رؤى

خالد يوسف

ما بعد الحقيقة واليقين والأبوكاليبس: "دكاكين" البارانويا

2020.07.01

ما بعد الحقيقة واليقين والأبوكاليبس: "دكاكين" البارانويا

كورونا (بالعربية والإنجليزية وهو أمر لو تعلمون عظيم) كلمة مكونة من ست أحرف. ما أخفته وسائل الإعلام الصينية أن البؤرة الأولى للفيروس بمدينة ووهان في شارع معروف شعبيًّا بشارع 66، (إذن لدينا ثلاثة أرقام كلها ستة)، وهو الرقم الذي أشار إليه إنجيل يوحنا المعمدان اعتباره رقم الشيطان أو الوحش الكبير، المرتبط ظهوره ببدايات نهايات الزمان.

لم يبلغك أحد بأن المحاولات الأولى لبناء أبراج الجيل الخامس من الهاتف المحمول كانت في ووهان، (مصادفة أليس كذلك؟!)، تمامًا مثلما ارتبط كل وباء عرفه القرن العشرين بتحديث أو تطوير لشبكات الاتصالات في منطقة ما من مناطق العالم، (هل يذكركم اللاسلكي بالإنفلونزا الإسبانية؟ مصادفة أخرى)، لا أحد يريد إبلاغك عدم رغبة «النخب» من أمثال بيل جيتس، وإيلون ماسك، أو ستيف بيزوس، أو مارك زوكربيرج بالحديث عن طبيعة تلك التحديثات.

ليس فقط من أجل الحفاظ على أعمالهم، وليس فقط من أجل تمويل بزنس رابح يتعلق بصنع الوباء، وهو صنع لقاحه. بل من أجل زرع شرائح إلكترونية تستقر في أوردة البشر، يمكن من خلالها الاحتفاظ بكل معلوماته الأمنية والبيولوجية، ودفع الفواتير، والمرور من بوابات المطارات بعمل مسح كامل على الجسم. ستكون تابعًا وظيفيًّا كإنسان لشركة هي التي تدير تفاصيل حياتك، هل هذه مصادفة؟ حركة الصانعين الجدد أو المتنورين تتحدث في جزء كبير من خططها المستقبلية حول مغادرة الأرض والتواصل مع كائنات أخرى، وما هي أمنية أناس مثل ماسك وبيزوس والتي أفصحا عنها في أكثر من مناسبة؟ نعم، البدء في القيام برحلات إلى الفضاء وتأسيس حياة مستقرة على القمر؟ يا لها من مجموعة من المصادفات المتجاورة!

قبل 27 عامًا كانت تلك النظرية العبثية ستصلح كمونولوج خاص بشخصية جوني في فيلم «عاري» للمخرج البريطاني مايك لي. ذلك الشاب الهارب من رمادية مانشستر إلى تعقيدات العاصمة لندن. جوني شخص فائق الذكاء أضحى هائمًا على وجهه طول اليوم، يتحدث إلى غرباء عن النهاية السوداوية لعالهم الهش. ومنهم فرد أمن لمبنى إداري أنيق، أفصح له جوني عن معتقداته الخاصة بقرب اكتمال كل علامات نهاية العالم، إنه لا يرغب في حدوث هذا، ولكنه يبدو مبشرًا فاقدًا الأمل. يلعن الدوامات التي تلهي رفاقه من البشر عن إدراك مثل هذه الحقائق.

إنه النسخة الأكثر ثقافة من هائمي السينما، والذين شغلوا موقعًا مميزًا من تفكير صناع أفلام من عقد التسعينيات، ذلك النوع من الشخصيات التي استحوذت على اهتمام مخرج مثل الأمريكي ريتشارد لينكليتر، المفتون بذلك الهوس الجامح لهؤلاء الهائمين، العاقدين لصداقات عابرة معظم الوقت. اليقين الشديد الذي يساورهم إزاء الشك في كل حدث سياسي مهم في القرن العشرين؛ فقاتل كينيدي حر طليق، وربما يشغل منصبًا سياسيًّا مرموقًا، وأبوللو 11 لم تهبط قط على القمر، وكل ما حدث هو من تنفيذ ستانلي كوبريك، والحكومة الأمريكية تجري اختبارات للمخدرات المتطورة بشكل دوري ممنهج على متطوعين من البشر، ومكتب التحقيقات الفيدرالية يزرع ميكروفونات للجميع.

