هوامش
خالد يوسفمصر وكأس العالم: ملاحظات حول ليلة الثامن من أكتوبر
2017.11.01
تصوير آخرون
مصر وكأس العالم: ملاحظات حول ليلة الثامن من أكتوبر
مليجي يشعر بالتيه أغلب أوقات النهار. يبدو هذا طبيعيًا من موقعه وسط الحديقة الجرداء التي تتوسط ميدان عمر بن الخطاب بمنطقة "السبع عمارات" بمصر الجديدة.
جالسًا القرفصاء بجوار مطرقته وأزميله كعشرات عمال التراحيل الذين يفترشون جنبات الميدان في انتظار لفتة من أية عربة نصف نقل، كل شيء يبدو ثقيلًا في المنطقة، تمامًاكاللون الرمادي الذي يكسو الأجواء، لون يدعو للحيرة تمامًا مثل ملامح الميدان: خليط فيلات مصر الجديدة في منتصف القرن العشرين الشبيهة بمنزل فيلم "عائلة زيزي" –الذي يمثل نموذج العالم الطوباوي في العقل الباطن للطبقة الوسطى المصرية– جنبًا إلى جنب مع قبح بنايات الثمانينات المتشحة جدرانها بكل غبار العقود الثلاثة الماضية، جنبًا إلى جنب مع مرور مختنق يصرخ من عشرات الحلول التجريبية التي جعلت من العاصمة حالة مستعصية–مرور يخترقه ترام يسير كحلزون عجوز في قلب غابة على حافة الانهيار العصبي– جنبًا إلى جنب مع مطاعم المطبخ الإسكندنافي وفواكه البحر على الطريقة الإيطالية ذات الطابع الكولونيالي الأصيل، بداية من معمارها وصولًا إلى زي الطهاة والنادلينوالزبائن أصحاب السيارات الألمانية الذين يبحثون عن مكان لركن سياراتهم بين الباحثين عن أتوبيس العودة للمطريةمن أمام جامع الحي الذي يبعد بضعة أمتار عن إحدى أبرز نقاط التحرش اللفظي نحو الفتيات، والذي يبعد بدوره بضعة أمتار أخرى عن محل "القاهرة للمبيعات"، أحد الرموز الباقية من معارض حقبة الانفتاح التجارية، نقطة الالتقاء بين الشكلين الكلاسيكيين لـ"البوتيك" و"الأجانس".
من أعلى يصبح الميدان نموذجًا مكبرًا للعبث، أو الترويض البطيء، حيث يدور المروَضون (بفتح الواو) حول مركز ما لإقناع النفس بأن هناك مسافة يتم قطعها وأنهمقد مشوا خطوة أقرب للهدف. بالنسبة لمليجي تصبح بروفة يوم القيامة هذه هي الروتين اليومي، مجرد مشارك آخر في حفلة الإيهام المقنع بأن كل شيء على ما يرام.
لكن التيه يصبح أخف وطأة بالنسبة لعامل تراحيل في منتصف العقد الخامس عندما يحل الغروب الذي يتزامن مع الموعد اليومي لبدء مباراة ما على شاشات "القاهرة للمبيعات"التي يقوم صاحب المحل بفتحها للمارة إعلانًا عن منتجاته.
يرتكن مليجي على سيارة من السيارات الفارهة القابعة أمام المحل، في يده زجاجة ماء وشطيرة فلافل، يمتلك بهما العالم مطلًاعلى الدوري الإنجليزي، محاولًا (ولو بالصدفة) اصطياد مباراة لمحمد صلاح نجم فريق ليفربول.هنا تتحول بروفة يوم القيامة التي تدور خلف ظهر مليجي إلى مجرد تفصيلة صغيرة، حيث يغوص بشكل تلقائي مع أهازيج الـ"كوب" في مدرجات آنفيلد.
في الظروف العاديةيكونمليجي هو الجمهور الوحيد أمام واجهات المحل الزجاجية العامرة بكل الملصقات المعبرة عن أسعار منتجات ليست في متناول قطاع كبير من المارة. وبينما هو يغوص في الفرجة، يتلاشى شعور مليجي بالتيه ويحل محله شعور بالوحدة.يقضي ليلته أمام الشاشات دون أن يشاطر تأثره مع كل هجمة لليفربول مع "جمهور ما"، فيما عدا بعض الدقائق البسيطة التي يتوقف فيها المارة كاشفين عن اهتمام بشيء يبدو مثيرًا على الشاشة.
