ثقافات
دينا عزتكيف أعادت "الصحوة الإسلامية" صياغة معاني رمضان لدى المصريين؟
2021.06.01
مصدر الصورة : آخرون
كيف أعادت "الصحوة الإسلامية" صياغة معاني رمضان لدى المصريين؟
مع بداية شهر رمضان، وعلى إذاعة الأغاني هذا العام، يحكي المذيع والسينمائي سمير صبري عن ذكرياته عن هذا الشهر في الإسكندرية التي عاش فيها طفولته وصباه في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ولا يمكن أن تغفل الزخم الفني التي كانت تعرفه المدينة خلال شهر رمضان؛ إذ كانت مسارح المدينة تشهد عروضًا فنية كل مساء. وكانت البدايات المبكرة لعبد الحليم حافظ على أحد هذه المسارح، وهي البداية التي لم تصادف استحسان الجمهور الذي طالب عبد الحليم حافظ بإنهاء أغانيه، وفي إحدى الليالي الرمضانية خرج عبد الحليم حافظ عن المسرح مستاءً لعدم استحسان الجمهور لأغانيه، فالتقى تحية كاريوكا وهي في طريقها للمسرح فهدأته ووعدته أن النجاح سيكون حليفه.. الرواية في مدلولها ليست عن عبد الحليم حافظ وتحية كاريوكا، بل عن مشهد مختلف تمامًا لـ"أمسية رمضانية" في منتصف القرن العشرين بالإسكندرية.
يقول إبراهيم عبد المجيد، الروائي المصري الذي أمضى أيضًا طفولته وشبابه في الإسكندرية، في الخمسينيات والستينيات، إن النشاط المسرحي بكل تنوعاته كان عنوانًا لليالي رمضان، ولم يكن الأمر قاصرًا على المسارح الكبرى، بل أيضًا في مساحات أكثر بما في ذلك "مسرح الحديقة"، أو حتى نطاق جامع المرسي أبو العباس؛ حيث كان الإنشاد الديني لأصحاب الأصوات الجميلة ووجود واسع للأطفال المبتهجين.. كان الجو حميميًّا في رمضان، كانت هناك بهجة وكان هناك تقارب، يقول عبد المجيد "في الإسكندرية، كان الغناء بكل أنواعه والعروض الفنية على تعددها عنوانًا حقيقيًّا لرمضان وهو ما كانت الدولة تتبناه"، لكن في ثلاثيته الشهيرة "لا أحد ينام في الإسكندرية، طيور العنبر، الإسكندرية في غيمة" فإن مفهوم الابتهاج نفسه تعرض لـ "تأويلات اختلفت مع السنوات". والمشهد في القاهرة في الستينيات وحتى النصف الثاني من السبعينيات كان أيضًا مماثلاً. يقول الروائي محمد توفيق إن أمسيات رمضان كان لها طابع الاجتماعي خفيف حيث الزيارات الاجتماعية والتردد على النوادي والسينمات "لم يكن مساء رمضان مشابهًا لما نراه اليوم من تركيز كبير على طقس ديني بعينه". ولا يتذكر توفيق أن صلاة التراويح في المساجد كانت شيئًا مألوفًا في معظم المدن الكبرى؛ حيث جرت العادة أن تكون الصلاة في المنزل، وأن يكون التردد على المساجد في أعداد كبيرة مرتبط بصلاة الجمعة أو صلاة العيد، أما مشهد الصلاة المسائية المذاعة في الميكروفونات فلم تكن مألوفة إطلاقًا في معظم أنحاء القاهرة "ربما حتى نهاية السبعينيات بل وبداية الثمانينيات، ولم يكن من المألوف إطلاقًا أن تخصص الأيام الأخيرة من رمضان على أهميتها الروحية لجموع المسلمين الممارسين للطقس الديني لما عرف بعد ذلك بالاعتكاف في المساجد، بل كانت في العادة تخصص، إلى جانب الصلاة وقراءة القرآن في المنازل لمن يقوم بذلك "بصفة شخصية غير جماعية"، إلى الاستعداد للاحتفال بالعيد فكانت الصحف تبدأ في نشر برامج الملاهي الليلية والتي كانت تحفل بإشارات لفقرات راقصة تقدمها أشهر الراقصات في حينه، سهير زكي ونجوى فؤاد. وتتفق روايتي عبد المجيد وتوفيق عن نهارات رمضان أيضًا فيما بين الخمسينيات والسبعينيات، فلم يكن هناك غضاضة في أن تقدم المطاعم والمقاهي لمرتاديها الطعام والشراب، ولم يكن الأمر يحتاج للاختباء خلف ستار. ولم يكن الالتزام بالصيام أو عدمه، بحسب توفيق، أمرًا يقع في سياق النقاش العام فالأمر "كان شخصيًّا بحتًا"، ولم يكن متصورًا أن يتعرض من لا يصوم لأي تنمر، كما لم يكن هناك تعامل مع الصائمين كونهم أناس مصابون بالهوس الذي يجعلهم غير قادرين على رؤية أحدهم وهو يتناول فنجان قهوة أو وجبة ساخنة.