جنة الهائمين الجديدة

هذا النموذج من الهائمين تحقق واقعيًّا من خلال شخصية حقيقية متمثلة في أليكس جونز؛ واحد من أوائل مشاهير نظرية المؤامرة، والذين حققوا شهرة عريضة كشخص «مخبول» خفيف الظل أحيانًا، لديه بعض من النظريات المسلية عن الحبكة المحكمة التي ترسمها الحكومة الفيدرالية للتحكم في مقدرات وحريات وحقوق المواطن الأمريكي. افتنان لينكليتر بجونز وصل مداه للاستعانة به بشخصيته الحقيقية ضمن فيلم «حياة اليقظة» (2001) والذي عرض تجاريًّا في أسبوع هجمات سبتمبر على نيويورك. أليكس جونز كان واحدًا من بائعي الأفكار من بين عشرات الأيديولوجيات التي عرضها لينكليتر في فيلمه فائق الأهمية. ولعله الأكثر بقاءً في الذاكرة من بين شخصيات الفيلم بصوته الأجش، وصراخه المتواصل كمجذوبي القرية، المبشر بالمؤامرة اليومية الكبرى التي تمارس على مواطني بلده؛ صراخًا كان متسقًا في مصادفة مثيرة آنذاك، نظرًا إلى كل النظريات التي أحاطت بهجمات 11سبتمبر دون إجابة شافية عليها.

بعد قرابة عقدين من الصراخ، أليكس جونز له ملايين من المتابعين لبرنامجه الإذاعي (على الرغم من حرص مؤسسة تويتر على حذف حسابه أخيرًا)، لديه القدرة على جذب ملايين آخرين في أي منصة إعلامية يحل عليها ضيفًا، ولكن الأمر لم يتوقف عند حد المنصات الإعلامية، بل حمل شهر مايو 2020، وفي وسط معمعة فيروس الكورونا خبرًا سارًا لعشاق ذلك النمط من حياة المؤامرات بفوز النائبة جو راي بيركينز بمقعد الحزب الجمهوري بولاية أوريجون الأمريكية، تمهيدًا لدخولها انتخابات مجلس الشيوخ في نوفمبر المقبل؛ موجهةً شكرها الأكبر لذلك الدعم الكبير من جمهور متابعي طائفة كيو أنون الافتراضية، والذي كان حاسمًا في الفوز بمقعد الحزب. خصوصًا فيما وصفته بين أوساط تلك النوعية الخاصة من المحافظين. في تحول حقيقي في نوعية الجمهور الذي أصبح مرجحًا في أي انتخابات مستقبلية بالمسرح السياسي الأمريكي، حسب تقرير مطول مفصل أجرته مجلة ذا أتلتنيك العريقة عن تلك الطائفة المثيرة.

ذا أتلنتيك خصصت واحدًا من أبرز تحقيقاتها لعام 2020 بعنوان «أكثر أهمية مما تعتقدونه» عن طائفة الكيو أنون، والتي كان من الممكن التعامل معها قبل 2016 باعتبارها منصة لمجموعة من المهاويس، من أصحاب أوقات الفراغ. فتلك المنصة التي بدأت كحساب مجهول على موقع «فورتشان» التفاعلي عام 2017 أضحت أكبر طائفة لترويج نظريات المؤامرة المفضلة لدى اليمين الأمريكي، خصوصًا في جناحه الأكثر تطرفًا.

كوكتيل من السيناريوهات عن الحبكات العديدة التي قام بها رموز الحزب الديموقراطي خلال عهد أوباما لقلب هوية النظام السياسي الأمريكي. منصة تزعم تقديم ملفات ووثائق سرية عن الشبكات التي تنخر في عظام ذلك النظام (كيو إشارة إلى تصريح الأمان الذي يكفل بالاطلاع على الملفات السرية لوزارة الطاقة الأمريكية، وتحديدًا في قطاع الأسلحة الذرية). كل هذا ممزوج بمجموعة من الإحالات إلى معظم نبوءات الكتاب المقدس فيما يتعلق بعلامات الساعة، تحت شعار موحد يطغى على مشاركات أعضاء الطائفة إلكترونيًّا «حيثما يذهب أحدنا، سنذهب جميعًا».