إلا أن الوضع أصبح مختلفًا على نحو كلي في الثامن من أكتوبر2017. إذ وجد مليجي نفسه بين 300 من المتابعين افترشوا الأرض على نحو عفوي أمام المحل لمتابعة تأهل مصر لنهائيات كأس العالم أمام الكونغو. احتلال ضمني مسموح به للميدان، حالة "تجمهر" يعاقب عليها قانون الطواريء في أي نسخة له خلال العقود الثلاثة الماضية، تجمهر يضم مليجي ورفاقه العمال، جنبًا إلى جنب مع أصحاب الياقات البيضاء من الشباب الثلاثينيمن باعة "الكومباوندات" التابعين للشركات العقارية الجديدة المبعثرة في الشوارع الأنيقة المتاخمة للميدان، حالة فك حظر تجول مجتمعي على مستوى المساحات العامة وعلى مستوى المشاعر الفياضة، حالةسمحت بالصراخ والبكاء والشتم والمدح بشكل علني.
لا يعرف مليجي شيئًا عن الأفيون، ولا يعرف أن البعض يطلقون على ما حدث خلال الـ24 ساعة التي تلت مباراة الكونغو بأنها من آثار تعاطي الشعب كله لأفيون كرة القدم. إلا أنه رغم بساطته كعامل بناء متجول يدرك كبقية مشجعي الكرة أن الأمر أكثر تعقيدًا من هذا الوصف النخبوي لعالم كرة القدم؛أكثر تعقيدًا ربما منوصف الكاتبة البريطانية ميكيتا بروتمان في كتابها "نظريات رفيعة، ثقافات وضيعة"لكرة القدم بأنها "حالة الفوضى المثالية التي طالما رغب فيها الجمهور العادى، كرنفال شبه أسبوعي يمكن للجميع أن يصبح جزءًا منه دون تمييز، حيث المسموحات أكثر من قائمة الممنوعات".
قائمة المسموحات في الثامن من أكتوبر الماضي تضمنت أول تواجد جماهيري بميدان التحرير خلال السنوات الأربع الماضية، وهو ما يجعل من الصعود المصري إلى كأس العالم 2018 مدعاة للتأمل أكثر من الاستنكار النخبوي لتوغل الأفيون الكروي داخل الجسد المجتمعي المصري.
المفارقة الحقيقية في الحالة "المونديالية" المصرية أنها كانت مدعاة لإيقاظ من هم في وضع مليجي (على عكس الاستعارة الأفيونية) من حالة التيبس التي ضربت "المساحة العامة" المصرية، والتي تبدو كالفيل القابع في غرفة النوم ويتحاشى الجميع ملاحظته. الصعود لكأس العالم جاء في وقت أصبح فيه المصري العادى هدفًا أساسيًا لعملية بروباجاندا يومية بالغة البؤس تقابلها بروبراجندا مضادة لا تقل بؤسًا عنها؛عملية تجعل من حالة الإرهاق المجتمعي والحيرة الجمعية أكثر عمقاً،وسط تجاهل تام لتأثير كل أحداث العقد الحالي على الذاكرة الجمعية المصرية وحجم التشويه المنظم لها على مدار السنوات الأخيرة، لتبدو واقعة الصعود لكأس العالم كذاكرة يمكن للمصريين الاتفاق عليها.
في نهاية عام 2012 فازفريق الأهلي المصري بدوري أبطال أفريقيا بعد شهور قليلة من مذبحة استاد بورسعيد. وُصف هذا الانتصار بالمعجزة. لكن المعجزة أمر اعتادت كرة القدم على منحه لنا من وقت لآخر. فمثلًا فاز نادي الإنتر الإيطالي بالدوري المحلي بعد ثلاث سنوات فقط من فقد كل لاعبيه وجهازه الفني في الحرب العالمية الأولى.
