هوامش
خالد يوسفمحمد صلاح بين الهيفي ميتال والاسطوانات المشروخة
2018.05.01
محمد صلاح بين الهيفي ميتال والاسطوانات المشروخة
"ما الذي تتمنين حدوثه مع حلول العام الجديد؟
يوم القيامة! "
حوار تلفزيوني مع فتاة قاهرية حول تطلعاتها لعام ٢٠١٨
بين الحادية عشرة ومنتصف النهار، وفي المسافة بين تمثال محمد فريد ولاظوغلي بوسط المدينة تتجمع بضع ظواهر طبيعية كانت تبدو مستترة تحت غطاء غبار القاهرة المعتاد، إلا أنها في تلك الساعة تصبح جلية كتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني. ولكن هذا طقس يومي، بدلاً عن مرتين في العام، عندما يصبح الوجوم هو الراعي الرسمي للأجواء، مضافًا إليه بعض النثرات من عدم الاكتراث الذي يعطي انطباعًا أن جودو مر على كل محال ومقاهي المنطقة دون أن يلحظه أحد، أو حتى يشعر بأن هناك من كان بانتظاره من الأصل؛ عدم اكتراث يليق بالإخفاق الكامل في فهم أو استيعاب شلالات الارتباك المعلوماتي الخاص بقرارات الحياة اليومية العادية؛ سباحة مرهقة في بحار البروباجاندا والبروباجاندا المضادة، لم تعد الشكوى منها لها علاقة بضحالتها في الوقت الحالي، ولكن بأنها أصبحت ثقيلة الظل. فقدت عنصر التسلية الخاص بها.
تشكل هذه المنطقة من وسط المدينة الميكروكوزم لكل الألعاب الذهنية التي يقوم بها أهلها للوصول إلى خط نهاية اليوم، وكل يوم، حيث لا يبدو أنهم ينتمون لمكان من المفترض أنه يعيش أحداثًا من المفترض أن لها نصيبها من الاهتمام «العام». إلا أن السكان فضلوا اللجوء للنوم البلاسيبو، وهي اللعبة الذهنية التي يقوم بها عقل العاجزين عن النوم، ليقنع أجسادهم أنهم حصلوا على قسطهم الوافر من الراحة، في الوقت الذي لم تغفل فيهم عيونهم ولو ساعة واحدة.
ألعاب ذهنية تليق بركام المشاهير الذين يغزون شوارع العاصمة، يعلنون عن بضائعهم، والتي تكشف عن حالة نشوة دائمة يعيشها الزبون المصري التواق دومًا إلى أن يروي عطشه الدائم للقضاء على الملل، حسب ما تبلغه إحدى شركات الخدمات الهاتفية «الجديد فيه الأجدد منه»، أو شعارات «عيش اللحظة»، أو «التقل صنعة» أو «الانضمام للنخبة» أو انهمار رسائل الترويج العقاري على الهواتف المحمولة التي تنصح باقتناص الفرصة للحصول على فيلا في أحد التجمعات الجديدة، زبون في مجتمع رأسمالي تنافسي «طبيعي».
ليس من قبيل المصادفة أن تتجاور ألعاب نوم البلاسيبو الذهنية مع رسائل شركتين متنافستين للمحمول «عيش الدور» والثانية «اللي يمثل مصر في روسيا يقدر يمثل أي حاجة». تلك الرغبة المتواصلة في الانسلاخ عما أنت فيه، من الأفضل جدًا أن تصبح شخصًا آخر، هناك عقد ضمني بوجوب لعبك لدور لا علاقة له بك حتى يمكنك الحصول على الأفضل، ربما هي البطاقة الوحيدة للخلاص الشخصي، الخلاص من السير في دائرة مفرغة تتغير من خلفها الستارة القماشية المرسوم عليها المناظر الطبيعية والأحداث الكبرى في الخلفية، والتي يحركها أحد عمال المسرح، المجبرون على القيام بتلك العملية الروتينية الرتيبة.
في المسافة بين تمثال محمد فريد ولاظوغلي نفسها، كانت الطرقات والشوارع تغلي خلال 90 دقيقة؛ موجات من الاهتمام «العام»؛ تجمعات تلقائية، خلال تلك الفترة التي لعب فيها فريق ليفربول أمام مانشستر سيتي في ربع نهائي دوري الأبطال. كانت «العفوية» طاردة للوجوم؛ الأمر لا يتعلق فقط بمحمد صلاح، بل بالمكان الذي تشغله كرة القدم في تعريف المنطقة الرمادية بين الاكتراث واللا مبالاة؛ ما هو طبيعي وما هو عادي؛ التوحد الكامل والعزلة؛ الذاكرة الجماعية والإنكار؛ شيء أبعد من الفكرة الأولية الخاصة بالفوز والهزيمة، رغم أهمية سرديتها في علاقتها بالمجتمعات منذ مطلع القرن العشرين.