مذهب ديني إلكتروني جديد يضم نخبة من أوفى مناصري الرئيس دونالد ترامب. منهم ليونيل ليبرون الذي يعتبر بأنه أكبر مروجي الطائفة، والذي حظي بفرصة التقاط صورة مع ترامب في زيارة تأييد بالمكتب البيضاوي في أغسطس 2018. بعدها بعام كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يضع تلك المنصة ضمن القائمة المحتملة لتنشيط الإرهاب الداخلي بالولايات المتحدة.

من البيتزا حتى نهاية العالم

كيو أنون استحوذت على اهتمام متصاعد في السنوات الأخيرة إلى الحد الذي أجبر شبكة قنوات HBO على إنتاج وعرض الفيلم الوثائقي «ما بعد الحقيقة»، الذي يقتفي أثر الأخبار الكاذبة الفادح على عالم السياسية الأمريكية، خصوصًا ما أحدثته منصة كيو أنون في إطلاق شرارة ما أطلق عليها «بيتزا جيت» في أكتوبر 2016. والتي انتهت بهجوم شاب يميني غاضب على مطعم البيتزا «بينج بونج كوميت»، الذي يدير حلقات لاستغلال المراهقين والأطفال جنسيًّا في قبو تحت المطعم (وفقًا لما زعموه بعد تفريغ رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بهيلاري كلينتون).

كيو أنون لم تسهم فقط بهذه الإنجازات، بل إنها ساعدت في التحفيز المعنوي لأحد خريجي المنصة، وهو منفذ الهجمات على مسجد في نيوزلندا في ربيع عام 2019. من خلال سلاسل المحادثات التي أجراها الذئب المنفرد مع رفاقه بالمنصة وخلال غرف الدردشة التي تعج بها منصة أخرى «إيتتشان». إلى جانب بعض الإنجازات الجانبية مثل محاولة إثبات مكان ولادة أوباما، وأن عائلة كلينتون قد تكون تسببت في مقتل أعضاء بالحزب الديموقراطي على خلفية واقعة تسريبات هيلاري، وأخيرًا وليس آخرًا إيجاد الوثائق التي تثبت أن أنجيلا ميركل هي واحدة من حفيدات هتلر شخصيًّا.

عامل الدهشة كان لافتًا من خلال السطوة التي تحظى بها طوائف نظريات المؤامرة منذ تفشي وباء كورونا، وارتباطها بالحركات الموازية للحركة في مواقع أخرى من العالم. إلى الحد الذي جعل من الفيديوهات والحوارات التي أجراها برايان روز مؤسس قناة لندن رييل على اليوتيوب (مع نخبة من المشككين في جدية ظاهرة كوفيد 19) هي الأسرع في الوصول إلى رقم المليون مشاهدة، وتحديدًا مع محلل نظريات المؤامرات «المحترف» ديفيد آيك. تلك الشعبية التي حظي بها روز أقنعته بتسمية ملايين المتابعين بـ»جيش لندن رييل»، خصوصًا في أعقاب إجراءات الحذف والرقابة التي قامت بها منصات التواصل الاجتماعي ضد فيديوهات آيك المثيرة للجدل.

وتكتمل صورة الدهشة بشكل أكبر في حالتي السيولة والرواج التي حظيت بها العديد من القنوات الداعمة لنظريات كيو أنون، ولكن في نسختها الشرق أوسطية. لتضحى الفيديوهات التي تتناول القدوم المرتقب للمسيخ الدجال وتحليل شفرات مسلسل النهاية ليوسف الشريف أكثر عددًا من قنوات متابعة الدوريات الأوروبية لكرة القدم. مع تعميق الفلسفة نفسها التي يدعمها التيار اليميني الجديد بأن المعركة هي صراع على الهوية، معركة إيمانية في المقام الأول. ومن الخطأ الفادح قياسها أو تحليلها بمسطرة العلوم السياسية، فهي أكبر حجمًا وأعظم جلالًا.

أحد أهم الأصوات التي شغلتها علاقة الديموقراطية بالإنترنت كان الكاتب والباحث الروسي بيتر بوميرانتسيف، الذي أصدر كتابه الأخير «هذه ليست بروباجاندا» العام الماضي، متناولًا الظواهر المثيرة التي جمعت «الشامي والمغربي» سياسيًّا خلال العام الماضي، خصوصًا على مستوى توظيف وسائل الاجتماعي ضمن التيار الشعبوي الجديد في الديموقراطيات الغربية، وفي مواقع مماثلة بالشرق الآسيوي، مثل الفلبين التي خصص لها بوميرانتسيف فصلًا كاملًا.

