رؤى

خالد يوسف

كيف تفسر كرة القدم العالم؟

2018.12.01

كيف تفسر كرة القدم العالم؟

دومًا كانت هناك دهشة حقيقية تلازمني في كل مرة نفرغ فيها من اللعب مع المغتربين البرازيليين في أحد ملاعب مدريد العشبية، منثورين على الأرض الخضراء من الإجهاد بعد ماراثون من المباريات المتوالية، كحبات من الفاكهة في انتظار التقاطها من على الأرض تحت ضوء شمس تخفت أشعتها قرب الغروب، حبات فاكهة ملونة بفعل ارتداء أبطالها لقمصان فرقهم المحلية المفضلة، وكأنها امتداد لهويتهم الثقافية، للأسلوب الذي نشئوا به، للأحياء التي تربوا فيها، ربما لطبقتهم الاجتماعية أيضًا، بطاقات هوية من القطن الصناعي، بين سطوة ألوان فلامنجو السوداء والحمراء التي تمثل أغلبية ريو دي چانيرو؛ هامشيو بيلو هوريزونتي المنتمين إلى نادي كروزيرو  بقميصهم ذي الدرجات المختلفة من زرقة المحيط الأطلنطي؛ شراسة الأقلية التي يمثلها نادي كورينثيانز في مواجهة جيرانهم الأشقياء الذين يحملون اسم مدينتهم، غابة الأسمنت الأولى في أمريكا اللاتينية، ساو باولو. كل هذا جنبًا إلى جنب ألوان قوس قزح لفلومينينزي، نوسالتچيا الستينيات المتمثلة في بياض قميص سانتوس، أو الطابع الأيقوني لما يمثله قميص فاسكو دي جاما بسبب ارتداء العديد من أساطير اللعبة ذلك القميص، منهم السياسيان اللاحقان روبرتو ديناميتي، وروماريو، و«البطل الشعبي المحير الملقب بالحيوان» إيدموندو، ونجم الخمسينيات والستينيات فافا.

دومًا كانت تلك الفسيفساء العرقية والثقافية والطبقية المنثورة على أرض الملعب مصدر إعجاب الجميع منا بالبرازيليين، خاصة في ظل الحجم الجغرافي والديمغرافي الذي يشكل طبيعة المجتمع البرازيلي، بالمقارنة مع حالة التجاذب والتوتر التي قد تلازم نظراءهم الإسبان على سبيل المثال بفضل تنوع خلفياتهم الإقليمية أو حتى اللغوية. دومًا كان اللعب مع البرازيليين سهلًا (على عكس اللعب على الطريقة المصرية التي تتسم بالكثير من الجهد والوقت المهدرين). فكرة اللعب البسيط الممتع كانت كليشيه لا يُمَانع فيه البرازيليون مطلقًا، إلا إنهم لم يكونوا يطيقون ذلك الكليشيه الخاص بتمجيد وتوقير فترة حكم لولا دا سيلفا، والتي طالما كانت موضع إعجاب من قبل الأجانب، من هم في خارج الصورة (ناهيك عن إعادة تدوير ذلك الكليشيه في الأوساط السياسية والاقتصادية المصرية بشكل متواصل دون مراجعة على مدار العقدين الماضيين).

كابوس بولسونارو

كانت المجموعة البرازيلية الممارسة لكرة القدم في مدريد تشعر رغم الميول اليسارية لكثير منهم أن بالونة دا سيلفا ستنفجر في أي وقت، في أي حقبة حتى لو كانت لاحقة، حتى مع قدوم خليفته ديلما روسيف، حتى مع سطوع الطابع الرمزي لصعودها كونها سجينة ديكتاتورية السبعينيات. دومًا كان البرازيليون متشككين في إمكانية نجاح التجربة حتى نهايتها: دوافع الهجرة، ومعدلات الجريمة والبطالة التي تتساقط قطراتها من أكثر التقارير السنوية إيجابية. وما زال في الذهن رد فعل أحد هؤلاء البرازيليين، روبرتو فاجنر، حاضرًا في كل مرة يُستمع فيها إلى إطراء على حزب العمال البرازيلي. كان فاجنر يطبع ابتسامة ساخرة، يتبعها بهز رأسه متعجبًا مع جملة «أنتم لا تعرفون شيئًا». مع الوضع في الاعتبار الالتزام اليساري الحاد فكريًّا الذي كان يتبعه روبرتو فاجنر في كل حواراته.

