرقة”، فيقاطعه ماركس من مقاعد المستمعين ويأخذ عليه أنه لم يعرف المِلكية بتحديد كاف. يرد برودون: إن مفهوم الملكية واضح لا يحتاج شرحًا. فيستمر ماركس في طرح أسئلة دون أن يقترح إجابات من ناحيته، فيتساءل مثلًا هل الملكية المقصودة عامة أم خاصة؟ 

لا يطرح المشهد إجابات على هذه التساؤلات، لكنه يثير تساؤلات شبيهة عند المشاهد، ويحيله إلى تخمين رؤية ماركس الذي ينتقد المِلكية الخاصة لوسائل الإنتاج دون أن يرفض مبدأ أن يمتلك الفرد أشياء خاصة به، ويدعو إلى الملكية الجماعية دون نقض مبدأ المِلكية من أساسه. بهذا الحوار المفتوح على تساؤلات، وبدون استخدام مفاهيم مجردة معقدة، يذكرنا الفيلم بخط فاصل بين اللاسلطوية التي تدعو لمشاعية كل شيء وكل سلعة في المجتمع، وبين الماركسية التي تميز بين الملكية غير القائمة على الاستغلال وملكية وسائل الإنتاج التي تفرز تفاوتًا طبقيًّا. كما يؤكد المشهد على مسائل بلاغية أخرى لا ترتبط بمضمون النقاش بين برودون وماركس. فإن نبرة الحوار تؤكد على تلقائية ماركس (وبالضرورة فكره) وحيويته وتمرده مع وضوح رؤيته، بينما تظهر برودون بموقف المفكر الجامد ذي الأفكار العمومية المفتقرة إلى الوضوح النظري، وبناء على ذلك تنسحب هذه الأحكام على فكر برودون نفسه.

العمل الذهني بوصفه عملًا ماديًّا

لكن جانبًا مهمًّا من “ماركسية” الفيلم يتبدى في تصوير العمل الذهني بوصفه عملًا ماديًّا. إن مناقشة تقسيم العمل في المجتمع بين عمل يدوي وعمل ذهني، وتأمل البعد الطبقي لهذا التقسيم، قد احتلا مساحة كبيرة في النظرية الماركسية بفضل مساهمات مدرسة فرانكفورت في هذا المبحث. 

لا يتعرض الفيلم للقضية بخطاب مباشر، ولكن بأداء صناع الفيلم. ما تمارسه الشخصيات يجسد مثلًا لفهم ماركسي ينقد الفصل التام بين نوعي العمل، ويرفض أن يقتصر العمل الذهني على صفوة بورجوازية، والعمل اليدوي على طبقة عاملة.

هكذا، فإن عرض الأفكار الفارقة في فلسفة ماركس لا يقتصر على جمل ينطقها الممثلون، حيث إن الفيلم يعيد الاعتبار للعمل الذهني بوصفه “عملًا” يتطلب مجهودًا بدنيًّا وليس فقط نشاط تأملي مجرد تمارسه النخبة ترفًا. ويقوم بذلك بواسطة بنية السيناريو ومفردات الصورة. ويعد المشهد الأخير في الفيلم أقوى تمثيل لهذه الفكرة: والذي نرى فيه ماركس وإنجلز وزوجتيهما يشاركون جميعًا في كتابة وتحرير ونسخ البيان الشيوعي. فنرى المخطوطة التي كتبها ماركس وشارك في كتابتها إنجلز بين أيدي الشخصيات الأربع، ثم نرى مقترحات قادمة من السيدتين لتعديل كلمة جوهرية (ينسب الفيلم للسيدتين الفضل في اختيار كلمة “شبح” لتنتهي صياغة العبارة الشهيرة في مطلع البيان الشيوعي عن شبح ثورة الطبقة العاملة الذي يخيم على أوروبا). كذلك يشترك الجميع في ضبط النسخة النهائية وتبييضها.

 يختار الفيلم إذن ألا يجعل من ماركس بطلًا خارقًا، بل هو شخص محوري في إطار عمل جماعي، يشارك فيه النساء والرجال. العمل إذن –حتى لو كان ذهنيًّا- هو عمل جماعي، ينبعث من مناقشات بين أفراد متعددين، ويتم بمجهود بدني يتمثل في أفعال الكتابة والشطب بحبر داكن والتصحيح، التي تركز عليها الكاميرا، وفي إشارة الكاميرا للوقت الذي ينفقه العاملون بالفكر، كما تدل عليه صور الشمع في خلفية الكادر أو في أركانه؛ فالشمع الذائب يشير للمجهود المبذول في السهر (مما يتطلب إضاءة)، ولطول وقت العمل الذهني (مما يفسر ذوبان قطع كبيرة من الشمع).

