هوامش
دار المرايامصنع "جراجوس".. الإغلاق بقرار ثيوقراطي
2022.01.01
مصنع "جراجوس".. الإغلاق بقرار ثيوقراطي
أغلقت مؤخرًا، وبكل أسف، جمعية ومصنع جراجوس للخزف، ولهذا المصنع وهذه المدرسة قصة طويلة لا بد أن تروى، وإغلاقها أيضًا بالطريقة التي جرى بها، من إخلاء بالقوة وطرد للفنانين قصة أخرى، تتصل بحقوق الفنانين وحقوق الملكية في مصر، واستخدام عصا الطاعة الكنسية بدلاً من لغة الحوار التي تحتاج إلى صبر كبير، واللجوء لكل الوسائل والاستعانة بكل الأطراف، للوصول إلى تسوية تحافظ على تاريخ فني طويل، ويبدو أننا في مصر أمامنا الكثير لكي نفهم الديموقراطية وحقوق الإنسان، وبدلاً من أن تبذل الكنيسة جهودها في تربية الناس على الديموقراطية، تعاقبهم لأسباب ثيوقراطية سلطوية، فتعيد إنتاج آليات التخلف وديالكتيك العبودية!
منذ عام 1946 حتى عام 1967 صنع الآباء اليسوعيون من قرية جراجوس التي كانت، مثلها مثل آلاف القرى، مرتعًا للفقر وللجهل وللمرض، نموذجًا فريدًا في التنمية الروحية والإنسانية والاقتصادية، قلما نجده في قرى أخرى في مصر. فاستعان مؤسس هذا المشروع التنموي العظيم، الأب ستيفان دي مونجلوفييه، بأساطير الفكر والثقافة والمعمار في ذلك الحين؛ المهندس حسن فتحي للعمارة، وثروت عكاشة رائد الثقافة في مصر، وويصا واصف، وآخرين غيرهم من المتخصصين في فن الخزف من فرنسا وسويسرا.
أراد هؤلاء الرواد العظام، وصل الماضي بالحاضر، الحضارة الفرعونية والقبطية والإسلامية، مستندين إلى انتشار المنتجات المحلية من الفخار وأكثرها شهرة القلل القنائي التي غنى لها مطرب الشعب سيد درويش، واستلهم الفنانون الفرنسيون الأدوات الفنية الفرعونية، وأضافوا إليها أشكالاً وألوانًا ومناهج حديثة، وسلموا كل ذلك لمجموعة من الأطفال كبروا مع المشروع، ليبدعوا بأناملهم ما يتعارف عليه بالفن التلقائي، النابع من البيئة، بفضل خامة الطين الأسواني.
نشأت التجربة في حضن الروحانية القبطية المصرية التي تفاعل معها اليسوعيون الفرنسيون في ذلك الحين، إذ تعلموا اللغة العربية، والقبطية بالإضافة إلى ثقافتهم الراقية المستنيرة. فكان الجدل بين الروحانية وبين العمل، بين استكمال الطقوس القبطية، وتحديث وتنوير المسيحيين في هذه القرية مع عمل برامج ثقافية، سينمائية، مسرحية، تغطي كل أبناء القرية من مسلمين ومسيحيين. فبنوا مدرسة على طراز حسن فتحي، ومستوصفًا، ومصنعًا للفخار، وقبّطوا الكنيسة الصغيرة لتصبح معبرة عن شخصية هؤلاء المسيحيين، وحولوها من كنيسة لاتينية إلى كنيسة قبطية كاثوليكية. وإذا حسبنا الزمن الذي استمرت فيه هذه التجربة منذ 1967 تاريخ انسحاب اليسوعيين من جراجوس حتى اليوم 2021، سنجد أنه بعد 54 سنة من ترك اليسوعيين لجراجوس، بالإضافة للإحدى وعشرين سنة التي عاشوها، فإننا اليوم على بعد 74 عامًا من بداية هذه التجربة الروحانية الفريدة. ولم يكن مصنع الفخار مقدرًا له أن يستمر 54 سنة بعد رحيل اليسوعيين، جرت مياه كثيرة في النهر، وتحمل فيها الفنانون كل صنوف العداوة والاضطهاد والغيرة والمحاكم والسجون والضرائب والديون، وقد كنت شخصيًّا قلقًا على كيفية استمرار المصنع في تأدية دوره، بعد أن اكتسب سمعة دولية محلية وأصبح مزارًا ومكانًا جامعًا لكل الفنانين.
إلى أن قيض الله حدثًا مجحفًا لأحد مؤسسي المصنع من الجيل الثاني، الذي اضطرته إحدى الشكاوى الكيدية إلى الهروب للقاهرة، وهناك، وبما إنه عضو في نقابة الفنون التشكيلية، قوبل بترحاب من الفنانين، وحاول عرض الصعوبات التي يعاني منها المصنع في التسويق والإنتاج ومشكلته مع الضرائب، فلفت أنظار الغرفة التجارية التي تبنت مشروعًا لمدة سنة (كان ذلك في عام 2017) لتدريب 25 شابًا وشابة من جراجوس على صناعة الفخار، وحمدنا الله أن هؤلاء البسطاء استطاعوا أن يبدوا مرونة ففتحوا الباب على مصراعيه، للتعاون مع كبار الفنانين في الخزف من القاهرة إلا أن الكنيسة ممثلة في مطرانها، رفضت رفضًا تامًا مد يد العون لإنجاح التجربة، وأعلنت أنها لن تشارك في تجربة يصبح المصنع فيها لقمة سائغة للأغراب، واعتبرت الفنانين خارجين عن طاعة الكنيسة ولا مجال إلا مقاضاتهم، ورفعت عليهم قضية تتهمهم بتغيير معالم أحد الأفران التي كانت تعمل بالسولار ورأى الفنانون ضرورة استبداله بالغاز، وقضت المحكمة بإغلاق المصنع وطرد الفنانين، وبدلاً من اللجوء للحوار لحل المشكلات، فضلت المطرانية استخدام لغة القانون وقوات الأمن لإغلاق المنشأة، مع أن الفنانين كتبوا التماسات لمجلس الوزراء وكل الجهات الرسمية.
والحقيقة أن الصراع بين الفنانين والكنيسة، تحركه الرغبة في الاستحواذ على 74 سنة تاريخ وخبرة، شهدت محاكم وجوعًا وسجنًا وتهديدًا بالموت حسدًا وغيرة، بحجة حسن إدارتها، والضحية تجربة تنموية وروحية رائدة في الصعيد، ولن تتكرر.