عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

محمد جاد

لبنان: لماذا يجب أن يسقط حكم المصرف !

2020.01.01

لبنان: لماذا يجب أن يسقط حكم المصرف !

 

«كل عاقل، من أي موقع اجتماعي، يدرك أن التمويل على الطريقة المعتادة قد انتهى، لم يعد موجودًا، ولا مفرّ من تغيير كبير وبنيوي، وبالتالي لن يؤدي استمرار الإنكار والمكابرة والتهرّب من المسؤولية إلا إلى تعظيم الخسائر».كتب الصحفي اللبناني البارز محمد زبيب هذه الكلمات في يوليو الماضي، بملحق رأس المال التابع لصحيفة الأخبار، مُعلِّقا على موازنة البلاد لسنة 2020. أما ما قصده بالتمويل على الطريقة المعتادة فهو اعتماد الاقتصاد اللبناني على جذب أموال العاملين في الخارج والدائنين لحل المشكلات المالية، وهي الآلية التي تتراجع فعاليتها مع بطء تدفق الأموال وتفاقم الديون. 

وفي ظل تلك الضغوط المالية تميل الدولة اللبنانية إلى الاقتطاع من امتيازات المواطنين لسداد المزيد من الديون لقطاع الأعمال، فالمواطن هو الطرف الأضعف في المعادلة ودائمًا ما يكون مطلوبًا منه التضحية، أو بتعبير زبيب فإن قطاع الأعمال «يريد كل شيء، ولا يريد أن يقدِّم أي شيء».

المهم أن ما توقعه زبيب تحقق في أكتوبر الماضي؛ فـالنموذج المالي اللبناني لم يعد قادرًا على الاستمرار دون فرض المزيد من الضرائب المرهقة مثل ضريبة «الواتس آب»، لذا ضجَّ المواطنون بأحوالهم المعيشية وخرجوا للاحتجاج على هذه الضريبة، ثم على نموذج الرأسمالية المالية في لبنان مطالبين بالتغييرات البنيوية التي تحدث عنها زبيب، رافعين شعار «يسقط حكم المصرف». 

فما هي جذور هذا النموذج الاقتصادي الذي أشعل موجة جديدة من الربيع العربي، ولماذا يجب أن يسقط؟

جذور النخبة المالية 

 في كتابه المهم عن النخبة المصرفية في لبنان «Banking on the state»، الذي صدر الصيف الماضي عن ستانفورد، يروي هشام صفيّ الدين، أستاذ التاريخ المعاصر للشرق الأوسط في جامعة كينجزكولدج بلندن، قصة نشأة النخبة المالية في لبنان، وكيف لعبت دورًا تدريجيًّا في الهيمنة على النظام الاقتصادي وجعلته يعتمد على الخدمات المالية كمصدر أساسي للدخل بدلاً من الأنشطة الأكثر إفادة للتنمية مثل الأنشطة الإنتاجية.

ويذكر صفيّ الدين أن النظام الاقتصادي اللبناني كان خاضعًا في البداية للنفوذ الفرنسي من خلال بنك سوريا ولبنان، المعروف بـ «BSL»، والذي كان منحازًا لخدمة المستعمر الأجنبي، وساعد على تنامي نفوذه عدم وجود بنك مركزي للبلاد في ذلك الوقت. ويورد المؤلف أن «سياسات الإقراض للبنك بالتوازي مع قواعد صرف الفرنك التي ترتبط الليرة به، انحازت إلى استثمارات رأس المال الفرنسي على حساب التنمية الاقتصادية». لكن بعد الحرب العالمية الثانية «في الفترة بين 1948 حتى 1975 وقت اندلاع الحرب الأهلية»، جرت عملية إعادة تأسيس للاقتصاد اللبناني، وأصبح البنك المركزي للبلاد، المعروف بـ BDLs، يلعب دورًا رائدًا في قيادة السياسة النقدية في مقابل إنهاء دور بنك سوريا ولبنان المنحاز إلى رؤوس الأموال الفرنسية.