استراتيجيات بافلوفسكي

الكاتب الروسي الأربعيني يؤكد أن طفولته خلال آخر سنوات العصر السوفييتي ثم فترة الانتقال الفوضوي للنموذج الغربي السياسي كانت خير إعداد له لتفهم التقلبات التي تسبب بها الإنترنت. خصوصًا على صعيد الحملات الدعائية، وتحديدًا تخصيص الحملات السوفيتية الرسمية التي أشارت مثالًا إلى أن فيروس الإيدز في الثمانينيات هو صناعة المخابرات الأمريكية للقضاء على أفريقيا «هل يتشابه هذا مع التراشق الأمريكي الصيني حاليًا؟».

إنها الاستراتيجية نفسها التي روجت لفكرة صناعة فيروس زيكا البرازيلي لاستهداف الروس المقيمين في أوكرانيا المارقة. استراتيجية متسقة للغاية سياسة عرض الباقة الكاملة من المؤامرات الراسمالية لاستهداف التجربة السوفيتية خلال الحرب الباردة وصولًا إلى عام تولي جورباتشوف مقاليد الحزب الشيوعي في منتصف الثمانينيات.

يكاد بوميرانتسيف في لقاء مع أستاذ العلوم السياسية والكاتب جليب بافلوفسكي إلى أن التجربة الروسية الانتخابية خلال التسعينيات كانت أرضًا خصبة لما تختبره العديد من الديموقراطيات حاليًا. بافلوفسكي خصص قسطًا كبيرًا من حواره عن إدارته للحملات الانتخابية التي أهدت بوريس يلتسين مقعد الرئاسة مرتين. من خلال عدم التركيز على ترسيخ خطاب أيديولوجي تقليدي. في المقابل كانت الاستراتيجية هي استهداف المجموعات المتناثرة المتناقضة للناخبين، وجمعهم في فئات كالعرائس الروسية الشهيرة.

يقول بافلوفسكي «يكفيك أن تجمعهم معًا لفترة قصيرة، ربما للحظة عابرة واحدة، هي لحظة التصويت فقط كمجموعة واحدة مستقلة سياسيًّا، قبل أن يتفرقوا في اليوم التالي. من أجل ذلك يجب عليك أن تصنع أسطورة تقنعهم بأنهم ينتمون جميعًا إلى كيان واحد».

حسب بافلوفسكي، كانت الأسطورة التي استخدمها في انتخابات عام 1996 هي إقناع الناخب الروسي أن عدم انتخاب يلتسين كفيل بإشعال حرب أهلية. وأن انتخاب الرجل ضمان وحيد لعدم انهيار البلاد، حتى لو لم تكن مناصرًا له؛ البقاء على قيد الحياة كان الأسطورة المطلوبة في تلك اللحظة.

بافلوفسكي استخدم أساليب مبتكرة - أضحت نبراسًا لصناع الحملات الإلكترونية لاحقًا، مثل الاستعانة بممثلين باعتبارهم أعضاء في الحزب الشيوعي في تصوير إعلان يقومون فيه بحرق الكتب المقدسة، بالإضافة إلى اسكتشات كوميدية تليفزيونية يظهرون خلاها استعدادهم شن حرب آنية على أوكرانيا.

المفارقة الأكبر أن بافلوفسكي الذي قضى السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفيتي منفيًّا كمعارض شرس عانى الأمرين من رجال الكي جي بي أضحى نفسه أحد مديري حملة تقديم فلاديمير بوتين كـ«مشروع رئيس» عام 1999، وهو الضابط السابق بالكي جي بي نفسه. وتحت شعار جذاب مفاده «مساعدة روسيا على النهوض مجددًا من ركوعها»، وهو شعار قد يجد نغمًا خاصًا لعشاق الرئيس ترامب في تنويع أمريكي مختلف على اللحن نفسه.