"لم تكن هناك رقابة للشارع على الناس في رمضان، لا في نهاره ولا في ليله"، بحسب علاء خالد الروائي السكندري الخمسيني، ولم يكن الأمر يقتصر على مسألة الإفطار أو الصيام، بل على مجمل السلوك الفردي، فلم يكن من المعتاد أن تتغير ملابس النساء مع بداية الصوم الرمضاني بأي حال.
ويقول توفيق "إن فكرة العلاقة بين التدين وزي المرأة بدورها لم تكن واردة من الأصل لدى المصريين، لا في رمضان ولا في غير رمضان، والأمر كان يقتصر فقط على التقاليد الاجتماعية المتعارف عليها في المساحات المختلفة، فهناك من يرتدي الميني جيب لأن تقاليده الاجتماعية تبيح له ذلك، وهناك من يلتزم ما يعرف بالملابس الأكثر احتشامًا لأن هذا كان متفقًا مع السياق الاجتماعي الذي ينتمي إليه ببساطة". توفيق الذي ترصده روايته "ليلة في حياة عبد التواب توتو" بداية ظهور التيار الإسلامي في جامعة القاهرة في السبعينيات كأحد العناصر السياسية والاجتماعي المؤثرة، يرى أن الأمر لا يتعلق برمضان، بل برؤية المجتمع المصري لفكرة الدين في ذاتها من حيث المعنى. وحتى نهاية السبعينيات وربما حتى منتصف الثمانينيات، بحسب توفيق، بقي الدين عند القطاع الأكبر من المصريين عنوانًا روحيًّا عامًا "لم يكن حديث الجنة والنار هو العنوان الأهم للدين حتى في أوساط المتدينين، بل كان حديث عمل الخير وتجنب ايذاء الآخرين والتكافل المجتمعي، ويقبل توفيق أن مشهد مائدة إفطار أسرة زاهر أفندي في مطلع الخمسينيات، كما صورت في رواية إحسان عبد القدوس، المنقول إلى فيلم حيث الأسرة تبدو غير مفرطة في التبرج وفرحة بالصيام ومستعدة في الوقت نفسه لمد يد العون لمن يلجأ اليها، هي بالأحرى المشهد الأكثر تصويرًا لفكرة رمضان عند المصريين في مرحلة ما قبل ما اصطلح إجمالاً على توصيفه بـ"الصحوة الإسلامية".
ما حدث بعد ذلك، كما يضيف، أن مفهوم الدين تغير، وأصبح الأمر متعلقًا بالجنة والنار، ولم يعد من الكافي أن يكون الإنسان طيبًا وخيرًا ليكون مؤهلاً للوصول إلى الجنة بل أصبح المطلوب من الإنسان أن يتعبد بطريقة جمع النقاط، فهناك عدد معين من النقاط على الإنسان أن يحصل عليه، وللحصول على هذه النقاط أصبح على من يريد الذهاب إلى الجنة أن يتبع برنامجًا معينًا يوصف من قبل بعض الشيوخ.
