ذخائر

سلامة موسى

لماذا أؤمن بنظرية التطور؟

2018.12.01

لماذا أؤمن بنظرية التطور؟

لماذا أؤمن بنظرية التطور؟ تسألني مجلة الهلال: لماذا أؤمن بنظرية التطور. أو بعبارة أخرى لماذا أقول بإن الإنسان والحيوان من أصل واحد وإن الإنسان كان في الزمن القديم حيوانًا يشبه القردة الراهنة ولكنه تطور حتى صار إنسانًا؟

أقول: أجل. كان الإنسان حيوانًا وهو يمت إلى سائر أنواع الحيوان بجملة أسباب يمكن أن تعد بالمئات. وهو والحيوان الآن كلاهما دائم التطور. فمن الإنسان سيظهر – قريبًا أو بعيدًا – السبرمان، كما خرج الإنسان من الحيوان القديم. ومن الحيوان والنبات تخرج كل يوم أجيال جديدة إذا تمادى عليها الزمن وكثرت الفروق التي تفصلها صارت أنواعًا متميزة.

ففي مصر مثلًا قد أنتجنا جيلًا من القطن مميزًا يدعى (السكلاريدي) وفي أميركا قد استطاع أحدهم أن ينتج جيلًا جديدًا من الصبير الأملس. أما في الحيوان الداجن فقد استطاع الإنسان أن يوجِد عددًا كبيرًا من أجيال الكلاب والحمام والدجاج والخيول المختلفة.

فإذا أمكن استيلاد أجيال جديدة من الأنواع القديمة في وقت قصير فأحرى بالطبيعة أن تستولد من الأنواع أنواعًا أخرى في ملايين السنين الغابرة.

فكلا العملين من طراز واحد وليس الاختلاف بينهما إلا في الدرجة. وكثيرًا ما اختلف العلماء في نوعين مثلًا هل هما نوعان أم جيلان من نوع واحد؟

والآن أعاجل القارىء بجملة شواهد بارزة قليلة برهانًا على أننا والحيوان من أصل واحد. فهناك مثلًا شاهد الأعضاء. فنحن نختلف عن الزرافة مثلًا في هيئة الجسم وجرمه. وأكثر ما نخالف هذا الحيوان الجميل في العنق.  فإن عنقه طويل وعنقنا قصير. ولكن هذا العنق مع طوله لا يحتوي إلا على سبع فقار من العظم مثل عنقنا ومثل عنق الجمل وعنق الخلد وعنق القنفذ. فلو لم نكن  من أصل واحد لكان أوفق للعنق الطويل أن يحتوي على جملة فقار تزيد عما يحتويه العنق القصير. ولكن الحقيقة أننا – أى جميع الأنواع الفقرية - كنا نستوي في طول العنق في جد قديم سابق. فلما اختلف الوسط وتباينت البيئات تكيف العنق وفقها. والعظم هو الجدار واللحم طلاؤه أو كساؤه. ومن اليسير تغيير الكساء أو الطلاء ولكن يشق على الطبيعة أن تغير العظم.

وعلى هذا النسق يمكن أيضًا أن نذكر أن في طرف جناح الدجاجة التي تأكلها ثلاثة أصابع وفي طرف زعنفة القيطس الذي يجوب بحار العالم أربعة أصابع. وليس للقيطس ولا للدجاجة فائدة من هذه الأصابع ولكنها الأثر الباقي من اشتراكها معنا في الأصل القديم إذ أكثر حيوانات العالم لها خمسة أصابع في أيديها فلو كان كل نوع قد خلق على حدة لما كان ثم سبب للاشتراك في هذه الأعضاء ثم اذكر شاهد الأعضاء الداخلية. فالسموم التي تقتلنا تقتل الحيوان أيضًا مما يدل على أن نظامنا الداخلي مثل نظام الحيوان. والأمراض التي نصاب بها يصاب بها أو بأكثرها الحيوان أيضًا. ومن هنا فائدة التجارب العلمية في الحيوان.

ثم هناك الغدد المنقطعة. فمن يصاب من الناس بالغوطر أو تضخم الغدة الدرقية يعالج بمفرزات الغدة الدرقية في الفرس. ومن يصاب بالديابيطس أي وجود السكر في البول يعالج بمفرزات البنكرياس التي في الحيوان.

والسرطان يصيب الإنسان والحيوان والنبات. والكلوروفورم يتخدر منه الحيوان والإنسان والنبات. ويجرى عليها كلها على السواء نظام الوراثة. فنحن والحمص والترمس والعقارب والفيلة ننسل نسلنا على نظام واحد كما يدل على ذلك ناموس مندل في الوراثة.

فلو لم نكن من أصل واحد لكان لكل منا ناموس خاص يسير بموجبه في الصحة والمرض والتناسل. ولكننا لأننا من أصل واحد نجري في هذه الأشياء على نظام واحد.