جحيم النوستالجيا

في واحد من أهم فصول الكتاب يشير بوميرانتسيف في تناوله لبدايات تأسيس الشعوبية الإلكترونية الجديدة. وتحديدًا لما أشارت إليه مواطنته سفيتلانا بويوم عالمة اللغة إلى أن القرن العشرين بدأ برغبة في بناء يوتوبيا وانتهى بشعور من النوستالجيا، والحادي والعشرين بدأ برغبة أكبر مضاعفة تلك النوستالجيا، وتضيف أنه يوجد نوعان من النوستالجيا: الأول هو«نوستالجيا متأملة تبحث عن الفوارق بيت الماضي والحاضر والمستقبل. والثانية هي نوستالجيا رجعية، تحاول بناء الوطن الضائع بإصرار فولاذي من البارانويا ـ تهمل التفكير النقدي لشراء نوع من التعاضد العاطفي، تلك النوستالجيا يمكنها أن تصنع الوحوش».

يكاد يصل العديد من علماء السياسة الذين يكتظ بهم كتاب «هذه ليست بروباجاندا» إلى أن الشعبوية الجديدة ليست أيديولوجية، ولكنها أضحت استراتيجية في المقام الأول. بإمكانها أن تجمع طرفي النقيض تحت مظلة واحدة في لحظة قلق مشتركة. تمامًا كما حدث في استفتاء البريكست. والذي استخدم فيه صقور اليمين البريطاني التكتيكات والشعارات نفسها التي رفعها رموز الحركة النسوية اليسارية الأمريكية في السبعينيات، والتي كان مفادها «أن ما تمت تسميته بالرؤية لموضوعية، ما هي إلا رواية ذاتية كتبها الذكر الأبيض».

إنها النتيجة التي توصل إليها بوميرانتسيف في فصل آخر من كتابه أنه «عندما تكون الجماهير مفتتة، دون شعور بوجود أمة واحدة تجمعهم، يجب عليك إعادة تخيل هذه الجماهير في سياق جديد تمامًا». سياق مختلف عن التحزب السياسي التقليدي. إنها الإستراتيجية التي جعلت من حركات عمالية مستقلة ومجموعات يمين متطرف، وأفراد كارهين للنخب السياسية، ومؤمنين مخلصين لنظريات المؤامرة في بوتقة واحدة، في لحظة واحدة. تصادف أنها كانت يوم الثامن من نوفمبر 2016. وليس هناك أفضل من الإنصات للاستراتيجيات العديدة التي استخدمها ستيف بانون مدير حملة ترامب الانتخابية، مستخدمًا مئات الدعايات على الفيسبوك التي صنعت شعورًا بوجوب التصويت لترامب دون حتى ذكر اسمه مرة واحدة.

الباحث الإيطالي والتر كواتروشيوكي من جامعة فينيسيا قدم العديد من الحقائق الصادمة في ورقته الدراسية المستفيضة «الدينياميكيات العاطفية في عصر التضليل»، عارضًا نتيجة جمعه لـ 55 مليون تعليق على وسائل التواصل الاجتماعي، ملاحظًا أنه كلما زاد زمن الحديث في موضوع ما، فإن نبرة الحوار تصبح أكثر تطرفًا وعدوانية بين الأطراف المتحاورة. كواتروشيوكي وصل إلى قناعة ما بأن وسائل التواصل الاجتماعي ترسخ التشتت الفكري. فالوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تثبيت قناعاتك في الأرض هو التشدد في الرأي وصنع دوائر مستمرة من الاستقطاب «لتصبح الأخبار الكاذبة عرضًا منطقيًّا من أعراض استخدام ما يسمى بالسوشيال ميديا».

قد يكون مبهرًا الإشارة إلى التكتيكات العديدة التي يلجأ إليها اليمين الشعبوي في التواصل مع مريدين جدد عبر الإنترنت ومنصات التواصل، وتطابق تلك التكتيكات مع نظيرتها المستخدمة من قبل اليسار في حملاته الانتخابية. والتي تبدو كنسخة محدثة من استراتيجيات بافلوف.

العناصر الإلكترونية من اليمين المتطرف تبحث عن أسماك جديدة من محبي ألعاب الحرب العالمية الثانية، من قاموا بالضغط على زر الإعجاب على فيديوهات حقبة الحكم النازي على اليوتيوب. إضافة إلى تكتيكات حظر استخدام لهجة عنصرية صريحة، واستخدام بدلًا منها لهجة دفاعية ضد سياسيات الهجرة في أوروبا. كما تلجأ بعض العناصر للعب أدوار تمثيلية زائفة بالظهور كمعلق يساري ضعيف الحجة في البداية، يسهل التهامه من قبل المتحمسين الجدد، محفزًا لفكرة مفادها أن دحض منطق «الآخر» ليس فقط ممكنًا، ولكنه مسلٍ للغاية أيضًا.

