دراسات
أحمد عبد الحميد عمرلبنان في المخيال الجمعي المصري
2021.06.01
لبنان في المخيال الجمعي المصري
أولاً: المخيال ليس مكونًا موضوعيًّا يتأسس على مجموعة من الوقائع التي يمكن للوعي المحايد أن يرصدها.
ثانيًا: المخيال وعي مؤسطر، بمعنى أنه نتاج للنشاط الترميزي للمجتمع في محاولة منه لتكوين صور تبسيطية عن موضوع ما، تساعده على فهم الموضوع وتقييمه والتنبؤ بحركيته في المستقبل.
ثالثًا: المخيال ليس مرتبطًا بنوعية معينة من المجتمعات، ولا بنمط محدد من الأفراد؛ فلا يقتصر على المجتمعات البدائية أو مجتمعات ما قبل الحداثة، وفي المقابل لا يحتكر العقل بالمعنى الكانطي إنتاج التمثلات الثقافية في المجتمعات الحديثة. إن لكل المجتمعات مخيالها الخاص بها، ولكل فرد نسخته الخاصة التي قد تقترب من المخيال الجمعي النموذجي وقد تبتعد عنه، بما يعني أن ما يملكه الفرد من تصورات هو حصيلة التفاعل بين المخيال الجمعي وتجاربه الشخصية. وعليه فإنه كلما كانت خبرات الشخص فيما يتعلق بموضوعات المخيال أقل ثراءً كانت قابليته أكبر لاستدخال internalizing المخيال في صورته النموذجية.
رابعًا: وهذا ما يترتب على ما سبق، فإن المخيال هو الثقافة في حركيتها وتفاعلها المستمر مع الوعي الفردي المتميز. المخيال بهذا المعنى مفهوم دينامي يتجاوز المفاهيم الاستاتيكية للثقافة.
خامسًا: المخيال ليس صورةً بإزاء أصلٍ؛ فليس ثمة أصلٌ إلا بمعايير الحقيقة الفيزيقية الباردة التي لا تعنينا كثيرًا في نطاق العلوم الإنسانية. المخيال أصلٌ ولكنه ذو طبيعة نوعية مخصوصة.
سادسًا: المخيال ليس من إنتاج المجتمع ككل؛ فثمة مؤسسات أو بالأحرى مراكز لإنتاج الخطابات وتوزيعها تكون معنية أكثر من غيرها بالتحكم في عمليات إنتاج التصورات وتسويقها.
حاولت في كتاب "المرأة في المخيال الجمعي" أن أقتنص المقولات البنائية التي ينتظم حولها تصور الخطابات المختلفة للمرأة، مركزًا على ما أسميته "الخطاب الوعظي الهامشي"، وعنيت به المنتجات المسموعة والمقروءة للشيوخ المسلمين غير الرسميين في مصر في مرحلة ما قبل ٢٠١٠، وكذلك على مجموعة من الحكايات الشعبية التي وردت في كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي (٧٩٠ - ٨٥٠ هـ). تمحورت الخطابات حول مقولتين كانتا بالنسبة لي جوهر المخيال حول المرأة: الجسدانية، أي النظر إلى المرأة بوصفها جسدًا محضًا وموضوعًا للرغبة، والتشيؤ أي إفقاد المرأة لأي حضور إنساني فاعل وتصورها بوصفها شيئًا.
كان السعي وراء الإمساك بهاتين المقولتين في خطابين بينهما من الاختلافات الكثير محاولةً للنظر في المخيال بوصفه شيئًا متماسكا تنتظمه مقولات محددة، وثابتا إلى حد ما رغم تباين التواريخ. كنت منشغلا بالانتظامات والتشابهات، لا بالاختلافات والتباينات. كان المخيال بالنسبة لي مرادفًا للثقافة في جمودها، لا في حركيتها وتبدّلها المستمر، وهذا ما أحاول الإفلات منه في الدراسة الحالي.