قدوم جايير بولسونارو (رئيس البرازيل المنتخب حديثًا) إلى صدارة المشهد السياسي في 2018 لم يكن مباغتًا بالنسبة إلى شخص مثل روبرتو فاجنر، كانت مجرد خطوة منطقية أخرى من نتائج الانفصال الذي عرفته النخبة السياسية البرازيلية (تحديدًا فصيلها اليساري) مع واقع الشارع، لتتحول رمزية وصول ديلما روسيف إلى السلطة مع مطلع هذا العقد إلى كابوس رمزي عكسي في نهايته مع وصول بولسونارو، تحديدًا بعد 35 عامًا بالتمام والكمال من حملة التصويت لانتخابات ديمقراطية كاملة في البرازيل كان على رأسها من ضمن المشاهير سقراطس لاعب الكرة الأسطوري في الثمانينيات، لإنهاء نظام شمولي استمر قرابة 20 عامًا.

   لتكتمل الدائرة بعد قرابة أربعة عقود مع الوصول «الديمقراطي» لبولسونارو، وهو أحد عشاق نوستالچيا تلك الفترة الشمولية من منتصف الستينيات مرورًا بالسبعينيات، مؤيد لاستخدام التعذيب، ولديه مشكلات جوهرية مع مختلف الأقليات في المجتمع البرازيلي، ومحب لحمل واستخدام الأسلحة كأداة للتعامل اليومي في الشارع. جايير بولسونارو القادم من دكة البدلاء السياسين هو المعادل المناقض لكل ما حاولت البرازيل تجنبه خلال الأربعين عامًا الماضية. شعبوية فظة تبدو في حالة انسجام كامل مع فظاظتها، استحوذت على دعم العديد من مشاهير كرة القدم منهم روماريو أسطورة فاسكو دا جاما سابق الذكر، ورونالدينيو أسطورة نادي برشلونة في العقد الماضي.

مفارقة حقيقية أن يكون كتاب أمريكي عن كرة القدم هو واحد من أول الأصوات التي ألمحت إلى توغل ذلك النمط من الشعبوية في المجال العام البرازيلي، في وقت لم تكن الساحة السياسية التقليدية تتعامل مع الأمر بالجدية الكافية منذ ظهوره مطلع التسعينيات، وكأنه مزحة طويلة الأجل، ومادة خصبة لبرامج الفكاهة المسائية بالتلفاز. في ذلك الوقت كان فرانكلين فوير مدير التحرير السابق بمجلة نيو ريبابليك، والكاتب الحالي بمجلة ذا «نيشون» يقوم بعملية تبحر مطلع هذا القرن لعمل مقاربة بين كرة القدم والواقع السياسي البرازيلي، كان نتاجه جزءًا مهمًّا من كتابه «كيف تشرح كرة القدم العالم؟» قبل نحو 15 عامًا.

ميراندا… الوغد الجميل

فوير وجد ضالته في يوريكو ميراندا لكي يضع الصورة الكاملة للكيفية التي يمكن بها لكرة القدم أن تصبح بمنزلة ترمومتر للمزاج السياسي خلال السنوات وربما العقود المقبلة، وتحديدًا في أمريكا اللاتينية، حيث يمثل ميراندا إشكالية البرازيل في مراوحتها بين مصطلحي الهواية والاحتراف، المؤسسة والنادي، رأس المال المحلي والاستثمار الأجنبي. وهي الإشكالية التي يقول فوير إن البرازيل لم تتجاوزها ثقافيًّا بالمرة، لتقع فريسة لنفس مستنقعات الفساد، التي مهدت طريقًا سهلًا للخطاب الشعبوي كمخلص نهائي وفعال بالدرجة الأولى بالنسبة إلى الجماهير، في مقاربة لنفس التناول الذي يمكن تطبيقه مع الصعود التدريجي لماوريتسو ماوري رئيسًا لنادي بوكا جونيورز الأرچنتيني، ممهدًا الطريق لسياسة نيوليبرالية في إدارة ذلك النادي ذي الخلفية العمالية الكاسحة، أنتجت بعد عقدين كاملين نموذجًا سياسيًّا استفاد من حالة الضجر التي لازمت اليسار الأرچنتيني التقليدي وفترة حكمه المتمثلة في عائلة نيستور وكريستينا كريشنر.