كأس عصير البارانويا

مع كل شخص يلتقي به بوميرانتسيف تزداد قناعته بأن وسائل التواصل الاجتماعي تعمل بكامل طاقتها عندما تصبح مجرد قاعة نحاسية لا يسمع فيها أحد سوى صدى صوت الموسيقى التي تعزفها نفس الفرقة. وأحد هؤلاء الذين استوعبوا تلك الحقيقة مبكرًا، ومنذ نوفمبر 2016 كان توم أوسبورن، المنتمي إلى الحزب الديموقراطي، وأحد أهم المتحدثين في فيلم «ما بعد الحقيقة» الوثائقي.

أوسبورن كان شاهدًا على استخدام الجمهوريين والمتعاطفين مع اليمين الجديد لوسائل التواصل الاجتماعي كأداة لتحطيم المنافسين واغتيالهم معنويًّا، خصوصًا في ولاية ألاباما التي شهدت أخيرًا صراعًا محتدمًا على مقعد مجلس الشيوخ بين الحزبين الأكبر في الانتخابات الاستثنائية عام 2017، إلا أن الأخبار الجديدة تمثلت في المزاحمة الشرسة التي أظهرها المرشح الديموقراطي دوج جونز في ولاية عرفت تاريخيًّا بأنها مرتع لصقور الجمهوريين لعقود طويلة، ممثلة في المرشح الجمهوري روي مور. والذي يحمل في جعبته كوكتيلًا من المواقف المتشددة فيما يتعلق بقوانين الهجرة، حيازة الأسلحة النارية، وتشجيع الإسلاموفوبيا، والتضييق على مجتمعات المثليين. إلى جانب أنه من أكبر المتحمسين لنظريات المؤامرة التي تتعلق بمحل ميلاد باراك أوباما، في القضية التي تتعلق بإثبات شهادة ميلاده في الولايات المتحدة.

في الوقت الذي استغرق فيه مناهضو مور وقتهم في توثيق تعدياته الجنسية على العديد من البنات اليافعات في سنوات سابقة، كان أوسبورن يعمل على مشروع أكثر طموحًا من خلال إشرافه على منصة إلكترونية تتقمص دور مجموعة يمينية متشددة تقيم دعاية مكثفة لانتخاب مور، مطالبةً إياه بتفعيل قانون منع الخمور الذي تم تطبيقه قبل قرن كامل، وذلك في سعي تلك المجموعة للحفاظ على «أخلاق الجنوب الأمريكي».

كان أوسبورن يعلم تمامًا أن إنتاج مئات الإعلانات على الفيسبوك المنادية بمنع الخمور كفيل بإثارة فزع قطاع كبير من الجمهوريين المعتدلين، والذين أفزعهم توجهات مجموعة أوسبورن «الوهمية» المتطرفة. لتصبح النتيجة فوزًا تاريخيًّا نادرًا لدوج جونز بفارق 22 ألف صوت فقط في الولاية.

وللتدليل على أهمية تلك الاستراتيجيات العدمية الجديدة أكد أوسبورن في حواره بالفيلم «ربما تكفلت حملتي في تغيير موقف ألفين من الجمهوريين المعتدلين، وهو رقم كافٍ تمامًا لقلب الأمور بانتخابات ذات منافسة شرسة في ولاية مثل ألاباما».

هذه الاستراتيجيات تلتقي مع نماذج عديدة التقى بها بوميرانتسيف. في مقدمتها نموذج السيد الثلاثيني الشاب «ب»، والذي أحدث مفاجآت عديدة في الانتخابات الرئاسية الفلبينية، كمدير لحملة الشعبوي المغمور آنذاك رودريجو دوتيرتي. والذي كانت فرصه في جذب انتباه الناخبين أقرب لحالتها الصفرية في مطلع عام 2019.

اليافع الذي بدأ مسيرته الرقمية في سن الخامسة عشرة بإنشاء منصة مجهولة تشجع المراهقين على مشاركة قصصهم العاطفية، تمكن قبل أن يتخرج من شد انتباه المراقبين لدوتيرتي قبيل الانتخابات، ليصبح المرشح الوحيد الذي ينتبه لحقيقة أن متابعي «ب» اقتربوا من ال15 مليون متابع بفضل منصته العاطفية.

