قضايا
يحيى فكريكيف تتحرر فلسطين؟!
2021.01.01
كيف تتحرر فلسطين؟!
هذا السؤال القديم المتجدد.. السؤال الأيقونة، مفتاح السر، وحجر الأساس، ومربط الفرس.. السؤال العسير، ذو الإجابات الحائرة الملتبسة.. السؤال المفارق، حمَّال الأوجه، الباعث على الشقاق والصدام.. السؤال الحلم، المحمل بالدمع والشجن، وأغاني الحنين.. السؤال المقاوم، المفجر للغضب، الملهم لملايين المناضلين في كل بقاع الأرض..
كيف تتحرر فلسطين؟!
السؤال الذي كتب تاريخ بلادنا ومنطقتنا على امتداد خمسة وسبعين عامًا، وكان الحافز وراء كل الثورات والانقلابات والحروب.. السؤال الذي استوطنت حروفه آلامًا وقلوبًا انفطرت حزنًا وولعًا، وأنهارًا من الدم، ومئات الآلاف من الشهداء، وملايين من اللاجئين والضحايا..
كيف تتحرر فلسطين؟!
سؤال يعود ليطرح نفسه مجددًا، بكل توهجه واحتدامه، وبنفس عزيمته الأولى وحضوره الطاغي، وبعد أن ظن الجميع أن العالم قد تجاوزه. يعود ليصفع هؤلاء الذين كانوا - منذ بضعة أسابيع - يتهافتون على الجلوس مع الصهاينة، والوقوف معهم أمام كاميرات التصوير، ويضعهم في حجمهم الحقيقي. يعود مُعمدًا انتفاضة ثالثة، تأتي في شروط جديدة، وأشكال مغايرة، وظرف تاريخي مختلف كلية.
هل من ضرورة لبذل الجهد بحثًا عن إجابة جديدة عن ذلك السؤال؟ ألا يكفينا كل ما كتب وقيل حول الأمر على مدار عقود من الزمن؟! نعم هناك ضرورة.. ضرورة يفرضها التاريخ نفسه. فالعالم الذي يشهد الانتفاضة الثالثة، غير ذلك الذي شهد انطلاق الثانية عام 2000، أو الأولى عام 1987؛ والآفاق التي تنفتح أبوابها اليوم تختلف عن تلك التي حددت شروط اتفاقية أوسلو عام 1993، واتفاقية كامب دايفيد عام 1978؛ والوعي الجمعي للشعب الفلسطيني بقضيته الآن يُغاير كثيرًا ما أعلنه ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974؛ حتى المقاومة الفلسطينية اليوم تختلف نوعيًّا عما كان عليه الحال عشية تأسيس فتح عام 1965، أو انطلاق المقاومة المسلحة عام 1955؛ وبالقطع فإن المواقف العالمية تجاه القضية الفلسطينية تنطلق الآن من رؤى لا علاقة لها بالكلية بما كان قائمًا عام 1967، أو 1948.
أول متغير هو خريطة الانتفاضة؛ فالمقاومة الفلسطينية ومعركة التحرير كان مركزها الشتات منذ عام 1948 وحتى عام 1987، عندما انطلقت الانتفاضة الأولى، ومن ساعتها وحتى اليوم صار مركز النضال الفلسطيني هو الضفة وغزة. أما جديد الانتفاضة الثالثة هو المشاركة الفعَّالة الجسورة لفلسطينيي الداخل (عرب 1948)، التي تفتح آفاقًا مختلفة نوعيًا أمام مشروع التحرر، وتضع نهاية لكل الأوهام المتعلقة بمشروع الدولتين، الذي سقط عمليًا منذ انطلاق الانتفاضة الثانية.
المتغير الثاني هو المقاومة الفلسطينية، فإثبات السلاح الفلسطيني أنه قادر على الصمود والمواصلة وتحقيق ضربات موجعة لإسرائيل، رغم كل ما يعانيه من حصار، بات عنصرًا فارقًا. وصار هناك إدراك واضح في الداخل الإسرائيلي لضرورة وضع ذلك السلاح في الاعتبار.
المتغير الثالث هو التواصل مع العالم. فقد نجح الشباب الفلسطيني المقاوم في استخدام الإعلام والوسائط الاجتماعية على نطاق كبير، لفضح الاستعمار الصهيوني والدفاع عن مشروعية المقاومة في مواجهته، ذلك رغم تواطؤ المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم، والقيود الشديدة التي فرضتها على إعلام المقاومة.
النجاح في التواصل مع العالم فتح الباب أمام حركة تضامن شعبية عالمية غير مسبوقة مع الشعب الفلسطيني وقضية تحرره. صحيح كان هناك دائمًا تضامن عالمي مع القضية الفلسطينية، لكن جديد الانتفاضة الثالثة هو صعود حركة تضامن شعبية معتبرة ذات وزن داخل بلدان الغرب الإمبريالي ضد الاستيطان الصهيوني والفصل العنصري.. حركة نجحت في حشد نجوم إعلاميين ذوي شأن للدفاع عن القضية الفلسطينية، من كتاب وفنانين ورياضيين ونواب برلمانيين، ونظمت تظاهرات كانت الأكبر من نوعها، ووضعت الدعاية الصهيونية في موقف دفاعي، وصار لها تأثير بقدر أو آخر على صناعة القرار السياسي.