ماذا حدث فعلا في السبعينيات والثمانينات؟
يؤكد علاء خالد إنه لا يمكن اختزال ما حدث في النصف الثاني من السبعينيات وحتى نصف الثاني باعتباره مجرد انتشار واسع لتيارات الإسلام السياسي على تنوعها "الأمر ليس كذلك فقط، فلقد ظهر واقع مختلف في ذلك التوقيت، قائم على هزيمة ١٩٦٧ التي نالت من إيمان المجتمع بنفسه وبأفكاره، كانت الأفكار فيه تتبدل كما كانت المباني الجميلة تهدم لتحل محلها مبانٍ عالية تفتقد لأي معايير للجمال في سبيل البحث عن وفرة اقتصادية، وهو المشهد الذي يرصده خالد في روايته "ألم خفيف كريشة طائر".
ويقول توفيق إن صعود تيارات الإسلام السياسي كما حدث في تلك الفترة كان مرتبطًا بـ"احتياج المجتمع" لنظام فكري جديد يساعده على مواجهة الهزيمة، ويضيف "المجتمع كان يتحرك بصورة ما في هذا الاتجاه". وإلى جانب الهزيمة يرصد توفيق أسبابًا أخرى لما يصفه بالتحول الفكري الذي عاشه المجتمع المصري، وهو ما سمح، إلى جانب الدولة واختياراتها السياسية في ذلك الوقت، باختلاف المفهوم الجمعي لدى القطاع الأكبر من المسلمين من المصريين عن الدين، الوضع الاقتصادي المعقد، هو في رأي توفيق، أول هذه الأسباب "لا يجب أن ننسى أنه حتى نهاية السبعينيات وربما حتى بدايات الثمانينات لم تكن هناك فوارق اقتصادية ضخمة بين المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة، لكن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبنتها الدولة في ذلك الوقت كانت حاسمة في خلق هوة فظيعة بين أبناء نفس الطبقة، وهو ما استدعى الاحتياج لأحد أمرين، أولهما القبول بهذه الهوة تحت عنوان "الجزاء في الآخرة"، ومن ثَم يجب العمل من أجل اجتياز امتحان الآخرة من خلال جمع أكبر نقاط ممكنة "بحسب المنطق القيمي المستحدث للدين". والخيار الآخر الذي يرصده توفيق في رواية تالية "طفل شقي اسمه عنتر" جاء مرتبطًا بالقبول بالفساد مع السعي للتكفير عن هذا الفساد أيضًا من خلال نفس "برنامج النقاط". كما يرصد توفيق تغير لغة خطاب الدولة تجاه المواطنين، ليس فقط مع التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، بل مع التحول من الصراع مع إسرائيل ومواجهة القوى الاستعمارية إلى السلام مع إسرائيل والتحالف مع "هذه القوي الاستعمارية"، وهي التحولات التي جاءت متتالية وسريعة دون خطاب واضح ومتماسك، فأصبح هناك احتياج لدى المواطنين لخطاب واضح ومتماسك في مساحة ما، فكان ذلك من خلال حديث رجال الدين عن التفسير الحرفي والمتشدد للنص الديني. كانت الدولة شريكًا كاملاً؛ تروِّج للأفكار الإسلامية المستحدثة في مساحات أوسع في الإذاعة والتليفزيون مع النصف الثاني من السبعينيات، ولكن الدولة لم تكن الفاعل الوحيد، ليس بالمعنى المباشر لنشر الأفكار، فالواقع الاقتصادي والمجتمعي كان أساسيًّا في خلق واقع الالتجاء للدين كطقس أكثر منه عنوانًا روحيًّا. وفي الوقت نفسه يقول علاء خالد إن الشكل الجديد استقر عليه المفهوم الديني والذي بدأ بالأساس في شهر رمضان، بوصفه الشهر العنوان للمسلمين، ثم امتد ليتمأسس في العام بكامله، كان بعيدًا عن أسبابه، وهو في ذاته "مشهد" يشير إلى وجود شيء جديد في المجتمع، ليس مجرد تيار سياسي بل واقع اجتماعي وثقافي.