في هذا المشهد الأخير، نرى كومة أوراق أمام كل شخصية، تمثل مسودات لأجزاء من البيان. ويبدو للوهلة الأولى أن حركة تبادل الأوراق بين الشخصيات هي حيلة فنية لإثارة مزيد من الدينامية في المشهد؛ لأن تصوير شخص جالس إلى طاولة يكتب عليها يُعَدُ واحدًا من أكثر المشاهد إملالًا في تاريخ السينما، إذ إنه يفتقر بحكم طبيعته إلى الحركة. لكن، بالإضافة إلى مشاركة أكوام الأوراق في بناء فكرة المجهود الممتد، الذي تطلب مسودات عديدة، فإن تبادل الأوراق بين الشخصيات تجسيد مادي لفكرة سيرورة الأفكار ولحيوية “الجدل” في المجتمع، وكأنه يمنح التصور المادي التاريخي للعمل الذهني تجسيدًا ماديًّا بالصورة السينمائية.

السينما: المادية التاريخية في حركتها

على أن الصورة البيانية التي نراها هنا بوضوح؛ هي أن ذلك المشهد مجاز تمثيلي للسينما ذاتها. الشخصيات لا تمارس التحرير فقط، لكنها في الواقع تقوم بعمل “مونتاج” للبيان يوازي ممارسة مونتاج الفيلم السينمائي. فكومات الورق تشبه عشرات اللقطات أو مئات الأمتار من شرائط السينما التي تنقسم إلى كادرات مستطيلة، مثلما الأوراق نفسها مستطيلة. وإعادة ترتيب الأوراق وتغيير أماكنها يشبه عمل المونتاج الذي يقطع اللقطات المختلفة ويمنحها ترتيبًا وتتابعًا ينتجان المعنى النهائي. والمصادفة المثيرة هي أن اللغة الإنجليزية تستخدم اللفظة نفسها للتعبير عن فعل تصحيح وتحرير النصوص وعن فعل المونتاج. فهذا المشهد الأخير عن كتابة البيان وعن عملية صناعة الفيلم معًا: كلا العمليتين مادية وجماعية وتعتمد في جماعيتها على المونتاج. 

يتأكد طرحنا هذا من ترتيب الصور في المقطع الذي يلي مشهد كتابة البيان؛ إذ نرى صورًا في مصنع، تليها صور في مطبعة. وفي كلا المكانين شرائط هائلة تدور في حركة مستمرة حول تروس دائرية؛ شرائط النسيج على آلات المصنع، ولفائف ورق الجرائد أو الكتب على آلات الطباعة، وفي كلا الحالين تؤدي الحركة وتعاشق التروس مع الشرائط إلى استدعاء صورة الفيلم في دورانه حول البكرات المستديرة في آلة العرض أو على المافيولا.

ليست إحالة الفيلم إلى فكرة ممارسة السينما مجرد مجاز يضفي على العمل مسحة جمالية، لكنه تذكرة بأن السينما نموذج فذ لفكرة حركة التاريخ المبنية على توترات بين قوى مختلفة -أو بالتعبير الماركسي الكلاسيكي- لجدل التاريخ الناجم عن الصراع بين الطبقات. فالفيلم حركة مجسدة تبدأ ببداية الشريط السينمائي وتنتهي بنهايته، والفيلم يتحرك في وعي المشاهد به بناء على تفاعل (أو جدل) دوران الشريط على محور أفقي أو رأسي في آلة العرض مع عين المشاهد ومخه؛ اللذين يبنيان الصور المتتالية في شكل منطق معين وقصة لها قوام ما. كذلك النظرة المادية التاريخية للمجتمعات: تنظر للأخيرة على أنها في سيرورة مستمرة مثل حركة شريط السينما، وتفهم صيرورة المجتمعات فهمًا نظريًّا بوصفها نتاج تفاعل بين قوى مختلفة وطبقات متصارعة، يشبه تفاعل العين مع توالي كادرات الفيلم على الشاشة.

العمل العمل

لكن “كارل ماركس شابًّا” -كأي فيلم ماركسي محايث للتاريخ- يتعرض أيضًا للعمل بمفهومه البسيط في المجتمعات الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين؛ عمل فني يستلزم القوة البدنية، تتم مكافأته بأجور بخسة لتعظيم هامش ربح رأس المال. منذ المشهد الثاني، ينغمس المتفرج في عالم الثورة الصناعية بقسوته ومشاكله، فيرى منظرًا عامًّا لمدينة مانشستر البريطانية، تتسيده مداخن المصانع العملاقة، كأنها تجسد رأس المال الجاثم على صدور العمال. 