أرصد في هذا الدراسة الكيفيات المتعددة التي تبدى من خلالها "لبنان" في الثقافة الوطنية المصرية بشرائحها المختلفة عبر ما يمارسه المخيال من نشاط تصوري خلاق، وأدرك ابتداءً أنني لا أبحث عن لآلئ صلدة، بل عن كيانات حية يعتورها التغير وتصيبها الصيرورة. أدرك أنني لن أظفر بلبنان واحد؛ لأن المخيال "يستخدم" لبنان في كل مرة ليحقق أهدافًا مغايرة. هذه التباينات والتحولات في المخيال تعكس بالضرورة - وتتفاعل مع - تحولات الواقع الثقافي، ومن ثم فإن هذا الدراسة يعيننا على رصد بعض تحولات الثقافة الوطنية في البلدين، دون ادعاء للشمول أو الكمال.
واحدة من الصعوبات التي واجهت كتابة هذا الدراسة هي أن رصد الحضورات المتباينة للبنان في المخيال المصري المعاصر يستلزم تحليل عدد كبير للغاية من النصوص والخطابات، تتوزع بين الشرائح الثقافية المختلفة: الرسمية والنخبوية والجماهيرية أو العامة، ويجري إنتاجُها من خلال وسائط اتصاليّة متنوعة للغاية. ينطلق الباحث من انحياز مسبق للمهمش والمسكوت عنه، واعيًا أن مهمَّته ينبغي أن تتجاوز تحليل الخطابات الرسمية التي يمكن للباحثين في مجال العلوم السياسية تحليلها، إلى الخطابات الأوسع انتشارا، والأكثر تأثيرًا من ثم. لهذا السبب سيعرج الدراسة على تغريدات موقع تويتر، والأعمال الدرامية من مسلسلات وأفلام وبرامج كوميدية، أكثر ربما من وقوفه عند الأخبار والبيانات الرسمية. يمكن للقارئ أن يتساءل عن تلك الفجوة بين الإنتاج والتلقي: هل يعني حضور لبنان في النصوص والخطابات على نحو معين أن المواطنين المصريين يدركون لبنان على النحو نفسه؟ والحقيقة أن الإجابة عن سؤال كهذا تحتاج إلى تحر سوسيولوجي دقيق ليس بمقدور الباحث الوفاء بمقتضياته، لكن المؤكد أن هذا الدراسة خطوة أولية ضرورية تسبق هذا الاستكشاف المبني على أسس سوسيولوجية.
اللبننة: الشبح المهدّد والحرية المبتغاة
إذا توقفت لتسأل واحدًا من عموم المصريين عن الأوضاع السياسية في لبنان منذ السبعينيات، فلربما تذكر الحرب الأهلية، وربما لن يذكر سواها، لكنها تظل ذكرى غائمة غير محددة المعالم أو التفاصيل بالنسبة لمواطن ينفر عادة من أن يعرف المزيد عن سياسة بلاده، فما بالنا بسياسة باقي الأقطار العربية؟! وعلى الرغم من "شبحية" ذكرى الحرب في المخيلة المصرية، فقد كان قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير فرصة لإيقاظ هذا الشبح الكامن في نفوس عموم المصريين. قامت الثورة، فانتعشت آمال الحرية والتحول الديموقراطي والمحاسبة والشفافية والعدالة الاجتماعية، وأوقِظَت مخاوف التقسيم والفرقة والتشرذم والصدامات الأهلية، ومن بين العدة الخطابية التي استعانت بها التيارات السياسية لإيقاظ تلك المخاوف كان تعبير ومفهوم "لبننة مصر".
في وقت مبكر نسبيًّا من عمر الثورة، وتحديدًا في أوائل شهر مايو ٢٠١١، عقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يدير شؤون البلاد آنذاك ندوة بعنوان "الأمن وآلية تحقيقه في ظل الظروف الحالية". غطت صحيفة الشروق فعاليات الندوة ونشرت خبرًا بشأنها بتاريخ ٤ مايو ٢٠١١ وفي سياق الحديث عمَّا كان يُعرف باللجان الشعبية، أوردت الصحيفة كلام اللواء مختار الملا، أحد أعضاء المجلس، بأن "اللجان الشعبية كان لها دور كبير في توفير الأمن للشارع، لكن بعد فترة انحرف دورها وتحولت لوسائل بلطجة فبدأنا في تقليص دورها لأننا نخشي من "لبننة مصر". لا يبدو استخدام التعبير مركزيًّا في كلام اللواء الملا، الذي أورد له محرر الخبر أكثر من تصريح ضمن وقائع الندوة، لكن مع ذلك لم يجد المحرر أفضل من هذا العنوان "القوات المسلحة تدير البلاد ولا تحكمها.. ونخشى (لبننة مصر)" ليصدر به الخبر بوصفه حاويًا لأهم ما ورد فيه وأكثر ما في المضمون جذبًا للجمهور. لا يقدم الخبر إيضاحات كافية بخصوص مواطن التشابه والاختلاف بين السياقين لأنه ربما يريد أن يحتفظ لمفردة "اللبننة" بما تكتنزه من طاقة تهديدية، ولعل هنا يكمن السبب في أن المصطلح بدا مؤطّرًا لصياغة الخبر، ومؤطرا من ثَم لوعي المتلقي الذي ظفر به في العنوان وفي خاتمة الخبر أيضا.