اكتراث وسط العاصفة
الفرحة العارمة التي عرفتها شوارع وسط المدينة في خضم مباراتي صلاح أمام مانشستر سيتي، ومن بعدها مباراة نصف النهائي أمام روما كان من الصعب تجاهلها، وتحديدًا في تلك المباراة الأخيرة، مع ملاحظة التزام الناس بالتجمع لمتابعة المباراة رغم عاصفة الأمطار التي أغرقت الضواحي الجديدة. الالتزام تضمن الانتظار لساعتين حتى عبر الراديو أو الهاتف رغم انقطاع الكهرباء،.إنه أمر يتعلق بتوقيت ظهور صلاح أكثر من مواهبه الخاصة أو موسمه فائق النجاح مع ليفربول.
ينفي توقيت بزوغ نجم صلاح هذه العلاقة الوهمية بين الرخاء والاستقرار، وبين نجومية الرياضيين أو تحديدًا لاعبي كرة القدم، أو ما ترغب بعض النخب في توصيفه بأنه تدهور في الذوق العام، نافيين أن يكون لشعبية الرياضيين تحديدًا أي دلالة على المزاج العام لمجتمع ما، أو حتى المساعدة في قراءة احتياجاته خلال فترة أو حقبة ما، بصرف النظر عن مدى أحقية ذلك الرياضي فنيًّا أو اجتماعيًّا. فلزمن طويل لم تعر النخب المصرية اهتمامًا كبيرًا أو جادًا لفكرة «الشعبية» على أي مستوى، بداية من السياسي وحتى الثقافي، على الرغم من أن ذلك يشغل جانبًا بالغ الإثارة للاهتمام، خصوصًا في الحالة المصرية مع محمد صلاح، والتي تعد مثالاً واضحًا للخيارات الرسمية في مقابل نظيرتها الشعبية في التعامل مع الاهتمام «العام»، والتي يتأكد تنافرها بشكل واضح يوميًّا.
مفارقة الكرة كظاهرة جماهيرية أنه في أثناء انغماس محبيها في أجوائها التنافسية الاستثنائية فإن أنبل ما تقدمه لهم هي أنها تشعرهم بأن حياتهم طبيعية باندماجهم. لذا فهي حاضرة دومًا في أوقات التقلبات والتغييرات الحادة على المستوى الاجتماعي أو الثقافي. لا يمكن أبدًا إغفال اختيارات كل فترة لأبطالها في عالم الكرة، والتي تستحق وقتها الكامل من التأمل. حركات البروفو والرفض السياسي الشبابي في هولندا وجدت ضالتها في يوهان كرويف (بكل تناقضاته الطبقية فيما بعد)، ثم الأيرلندي الجامح داخل وخارج الملعب جورجي بيست بالنسبة للبريطانيين، تمرد جينا فرانكو تسيجوني نجم فيرونا في وسط فوضى سبيعينيات إيطاليا، ومارادونا وسقراطس في فترة التخلي عن الحكم العسكري في الأرجنتين والبرازيل، وستويشكوف في بلغاريا بعد سقوط جدار برلين، وجورج ويا أو ديديه دروجبا في حقبتي الحرب الأهلية في ليبيريا أو كوت ديفوار على الترتيب، أو حتى متسابق الفورميلا وان البرازيلي إيرتون سينا في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، والذي تم وصفه في أكثر من مناسبة من قبل مواطنيه بأنه «أفضل شيء يمكن ذكره عن البرازيل».