بدأت إذن عملية إعادة تشكيل الاقتصاد اللبناني في مرحلة صعود النفوذ الأمريكي، وتحوَّلت البلاد بالتدريج إلى مركز مالي للمنطقة في سياق حركة الأموال النشطة بفضل تنامي الريع النفطي، فيما يعرف بظاهرة «البترو دولار». وكذلك كانت العديد من رؤوس الأموال الإقليمية تهرب من سياسات التأميم في دول مجاورة مثل مصر والعراق وسوريا بحثًا عن الملاذ الآمن في بلد يضمن حرية التجارة. وفي هذا السياق ارتفع عدد المصارف في البلاد بين 1945 و1960 من 9 إلى 85.

ومنذ الخمسينيات كان طموح لبنان، أو تحديدًا نخبتها المصرفية، أن يقوم بدور الحارس الأمين على أسرار رؤوس الأموال في المنطقة. إذ يروي صفيّ الدين أن ريمون إده، وهو مصرفي بارز وعرَّاب قانون سرية القطاع المصرفي الصادر في 1956، قد صرَّح للصحافة قبيل صدور القانون بأنه يطمح من وراء هذا التشريع إلى أن تلعب بلاده في المنطقة دورًا مشابهًا لدور سويسرا في أوروبا.

بالتدريج تحوَّل لبنان إلى «جمهورية تجارية»؛ حيث تعتمد النخب الحاكمة في تكوين ثرواتها إلى حد كبير على الاستيراد وتقديم الخدمات المالية للمنطقة، مستندة إلى تجذر فكرة حماية الحرية التجارية في الفكر الاقتصادي للنخب المسيطرة على البلاد، والترويج لها باعتبارها ضمانة لرخاء البلاد الاقتصادي. وفي أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، كانت السلطة في البلاد تطمح في تطبيق خطة واسعة لإعادة الإعمار، وهو ما دفعها إلى الاستدانة من الخارج لتغطية تكاليف عملية الإعمار.

لم تتسبب ديون ما بعد الحرب في إثارة قلق القائمين على البلاد في تلك الفترة، فقد اعتبروها[1] مسألة مؤقتة سرعان ما سيتم تداركها وتغطية العجز المالي عبر موارد البلاد التي كانوا يتوقعون أن تتنامى بعد أن يتعافى الاقتصاد من آثار الحرب، ولكن هذا لم يحدث. فقد تفاقمت مديونية الدولة اللبنانية، وما زاد من احتياجها للدائنين هو عجز نموذجها الاقتصادي عن توليد الإيرادات، من هنا جاءت سيطرة الدائنين على الاقتصاد، أو بمعنى آخر «حكم المصرف».

النموذج اللبناني 

بنظرة سريعة على مكونات الناتج الإجمالي للبلاد في 2018 [2] تستطيع أن تلاحظ ضخامة مساهمة القطاع المالي الذي يقترب من مساهمة قطاعي الصناعة والتعدين، يصل الأول إلى 8 % مقابل 11 % للثاني.

ويمثِّل النشاط العقاري[3] البديل الثاني أمام رؤوس الأموال للاستثمار بعد تشغيل الأموال في شراء الأذون والسندات وغيرها من أوجه نشاط القطاع المالي. وتصل مساهمة العقارات والإنشاءات إلى ضعف مساهمة نشاط الصناعة والتعدين في الناتج الإجمالي تقريبًا، أي حوالي 20 %. وعلى مستوى مصادر النقد الأجنبي، يعتمد لبنان على الاستدانة الخارجية، بجانب جذب أموال العاملين في الخارج، ونشاط السياحة. 

هذا النموذج في مجمله قد يحقق طفرات في أوقات معينة، مثل فترات نشاط حركة رؤوس الأموال العالمية وانتعاش التجارة الدولية، ولكنه أيضًا عُرضة للأزمات المتكررة الناتجة عن أسباب خارجية يصعب على الحكومات اللبنانية التنبوء بها أو السيطرة عليها.

هذا الوضع المالي الهش الذي ينتجه النموذج الاقتصادي للبلاد هو ما يدعو الكثيرين، مثل مبادرة الإصلاح العربي[4]، وهو تجمع من مراكز أبحاث عربية وأوروبية، للمطالبة باقتصاد قائم على التصنيع والتكنولوجيا والزراعة بدلاً من الخدمات. 