في خبر نُشِر بصحيفة المصري اليوم بتاريخ ٢٦ نوفمبر ٢٠١٢، وفي ذروة الخلاف بين الإخوان المسلمين وقد احتلوا مواقع السلطة وبين خصومهم السياسيين يناشد محمد البلتاجي، القيادي الإخواني البارز، "القوى الثورية الوطنية" بإدراك الأبعاد الكاملة لمخطط "لبننة مصر" لاستنزاف الثورة والوطن، هنا يحل المصطلح لا بطاقته التهديدية فحسب، بل بأثره التضبيبي والتشويشي كذلك. يمارس مصطلح "لبننة مصر" فاعليته الشبحية مرة أخرى، وإن بصورة أكثر طرافة: إنه يطمس الواضح الجلي اليقيني، ويفسح المجال للمشكوك في أمره ومحل الظن ليحتل صدارة المشهد.
في خبر نشرته صحيفة الأهرام بتاريخ ٩ مايو ٢٠١١، ورد استعمال المركز المصري لحقوق الإنسان لمصطلح "لبننة" مصر في سياق التحذير من "خطورة ما آلت إليه الأوضاع فى مصر، نظرا لتوالى الحوادث الطائفية وسقوط القتلى والمصابين". لكن المركز يرفض تمامًا تحميل أي أطراف خارجية المسؤولية عن تعاقب الأحداث الطائفية، ويركز في المقابل على أدوار الجماعات المتشددة وإهمال الحكومات السابقة. تبدو صياغة الخبر أكثر تفصيلا وأوضح منطقا مقارنة بالخبرين السابقين؛ فالمركز يذكر تدعيما لوجهة نظره حججا من قبيل إنه لم يتم اتهام أي أطراف خارجية في التحقيقات التي أعقبت الحوادث الطائفية منذ عام ١٩٧١، وأن الجماعات السلفية تؤجج مشاعر البسطاء ضد مسيحيي مصر..إلخ. "اللبننة"/الفتنة الطائفية هنا ليست شبحًا لآخر لا نعرفه، بل وجودًا يمكننا الإمساك بتفاصيله. اللبننة/الفتنة مصير اختاره اللبنانيون/المصريون بكامل إرادتهم، وسعوا لتحقيقه على أرض الواقع، وإن اعترفوا بأن للآخرين فيه مآرب أخرى.
يتجاوز الأمر نطاق الخطاب السياسي المبثوث عبر وسائل الإعلام وصولاً إلى ساحة الدراما التليفزيونية. في يوليو/ أغسطس ٢٠١٢ وبالتزامن مع شهر رمضان في مصر، عرض على نطاق واسع مسلسل "فرقة ناجي عطا الله" الذي قام ببطولته الفنان عادل إمام. كان المسلسل فرصة لخطاب الوطنية المصرية التقليدية لكي تقدم طرحها حول أولويات السياسة وطبيعة العلاقات العربية، في مقابل خطاب الإسلاميين (الذين كانوا في السلطة آنذاك) والخطاب الثوري بشرائحه المتعددة إلى حد التباين. يكوِّن الضابط المتقاعد ناجي عطا الله فرقة من بعض الشباب ممَّن أدوا معه الخدمة العسكرية، ويتسلل إلى إسرائيل التي عمل بها ملحقًّا إداريًّا بالسفارة المصرية وأقام بها علاقات طيبة، ليسرقوا معا مبلغا كبيرا من أحد البنوك الإسرائيلية، ثم يضطرون للهرب لينتقلوا من بلد عربي إلى آخر، وتكون تلك الرحلة فرصة لعرض رؤية خطاب الوطنية المصرية التقليدية لعلاقة مصر بتلك الدول. يمرون أولاً بلبنان، وتحديدا بالجنوب اللبناني حيث تتمركز قوات حزب الله. في المشهد الأول الذي يجمع ناجي عطا الله وفرقته بأحد قيادات حزب الله، وبينما يتناولون جميعا الغداء، يدور الحوار التالي (نهاية الحلقة الرابعة عشرة وبداية الخامسة عشرة):
أبو حسين: مصر أم الدنيا. قلب العروبة النابض. مهما قالوا عنها مادام فيه شباب أمثالكن عم بيضحوا بأرواحهم حتى يعلموا الصهاينة درس ما بينسوه أبدا. مثل ما بيقولوا بالمصري "ضربة معلم".