يوريكو ميراندا بالنسبة إلى فوير هو نموذج لطبقة المنتفعين التي لازمت الرأسمالية البرازيلية منذ منتصف السبعينيات، مجموعة تقدم نفسها كمتطوعين، لا يتقاضون أجرًا عن عملهم بأنديتهم بصفتهتم طبقًا للمصطلح البرتغالي «كارتولاس» أو «المتعجرفون»، المستفيدين من تلك الحالة الضبابية بين الهواية والاحتراف التي تسود اللعبة محليًّا منذ نشأتها. وميراندا منذ صعوده إلى المشهد الإداري في منتصف السبعينيات بنادي فاسكو دا جاما، قد نجح في تكوين ثروة متراكمة طائلة تضمنت قصورًا ويخوتًا بفضل عمله التطوعي، والذي تمثل أحد تفاصيله عام 1998 في اختفاء مبلغ 34 مليون دولار مقدمة من بنك أوف أمريكا كعقد رعاية للنادي البرازيلي، وهو المبلغ الذي كان من المفترض أن يكفي خزانة النادي ومصروفاته لنحو قرن كامل، إلا إن المبلغ اختفى بعد عامين فقط. ويُعتقد أن معظم هذا المبلغ ذهب ضمن تكاليف الحملة الدعائية لانتخاب ميراندا رئيسًا للنادي لفترة جديدة،  فيما ذهب جزء آخر لأحد حسابات بنوك الجزر الكاريبية.

في الوقت نفسه كان ميراندا بمقدوره وبمهارة شديدة الجمع بين هذه الأنشطة وبين خطاب شعبوي في حملته الانتخابية لرئاسة النادي، تتضمن تصويره كمرشح الفقراء والمهمشين، بل كصوت ضد سطوة السلطات «التقليدية»، حتى لو كان ميراندا نفسه يتفادى الملاحقة القانونية بفضل حصانته البرلمانية. بل إن قائمة النجاحات تضمنت عدم ملاحقته في أعقاب كارثة ملعب سان جانويريو الخاص بفاسكو دا جاما في نهاية عام 2000، عندما تكدس 12 ألف متفرج إضافي في إحدى مباريات الفريق، ما نتج عنه إصابة نحو 168 شخصًا بسبب سقوط أحد حواجز الملعب الجانبية، التي تفصل بين المدرجات وأرض الملعب.  في عام 2002 تمت إعادة انتخاب ميراندا رئيسًا للنادي.

شعبويات أصيلة

بالنسبة إلى فوير فإن ميراندا يقدم نموذجًا أصيلًا لتكتيكات الشعبويين، التي يمكنها العمل في فضاءات تعتمد على الطابع العائلي، وليس الطابع العملي لفكرة (البيزنس) بشكلها الغربي الرأسمالي التقليدي. نموذج ربما يبدو في نظر الآخرين كـ«سارق»، ولكنه يساعد من حوله على كسب قوت يومهم، يروج لبضاعته كمتمرد، حتى على مستوى الشكل، غير خاضع للتأطير السياسي التقليدي، لا يتوقف عن تقديم نفسه كهدف لحروب «النخبة» ضده، دائم الصدام مع الصحفيين، فجميع أسئلتهم تافهة وغبية، مستخدمًا أسلوب الهجوم العنيف ضد كل من يعكر صفوه، منهم حسب ذكر فوير السيد أنطونيو جاروتينيو حاكم ريو دي جانيرو، والذي كان دائم الانتقاد لميراندا في أعقاب كارثة عام 2000، ليرد عليه رئيس فاسكو دا جاما بأن جاروتينيو «مخنث، يقوم بصلوات مزيفة أمام الجميع لرسم صورة مخادعة عن ورعه وإيمانه أمام الجماهير».

فوير يرى أن عبقرية ميراندا الحقيقية في رقصه المتواصل بالمنطقة الرمادية بين مصلحة ناديه ومصلحته الشخصية، رافعًا شعارًا مناهضًا للعولمة (وهو الشعار المفضل للشعبويين الجدد)، بحجة «عدم إدراك القيمة الروحية والمعنوية لكرة القدم من قبل الاستثمارات الأجنبية، والتي ليس لديها فكرة مطلقًا عن القيم الخاصة والمتفردة للشخصية البرازيلية»، رغم أنه هو نفسه الذي قام بدعوة «بنك أوف أمريكا» للقيام بالمراهنة على العلامة التجارية والثقافية المميزة لنادي فاسكو دا جاما، في إطار موجة التحول الاقتصادي الكبير لفتح الأسواق البرازيلية أمام العالم، والتي اكتسحت المشهد في التسعينيات. إنها نفس المفارقة التي تعيشها البرازيل الآن في أعقاب صعود وانتخاب جايير بولسونارو، «ربما هو شخص بشع ولكنه البديل الوحيد الآن، لنقم بتجريبه، إنه ليس من طائفة السياسيين التقليديين».