من الأمثلة على أزمات الاقتصاد اللبناني ضعف تدفق أموال العاملين في الخارج، لأسباب بعضها يتعلق بما يجري في السعودية. وكلنا يتذكر بيان رئيس الوزراء السابق، سعد الحريري، الذي ألقاه من العاصمة السعودية الرياض في نوفمبر 2017، وأعلن خلاله استقالته، وهوما اعتبره الرأي العام اللبناني تدخلاً سافرًا في شؤون البلاد الداخلية من قبل المملكة.

قد يكون توتر[5] العلاقة بين البلدين قد أثَّر على فرص عمل اللبنانيين في السعودية، وهو ما يمثل ضغوطًا قوية على اقتصاد البلاد، إذ أن العاملين في الخليج يساهمون بنحو خمس الناتج المحلي للبلاد، بحسب تحليل لكارنيجي.

كما أن هذه التوترات تزامنت مع طرح السعودية لرؤية 2030، والتي من أبرز أهدافها التوسع في الاعتماد على العمالة السعودية بدلاً من العمالة الأجنبية بصفة عامة.

ويخلُص تحليل لرويترز [6] إلى أن النظام المصرفي اللبناني، وبالرغم من تقديمه فائدة مرتفعة، عجز عن جذب أموال العاملين في الخارج التي تباطئت تدفقاتها في الفترة الأخيرة، معتبرًا ذلك أحد أسباب الأزمة المالية الراهنة.

وتشير رويترز إلى أن بطء تدفق أموال العاملين في الخارج، تسبَّب في شح العملة الصعبة، مما أضعف من قيمة الليرة اللبنانية في السوق السوداء، وقاد إلى ارتفاع الأسعار.

إن فقد الفائدة المرتفعة له تأثير سلبي على القطاع العقاري، والذي كما أشرنا من قبل يمثل أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصاد اللبناني، فـالكثيرون من أصحاب المدخرات في لبنان اتجهوا إلى البنوك بحثًا عن العائد المرتفع.

ويقول خبراء إن القطاع العقاري[7] يعيش أسوأ أيامه على الإطلاق، خصوصًا في ظل الضرائب الباهظة المفروضة على شراء العقارات، وضعف نمو الاقتصاد ككل.

وإلى جانب معوقات تدفق أموال العاملين في الخارج، يكافح[8] لبنان من أجل استعادة وتيرة قوية للسياحة، التي تأثرت بشدة من الحرب الأهلية في سوريا، وإن كانت الإيرادات شهدت تحسنًا ملموسًا في النصف الأول من العام الجاري.

اختصارًا، فإن الاقتصاد القائم على الخدمات (المالية على وجه التحديد) والأنشطة ذات الطابع الريعي مثل النشاط العقاري، معرضان بقوة للأزمات الخارجية. وفي ظل محدودية الأنشطة الإنتاجية تزداد قابلية السقوط في أزمات مالية مما يغري بالتمادي في الاستدانة. فالنموذج المالي للبنان يضع البلاد حاليًا في مأزق، خصوصًا مع سياسة تثبيت سعر الصرف.

منذ التسعينيات[9] رُبطت الليرة بالدولار، وثبت السعر الرسمي للعملة الأمريكية أمام العملة اللبنانية، وتسبب تفاقم الديون مع تثبيت سعر الصرف في خلق العديد من التناقضات داخل اقتصاد البلاد.

