أعداد خاصة

خالد يوسف

كرب ما بعد الصدمة برفقة نجلاء فتحي

2020.01.01

كرب ما بعد الصدمة برفقة نجلاء فتحي

لا أعرف ما إذا كانت الصورة غائمة بسبب عدم نظافة زجاج النافذة، أم أن الأمر متعلق بالعلاقة الأبدية باللون الأصفر العام، الذي أصبح علامة مائية للمدينة طيلة العقود القليلة السابقة. وكأنها حالة استسلام لسطوة التحالف بين منطقة منهكة، وبين الرمال القادمة من الصحراء التي تحيط بالمطار. لم تمنع تلك الغيمة من ملاحظة الإعلان المكتوب بلون أحمر قانٍ في الجهة المقابلة لمركز الأشعة الطبي، بخط رقعة مميز على سور تبدد لونه الأصلي، معلنًا عن أسعار مخفضة لمقابر جديدة تم الانتهاء من تصميمها على أطراف الحي. كان هناك دائرة بلون متفائل تحيط بكلمة «فرصة نادرة» التي تستقر إلى جانب المربع الخاص بالأسعار.

أحاول شغل والدي عن رؤية الإعلان من النافذة العريضة التي تغلق الحائط الرابع لغرفة الانتظار بمركز الأشعة، مُقلدًا صوت عادل أدهم وهو يحدِّث ممدوح عبد العليم عن أمنية حياته الأخيرة في فيلم «سوبر ماركت» لمحمد خان، قائلاً «علمني بيانو رمزي!»؛ كانت هذه أكثر جملة حوار تثير ضحكه من بين كتالوج تقليدي لجمل أفلامه المفضلة. في الأغلب كانت الجملة تذكره بإتقاني السريع لصوت عادل أدهم، الذي تمكنتُ منه عقب أن انتهينا من مشاهدة الفيلم معًا، في تقليدنا الكلاسيكي بمشاهدة أفلام السوق معًا في سينما طيبة منذ أن افتتحت في نهاية الثمانينيات. وربما يذكِّره الأمر بنظرات التعجب التي كانت تحيط به من العاملين في السينما وقتها؛ ما هذا الأب الذي يصحب ابنه الطفل لمشاهدة أفلام خان وعاطف الطيب وأوليفر ستون، بدلاً من منتجات ديزني. في كلتا الحالتين كانت توجد ابتسامة لا يمكن تجاهلها تطبع وجهه، وهي تحديدًا كل ما حاولت الحصول عليه خلال السنوات الأربع التي تلت وفاة والدتي، وخلال السنة التي أعقبت وفاة شقيقه المقرب، وكأنها هدف أُحرز مصادفة في مباراة نتيجتها النهائية هزيمة كاسحة.

نضارة الابتسامة أطفأت قليلاً حالة الإنهاك التي تسكن جسمه دون حاجة إلى تخمين، الجسد النحيل مائل للأمام، الرأس مستسلمة للجاذبية، وهي الوضعية التي اكتشفت وراثتي لها عندما أمر بحالة مماثلة من الإنهاك). إنها وضعية الانتظار اليائس( والمحتمل حدوثه) بتحول الجبال المستقرة على الكتفين إلى كرات من القطن الأبيض تطفو في الهواء في رقة وخفة، تبدد كل درجات اللون الأزرق التي تحيط بعروق ذراعين مرهقين، وكأنها تمنحك جسدًا جديدًا، ولو لبضع دقائق قبل العودة إلى الجسد أو الوضع «الراهن»).

والدي كان شغوفًا للغاية بكل ما يتعلق بقصة رمزي وأميرة في «سوبر ماركت»، وعلاقتهما التي تشكَّلت ماضيًا وحاضرًا في منطقة مصر الجديدة. كانت توجد تلك اللعبة الذهنية التي كنت أتقاسمها في كل مشوار أرافق فيه والدي؛ وهي أن أطابق مناطق ما في القاهرة بمواقع التصوير الحقيقية لمشاهد سينمائية بعينها من تاريخ السينما المصرية. حتى إنني كنت متحمسًا لحكي الظروف التي قادتني إلى تحديد مكان شقة وشرفة أميرة في الفيلم، عندما قادتني المصادفة إلى الجلوس في شرفة مطعم متاخم لتلك الشرفة بمنطقة الكوربة، كنت أشعر بشي أليف لا يمكنني تفسيره، ولكني أدركت ماهيته على الحال عندما ظهر لي طيف نجلاء فتحي وهي تنشر غسيلها في تلك الشرفة، في اللحظة التي اكتشفتْ فيها أن رمزي صديق الطفولة والصبا عاد إلى منزل والدته من جديد على غير العادة.