ناجي عطا الله: طب شزف بقى يا ابو حسين. دلوقتي الحقيقة يعني أكلنا عيش وملح مع بعض، وانتو أكرمتونا وقابلتونا مقابلة مفيش بعد كده
أبو حسين: ليه هالكلام يا أخ ناجي. ولو. ما نحنا إخوة.
ناجي عطا الله: طيب. يبقى كل واحد في قلبه حاجة يقولها للتاني عشان النفوس تبقى صافية.
أبو حسين: اتفضل قول يا أخ ناجي.
ناجي عطا الله: مصر. مصر يا أبو حسين. مصر هي اللي طلع روحها ستين سنة وهي بتحارب. وقفالهم زي الأسد، وشايلة القضية فوق دماغها. مصر هي اللي عبرت في ٦ أكتوبر وانتصرت، ودافعت عن كرامة الشعب العربي كله. مصر اللي شقيت وتعبت وضحت بشباب زي الورد. تقوموا تقولوا عليها إنها باعت القضية برضه. ده احنا فرحنا لكم وهتفنا لكم والشارع كله كان معاكم، لما نزلتوا الصهاينة تحت الأرض ٣٥ يوم في الملاجئ زي الفيران. اللي يشتم مصر عمره ما يكبر مهما عمل. مصر هي الأم.
يبدو الحوار كاشًفا عن خطاب واحد وإن نطقه صوتان، بداية من استخدام عبارات شائعة في خطاب الوطنية المصرية "مصر أم الدنيا" "قلب العروبة النابض" "ضربة معلم"، والأهم أن التوبيخ الضمني الذي يوجهه ناجي عطا الله/ممثل خطاب الوطنية المصرية لأبو حسين/ممثل حزب الله لا يُقابَل بردود تعكس قدرا من الندية؛ فالاتهام لا يُردّ عليه بنفي أو استنكار أو إقرار أو تبرير، أوما سوى ذلك من ردود محتملة؛ محتملة بمنطق الدراما أو بمنطق الجدل السياسي. لاحظ أن هذا الحوار يدور داخل مقر لحزب الله على الأرض اللبنانية، وبينما يستضيف الحزب مجموعةً من الفارين على الحدود على مائدة طعام، لكن للخطاب ما يريد وقتما يريد، بخاصة إذا كان الخطاب مأزومًا - وهو لم يعتَدْ على ذلك - ويعاني من تراجع في ظل تقدم خطابات أخرى على ساحة التجاذبات السياسية كما أوضحت آنفا. الغريب - والدال - في الأمر أنَّ الاتهامات النمطية لمصر بـ"بيع القضية" لم تكن جزءًا من سجال عام دائر وقت إذاعة المسلسل. ربما كانت اللحظة النموذجية لذلك تلك التي رافقت إعلان مصر عن القبض على خلية تابعة لحزب الله من بين أعضائها القيادي سامي شهاب، والتي تجاوزَتْها أحداث الثورة وتداعياتها. هل يفتعل الخطاب سجالا في غير زمنه ليتورط فيه ليبرز صوته الأبوي المهيمن بأي ثمن؟!