الكاتب محمود عبد الشكور صاحب العنوانين "كنت صبيًّا في السبعينيات" و"كنت شابًا في الثمانينيات" يقول إن انتشار النسق الجديد للدين وممارساته لم يكن يسير بنفس الوتيرة في الريف كما في الحضر. في إحدى قرى الصعيد بقنا التي نشأ فيها عبد الشكور لم يكن الأمر مشابهًا لما كان عليه في الإسكندرية والقاهرة، "بالأصل في الأرياف وخصوصًا في الصعيد كانت وسائل الترفيه في هذه الفترة محدودة، بما في ذلك في رمضان، حيث الاعتماد على قناتي التليفزيون الأولى والثانية ومحطات الإذاعة".
ويذكر عبد الشكور أنه لم يكن هناك شعور لدى أغلب سكان قريته بالتناقض بين متابعة فوازير رمضان على التليفزيون ومتابعة البرامج الدينية التي يقدمها الشيخ محمد متولي الشعراوي، الداعية الآتي لمصر من السعودية بقراءته عما هو الإسلام ومن هو المسلم الجيد. ولكن عبد الشكور يرى أن مسألة البرامج الدينية على التليفزيون، بصفة عامة، وخصوصًا خلال رمضان، لم تبدأ مع الشعراوي؛ فقبل الشعراوي كانت هناك برامج دينية أخرى. ويرصد عبد الشكور أن المسلسلات الدينية التي كان التليفزيون يقدمها في تلك السنوات كانت "آثارًا درامية كبيرة ولم تكن مرتبط بالصحوة الإسلامية"، في رأيه ولم تكن في كل الأحوال تحتل المساحة الأكبر من البث التليفزيوني الرمضاني، بل كان الترفيه هو الأساس بما في فيلم العصر الأبيض والأسود، وخصوصا أفلام الكوميديا مثل سلسلة أفلام إسماعيل ياسين والفوازير، والبرامج المنوعة والثقافية. القرية التي عاش عبد الشكور فيها طفولته وشبابه لم تكن غريبة عن مشهد معتاد في الريف؛ وهو مشهد الصلوات الجماعية في مسجد القرية الصغير، بما في ذلك صلاة التراويح في رمضان، وهذه القرية، بحسب ما يروي، رفضت تمامًا قبول فكرة "وصول داعية سنغالي وصل إلى القرية ليدعو المصريين لصحيح الإسلام"، وهي نفس القرية التي رفضت التماهي ولو في الحد الأدنى مع تحرك مجموعة من "المتشددين الجدد" للاستحواذ على صلاحية الولاية الدينية "في إحدى سنوات رمضان، على الأرجح في عام ١٩٨١ قرر هؤلاء أن يعلنوا مبكرًا عن استطلاع مستقل من قبلهم لهلال شوال وحلول العيد ودعوا لصلاة العيد، بينما كانت الدولة تعلن أن رمضان لم يتم أيامه بعد، فما كان من أهل القرية إلا أن تغاضوا تمامًا عن تكبيرات العيد التي أطلقها هؤلاء من مسجد القرية، وأتموا الصيام ثم احتفلوا بالعيد مع الإعلان الرسمي عن بداية شهر شوال".