الحياة الطبيعية
لا يمكن إغفال مشاعر الفخر أو النصر التي يجلبها صلاح إلى المزاج المصري الشعبي، على أن توقيتها هو العامل الأهم في جاذبيتها. صلاح يشعر المزاج المصري العام بأنه «طبيعي» أكثر منه منتصرًا أو متفوقًا. إنه مزاج يحب ويكره بعفوية، في ذلك الحوار الذي أجراه نجم ليفربول مع عمرو أديب لا يبدو صلاح شخصًا خارقاً أو استثنائيًّا، بل شخص «طبيعي»؛ لاعب يمتلك طموحًا مشروعًا للتفوق، لديه رغبة عارمة في كسر كل دوائر الفشل التي تحيط باللاعب المصري في تجاربه الاحترافية، قادر على تطوير نفسه، مستوعب لأهمية اندماجه مع محيطه الجديد، يبدو مستريحًا وسط شهرته، وحتى في مواجهة ضحالة الإعلام الرسمي واستفساراته السطحية حول فكرة «النجم» دون إدراك أن صلاح نفسه أشار في أكثر من مناسبة بالحوار إلى مدة عبثية منظومة كرة القدم المصرية، والتي «تعيش الدور» بدوري بلا جمهور، وإعلام يلتهم الكعكة الإعلانية، وصراعات داخلية تجعل من اسكتشات فرقة المونتي بايثون الكوميدية البريطانية تبدو وكأنها أعمال شكسبيرية.
الشعور بالحياة الطبيعية الذي يقدمه صلاح بإيقاع أسبوعي من وجهة نظر المصريين ليس مصادفة في مناخ تداهمه مشاعر تقترب من النزعة التهكمية الخالصة على المستوى الشعبي. تمامًا كما عبر سائق تاكسي شيخ أن العام الأخير جعله أشبه بقطاع الطرق، همه الأول هو الخروج بأكبر حصاد ممكن من زبائنه، خصوصًا وسط الظروف الاقتصادية الخانقة. بل إن واحدة من التيمات المتكررة في حديث جيل الكهول من الطبقة المتوسطة الدنيا أصبح قاتمًا في تهكميته، متمنيًا بلهجة ساخرة أن تحل كارثة طبيعية تقضي على جيلين أو ثلاثة من المجتمع المصري، لكي نبدأ «على نضافة».
ليست مصادفة أن إعلان صلاح الخاص بشركة الخدمات الهاتفية ربما يكون الإعلان الوحيد الذي تبرز فيه شخصية عامة مصرية وهي تشعر بالانسجام الكامل مع محيطها؛ ليست مضطرة أن تلعب دورًا من صنع الخيال. اللقطة الأولى التي يظهر فيها وهو شخص عادي يبدو سعيدًا بوجوده في مدينة فائقة الثراء على المستوى الاجتماعي والثقافي مثل ليفربول، يرتدي ملابس «مواطن» طبيعي، يشعر بالانتماء العاطفي والنفسي على أقل تقدير مع محيطه؛ هو لاعب في الصباح، وأب وزوج في المساء. كل شيء حول ابن بسيون يبدو طبيعيًّا، أما ما يبدو استثنائيًّا، وطارئًا، ومتشنجًا، ومتناقضًا هو السياق المصري نفسه.
هيفي ميتال مصري
المفارقة الحقيقية في توقيت سطوع نجم صلاح أن الأمر تطلب منه الحصول على حفنة من الجوائز المرموقة في إنجاز غير مسبوق بالنسبة للاعب مصري حتى يشعر معه المزاج الشعبي المصري بأنه، ككتلة جماعية، جزء من العالم، دون مشاعر تضخم وتكلسات الذات التي تداهم العقل المصري في أوقات الأزمات (تمامًا مثلما كان الحال في أزمة الجزائر 2009). ولعل مقال سايمون كوبر في موقع ESPNالخاص بأشهر شبكة أعلام رياضي في العالم يبرز المفارقة الأكبر التي يعيشها المز اج المصري العام، حيث وضع صلاح ضمن موجة تكتيكية كروية تكتسح المجال الأوروبي حاليًا، بمشاركة زميليه البرازيلي فيرمينيو، والسنغالي سيدو مانيه، وبتصميم مدربهم الألماني يورجن كلوب، في النسخة الأكثر نجاحًا أوروبيًّا لأسلوب الجيجين بريسنج الذي ينتهجه كلوب لقرابة العقد الكامل. وهو ما شبهه المدرب الألماني بأنه رغبة منه في أن يلعب فريقه كفريق لموسيقى الهيفي ميتال الصاخبة، العاصفة، بدلاً عن الأوركسترا السيمفوني الذي يلعب به فريق مثل أرسنال.