هذا الخطاب المأزوم واقعيًّا في أغسطس ٢٠١٢، والكاسح دراميًّا مع ذلك، وربما بسب من ذلك، يجد في "اللبننة" ضالّته، وإن لم يحضُر المصطلح لفظًا في الحوار. في نهاية الحلقة السادسة عشرة، تنتقل فرقة ناجي عطا الله من الجنوب اللبناني نحو الحدود السورية، ويدور الحوار التالي بين ناجي عطا الله وبعض الشباب المرافقين له بالسيارة التي تقلهم:
إبراهيم: إلا قول لي يا باشا. هو احنا مروحناش مصر عن طريق لبنان ليه؟ إيه اللي يودينا سوريا؟
ناجي عطا الله: منقدرش نروح لبنان دلوقتي يا إبراهيم. الحالة هناك متطمنش.
حسام: إزاي يا باشا الكلام ده. ده لبنان دي زي الفل.
ناجي عطا الله: ده انتو ميح. متعرفوش إيه اللي بيحصل في البلاد اللي جنبيكم. متعرفوش إيه المشكلات اللي بتحصل في لبنان؟! [......] مشكلة لبنان إن فيها كذا طايفة.
عبد الجليل: طايفة ازاي لامؤاخذة يا باشا؟
ناجي عطا الله: مشكلة لبنان إن دول واقعين مع دول. ودول مش طايقين دول. قوم دول عايزين يخلعوا دول عشان يركبوا على دول. راحوا دول ضاربين في دول. دول بقى جم اتحالفوا مع دول عشان يخوّفوا دول. دول يسكتوا؟
الجميع بصوت واحد: لأ.
عبد الجليل: يا سلام! أتابي السياسة دي بحر. إنت عارف يا باشا: أنا كنت أقعد قدام التليفزيون طور الله في برسيمه مفهمش حاجة خالص. بس عايز أسألك سؤال كده يا باشا لا مؤاخذة يعني. ألا ليه دول ميقفوش مع بعض لا مؤاخذة قدام دول وقفة رجل واحد؟
ناجي عطا الله: والله عبد الجليل طلع أكتر واحد بيفهم فيكو. ده انتو طلعتوا ميح.
عبد الجليل: سيبك من دول سعادتك. خليك معايا أنا. قول يا باشا. قول.
ناجي عطا الله: إسرائيل بقى إيه اللي يهمها؟ إن دول يقعوا مع دول، ودول يقعوا مع دول، كلهم يقعوا مع دول.
حسن: ما هي الفرقة والتحزب دول يا ناجي بيه هما آفة الأمة العربية والإسلامية جمعاء. علشان كده مقدامناش غير إن الأمة العربية والإسلامية يتكاتفوا ويقفوا ورا دول. ساعتها دول هيعملولنا مليون حساب.
حسام: وهي سوريا فيها دول واللا دول؟
ناجي عطا الله: لأ. سوريا مفيهاش غير دول.
وإذا كانت مقتضيات الدراما لم تتح القبول للتراتبية ونبرة التوبيخ في الحوار الأول بين ناجي عطا الله وأبو حسين، فإنها فعلت في حالة الحوار السابق؛ فناجي عطا الله مؤهل لأن يقف في مقام الحكمة ويلقي بالقول الفصل على شباب صغير السن أحادي الجانب إلى حد كبير (إبراهيم الشاب الذكي المتهور، حسن الشيخ الورع، عبد الجليل الساذج الآتي من بيئة شعبية، الخ). التكرار المبالغ فيه أحد المكونات الهزلية الشهيرة، وتكرار كلمة "دول" (هؤلاء بالعامية المصرية) يلعب هذا الدور بامتياز، لكن من عساه يقصد تحديدا ناجي عطا الله؟ لا أحد بوسعه الجزم، وإن كان بوسعنا التخمين. لكن المهم أن الخطاب يمارس هذا الغموض المتعمد لأنه ليس معنيًّا بالتفاصيل (مَنْ هؤلاء وأولئك؟ ولماذا دب الخلاف السياسي بينهم؟) فالغرق في التفاصيل يعني الفهم، والخطاب لا يسعى إلى الإفهام بقدر ما يهدف إلى استزراع الفكرة في غموضها وتبسيطها المخل: هناك فُرقة في لبنان وفي بلدان عربية أخرى، والفُرقة لا تفيد سوى إسرائيل، ولا حل سوى بالتوحّد، لكن خلفَ من؟ خلف مصر صراحةً (لنتذكر مجاز مصر/الأم في حوار ناجي عطا الله مع أبو حسين)، وخلف من يمثلها دراميًّا ضمنًا: الضابط الذي يتعالى على أمور السياسة ظاهريًّا لكنه يشحن خطابه بأفكار سياسية طيلة الوقت. لا يفوت الخطاب - وإن بسرعة - أن يمتدح ضمنا النموذج الشمولي في سوريا التي "مفيهاش غير دول"، رغم أن المسلسل عرض في صيف ٢٠١٢، وقت أن كانت الحرب في سوريا على أشدها.