ويعبِّر عن هذه التناقضات وزير المالية الأسبق، إلياس سابا، في حوار صحفي[10] بقوله «في أي نظام اقتصادي حرّ، هناك آليات تصحيح أوتوماتيكية. لبنان اقتصاده حرّ، وهو يعاني من عجز في ميزان المدفوعات بمعنى أنه يشتري من الخارج أكثر مما يبيعه. وهو ما يسبِّب طلبًا على الدولار على حساب الليرة، في هذه الحال، وفي آليات الاقتصاد الحرّ، ترتفع قيمة العملة الأجنبية مقابل العملة المحلّية ويحصل التصحيح. نحن عطّلنا هذه الآلية عندما جمَّدنا سعر الصرف. لكن هناك آلية أخرى للتصحيح وهي سعر الفائدة؛ إذا كان هناك عجز تجاه الخارج، نرفع سعر الفائدة لنستقطب الودائع، لكن إذا كان الاقتصاد في وضع انكماشي، كما هو الآن، يجب خفض سعر الفائدة، لكن لو حصل ذلك لن نتمكّن من استقطاب الودائع، عندها يجب فلت سعر الصرف أي العودة إلى الآلية الأولى، وهي آلية معطَّلة كما ذكرنا». 

صورة أقرب لاقتصاد لبنان 

ونستطيع أن نرى الوضع المالي الهش للبنان بشكل أكثر وضوحًا من خلال الرسوم التالية. إذ يظهر من الرسم التالي كيف كانت علاقة لبنان بالاقتصاد العالمي تتدهور في السنوات الأخيرة، من حيث تفاقم عجز الميزان التجاري، والفارق بين الصادرات والواردات.

وفي الوقت نفسه، وكما يظهر من الرسم، هناك حالة أقرب للثبات في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. 

يخبرنا الرسمان أننا أمام اقتصاد ضعيف من حيث البنية الإنتاجية، لذا فهو غير قادر على التوسع في التصدير مقابل احتياجه الشره للاستيراد، وعاجز عن جذب المزيد من رؤوس الأموال الموجهة للأنشطة الاقتصادية المختلفة.

ضعف القدرات الإنتاجية يظهر بشكل أكثر وضوحًا في مؤشر معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، والذي يدور حول 1 % منذ نحو خمس سنوات، ويبدو أنه تأثَّر بشدة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

كان من الطبيعي أن تقود هذه المقدمات إلى نتيجة واحدة؛ وهي تسجيل معدل قياسي في مستويات الدين الخارجي، الذي وصل إلى نحو 150 % من الدخل القومي نتيجة طبيعية للإفراط في الاعتماد على الديون مصدرًا للتمويل.

وفي هذا السياق يبدو النظام المالي اللبناني تحت ضغط قوي، إذ توجه نسبة ضخمة من مصادره من النقد الأجنبي لا إلى التنمية، بل لسداد فوائد الديون التي تتراكم كالتلال مع تعمق الأزمة المالية. 

الثمن الاجتماعي 

وينبه محمد زبيب، في مقال نُشر بملحق رأس المال، إلى أن الميل الشره تجاه الاستدانة لن ينتج إلا المزيد من التضحيات الاجتماعية «لقد باتت مدفوعات الفائدة تقتطع أكثر من ربع الدخل السنوي المُتاح للمجتمع اللبناني، أي أن المودعين والدائنين والمساهمين في المصارف يحصلون على جزء مهمّ من ناتج عمل المجتمع كله من دون أن يقدّموا أي مقابل حقيقي سوى إخضاع هذا المجتمع للمزيد من الديون العامة (الحكومة ومصرف لبنان) والخاصة (الشركات والأسر والأفراد)».

أما عن التضحيات المطلوبة لسداد فاتورة الدين فقد أشار إليها زبيب أيضًا في تحليله لميزانية 2020، الذي أشرنا له من قبل، قائلاً «تريد الحكومة أن تقصّ 1000 مليار ليرة من ميزانيات الأسر، عبر تخفيض الدعم المخصص لتثبيت أسعار الكهرباء من 2500 مليار ليرة في عام 2019 إلى 1500 مليار ليرة في عام 2020. في المقابل، ستعطي الحكومة هذا المبلغ الكبير لدائنيها، إذ سترتفع مدفوعات الفائدة على الدَّين الحكومي من 8312 مليار ليرة إلى 9195 مليار ليرة، أي بزيادة 883 مليار ليرة».

مشكلة الكهرباء، كما تصفها رويترز[11]، حاضرة في قلب الأزمة الاجتماعية اللبنانية الحالية، نظرًا إلى ما يستنزفه هذا القطاع من موارد ضخمة من البلاد ومع ذلك يعجز عن توفير خدمة مستمرة دون انقطاع.