هذهالوقائعتجعل من الاستعارة الأفيونية تبسيطًا شديد الضحالة، خاصة في مواجهة حقيقة أن نشاط الكرة أحيانًا كثيرة يلعب دور نوع من أنواع المقاومة، حتى لو كان هذا يتمثل فقط في لفتة البسيطة تشير إلى وجود حياة ما في تلك البقعة من الأرض. يمكن أن يقدم أعضاء منتخب السلفادور شهادتهم في ذلك الشأن.فأثناء ذهابهم للتدريب في مطلع الثمانينات في رحلة الصعود لكأس العالم 1982، كانوا يطالعون من نوافذ حافلتهم الجثث الملقاة على جانبي الطريق بعد كل اشتباك على هامش الحرب الأهلية.كذلك كان حال منتخب كوت ديفوار في منتصف العقد الماضي أثناء فترة صراع الحكومة المركزية والمتمردين، وحال اللاعبين في الصالات المغطاة في سراييفو منتصف التسعينات؛الصالات التي كانت تعمل كلمجأ أثناء غارات القوات الصربية مساءً، وكقاعات تدريب كرة قدم للأطفال صباحًا، رغبة من الأهالي في إشعار أطفالهمبأية ملامح لحياة طبيعية يومية،وربما تعبيرًا عن الوجود الجمعي في مواجهة العزلة، تمامًا كما هو حال دوري القبارصة الأتراك في مواجهة الأغلبية من القبارصة اليونانين، أو منتخب كوسوفو في مواجهة التهميش من منطقة البلقان بأكملها، أو ربما بهدف التواجد على الخريطة من أساسه كما هو الحال مع منتخب جزيرة سامواه الأمريكية (الذي تم وصفه بأسوأ منتخب في تاريخ اللعبة)، أو حتى في الأكليشهات المعتادة مثلما كان الحال مع فريق مدينة تم تهجيرها مثل الإسماعيلي الفائز بدوري أبطال أفريقيا في يناير 1970 في منتصف سنوات النكسة، أو منتخب مازال يبحث عن وطن كما في الحالة العراقية الفائزة بكأس أمم آسيا 2007، أو بعدها بـ10 سنوات في الحالة السورية الآن.
الصعود لكأس العالم في الحالة المصرية لا تتمثل رمزيته فقط في أنه تحقق لمرة الأولى منذ 28 عامًا، بل كذلك في كونه يأتي في ظل سياق عام يتجه لإغلاق الحياة العامة والتحكم فيها على نحو تام؛ سياق صنع ارتباطًا شرطيًا بين ثورة يناير وفكرتي الألم والفوضى، وبين كرة القدم وصورتي الكارثة والدم، سياق مجتمعي يتجاهل فعليًا أن هذا الصعود جاء في ظل حظر لوجود الجماهير في الملاعب للعام الخامس على التوالي، وهي مفارقة توازي حقيقة أن الفريق الذي تأهل مؤخرًا هو الأقل موهبة ربما في الـ20 عاماً الأخيرة.
يمكن تصور وقع غياب الجماهير عن ملاعب الكرة على المستوى المجتمعي إذا عرفنا أنه عقاب أكثر راديكالية من إلغاء النشاط عقب نكسة 67، عقاب يبدو تأثيره البطيء غير المباشر أكثر عنفًا مع مرور الوقت. ويمكن تصور وقع هذا العقاب إذا تم النظر لحالة الصراخ التي تظهرها الأصوات الأرجنتينية حاليًا من تأثير القرار الإداري بمنع حضور جمهور أي فريق زائر في أي مباراة من مباريات الدوري الأرجنتيني وقاية من أي أعمال شغب، وهو القرار الذي وصفه البعض بأنه جعل الملاعب الأرجنتينية أشبه بالمقابر ذات الصوت الواحد، وأنها محاولة كسولة لتفريغ أهم نشاط شعبي محلي من روحه بشكل غير مباشر.
مشهد تواجد مليجي مفترشًا الأرض بجانب بقية "طيارين الديليفري" وشباب الياقات البيضاء كان مبهرًا في ظل سياق غياب فكرة الحياة العامة في الواقع المصري على مدار السنوات الأخيرة. بتحويل الشوارع (ولو مؤقتًا) إلى مدرجات تشجيع تتدفق فيها مجموعة المشاعر التلقائية التي تسمح بهاكل ملاعب الكرة في العالم، تلك الملاعب التي تبلور شكلها ودورها خلال القرن العشرين، يظهر تناقضصارخ آخر مع التوصيف الأفيوني لكرة القدم.