الحسناء (المخيفة!)
على حسابه على موقع تويتر، كتب رجل الأعمال المصري الأشهر نجيب ساويرس في الرابع من مايو ٢٠١٩ التغريدة التالية: "عائد من بيروت و أنادى بالوحدة المصرية اللبنانية... لأسباب عديدة.. أهمها روح الشعب اللبناني والمصري المتشابهة فى حبهم للحياة والفرح والفن والإنبساط... ما أحلاها بيروت". ونجيب ساويرس ليس فحسب رجل الأعمال المصري الأشهر، لكنه الأكثر اشتغالاً وانشغالاً بالسياسة في العقد الثاني من القرن الجديد، وهو الأنشط على تويتر.
بعض الردود كانت مثقلة بالسياسة. رأى هؤلاء أن التغني بحسن لبنان يستدعي بالضرورة الشكوى من القبح الذي سيطر على مصر من منظور هؤلاء، فأكدت الردود على أن الحرب لم تمنع أهل بيروت من محبة الحياة بدليل أن محلات تصفيف الشعر كانت مفتوحة في عز أيام الحرب: ".... يعلمونا الشياكة والدلع وحب الحياة"، وتغريدات أخرى تؤكد أن المصريين سيعلمون اللبنانيين الاكتئاب، وكراهية الحياة، والفقر، وصولاً إلى قول أحدهم: "طيب عملولك إيه وحش عشان تتمنى ليهم المصيبة دي؟! خليهم في حالهم رايقين مبسوطين"!
لكن الأغلبية الساحقة من الردود كانت دالة للغاية على طغيان النماذج النمطية stereotype للبنان على أي طريقة أخرى في التفكير. دارت هذه الردود حول أن المقصد الحقيقي لنجيب ساويرس هو تحقيق الوحدة من أجل اللبنانيات الجميلات، بداية بالتلميح باستخدام اللغة "روح الشعب اللبناني برضه؟!"، وباستخدام الصورة الأيقونية ممثلة في صورة الممثلة المصرية روبي التي صارت تعبيرا شائع الاستخدام على وسائل التواصل الاجتماعي عن التشكك في نوايا المتحدث أو الكاتب:
وصولاً إلى التصريح الناعم: "متتكسفش وقول حلوة عشان بناتها"، والخشن أحيانًا: "إنت عايز تجيب بنات لبنان هنا مش أكتر بلاش شغل التوحيد ده يا هندسة" الذي قد يصل إلى الاتهام بالكذب: "إنت كداب يا عم نجيب مش عشان كده خالص". وقد استخدم بعض المغردين ردًّا على تغريدة ساويرس المذكورة ذخيرتهم الخطابية المتعلقة بلبنان، متمثلة في تعبير شهير ورد على لسان الممثل المصري سعيد صالح بالمسرحية الأشهر حول فتيات لبنان واصفًا سهولة إقامة علاقة معهم مقارنة الفتيات المصريات "والمقررات سهلة"، ذلك التعبير الذي تكرر في التعليقات بصيغ مختلفة ٣ مرات. تعليق وحيد نجا من سيطرة النموذج الإدراكي، فوضع الأمور في نصابها الصحيح، أو رآها أقرب إلى علاقات الواقع. فما الذي تدل عليه تغريدة رجل أعمال ينادي فيها بالوحدة بين شعبين سوى أن ثمة استثماراتٍ قادمةً في الطريق؟! علق صاحب حسابٍ بِاسْم "عباس الضو" قائلا: " بعد التويته دي أكيد في استثمارات متبادلة وخصوصًا بعد تصريحات سعد الحريري، إنت راجل ناجح يا مسيو نجيب".