ثم إن عملية الترسيب التي يعمل بها في تحقيق الجنايات في المحاكم الأوروبية الراقية الآن تثبت قرابة الإنسان من القردة. وقرابة البقر من الجاموس. والكلب من الذئب. والببر من النمر وهلم جرا. وبيئة عملية الترسيب تعتبر في المحاكم من قضاة ليس لهم مصلحة في ترويج نظرية التطور.

وهذه العملية تتلخص في أن راسب دم الإنسان يسلك مسلك راسب دم القرد دون راسب دم أي حيوان آخر. فإذا اتهم واحد باغتيال إنسان ووجد على ثيابه آثار دم ثم أخذ راسبها ووجد أنها تماثل في مسلكها دم قرد استنتج من ذلك المحققون أن هذا الأثر هو أثر دم إنسان. وذلك لعدم احتمال قتل إنسان لقرد في قضية جنائية.

وبعبارة أخرى نقول إن في الطبيعة أنواعًا متميزة تعرف بأشكالها الخارجية الظاهرة. وهناك أنواعًا كثيرة تعرف بدمائها. ونحن والقردة من حيث الدم نوع واحد.

ثم أن حياة الجنين تمثل الأطوار التي تقلب فيها نوع الإنسان حتى صار إلى طوره الحاضر، فهو يبدأ بيضة ملقحة مثل بيضة أي حيوان ومثل بذرة أي نبات. ثم يمر على الجنين طور يكون له خياشيم كالسمك، ثم تندغم الفتحات وينمو. ولكنها أحيانًا لا تندغم فيولد الجنين ويموت. ثم يكون له ذنب ثم يضمر ويصير عجبًا.

وفي كل منا أعضاء أثرية تدل على أننا كنا في الزمن القديم حيوانات. فالمعيّ (الأعور) هو في الحقيقة معيّ قديم كان بالإنسان أيام كان يعيش على الأثمار والأعشاب. وهو ذو فائدة في الفرس ولكنه غير مفيد لنا الآن. وفينا من يولد يجلله شعر كثيف لا فائدة منه فوق الظهر والبطن. وبعضنا يحرك أذنيه كما يفعل الحمار. ولازلنا نستطيع أن نحرك عضلات الوجه لذب الذباب ولكننا فقدنا خاصة تحريك سائر بشرتنا كما يفعل الحيوان.

ثم نحن والحيوان وبعض النبات نتجانس في العواطف. فنحن كلنا نسكر من المخدرات. والنبات قريب منا في الحس. فالميموزا تستجيب لمن يلمسها بإطباق أوراقها وذبول غصونها. وجذر النبات مثل أقدامنا يدرك قيمة اتزان الشجرة فيسري في الأرض إلى الجهة التي توافق استقامة الشجرة وانتصابها. والكهربائية تفعل به ما تفعله بنا.

والكلب يغار إذا رآنا نتمسح بصاحبه. وهو إذا تهيأ للقتال وقف شعره ودق قلبه على نحو يحصل لنا في مثل هذا الحال. وهو يخاف ويتوهم الأوهام ويحلم في نومه كما نفعل نحن. فقد حدث أن بعضهم ربط عظمة بخيط لا يراه الكلب فلما أخذ في قضمها شدها من أمامه. فذعر الكلب وجرى إذ توهم في العظمة شيئا لم يعرفه قبلًا وظن أنها تتحرك من ذاتها.

فهذا الاشتراك في تركيب العظام ووظائف الجسم الداخلية والوراثة والأمراض والإحساس يدل على أننا والحيوان نشترك في النسب.

ونحن والقردة نرجع إلى أصل واحد هو أبونا المشترك. فليست القردة آباءنا ولكنها بنو عمومتنا. وانقراض الحيوان يحصل كل يوم فلا نعجب من انقراض هذا الأب. وهذا طائر الأوك وطائر الدودو كلاهما قد انقرض منذ وقت قريب وبيضة كل منهما تباع بمئات الجنيهات وتذخر في المتحفات الطبيعية الكبرى.

والعالم مملوء بالحيوانات والنباتات المتحجرة التي انقرضت. ومنها نعرف حلقات الصلة بين الأنواع الراهنة. وقد عرفنا أن أصل الطيور زواحف وأن أصل الفرس حيوان في قدر القط. وعرفنا جملة أجيال (أو أنواع) من الإنسان ظهرت وبادت أو اندغمت في نوعنا الحاضر.

فعالم النبات والحيوان في تطور مستمر. وأصل هذا التطور أن كل فرد يختلف عن غيره إما بزيادة وإما بنقص قد يفيده أو قد يضره في تنازعه البقاء.

فإذا أفاده تناسل وانتشر نوعه وإذا أضره باد وانقرض على التدريج. فتنشأ من ذلك أجيال جديدة ثم تشتد الفروق بين الأجيال حتى يصير الجيل نوعًا.

والبشرية الآن صائرة في طريق التطور وقد ينشأ منها السبرمان  قريبًا – أي بعد عدة آلاف من السنين.