تحولت الدولة من لحظة تجنيد وإعلان المجاهدين إلى أفغانستان في منتصف السبعينيات برعاية رئيس الدولة نفسه إلى مشهد تصريح السادات في إحدى الخطب العامة في نهاية السبعينيات أنه رفض تلبية مطلب للإسلاميين الذين كان تحالف معهم بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ لوقف فوازير نيلي، فلم يكن مؤهلاً ليضع حدًّا لتأثير متزايد للنسق الجديد المطروح على المجتمع للدين الإسلامي والذي بدأ يتموضع في سياقات اجتماعية منها تغيير شكل غطاء الشعر ومجمل الزي للنساء في الحضر والريف "على عكس الحال في المدن التي ربما جاء الانتشار الواسع لغطاء الشعر عنوانًا لسياق اقتصادي، أو تعبيرًا عن سياق سياسي رافض لمواقف الدولة، أو مبديًّا للمعارضة لها فإن النساء في الأرياف والصعيد بالتأكيد، تستوي في ذلك المسيحيات والمسلمات، كانت تغطي الجزء الأكبر من شعرها وترتدي جلاليب فضفاضة، لكن ما حدث هو تغيير شكل ملابس النساء بصورة بدأت تدريجية ثم تسارعت". وكما لفت عبد المجيد فإن المنتمين للتيار السلفي والقادمين من الخليج العربي، أو المتحركين بين مصر والخليج العربي ناقلين الأفكار الوهابية، زاد عددهم بشكل كبير، ومن ثَم تأثيرهم بسرعة. وكما رصد عبد المجيد رؤيته لرجل سكندري عائد من الخليج وقد ارتدي العقال المتعارف عليه للرجال في هذه البلاد الصحراوية، وكما رصد توفيق وخالد انتشار ما عرف بالسروال والقميص كعنوان للانتماء للسياق الثقافي/ الديني الجديد، رصد عبد الشكور انتشار أنواع "مستحدثة من الجلاليب، خصوصًا الجلاليب البيضاء المتعارف عليها في بلاد الخليج التي بدأ الرجال ارتدائها في صلوات التراويح وصلاة العيد". ويرصد أيضًا تأثيرًا يقول إنه أكثر خطورة للسلفيين إلا وهو "تأثيرهم على المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين". ففي السبعينيات وحتى في الثمانينيات، لم يكن من بين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في دائرته الاجتماعية "بما في ذلك من لقوا عنتًا في سجون الستينيات" من يتبنى الأفكار الوهابية "نعم كانت لديهم أفكار أكثر محافظة بالتأكيد وقراءات أكثر محافظة للنص الديني ولكنهم لم يكونوا على شاكلة السلفيين، وما حدث أن الفكر الوهابي اخترق المجتمع، ولكنه أيضًا اخترق الجماعة الدينية المعروفة وواسعة الانتشار في ذاك الوقت، إذ تعرض الإخوان أنفسهم لعملية سلفنة لا يمكن التقليل من تبعاتها على المجتمع.
التسعينيات وما تلاها
عمرو عزت الباحث في شأن المؤسسات الدينية الرسمية منها وغير الرسمية والكاتب القصصي، لا يستثني المؤسسات الدينية الكبرى من الانجذاب لتأثيرات ثم تبني الأفكار السلفية القادمة من صحراء الخليج العربي التي أصبحت مدنًا ثرية مع الطفرة النفطية في السبعينيات. عزت، الذي عاش طفولته وصباه في حي إمبابة الذي سمى الإعلام قطاعًا جغرافيًّا كبيرًا منه في التسعينيات باسم جمهورية إمبابة الإسلامية، يلقي الضوء على مرحلة التسعينيات وبداية الألفية، حين كان الشكل الطقسي المختلف لممارسة الشعائر الدينية والفهم الثقافي المستجد قد استقر، كما استقر الوضع الاقتصادي المعقد وتأثيراته المجتمعية. ويقول إن التسعينيات شهدت استنفارًا أمنيًّا لا يستهان به من قبل أجهزة الدولة إزاء مجمل الإسلاميين "خاصة هؤلاء الذين لم يكن لهم تماهٍ من بوابة خلفية مع الدولة مثل السلفيين في إمبابة والذين كانوا مختلفين عن سلفيي الإسكندرية في هذا الشأن"، ويضيف "صحيح أن صلاة التراويح كانت تقام على نطاق واسع يستدعي في بعض الأحيان إغلاق بعض الشوارع الصغيرة التي تمتلئ بالمصلين، وصحيح أن الجوامع كانت تشهد دروس الدين والبقاء لقراءة القرآن بصورة جماعية، ولكن على سبيل المثال فإن فكرة الاعتكاف