يتجاوز الأمر في ظني الرغبة في إثارة المرح أو مداعبة المتابعين على تويتر لساويرس. يتعلق الأمر بسيطرة الأنماط على الوعي. لا يستطيع جمهور المتابعين من المصريين ألا يربط لبنان بثيمة الجمال النسوي النادر والاستثنائي مقارنة بباقي الدول العربية. هذا بالضبط معنى ما أقصده بأن المخيال يساعدنا على فهم الواقع والتنبؤ بالمستقبل. ويبدو في ضوء التعليقات أن سيطرة المخيال على الوعي الفردي كانت شبه مطلقة.
يمكننا أن نلمح بدايات عملية النمذجة تلك في الوعي المصري للحسن اللبناني في أوبريت شهير قديم لفريد الأطرش وعصمت عبد العليم هو "بساط الريح" الذي يدور ببعض البلاد العربية معدّدا محاسن كل بلد، وحين يمر بسوريا ولبنان (معا!) يغنيان:
نسيم لبنان شفا الأرواح
عليل القلب عليه يرتاح
ويا مشتاق لبرِّ الشام
تروح سكران بلا أقداح بلا أقداح
سوريا ولبنان قامات وقدود
عليها بشوف عيون وخدود
تزوّد نار القلب بارود
أنا أعشق سوريا ولبنان.. سوريا ولبنان.
ربما كانت نهاية الستينيات وبداية السبعينيات هي المرحلة التي تبلور فيها الجمال اللبناني بوصفه نموذجًا ذهنيًّا نمطيًّا. توزاى ذلك مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي عاشها لبنان وقد صار سويسرا العرب عن حق في مقابل بقية الدول العربية التي توزعت - إلا نادرًا - بين حكم الأنظمة العسكرية الشمولية، وحكم الممالك النفطية الصحراوية. كانت الحسناء اللبنانية معادلاً موازيًا للحسناء الغربية التي لم تتوقف عن ممارسة سطوتها في قاعات السينما وداخل الأدمغة.
على صعيد تحولات المجتمع المصري، وبعدما أمَّمت مصر صناعة السينما وأُنشِئَت المؤسسة المصرية العامة للسينما، اضطُر المنتجون المصريون إلى العمل من لبنان، وزاد إنتاج الأفلام المصرية اللبنانية المشتركة التي تدور حول صيغ درامية مختلفة، كان من بينها صيغة (الوسيم - الحسناء)؛ الوسيم المصري الذي يسعى لخطف قلب الحسناء البيروتية. الملاحظة المهمة في أفلام تلك الصيغة أن ثمة تحييدًا لأي فروق ثقافية بين البلدين؛ بمعنى أنه لولا تردد بعض المفردات الدالة على الحياة في لبنان مثل "ليرة"، لما شعرنا بأن الفيلم تدور أحداثه في بيروت، حتى إن الممثلين اللبنانيين أنفسهم كان بعضهم يؤدون أدوارهم باستخدام العامية المصرية ويؤدي البعض الآخر أدوارهم بالعامية اللبنانية دون فوارقَ تُذكر. من بين أفلام تلك الصيغة (الوسيم - الحسناء) "باي باي يا حلوة" من بطولة رشدي أباظة وجورجينا رزق، و"بنات آخر زمن" من بطولة إيهاب نافع والوجه الجديد آنذاك كاتلين وأخريات.
نموذج الحسناء ذلك هو الذي تردّد صداه في مقولة الممثل المصري سعيد صالح التي ذكرتها آنفا. لا يتعلق المشهد المسرحي الذي وردت فيه المقولة بنموذج الحسناء ذات الجمال الاستثنائي فحسب، بل بالنزعة التحررية المنفلتة لدى اللبنانيات. يخاطب مرسي الزناتي صديقه بهجت الأباصيري، وكلاهما مثال للطالب المنفلت:
"أما أنا ياض إديت دروس في بيروت. يا نهار إسود. المقررات اللي هناك إيه! (يشير بيديه علامة على منحنيات الجسد الأنثوي - ضحك بسيط من الجمهور) إيه المقررات اللي هناك دي يا جدع! مقررات سهلة (يطيل الفتحة بعد صوت اللام ليدل على مدى سهولة المقررات). سهلة. مش معقدة زي اللي عندنا (ضحك صاخب من الجمهور). المقرر اللي هناك تقوله تعالى يا مقرر ييجي على طول (ضحك صاخب مرة أخرى). مش تعالى. متتكلمش. إنت تعمل دراعك كده (يشير كمن يتأبط ذراع أحد) تلاقي المقرر شبك في دراعك (ضحك كبير). أي حد عمل بدراعه كده لازم تلاقي في دراعه مقرر. لازم".