إنها المفارقة الكبرى أن تأتي الشعبوية في حصان طروادة من نوع خاص، ربما على أنقاض ماضٍ أو نظام شديد التقدمية، وليس من قبيل المصادفة أن يأتي ماوربتسيو ماكري في الأرچنتين على أنقاض غطاء شعبي عمالي مثل جمهور بوكا جونيورز، وفي الوقت نفسه يقبع شخص مثل ميراندا على رأس هرم فاسكو دا جاما، والذي أفصح ميراندا نفسه بأنه نادٍ رائد على المستوى الثقافي والسياسي في البرازيل، فهو نادٍ أسسه المهاجرون الإيطاليون والبرتغاليون من الطبقة العمالية، في وقت كانت كرة القدم  البرازيلية هي ساحة للأثرياء والأرستقراطيين، كذلك فهو أول نادٍ يسمح بشكل رسمي للاعب أسود باللعب في صفوفه، في الوقت الذي كان فيه وجود لاعب أسود برفقة البيض إجراء غير قانوني في بعض المقاطعات. «إنه أول نادٍ مستقل بشكل فعلي على المستوى التمويلي واللوچستي، ممتلكًا كل بوصة من أرضه، دون مساعدة من الحكومة الفيدرالية».

   الكوابيس الإيطالية

   إنها نفس الشعبوية التي ذكرها فوير في فصل آخر من الكتاب، وأسهمت في بناء إمبراطورية قائمة بذاتها، من خلال نموذج سيلفيو برلسكوني في إيطاليا، وهو الذي انتشل من خلال مملكته الإعلامية نادي إي سي ميلان من قاع الضحالة الكروية إلى أن أصبح بطلًا لأوربا خلال خمس سنوات، مجابهًا إمبراطورية الرأسمالية الإيطالية التقليدية المتمثلة في نادي يوڤنتوس، وظهيرها الاقتصادي المتمثل في شركة فيات. بيرلسكوني امتطى فرسي الإعلام وكرة القدم لتقديم نفسه كوجه ناجح، في وسط سياق غارق في الفساد حتى أذنيه في إيطاليا خلال النصف الأول من التسعينيات، سياق فشل التيار اليساري التقليدي في التعامل معه، متواطئًا في صراعاته الفارغة مع الديمقراطيين المسيحيين، وهو ما لم يوفر للمواطن أو المشجع العادي الغطاء الكافي من الأمان وتركه للوقوع ضحية للفساد.

هكذا أصبح بيرلسكوني بكل ضحالته البديل الأمثل، حيث «يمكنه إدارة إيطاليا بنفس أدائه الكاسح في إدارة إي سي ميلان» (نفس الكارت الدعائي الشعبوي لحملة دونالد ترامب)، بل إن بيرلسكوني قام بوضع شعار «فورزا إيطاليا» المصاحب للمنتخب الإيطالي لكرة القدم كاسم لحزبه السياسي الجديد، ليصبح الناخب الإيطالي العادي محاصرًا بدعاية مجانية بيرلسكونية على مدار الساعة، من أمامه مباريات الميلان، ومن خلفه برامج النميمة واستعراضات فتيات العروض المثيرة في المساء. هذا هو العالم الذي تعمق فيه على سبيل المثال المخرج إيريك جانديني من خلال فيلمه الرائع عام 2010، مفسرًا ذلك الصعود الدرامي لغول الميديا إلى واجهة صناعة القرار السياسي في بلد عريق معقد سياسيًّا، له تراثه اليساري العميق مثل إيطاليا.