من المفارقة أن يلتقي المُستعمر الفرنسي مع ضحيته السابقة لبنان في القرن الحادي والعشرين عند النقطة نفسها؛ فالبلدان يغليان بسبب أحوال الخدمات العامة.

دون مبالغة، نحن في حقبة احتجاج الطبقة العاملة ضد ارتفاع نفقات المعيشة، فـالاحتجاجات اللبنانية ليست بعيدة عن احتجاجات السترات الصفراء[12] في فرنسا (المستعمر القديم للبنان) ضد ارتفاع أسعار الوقود، والسبب وراء الاحتجاجين هو رغبة الحكومات في التقشف بسبب قصور الموارد المالية، وتضحيتها بالطرف الأضعف (المواطن)، مقابل إرضاء مجتمع الأعمال بنظام ضريبي مُخفَّف[13]. 

وفي لبنان، في الوقت الذي أرادت فيه الدولة زيادة ضرائب الاستهلاك عبر ضريبة جديدة على خدمات واتس آب، فإن أعلى شريحة[14] للضريبة على دخل الأفراد هي 20 %، وعلى دخل الشركات 21 %.

وعلى الرغم من محدودية[15] سعر ضريبة القيمة المضافة في لبنان مقارنة ببلدان المنطقة، كانت 10 % وزادت في 2018 إلى 11 %، فإنها تمثِّل المساهمة الأكبر في الحصيلة الضريبية مقارنة بضرائب الدخل.

باختصار فإن غياب العدالة عن السياسات الضريبية مع سوء أحوال الكهرباء ساهما في إشعال غضب اللبنانيين إلى هذا الحد.

 ويورد المركز اللبناني للدراسات[16] «كان واضحًا أن التوجه نحو تقليص خلل التوازن المالي عبر زيادة الضرائب غير المباشرة وتقليل الخدمات العامة أصبح غير مقبول للشعب، في ظل تدهور الوضع الاجتماعي. نصيب السكان من الفقر يقترب من 30 % وفقًا لتقديرات البنك الدولي، والبطالة مرتفعة وهجرة الشباب الماهر عند مستويات قياسية». 

 الهيمنة والعدالة الغائبة

وكانت الحكومة اللبنانية قد طرحت خطة في 21 أكتوبر لتطبيق إصلاحات للاستجابة للمتظاهرين، وهي الخطة التي لم يتفق المتظاهرون على القبول بها، لكن المركز اللبناني للدراسات يرى أن من مكوناتها الإيجابية زيادة الضرائب على البنوك، حيث يقول «فرض الضرائب على البنوك خطوة في الاتجاه الصحيح أيضًا، على الرغم من أن الضريبة المنتظرة (600 مليار ليرة لبنانية) ستفرض لمرة واحدة، وهي محدودة مقارنة بالأرباح الضخمة التي حققها القطاع في السنوات الأخيرة (2.6 مليار دولار في 2018)».

وبغض النظر عن كيفية حسم مسألة المعاملة الضريبية للبنوك، فإن الحديث عن مدى عدالة معاملتها الضريبية لم يصبح محلاً للنقاش في أوساط النخبة الحاكمة إلا بفضل المتظاهرين.

النخبة المالية متغلغلة في دوائر الحكم بلبنان، هذا ما أثبته من قبل الباحث بالجامعة الأمريكية ببيروت جاد شعبان، ومقاومتها لم تكن ممكنة إلا بحركة موازية من الناس في الشارع تهز أركان السياسة.

 فـلبنان يعتمد بشكل كبير على المصارف المحلية في تمويل الدين العام، وهذه المصارف تخضع لسيطرة النخب النافذة في البلاد، إذ أن 43 %[17] من المصارف قريبة من عائلات سياسية كبيرة، أبرزها عائلة الحريري، وفقًا لجاد شعبان. وهو ما يجعل من الإبقاء على لبنان في دائرة لا تنتهي من الاستدانة، بهدف توفير الموارد لتغطية نفقات ديون سابقة، هدفًا مغريًا للنخب الحاكمة في البلاد.