تنقطع اللقطة فيجد المتفرج نفسه في قلب لقطات جامعة داخل مصنع نسيج. مرة أخرى تهيمن على المشهد آلات النسيج وبكرات عظيمة الحجم تعطي للمكان صبغة شبه أسطورية، تتأكد في المشاهد التالية الواقعة في المصنع نفسه؛ كأن الخيوط خيوط عنكبوت تلتف حول العمال، وكأن هؤلاء حشرات وقعت فريسة لعنكبوت رأس المال وحبائله وخيوطه التي تطبق على أنفاسهم. 

منذ المشهد الثاني نرى إضرابًا عماليًّا في المصنع تتزعمه ماري بيرنس، التي سرعان ما تصبح رفيقة حياة إنجلز. يضفي الفيلم لمحة درامية على لقاء إنجلز بها؛ إذ يتصورها عاملة في مصنع أبي إنجلز في مانشستر، يتم فصلها بسبب قيادتها لإضراب احتجاجًا على تدني ظروف العمل وخطورته، إثر تعرض عاملة لحادث بترت فيه يدها. يترك إنجلز عمله بهذا المصنع ويتبع ماري منجذبًا نحوها وراغبًا في طلب مساعدتها لجمع مادة عن أحوال الطبقة العاملة في المدينة، والتي سوف تكون نواة كتاب إنجلز عن “أحوال الطبقة العاملة في إنجلترا”. 

وعلى الرغم من أن المصنع كان واسعًا ومضاءً، فإنه كان مكانًا خانقًا؛ لأن الخيوط والبكر والآلات تلتف مجازيًّا حول أعناق العاملات والعمال من الأطفال. أما حي العمال الأيرلنديين الفقراء بالمدينة، فنزوره في سعينا وراء الكاميرا التي تتبع إنجلز في لقطات جامعة ضيقة لأزقة مزدحمة بالبشر والأشياء، روادها ثيابهم رثة وصوتهم عالٍ، يغلب عليها الازدحام والقذارة وإضاءة ضعيفة بلون أصفر كابٍ.

 هكذا، بمجرد تشكيله للمكان، يطرح المخرج فكرة الطبقية؛ تهيمن المداخن على المدينة مثلما يسيطر عليها رأس المال، يخنق العمل العمال ويكاد يبتلعهم في جوفه مثلما تحيط بهم البكرات والخيوط والتروس داخل المصنع، وكل من رأس المال وعلاقات العمل التراتبية يلفظ العمال بعد أن يقضي عليهم الإرهاق والإصابات، أو إن تمردوا وأضربوا، وجدوا أنفسهم في قاع المدينة، في الحي الفقير القذر المزدحم. 

كما تركز الكاميرا داخل المصنع على وجوه وأجساد النساء والأطفال، ملخصة بلقطاتها هذه خطابًا حول جنس الفقر وسنِّه. تضاعفت قسوة ظروف العمل في مصانع أوروبا في القرن التاسع عشر بسبب التوسع في تشغيل الأطفال، وبسبب اضطرار العديد من النساء إلى قبول العمل الشاق في المصنع لسد حاجات أسرهن.

تمثل اللقطات الأخيرة في الفيلم ملخصًا لتفاعل الماركسية مع التاريخ ولراهنيتها اليوم، بعد مرور 150 عامًا على نشر كتاب ماركس العمدة: “رأس المال”. في المشهد الأخير لقطات مفعمة بالحركة نرى فيها طليعة الماركسيين يعملون على تنقيح البيان الشيوعي، ثم تتوالى لقطات منفصلة تعرض لحركة المصانع والمطابع. أي حركة مادية ومضمونها حركة الاقتصاد والبنية التحتية (صور المصنع)، وتفاعلها مع حركة الثقافة والبنية الفوقية (صور المطبعة). في مقابل هذه الحركة، تتوالى بعد ذلك لقطات جماعية لعمال ولعاملات / أمهات ولأطفال. نلمس التوتر بين حركة الآلات في مجموعة اللقطات المذكورة، يليها جمود الأجساد في مواجهة كاميرا ثابتة في عدة لقطات. وكأننا إزاء مجاز تمثيلي لحركة التاريخ واستمرارية دوران عجلة الإنتاج، في مقابل تجمد ظروف حياة العمال، وغياب الحركة نحو تحسين ظروفهم بوصفهم عمالًا، أو فئات تعرضت لظلم رأس المال على مدى تاريخه (العمال، النساء، الأطفال). ومع ذلك تبدو هذه اللقطات التي تقف فيها هذه الأجساد في مواجهة الكاميرا، كأنها تجسيد لفكرة السينما بوصفه سجلًا ماديًّا لحركة التاريخ أو لتناقضاته، لا سيما وأن صوت ماركس يصاحبها من خارج الكادر وهو يقرأ مقاطع من البيان الشيوعي.