في مناسبات عدة،كانت مدرجات الكرة ربما منصة التعبير الوحيدة لتيارات كاملة عانت النبذ من مختلف التيارات السياسية الرئيسية. فمثلًا شعارات الطبقة العاملة الأرجنتينية في أقصى حالاتها الراديكالية عرفت موقعًالها في مدرجات بوكا جونيورز منذ الخمسينات، واليمين الإيطالي المتطرف خرج من قوقعة الحصار في نهاية الستينات من خلال احتلال مدرجات نادي الملعب الأوليمبي في مباريات نادي لاتسيو، وفي المقابل وجد اليسار الراديكالي في ميلانو متنفسًا حقيقيًا في مدرجات سان سيرو منذ منتصف السبعينات مع مباريات ميلان، حتى روابط المشجعين المناصرة للاحتجاجات العمالية لعمال شركة فيات الراعية لنادي يوفنتوس أعلنت عن وجودها في نفس الفترة من خلال مدرجات ملعب ديلي آلبي في تورينو، وكذلكالتيار الانفصالي اليساري في كتالونيا المناهض لفرانكو كانت مواقع تجمعه الأولى في ملعب كامب نو أثناء مباريات فريق برشلونة، وحتى فيالأسابيع الماضية كانت المدرجات التركية مسرحًا لحالة جدل حادة من الأصوات الموالية للرئيس طيب أردوجان إزاء رفع جماهير جالاطه سراي لشعارات تنتمي للمعارض المحظور سياسيًا عبد الله جولن، وتحديداً شعار "إنهم عمالقة فقط أمامك لأن ظهرك محني، فانهض"،ونجد وضعًا شبيهًِافي الغضب العارم تجاه ألتراس جماهير لاتسيو اليمينية المتطرفة التي رفعت شعارات تصور آن فرانك، المراهقة ضحية محارق النازي في الأربعينات، وهي ترتدي قميص فريق روما المنافس اللدود في العاصمة الإيطالية، وهو تصرف يعد استمرارًا لتلميحات شبيهة طالما قذفها اليمين المتطرف في وجه جماهير روما، مثل الشعار الرهيب في عنصريته الذي رُفع عام 2000 "أوشفيتس هي وطنكم، المحارق هي منازلكم"، وهو التصعيد الذيدفع إدارة لاتسيو إلى الإعلان عن رحلات تثقيفية إلى معتقلات أوشفيتس للتعرف على التاريخ الكامل للمحارق، في سبيل مقاومتها للصوت اليمني الطاغي بين روابط مشجعيها.
هنا يبدو أن قرار المنع الذي يدعمه التيار السياسي الرئيسي المصري مبني على إدراك كامل من جانبه بأنه تاريخيًا كانت مدرجات ستاد القاهرة مسرحًا لأعلى صيحات الاحتجاج ضد سياسات الشرطة المصرية في منتصف العقد الماضي من خلال ألتراس كل من الأهلى والزمالك، وقد كسبت صيحات الاحتجاج تلك أرضًا جديدة في المدرجات، مهدت لأن يكون لروابط الألتراس أول دور مباشر في عملية التغيير السياسي في بلد ما منذ مساهمات روابط "نمور آركان" لفريق رد ستار بلجراد في الإطاحة بنظام الرئيس ميلوسفيتش في نهاية تسعينات القرن الماضي.
يدرك التيار السياسي الرئيسي في مصر حقيقة أن مجال كرة القدم طيلة العقود الأربعة الماضية كان المجال العام الوحيد الذي يعرف شكلًا ديموقراطيًا فعليًا، سواء على مستوى الممارسة أو المتابعة أو المحاسبة. فالكرة هي المجال الوحيد الذي كان مسموحًا فيه بالتجمهر خلال ثمانينات مبارك؛ هي الفرصة الوحيدة لوجود بطل شعبي جماهيري مثل محمود الجوهري؛ هي الدائرة الوحيدة التي تحظى فيهاالمطالب الشعبية باستجابة رئاسية، وذلك بإقالة مدرب وتعيين آخر كما حدث خلال التسعينات؛هي مجال عدم التفكير في المساس بأسعار التذاكر، ومجال انتقاد السلطات التنفيذية بشكل علني في وسائل الإعلام، والوسيلة الجيدة لإظهار الأقاليم تحديها لسطوة العاصمة، وللمحاسبة العلنية لممارسات إهدار المال العام في مجلس الشعب (كما تم مع الجوهري نفسه في خريف 1990)، إلى حد أن أصبح النادي الأهليهو الجهة الوحيدة القادرة على حشد الجماهير من خلال نداء في المجال العام المصري، عندماتمت المطالبة في أكثر من مناسبة بدعم فريق الكرة في مسيرته الأفريقية، وهي النداءات التي كان لها تأثير إيجابي في كل مرة.