لا يمكن كذلك إغفال شعور الجمهور المصري بأنهم بطريقة وبأخرى جزء من عالم حولهم، حتى ولو مرة في الأسبوع (جزء من شعبية كرة القدم في مناطق أنها تضع جمهورها البسيط على الخريطة مرة في الأسبوع)، لتكتمل المفارقة الأكبر بالنسبة لظاهرة صلاح أن يأتي اندماجه مع العالم، إلى الحد الذي يصبح فيه تمثال ورقي مجسم له حاضرًا في معظم منازل جمهور ليفربول، في الوقت الذي اختار فيه الخطاب شبه الرسمي المصري العزلة كجواب شافٍ على كل مشكلاته. ولا بأس من معاداة كل مؤسسة قادمة «من العالم» لا تروق للمزاج الرسمي المصري، في شكل من أشكال البارانويا المقننة.
إذا كانت هناك رغبة صادقة في التعرف علي ظاهرة صلاح يجب التوقف بتأمل عند التوقيت، حيث يتم توزيع «اليقين الكامل حول لا شيء» في الخطاب المصري العام، في مناخ يجعل من خروج ظاهرة مثل صلاح أمرًا أشبه بالمعجزة، وهو الذي خرج من مصر عقب مجزرة بورسعيد بأسبوع، في وقت كان هناك جيل كامل من محبي صلاح الصغار (من مواليد ما بعد 2011) لا يعرف ما هو معنى الذهاب إلى ستاد القاهرة، أو مباريات يوم الجمعة التقليدية أو حضور المباريات في الملعب من الأصل. في مناخ يشعر معه رئيس لجنة الشباب والرياضة بالبرلمان بالبارانويا لحرمان النادي الذي يرأسه عمدًا من نهائي كأس مصر؛ مناخ لا يجد أي غضاضة في لوم الجن في تلقي هزيمة أو خسارة هناك.
اسطوانات مشروخة
المفارقة في ظاهرة صلاح هي التوقيت، هو الذي يبدو «طبيعيًّا» في مواجهة خطاب مصري عام يعيش أزمته الخاصة وضحالته الاستثنائية، ليتفرق دم صلاح بين قبائل خطاب رافض لتسميته «مو صلاح» كتصغير لاسم محمد، وخطاب آخر يعتبر تكريمه وتفوقه انتصارًا لعلمانية النظام البريطاني، دون أي شعور بالذنب تجاه الجهل المدقع لطبيعة النضال الذي خاضته الأقليات على المستوى الرياضي في بريطانيا حتى منتصف التسعينيات في حقيقة الأمر. أو ذلك التفسير الذي قدمه كاتب وخبير اقتصادي مصري أن أسلوب لعب صلاح هو تجسيد لأسلوب اللعب «الفلاحي المصري البسيط»، في مقابل أسلوب لعب ميسي الذي يمثل الثورة الصناعية باهتمامه الشديد بالتفاصيل! (يجب التذكير مجددًا بأن صاحب تلك النظرية هو خبير اقتصادي وكاتب).
يخبرنا توقيت ظهور صلاح عن أنفسنا في تلك اللحظة أكثر مما يخبرنا عن شخص طموح، اختار ألا ينظر إلى الوراء، وإلى حقيقة أن تم رفضه من قبل رئيس الزمالك، لأنه ليس بالكفاءة اللازمة للانضمام للنادي الأبيض. مفارقة التوقيت أن يصبح صلاح عازفًا في موسيقى هيفي ميتال، مسرحها أكبر من أن يتخيله أي مشجع مصري عانى الويلات خلال العقود الأخيرة، موسيقى هيفي ميتال وسط موجات صوتية بالغة الضحالة من الاسطوانات المشروخة، يصعب على الآذان المصرية أن تخطئها، وهو ما أسفر عن حالة استنفار جماعي شعبي إزاء أزمته الأخيرة مع اتحاد الكرة بخصوص حقوقه الإعلانية، والتي تم فيها استحضار الأسطوانات الممزوجة بالنبرة القومية نفسها، وأنغام الصالح العام، وأفضال الوطن. تضامن شعبي عفوي لحظي يضع مفارقة التوقيت للمرة العاشرة في موقع التأمل قبل الوصول إلى استنتاجات يقينية من النوع المصري الخالص.
مع الوصول لتلك الفقرة سيكون صلاح قد فاز بجائزة أخرى كلاعب العام في الدوري الإنجليزي، وثاني لاعب في تاريخ البطولة يحرز أكثر من ٣٠ هدفًا ويصنع أكثر من ١٠ تمريرات حاسمة خلال موسم واحد. إنها المفارقة الحقيقة في أن صلاح يجعل الجميع يشعرون بأن هناك «شيئًا ما يحدث» في الوقت الذي ينتظرون فيه بشكل لا شعوري أن يكون هذا الشيء شيئًا يقضي على عدة أجيال كاملة لكي نبدأ على «نضافة».