على جانب آخر افتقدت الانتفاضة الثالثة إلى الدعم الشعبي العربي المعتاد، وهو المتغير الرابع المهم. صحيح أن التوجهات الحكومية الرسمية في مصر كانت داعمة للمقاومة، وهو موقف جديد، لكنه يأتي في سياق محاولات الدولة المصرية للتوازن داخل الساحات الإقليمية والدولية. إلا أن هناك غيابًا ملحوظًا للدعم الشعبي العربي، الذي شكل ظهيرًا تاريخيًا للشعب الفلسطيني طوال سنوات نضاله، اللهم إلا بعض التظاهرات المحدودة في الأردن ولبنان. وبالقطع كان للقبضة الأمنية في القاهرة ودمشق - وهما المركزان الأهم للدعم الشعبي- دورًا حاسمًا في وأد أي تحرك جماهيري داعم للانتفاضة. وبالقطع أيضًا لعب الاندفاع المحموم من جانب أمراء الخليج للإعلان عن تحالفهم مع إسرائيل، وهم المسيطرون عمليًا على تمويل كل الصناعات الإعلامية بالمنطقة، دورًا حاسمًا كذلك في منع أي تعبئة إعلامية لخلق تضامن شعبي.
المتغير الخامس هو موقف الجمهور اليهودي في الولايات المتحدة. فللمرة الأولى تنهض حركة متسعة وسط جماهير اليهود الأمريكيين رافضة للسياسة الإسرائيلية، ومتضامنة مع المطالب الفلسطينية، وضاغطة من أجل وقف الاستيطان الصهيوني. وقد لعب صعود اليسار الجديد الأمريكي، الذي يجسده بيرني ساندرز والحركة الملتفة حوله، دورًا مركزيًّا في هذا التحول بالتأكيد. لكننا - في جميع الأحوال- أمام متغير جليل الشأن، يفتح أبوابًا جديدة، كانت مغلقة تاريخيًّا، أمام مشروع التحرر.
كيف تتحرر فلسطين؟!
كنا نقول إن الطريق إلى تحرير فلسطين يبدأ بتحرير مصر، وأن سفير إسرائيل لن يخرج من القاهرة قبل أن يخرج منها حسني مبارك.. وحاولنا، لكننا هُزمنا! نجحنا في إسقاط مبارك، وفشلنا في طرد سفير إسرائيل! وانتهى الأمر بهيمنة للتحالف الخليجي الصهيوني على سير الأمور داخل المنطقة.. ويبقى السؤال: ماذا بعد؟!
القائمون على هذا الإصدار يتبنون رؤية استراتيجية للقضية الفلسطينية، تنطلق من موقف يساري جذري، أن لا سبيل لحلها إلا ببناء: "دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية واحدة، متعددة الأعراق والأديان، تكفل حقوقًا متساوية لكل من يعيشون اليوم على أرضها، مسلمين ومسيحيين ويهود". وفي تقديري لم يكن قط هذا الشعار القديم واضحًا كفرصة وحيدة، وإمكانية حقيقية في الواقع العملي والفعلي مثلما هو اليوم. لكن يظل السؤال كيف نصل لهذا الهدف؟! كيف تتحرر فلسطين؟! ومع هذا السؤال المركزي تأتي أسئلة قديمة وجديدة كثيرة تبحث عن إجابات.
أسئلة عن المقاومة المسلحة، حدودها، ودورها، وفرصها؛ عن الداخل الفلسطيني، وكيف يمكن توحيد النضال في الضفة وغزة وأراضي 1948؛ عن الحاجة الملحة لوجود بديل سياسي شعبي، قادر على حشد الشعب الفلسطيني كله وراءه؛ عن إمكانات انقسام المجتمع الإسرائيلي، واندماج قطاعات من اليهود المقيمين في فلسطين مع مشروع التحرر الفلسطيني؛ عن فرص اتساع الحركة العالمية، وعودة الجماهير العربية إلى المشهد؛ وغير ذلك الكثير من الأسئلة..
هذا الملف لا يجيب على السؤال المركزي، وإنما يُعيد طرحه.. ولا يتناول كل الأسئلة المحيطة به، وإنما يفتح الباب للبحث فيها.. هو ملف غير مكتمل، ولا يمكن أن يكتمل، لأن النظر إلى الأمر في اتساعه يحتاج إلى جهد أكبر بكثير، والملف ليس إلا مبادرة في هذا الاتجاه.. ورغم الموقف اليساري الجذري لهذا الإصدار، فإنه منفتح لكتاب وضيوف ومحاورين من توجهات ورؤى أوسع وأكثر تنوعًا، فكل الإجابات مطروحة للنقاش، والمؤكد ألا أحد اليوم يملك "يقينًا" غير مطروح للشك أو التساؤل.