واصل نموذج الحسناء اللبنانية في السينما المصرية حضوره مع نهاية التسعينيات، مع اختلافين جوهريين يتعلقان بتطور صناعة السينما في مصر: أن الأفلام عادت لتصوّر بالكامل في مصر، وأن الكوميديا صار لها حضور أكبر على حساب الرومانسية فيما عُرِف إعلاميًّا بموجة الأفلام الشبابية. لعبت الفنانة اللبنانية، نور، أدوار البطولة في عدة أفلام كان أولها "شورت وفانلة وكاب" من بطولة أحمد السقا (ومثلت فيه دور فتاة لبنانية ابنة أحد الوزراء اللبنانيين)، بالإضافة إلى فريق الفور الكاتس وتحديدًا نيكول سابا على سبيل المثال لا الحصر.
يمارس هذا الجمال النموذجي ضربًا من العنف الضمني، أو بالأحرى فإن هذا المثال - مثل أي مثال آخر - يحرّض من يتلقاه على ممارسة ضرب من ضروب العنف، قد يتوجه صوب الذات مثلما فعل بعض المغرّدين الذين رأوا مساوئ مصر على صفحة المحاسن اللبنانية، وقد يتوجه صوب مصدر الجمال نفسه. الجمال يغرينا دومًا بأن نتأمله وأن نشيّد له التماثيل، مثلما يغرينا بأن نحطم هذه التماثيل في الآن نفسه.
خاتمة:
لم يستعرض الدراسة المخيال في كل جوانبه لضيق المساحة المتاحة، لكن التركيز على موضوع "اللبننة" ونموذج "الحسناء" - على ما بينهما من تباعد - يكشف عن أمور مشتركة جديرة بالتسجيل. تقف الثقافة المصرية من لبنان موقف الإعجاب الممزوج بالغيرة والخوف؛ ففي لبنان ما يغري مثل التحرر والأناقة، وما ينفّر مثل الانفلات السياسي والأخلاقي. وبين ما يغري وما ينفّر، ثمة دوما انكفاء على الذات الثقافية المتضخمة، ورغبة في استغلال موضوع المخيال لصالح الأهداف التي تتغيَّا الخطابات تحقيقَها. في كل مرة، يغيّب التنوع الباهر في لبنان لصالح صور نمطية تستخدم الحقًّائق ولا تخدم الحقيقة. تُفتن مصر منذ السبعينيات بالحسناء اللبنانية، وتضمر لها البغض في الوقت ذاته. ثم يفاجئها طوفان السياسة في ٢٠١١ فتستدعي أشباح الحرب الأهلية لتهدّد بها جمهورا لا يدري عنها الكثير.
كان لبنان محظوظًا حين قُدِّر له أن يفرّ من جحيمي البداوة والنظام الشمولي اللذين أطبقا على أنفاس الشعوب العربية الأخرى، فكانت أقرب تلك الشعوب للثقافة وطريقة الحياة في الغرب. ربما لهذا لا يختلف موقف الثقافة المصرية من لبنان عن موقفها من الغرب؛ فالنخب تنظر للنماذج الغربية بإعجاب، وترفع الشعارات نفسها التي ترفعها الحداثة الغربية: العقلانية، والعلمانية، والديموقراطية، والتحديث، وإن كانت لا تلتزم بها إن اقتضت الضرورات السياسية أو الاجتماعية، أما الجماهير فتتبنى أساليب الحياة الغربية مصحوبة أحيانًا بشيء من الشعور بالإثم لأنها خالفت أصلاً افتراضيًّا ما (عربيًّا أو إسلاميًّا)، وتتنقل خطابات الدولة المصرية بين النقيضين بمرونة مذهلة، فهي تارة ترفع شعارات علمانية في مواجهة الإسلام السياسي على سبيل المثال، وتارة أخرى تتشبث بكل القيم المحافظة استمالة للجماهير التقليدية في معاركها مع المثقفين. وفي ذلك كله، لا يكف المخيال عن التلاعب بالصور النمطية ليضمن للخطابات اتساق دعاواها ويمكّنها من التأثير.