ويرى هشام صفيّ الدين، في مقال[18] له بملحق رأس المال، أن هناك سيطرة للنخبة المالية في لبنان على غرار نمط الهيمنة الذي تحدث عنه المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي. ويذكر صفيّ الدين في هذا السياق أن «الهيمنة وفق أنطونيو جرامشي، وباختصار وتبسيط شديدين، ملازمة للسيطرة كوسيلتين أساسيتين لترسيخ سلطة الطبقة الحاكمة بطرق مختلفة في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. تعتمد السيطرة على الإرغام أو العنف، من خلال الأجهزة القمعية للدولة كالجيش والشرطة والقضاء، بينما تعتمد الهيمنة على الإقناع من خلال التبعية الأيديولوجية التي تبنى بناؤها عبر المؤسسات غير الحكومية كالمدارس ودور العبادة والإعلام. والإقناع هنا لا يعني غسيل دماغ أو خلق وعي زائف، بل يرمز إلى تبنٍّ فعلي من قِبَل الفئات المقهورة لخطاب الفئات القاهرة. وجزء من هذا التبنّي له أساس مادي/ اقتصادي لا أيديولوجي فحسب. أي أن الهيمنة مرتبطة بمنافع حقيقية».

ويوضح صفيّ الدين أن المصلحة الأساسية التي ربطت المواطنين برأس النخبة المالية في لبنان، البنك المركزي، هو سياسته التي حافظ عليها لعقود لتثبيت سعر العملة المحلية، وأنه مع ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء خلال الفترة الأخيرة، تراجعت هذه الهيمنة.

ويضيف صفيّ الدين في هذا السياق «ليس مصادفة أن أهم حدث هو كسر هيبة ريض سلامة، (محافظ البنك المركزي اللبناني)، لم يكن تراكم الدَّيْن العام أو زيادة معدَّل البطالة أو حتى تراكم أرباح المصارف نتيجة الهندسات المالية، بل هبوط سعر الصرف. لقد بنى سلامة هيبته على هذه المقولة التي هي في الأساس الركيزة الأم لأيديولوجية الطغمة المالية في تأسيس لبنان. وهي تؤثّر على حياة الناس بشكل مباشر عبر تحديد ثروتهم -من عدمها- وقدرتهم الشرائية، وتُشكّل في الوقت نفسه فعلاً إيمانيًّا راسخًا». 

ربما يقود كسر هيمنة النخبة المصرفية في لبنان إلى تأسيس نموذج اقتصادي جديد في عالمنا العربي، أكثر استدامة من الناحية المالية، وأقل اعتمادًا على الديون، وخالق لنمو اقتصادي يقوم على أنشطة إنتاجية أقل تأثرًا بالصدمات الخارجية وأنشطة المضاربات، وأكثر ميلاً لتوفير الوظائف الكريمة للمواطنين.

 

[1]- http://www.cadtm.org/spip.php?page=imprimer&id_article=12642

[2]- https://investinlebanon.gov.lb/en/lebanon_at_a_glance/lebanon_in_figures/economic_performance

[3]- https://bit.ly/2YrxOKp

[4]- https://www.arab-reform.net/publication/for-an-emergency-economic-rescue-plan-for-lebanon/

[5]- https://carnegieendowment.org/sada/77528

[6]- https://reut.rs/33YfnOA

[7]- http://www.xinhuanet.com/english/2019-08/01/c_138276287.htm

[8]- https://reut.rs/2RvF2LR

[9]- http://www.xinhuanet.com/english/2019-11/10/c_138542844.htm

[10]- https://bit.ly/369bUOu

[11]- https://bit.ly/2P0YYo3 

[12]- https://bit.ly/2DZM7MN

[13]- https://bit.ly/2LAPMVz

[14]- https://pwc.to/2RvVj3j

[15]- https://bit.ly/2DYN1Ji

[16]- https://bit.ly/33Yfbyz

[17]- https://bit.ly/2DTYCJN

[18]- https://al-akhbar.com/Issues/278437