في هذا السياق، لا يمكن تبسيط حالة انفجار الدموع عند مليجي وأمثاله من الجمهور المتجمع في الميدان على نحو عفوي عشوائي.ربما كانت تلك الدموع مجرد رد فعل على الانتصار أو على إحراز هدف الخلاص في الدقيقة الأخيرة، هذا بينما كانت وقائع السنوات السبع الماضية بالغة القتامة في العقل الباطن الجمعي في مصر، خاصة في ظل غياب وجود سرديات تفسر فواجع الحياة العامة في مصر خلال تلك الحقبة، وفي ظل اعتقاد قدري أنها ستذهب من تلقاء نفسها بمرور الوقت.
الكثيرون يتجاهلون التأثير غير المباشر على العقل الجمعي المصري لكارثتي بورسعيد والدفاع الجوي اللتين لم تتوفر رواية رسمية واحدة لتفسيرهما، واللتين انضمتابالتالي إلى سلسلة الأساطير عصية الفهم التي حدثت في السنوات السبع الماضية؛الأساطير والهزائم التي أصبح اللجوء إلى العفاريت والجن من أجل تفسيرها فعلًا منطقيًا، والتي أصبح إطلاق الاتهامات بصددها، كاتهام فريق ما بتناول المنشطات أو برشوة التحكيم،أمراً معتادًا، والتي أصبحت شيطنة شخصيات ذات شعبية جارفة، مثل أبو تريكة الذي استعدنا منه منتخب الفراعنة بعد أن كان منتخبًا للساجدين، فعلًا طبيعيًا.
كذلك لا يمكن فصل المشاعر المتداخلة إزاء حقيقة صعود المنتخب لكأس العالم عن المزاج العام الذي تم استخدامه في الحملات الإعلانية التسويقية المصاحبة للمسيرة. معظم تلك الحملات الإعلانية تصور مجتمعًا يشيخ دون تحقيق أي نجاحات، جسده عامر بالأمراض المزمنة، عقله في حالة شلل كلي، روحه معتلة من كثرة الصدمات، يعيش حالة خيبة أمل ونحس لن يتم فكه إلا بجرعة متعمدة من التشاؤم والامتناع عن التعبير عن الرغبات.الخوف من تكرار الفشل، لعب دور الضحية، النوستالجيا كمنزل الطفولة الآمن، العالم كان أفضل في 1990، الرغبة في تحقيق نصف حلم قبل تلاشي الجسد؛ تلك كانت هي الموتيفات الأساسيةللحملة، وهي موتيفات متسقة تمامًا مع مزاج عام يعيش أزمة يعجز حتى عن توصيفها.
أيضًالا يمكن عزل المشاعر المتفجرة بعد الصعود المصري عنحالات شبيهة في سياقات أخرى. فمثلًا المزاج الذي صاحب مباريات المنتخب الإسباني خلال القرن الحالي كان يتلخص في مقولة أن"قميص المنتخب الأحمر هو ربما فرصتنا الوحيدة للتجمع بالرغم من قومياتنا ولغاتنا المختلفة". الأقليم أم الوطن؟ الكاتالوني والأندلسي والباسكي والمدريدي كل منهم يحمل كأسًا من الجعة وجميعهم يلبسون قميصًا موحدًا. الأمر نفسه بالنسبة للأرجنتيني الذي تعصف به الأحلام والأمنيات للتحالف مع غريمه البرازيلي على أمل الوصول لكأس العالم، فيما تراوح الحملات الإنجليزية مكانها بين اللعب على وتر أمجاد الإمبراطورية القديمة، وبين المنتخب متعدد الأعراق والألوان.