وكنت قد وعدته بأن آخذه إلى تلك الشرفة بمجرد الانتهاء من الفحوصات والأشعة المطلوبة، بل إنني أبلغته بأن رؤية نجلاء فتحي أقنعتني بضرورة عمل موضوع خاص عن مصر الجديدة للعدد الجديد من مرايا، كان طيفًا مطابقًا لطيف أمي التي تنتمي إلى جيل نجلاء، الطيف الذي أراه في كل مكان منذ السكن مؤقتًا في قلب مصر الجديدة. كجزء من الحدث المتكرر على مدار السنوات العشرة الماضية بإجراء أحاديث والسير برفقة شخصيات اختفت تباعًا، وتحديدًا تلك التي رحلت دون وداع. على سبيل المثال وبمجرد وجودي في شارع معين؛ بين ميدان السبع عمارات وشارع العروبة، أجد أن أناملي كطفل قد لامستها أنامل أمي، في شارع ينيره مصباح نصف سليم يعتلي عمود إضاءة عتيق، منذ العام الذي حل فيه البارون إمبان بمشروعه الطموح على تلك المنطقة الصحراوية.

في الجو هناك غزو من روائح أشجار البرتقال، لا يمكنني تحديد مصدرها، وهو ما يجعل الأمر أكثر سحرًا بالنسبة لخيال طفل في السادسة من عمره.

ما حسم الأمر بالنسبة لي هو رد فعل دينا جميل؛ مديرة تحرير مجلة «مرايا؛ بمجرد ذكر منطقة مصر الجديدة محلاً للاهتمام الرئيسي لموضوع العدد الجديد. لم يكن مر على تعارفنا وقتها سوى بضعة أشهر، ولكني رأيت عقودًا كاملة من ذكريات الطفولة والصبا في لمعان عينيها، وهو شيء فهمته بصورة أفضل عندما ذكرتْ عملية انتقالها إلى المقطم، وهو الأمر الذي كان بمثابة سكين قطع تلك الذكريات. ولكن كان هناك صمت مفاده فضول مشترك، عما إذا كنا قد تقابلنا في مطلع التسعينيات كزبونين عند ماكينة الآيس كريم التابعة لأحد أكشاك شارع الأهرام.

طالت الأشهر في تأجيل إنهاء الموضوع، حتى أضحى مصدرًا للمزاح تستخدمه دينا ضدي. ولم أدرك سوى متأخرًا أن مصر الجديدة لم تكن مكانًا لأي نوستالجيا يمكن مشاطرتها، بل كانت مكانًا يمكن أن انفصل به عن مدينة تمضي أيامها البطيئة اليومية بتقاسم تعاستها الشعرية، إذ أن لكل منا «منابه»، من مكان يمكن فيه لتسعينيات مبارك الثقيلة أن تسمح بالتنفس قليلاً. لم يكن هناك شيء مثير لتقاسمه بخصوص السير على الأقدام من نهاية مكرم عبيد في مدينة نصر حتى محكمة مصر الجديدة، أو استطلاع الموقع القديم لحديقة لونا بارك التي أضحت من الحفريات، أو سينما بالاس المهجورة، علامات الأيدي على زجاج محلات «العبودي» من الحالمين بمضاهاة سيل إعلاناته، كل بقايا القطط التي فشلت في عبور شارع النزهة بنجاح، الشعور بسلام نادر في الثالثة فجرًا داخل سيارة أحد الأصدقاء، بعد الانتهاء من شطيرتين متنوعتين عند «أبو حيدر»، تلقي الأسئلة بشكل متكرر عند محطة مترو كلية البنات بخصوص كيفية الذهاب إلى كنيسة القديسة العذراء، لأني ربما أبدو قبطيًّا.

المقاعد الفارغة بتيفولي في التاسعة صباحًا، شجرة الكريسماس السنوية الحزينة التي تبتلعها أتربة ديسمبر في شارع بغداد، وتذكُر أن كل شيء له علاقة بالطبقة بالمرور عند كافيهات الميرغني وعثمان بن عفان «أو مدخل نادي هليوبوليس»، الأبنية الصامدة من بدايات القرن الماضي للفيلات القابعة بين جسر السويس وقصر الطاهرة، الورش المتخصصة في تحويل الفيات ١٢٨ من قطعة خردة إلى سيارات سباق، نظرة الريبة مع كل شريط كاسيت نادر يبيعه محرم من ضمن مجموعاته المنسوخة من ألبومات أصلية، الشاشات المستقلة التي أغلقت لعرضها الفيلم الممنوع في العقد الخطأ، القطط الكسولة التي ملت انتظار نصيبها من محلات الجزارة في ميدان الجامع، الحجارة التي تشكل قائمين لمرمى كرة والمتروكة عقب الانتهاء من مباراة في شارع يطل على طريق العروبة.