في المساجد لم يكن مسموح بها من قبل الدولة" وفي الوقت نفسه يقول عزت إن "تصور سيطرة الإسلاميين بصوره قهرية على كل المجتمع حتى في إمبابة نفسها صورة مفترضة وليست حقيقية، فعلى سبيل المثال لم يكن الصيام معتادًا في فئة سائقي الميكروباص والحرفيين، وكان معروفًا تمامًا أنهم يفطرون، وأن هناك مقاهٍ بعينها تقدم لهم الطعام والشراب". ومع أن عزت لم يصادف في التسعينيات مشهد المقاهي التي تقدم كل أنواع المشروبات على الأرصفة في نهار رمضان، كما عبد المجيد في إسكندرية بداية الخمسينيات، ولم يشاهد مطاعم تقدم الوجبات الساخنة وقت الظهيرة، كما توفيق في قاهرة بداية السبعينيات، فلم يصادف الكثير من عمليات النهر العلني أو التنمر الشديد بالمفطرين في رمضان، فهي فكرة "تطرح بصورة كاريكاتيرية بها الكثير من التنميط في بعض الدراما الرمضانية"، ويضيف أن توجد حاجة لقراءات ومقاربات سوسيولجية واسعة لما حدث بالفعل في عقود ما عرف بـ"الصحوة الإسلامية"، بل إنه يطرح الحاجة لإعادة قراءة تسمية ومفهوم الصحوة الإسلامية في ذاته، بصورة يمكن أن تقدم قراءة كاملة لما شهدته مصر في واحدة من أهم مراحل التحول المجتمعي/الاقتصادي/ السياسي. ويشير عزت إلى كتاب "الدنيا أجمل من الجنة" التي سرد فيه خالد البري تجربة معايشة الانتماء للإسلام السياسي ثم الابتعاد عنه بوصفها واحدة من القراءات المهمة في هذا الصدد. فمن جانبه يطرح خالد سؤالاً أبعد، إذ يتساءل عما إذا كانت ثورة يناير ٢٠١١ وما جاءت به من مشاركة اجتماعية واسعة وما تلاها من آمال التحول السياسي. ويرصد خالد في السياق السكندري تحولات بدرجات مختلفة لم تتبلور بعد بصورة كاملة، لكنها أصبحت بادية في اختيارات فردية أكثر استقلالية من الشرح الذي قُدم في نهاية السبعينيات وما تلا ذلك بنحو عقد ونصف العقد عن ماهية الانتماء للدين الإسلامي.
من جانبها تجد الروائية وأستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة سحر الموجي صعوبة في توقع تشكيل البدايات التي يطرحها خالد لديناميكية مستمرة تجاه الخلاص من الفكر الوهابي. أسباب الموجي في هذا لا تتعلق بالضرورة بمدى استمرارية انتشار المظاهر المرتبطة بهذا الفكر بل بطوبوغرافية الواقع الذي سمح بإحلال فكري بين التعاطي المصري للإسلام الذي يميل في كثير من جوانبه تقليديًّا إلى منحى صوفي ما وبين التعاطي المستجلب في السبعينيات من دول الخليج "لا زلنا نعاني من مشاهد الإفراط في النهج الاستهلاكي وما يوازيه من سيطرة صيحات معينة تطرح نفسها كمعبر عن الانتماء الديني، وهذا ما يتضح حتى في ممارسة الطقس الديني "إذ أن هناك ملابس معينة، على سبيل المثال تحرص النساء في قطاعات اقتصادية متنوعة على شرائها للذهاب لصلاة التراويح في رمضان أو صلاة العيد.. ومن المهم تذكر أن ما حدث لم يكن فقط إفراط في الطقس على حساب الجانب الروحي وحتى الأخلاقي للدين، بل سيطرة لنهج غير معتاد من الاستهلاك والتباهي الاستهلاكي وهو ما يتضح بشدة في شهر رمضان حين يتوازى التباهي الاستهلاكي بتباهي ممارسة الطقس الديني".
الموجي التي استحضرت في آخر رواياتها "مسك التل" أمينة، الشخصية النسائية الكامنة في الصمت والخضوع لسطوة الرجل في بداية القرن العشرين في ثلاثية نجيب محفوظ، لتستحيل سيدة فاعلة لها سمت صوفي ملهم لقراراتها في بدايات القرن الحادي والعشرين، ترى أن تراجع إدراك الدين وممارساته تحت العنوان الروحي، وأن الطقس ليس بالأمر الذي يمكن توقع استعادته سريعًا، حتى وإن شهدت السنوات التالية لثورة يناير تغييرات ملحوظة، مثل تراجع الكثير من الفتيات والنساء عن التزام غطاء الشعر في ظل وجود آليات مختلفة لممارسة الاعتراض السياسي وصياغة مناهج التحرر من السيطرة الذكورية.