وهكذا، لم تكن مصادفة أن يكون أول تعليق لمقدم البرامج سيف زاهر بعد ضمان التأهل المصري يتعلق بزيادة الكعكة الإعلانية للقنوات التلفزيونية والاقتصاديات المرتبطة بكرة القدم، خاصة في ظل ثقافة تقديم اللعبة كحوض لأسماك الزينة خلال سنوات الحظر الجماهيري. فالرغبة في إدخال الجمهور إلى خانة "الزبائن" مطلب رئيسي في أزمنة الأزمة، دون تقديم تعريف حقيقي لنوعية المنتج المراد تسويقه في الأصل، وهو الأمر الذي عبر عنه المدرب البرتغالي السابق للأهلي مؤخراً أنه يجد صعوبة بالغة في إكمال ربع ساعة من أي مباراة حالية في الدوري المصري.
الدوري المصري نفسه هو جزء من عملية إعطاء الانطباع بأن شيئاً ما يحدث في المجال العام في مصر، حتى لو كان قطاع لا بأس به من القيادات الشبابية لجماهير اللعبة قيد المحاكمة أو الحظر، ضمن محاولات الهروب من الإجابات على الأسئلة الكبرى فيما يتعلق بعلاقة "الجماهير" بالسلطة من خلال مدرجات الكرة، وهو الصدام المعلق حتى هذه اللحظة، والذي يعرف فقط هدنة مؤقتة خلال مباريات المنتخب.
لا يبدو أن هناك بوادر تغيير تلوح في المشهد الحالي، إلا أن لقطة وحيدة عرفها لقاء الكونغو هي مدعاة كبيرة للتأمل؛ لقطة تتعلق بوجود علاء وجمال مبارك في مدرجات الدرجة الثالثة برفقة الجمهور "العادي" ، وهي لقطة يصعب التعامل معها من منطق "المفارقة"، كون ذلك الثنائي هو صاحب آخر بروباجاندا بائسة لاستخراج مخزون الشوفينية المصرية في أزمة الجزائر 2009 . هل هيلقطة عزاء تظهر تغييرًا حقيقيًا حققته ثورة يناير 2011، حتى لو كان رمزياً؟ أم أنها علامة تصالح مع الماضي في إطار استعادة "طبيعية الأمور" في سياق غير مستقر؟ أم أنها إعادة إنتاج صورة تتعلق بمستقبل لا يعلم أحد بملامح تقلباته بعد؟ ولكن ندرة اللحظات الجماهيرية وعاطفية المشهد جعلتا منها اللقطة المثالية في سياق بلا عفوية في أغلب لحظاته، ما بين الشعارات سابقة التجهيز، والمكالمات التليفونية المعدة مسبقًا، والآراء المغلفة بسلوفان البروباجاندا، والمواقف المدعومة بالرعاة الرسميين.
أسوأ لحظات مليجي قبل مغادرته ميدان السبع عمارات هي لحظة فض المجلس بعد انتهاء كل مباراة؛ لحظة إنهاء الغرباء لاحتلالهم المؤقت للرصيف العام المقابل لشاشات محل القاهرة للمبيعات. إلا أن الأمل في تجمع جديد في الأسابيع المقبلة يحدو مليجي، فهو تمامًا مثل الترام المتهالك الذي يسير أمام عينيه محاولًا بشكل غير واقعي كسر خطوط السيارات المتكالبة من حوله: وجوده يبدو غير واقعي، ولكنه يزاحم من أجل البقاء في المشهد.
"قانون الطواريء لا يقصد الأبرياء والمواطنين، ولكنه بالدرجة الأولى يوجه للإرهابيين الذين كرهوا الحياة وحقدوا على الوطن وعلى أبنائه، فهؤلاء الذين يثيرون البلبلة والفتنة ليسوا منا، هذا الوطن لأبنائه ومن يريد وطنًا آخر فليذهب إلى حيث يشاء، مع السلامة"
على عبد العال رئيس مجلس النواب المصري معلقًا على قرار تمديد قانون الطواريء لثلاثة أشهر إضافية عقب حادث الواحات الإرهابي.