بالنسبة إلى فوير فإن صعود بيرلسكوني كان منطقيًّا في وضع اقتصادي وصفه كارلو دي بينيدتي، مالك شركة أوليفيتي الشهيرة، بأن «إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية كانت تتجه إلى كونها سوقًا عربيًّا أكثر من كونها سوقًا أوروبيًّا يميل نحو بروكسل»، إلا إن بيرلسكوني كان واعيًا أيضًا بوجوب فكرة تقديم «عرض سياسي» لجماهيره،  أن يكون تواجده التلفزيوني مسليًا، وهي واحدة من الجوانب التي كان بولسونارو واعيًا بها لترويج علامته التجارية سياسيًّا، أن يكون مثيرًا للجدل. بيرلسكوني بالنسبة إلى فوير كان حريصًا على تقديم نفسه كأحد الشخصيات الحية القادمة لتوها من مسلسل دالاس أو فالكون كريست، نفس تلك النظرية يفسر بها المراقبون الإسبان تأثير استثمارات مجموعات بيرلسكوني الإعلامية على الرأي العام والثقافة الإسبانية التقليدية، عقب شراء تلك المجموعات باقات كاملة من قنوات التلفاز الإسبانية بالغة التأثير، والتي تقوم بضخ ساعات كاملة من البريق، والرغبة في الثراء، والنميمة، وترويج فكرة أن الشهرة هي الطريق الوحيد للبقاء، والحياة ما هي إلا برنامج تلفاز واقعي، وهو المنطق الكفيل بتكوين مزاج سياسي عام له متطلباته الخاصة، يمين جديد بأزياء أكثر بريقًا وألوان لا يوجد أي خجل من فجاجتها أحيانًا.

فوير يقدم أطروحته الخاصة بالعلاقة بين الأوليجاركية وحكم النخب في كرة القدم وبين صعود الشعبوية مستعينًا بالمنتج البرازيلي الأكثر شهرة على الإطلاق، متمثلًا في أسطورة اللعبة بيليه، والذي يعتقد فوير بأن حياته تلخص القرن العشرين في البرازيل بشكل لا يمكن إنكاره، تلك الطفولة الراغبة في الهرب من الفقر والتهميش العرقي، مرورًا بكونه رمز فترة التفاؤل السياسي خلال النصف الثاني من الخمسينيات مع وصول جوسيلينو كوبيتشيك إلى السلطة، إلى كونه داعمًا للطبقات العمالية والمتوسطة الفقيرة في نهاية الستينيات، مرحلة الهجرة إلى أمريكا خلال حقبة المعجزة البرازيلية خلال فترة الحكم الشمولي، وصعوده كماركة مسجلة جالبة للأموال في إطارها الرأسمالي التقليدي حتى مطلع التسعينيات، قبل تعيينه وزيرًا للرياضة (في أول تكليف حكومي لمواطن برازيلي أسود في تاريخ البلاد)، تلك الرغبة في إزالة الفساد المحلي، وإقحام البلاد في إطار رأسمالي شامل، قبل أن يتماهى مع الوضع الراهن المسبب لسياق الفساد نفسه خلال نهاية القرن العشرين، أو كما يعتقد البرازيليون أنها مرحلة «بيع نفسه إلى الشيطان»، في إذعان للواقع السياسي والثقافي البرازيلي في الخروج من نفس الدوائر المغلقة التي تجعل من تجربته مشوهة في نهاية الطريق، ممهدًا الطريق للاعبين جدد من أمثال بولسونارو، فيما يبدو أنها عملية انتحار أو قفزة في الفضاء، إلا إنها تمثل سبيلًا للخروج من تلك الدائرة المغلقة، التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وبشكل استباقي في عالم كرة القدم.

تلك المجموعة البرازيلية من ممارسي كرة القدم لم يعد لها وجود في مدريد، أغلبهم عاد إلى الوطن مع السنوات الأخيرة لحكم دا سيلفا، بأمل طفيف في تغيير الأوضاع، من بينهم روبرتو فاجنر، الذي كان متشككًا إزاء الوضع، غير مكترث لوصفه من قبل البعض بأنه متشائم أصيل، معتبرًا أن البرازيل لن تعرف خيرًا ما دامت تحتفل بأدباء مثل باولو كويلو، وبأفلام فاشية مثل «فرقة النخبة»، أو في ظل الوضع المثير للشفقة للكرة البرازيلية المحلية. كانت تلك الآراء مضحكة في وقتها قبل 10 أعوام بالتمام والكمال، إلا إنه كان على معرفة بطبيعة الكابوس من على بعد أميال عريضة.