لماذا شباب ماركس؟

يبدو للوهلة الأولى أن اختيار المخرج راؤول بك التركيز على مرحلة شباب ماركس يعود لرغبته في التأكيد على حيوية فكر ماركس في يومنا هذا، وتمتعه بالحيوية وبشباب مجازي، في سياقنا التاريخي الحالي. 

على أية حال، ففي ذلك الاختيار احترام لما استقر عليه دارسو ماركس من التمييز بين مرحلتين على الأقل في تاريخه الفكري؛ المرحلة الأولى: مرحلة الشباب والبدايات المعنية بتحليلات لا تتأسس بالضرورة على دراسة البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع. وكثيرًا ما يرى المتخصصون في الدراسات الماركسية أن هذه المرحلة تتوقف عند كتيب: “انقلاب لويس بونابرت في الثامن عشر من برومير”، أي بعد صدور البيان الشيوعي ببضع سنين. أما المرحلة الثانية: فهي مرحلة النضج وتبلور منهجه الذي يعنى بدراسة الاقتصاد دراسة مادية تاريخية، ثم بتحليل تجليات الاقتصاد وعلاقات الإنتاج في دوائر السياسة والثقافة، أي مرحلة كتابة ونشر كتاب ماركس العمدة: “رأس المال”.

لكن سينمائيًّا، لو توقفنا عند اختيار بك لتركيز فيلمه على مرحلة شباب ماركس، لوجدناه يستدعي بالضرورة فيلم والتر سالس: “يوميات الدراجة النارية” أو”يوميات رحلة على الموتوسيكل” (الولايات المتحدة والأرجنتين، 2004). فإنه يدور حول الرحلة التي قام بها جيفارا في شبابه، والتي زار فيها العديد من بلاد أمريكا اللاتينية، متنقلًا بواسطة دراجته النارية، ولم يكن عمره قد تجاوز الثالثة والعشرين. كأن زيارة شباب جيفارا في فيلم سالس، وشباب ماركس في فيلم بك محاولة لإعادة الاعتبار لفترة براءة ولرغبة خيرة في تغيير العالم إلى الأفضل، دون الوقوع في مأزق الدفاع عن الأخطاء التي ارتكبتها الشخصية التاريخية عندما انتصف عمرها.

ولعل اختيار راؤول بك لفترة شباب ماركس يعود إلى معرفة دقيقة بتاريخ تمثيل حياة الفيلسوف الألماني في السينما. فإن فيلمه “كارل ماركس شابًّا” ينتهي في اللحظة التاريخية التي تبدأ فيها أحداث الفيلم السوفييتي “عام كأنه حياة بأسرها” (أو بعبارة أخرى “سنة بالعمر كله”)؛ وهو فيلم من أشهر ما أنتج عن حياة ماركس، والذي أخرجه كل من: أذربيجان مامبيتوف وجريجوري روشال، وكان من إنتاج الاتحاد السوفييتي عام 1966. ركز هذا الفيلم على سنة واحدة من حياة وكفاح ماركس وإنجلز؛ غداة اندلاع الثورة الفرنسية الثانية عام 1848 بعد نشر البيان الشيوعي، حيث يطرد ماركس من بلجيكا ويستقر به الحال مع إنجلز في إنجلترا. 

أما فيلم “كارل ماركس شابًّا”، فيبدأ بلحظة تفتح ماركس على الحياة في فرنسا وتعرفه على إنجلز، رفيق نضاله وإنتاجه الفكري، وينتهي بنشر البيان الشيوعي في الوقت الذي تعلن لوحات الفيلم الختامية عن اشتعال الثورات الأوروبية -ومنها ثورة 1848 في فرنسا- في الأسابيع التي تلت نشر البيان. 

بات مؤكدًا أن راؤول بك قد نجح فيما أخفق فيه المخرج الشيوعي السوفييتي الكبير سيرجي أيزنشتاين، الذي عكف على كتابة معالجة سينمائية لكتاب “رأس المال” في مشروع فيلم عنوانه: “رأس المال”. فقد أنفق أيزنشتاين شهورًا طويلة في التحضير لهذا الفيلم الذي لم يقدر له أن يتم، وإن كان قد ترك لنا يوميات وملاحظات تمثل مسودة عمله هذا. إن كان فيلم أيزنشتاين عن “رأس المال” لم يكتمل، فهذه مصادفة تؤكد طبيعة كتاب ماركس المفتوحة، وتشير إلى قبول الكتاب للانفتاح المستمر على التاريخ، حيث لم يكمل ماركس تحرير الجزئين الثاني والثالث من الكتاب، ونشرهما إنجلز بعد وفاة صديقه. بالمنطق نفسه، فرغم أن فيلم بك قد اكتمل أفضل اكتمال، فإنه يظل مفتوحًا؛ لأنه تعرض لشباب ماركس، ولم يتعرض لحياته أثناء كتابته لـ”رأس المال”.