من ناحية أخرى وجد «ب» ضالته في حملة دوتيرتي، من خلال تطبيق تجربة درسها في الجامعة تعود إلى عقد العشرينيات من القرن الماضي، باسم «ألبرت الصغير».

من خلال تلك التجربة، أدرك السيد «ب» مبكرًا أن فرصة دوتيرتي الوحيدة تكمن في موقفه العنيف تجاه تجار المخدرات، لذا سارع «ب» بتأسيس العديد من صفحات الفيسبوك المتابعة للأخبار المحلية في كل إقليم من أقاليم البلاد، مع الوضع في الاعتبار استخدام اللغة الدارجة لكل إقليم، والتي يوجد منها المئات في الفلبين. مع الالتزام بنشر خبر واحد عن جريمة ما في موعد موحد هو الذروة لدخول المستخدمين تلك الصفحات، مع التشديد على ربط تلك الجريمة دومًا بتجار المخدرات، مع مرور الوقت كانت تلك الصفحات تقوم بنشر ثلاث أخبار من ذلك النوع يوميًا.

ارتفع مؤشر قبول دوتيرتي انتخابيًّا إلى السماء في استطلاعات الرأي، إلا أن «ب» أدرك «متأخرًا هذه المرة «أن الحملة اعتمدت بشكل أساسي على إثارة الفزع كاستراتيجية بدلًا من القضايا الاقتصادية الملحة. ولكن كان الوقت قد فات، فقد فاز المرشح المغمور بمقعد الرئاسة، بل امتدت تلك الاستراتيجية من قبل دوتيرتي لاحقًا في حملات منتظمة للاغتيال المعنوي ضد منافسيه خلال السنوات الأربع الماضية، مستغلًا خدمات نماذج متحمسة من أمثال السيد «ب».

تلك الاستراتيجيات الناجعة بالنسبة لقادة الشعبوية الجديدة أضحت محل اختبار حقيقي في ظل أزمة الكورونا، وتحديدًا مع القلق المتزايد من دونالد ترامب. في سياق يتقاطع فيه هذا العام الانتخابي مع ملفات كفاءة النظام الصحي المحلي، معدلات البطالة، الفوارق الطبقية، وملف تعامل الشرطة مع الأقليات، وكلها ملفات تسببت لترامب في أزمة مباشرة، وعلى نحو غير متوقع مع منصته الاجتماعية المفضلة تويتر. من خلال الأسلوب الذي ذيلت به إدارة تويتر تغريدات الرئيس الأمريكي الأخيرة عن الوباء وأحداث العنف في مينيسوتا على خلفية مقتل جورج فلويد بالتشديد على «الاعتماد على الحقائق العلمية المؤكدة» في ذلك الشأن.

وهذا يعتبر اتهامًا مبطنًا لترامب بترويجه للأخبار الكاذبة نفسه، بل واتهمته بـ «الترويج لاستخدام العنف» ضد المتظاهرين في مينيسوتا. وهو ما أثار غضب الرئيس الأمريكي، كاشفًا عن خطة لتعديل قوانين عمل منصات التواصل الاجتماعي داخل الولايات المتحدة، في إطار ما أسماه «محاولة مقاومة عملية تكميم الأفواه للتيار المحافظ الأمريكي»، حتى لو كانت أصوات ذلك التيار تشغل مواقع عديدة مدفوعة الأجر في يوتيوب، وفيسبوك، وإنستجرام. ومنها بطبيعة الحال المنتمين إلى طائفة الكيو أنون الإليكترونية، والتي تُحشد على نحو موسع للنزول بثقلها في انتخابات نوفمبر 2020، وهي الفرصة النادرة التي يتمكن فيها مهاويس الماضي في نظر محترفي السياسة التقليدية من رسم خريطة المستقبل، ولو لمرة واحدة.

في عصر ما بعد الحقيقة يبدو أن أبرز الحقائق المريرة في الوقت الراهن هو ما عبر عنه السيد «ب» صراحة في حواره بكتاب لبوميرانتسيف «أنا أجد سعادة حقيقية لأن بمقدوري التحكم بالناس. ربما يبدو هذا أمرًا مكروهًا، ولكنه يرضي كبريائي. الأمر يجعل مني شبه إله في الفضاء الرقمي».