معاصرة بداية الثورة الثقافية في ليلة افتتاح أول فرع مكدونالدوز بميدان سنترال ألماظة، أفراد أمن البنوك بالسبع عمارات الساخرين من السيارات العالقة العاجزة عن الحركة بالميدان خلال ساعات النهار، الأبنية المغطاة بالكامل بلافتات الأطباء وأبنائهم وبناتهم وأحفادهم، ساعات الانتظار الطويلة بالعيادات، والتي تبررها ال٣٠٠ جنيه التي دفعتها قبل كل كشف مبدئي. جلسات القيلولة المشتركة في الجزر الخضراء بميدان الحجاز، ملاعب السلة الفارغة في نادي الشمس، الصلوات الجماعية مع تجمعات الموظفين عند ماكينات صرف المرتبات، البقاء وحيدًا على كرسي قطيفة في الصف الأخير بصالة سينما نورماندي، في وجود متفرج أخر يصرخ محتجًا على أفعال جاك نيكلسون في as good as it gets، الروائح القادمة من كل فرع من فروع بيتزا هت، مراهقي سينما روكسي، التعرف على مدخل للأناركية مع شريط كاسيت بغلاف محطم لألبوم «الحائط» The Wall لبينك فلويد أسفل دولاب زجاجي لبائع شرائط شيخ، خيبة الأمل في ميدان تريومف مع الفشل في بيع أعداد روايات رجل المستحيل القديمة عند بائع الصحف هناك بأكثر من ١٥ قرشًا للعدد. الصياح القادم من ملعب الكرة الملحق بكنيسة مار مرقس في شارع كليوباترا.

والنظرات المتفحصة لك من زبائن «أرابياتا» إذا حضرت قرب منتصف الليل، عملية جمع مقابل «الفرجة» في مقهى أسوان على مباريات شبكة ART المشفرة من خلال تليفزيون ١٨ بوصة. سيارات الصف الثالث المصحوبة بتحضيرات الشيشة عند كبدة المنوفي.

مجددًا تذكَّر أن الطبقة هي كل شيء في مصر. مع سباقات الدراجات النارية في الحارات الفارغة لشارع الميرغني. الكمائن الليلية للشرطة عند قصر الاتحادية، متاهات الشوارع الداخلية لمساكن شيراتون. جموع المراهقين بزجاجات السينالكو التي احتلت الشارع أمام محل كويك للأطعمة السريعة. شيراتون محروقًا عقب أحداث الأمن المركزي في فبراير 86، الرحلة الأوديسية بالبقاء وحيدًا في العربة الأخيرة في الرحلة الأخيرة للترام المتجه إلى مكرم عبيد، مستمعًا للمرة الأولى إلى Lou Reed في «ووكمان» أوشكت بطارياته على الفراغ. الارتكان نومًا على معطف أمي الشتوي بالمقاعد الإسفنجية الحمراء في رحلة العودة معها بالترام نفسه بعد انتهاء كل يوم دراسي.

لم يكن هناك شيء يمكن حكيه، أو كتابته لدينا، لقد اكتشفتُ أن رحلاتي إلى مصر الجديدة كانت أشبه برحلات تخيلية دون نهاية، برفقة أصدقاء مثل هشام رابتور مغني الراب السكندري، في سيارة تضم الثنائي الفلسطيني شب جديد ومحمد الناظر، والفارق الوحيد أنها جاءت مبكرة بأكثر من ربع قرن.

لا أعرف كيف كانت مصر الجديدة الخاصة بكِ يا دينا، ولكن لا شيء مثير كان يمكنني قصُّه غير حكايات الانفصال، ربما فقط تلك السيدة صاحبة الفستان الأبيض التي تنتظر في ركن ما في سوبر ماركت أوسكار، وتحديدًا في المكان الحقيقي التي اعتادت أميرة العمل فيه بقسم الحلويات في فيلم «سوبر ماركت»؛ السيدة التي شرعت في أخد الرقم المدون بقصاصتها الورقية في انتظار دورها في الطابور، كانت تحاول إخفاء شرودها وتجاعيد الوجه التي يسوده بعض الوجوم خلف النظارة الشمسية، مع ابتسامة خفيفة خجول، تكشف عن استمتاعٍ عابر بمرور الجميع حولها دون معرفة أنها بالفعل نجلاء فتحي!