هوامش
يحيى وجديمكاوي سعيد.. في وداع صاحب «وسط البلد»
2018.01.01
تصوير آخرون
مكاوي سعيد.. في وداع صاحب «وسط البلد»
لم يكن مستغربًا أن يُقيم صاحب مقهى زهرة البستان والعاملون في المقهى، عزاءً خاصًا لمكاوي سعيد (1956- 2017) غير العزاء الرسمي الذي استضافه مسجد عمر مكرم.
في عزاء «الزهرة» كما يسميها روادها اختصارًا، نُصب سرادق العزاء في الممر الواصل بين شارعي البستان السعيدي، وطلعت حرب، وهو الممر الذي صار منذ زمن طويل جزءًا لا يتجزأ من المقهى، بل صار هو المقهى نفسه. بينما جلس المقرئون يتلون أرباعًا من القرآن الكريم في محل استأجره الحاج «حمادة» منذ فترة. وبين جمهور المعزين و»النصبة» راح «صنايعية» المقهى يعدون ويقدمون أكواب القهوة، ويوزعون السجائر كعادة أهل القرى في العزاءات، ويتلقون العزاء في فقيدهم الذى قضى بين ظهرانيهم أكثر من ثلاثين عامًا. شهد بداياتهم في العمل منذ كان بعضهم أطفالاً، وربطته بهم صداقة عميقة وخاصة، فأنزلوه منزلة خاصة لا ينالها الكثيرون من الرواد، وأحسن هو إليهم بما لم يفعل أحد آخر ربما. تحمل صاحب المقهى تكاليف العزاء كاملة، واتفق مع المقرئين وترك الساحة للمثقفين والكُتاب ليقولوا في وداع مكاوي سعيد كلمات الرثاء، ويستذكرون مع الجالسين المواقف والسجايا.
كان هذا العزاء الثاني، عزاء لم يُقم من قبل على مقهى (مرة واحدة في وداع الكاتب النوبي إبراهيم فهمي منتصف التسعينيات، ولم تكن له أسرة بالقاهرة، واكتشف نادل «زهرة البستان» وفاته مصادفة، ولكن تلك قصة أخرى) لواحد هو بالأساس «صاحب المكان» بتعبير الشاعر عبد المنعم رمضان. فعندما قادتنا أقدامنا أنا وأبناء جيلي، من الجامعة إلى وسط البلد في منتصف ونهاية التسعينيات بصحبة زملاءنا الأكبر سنًا والأكثر خبرة، كان مكاوي سعيد هناك.. أقول هناك لأنه كان في «كل» وسط البلد. وسط البلد التي قسمتها مبانيها المَلَكية الضخمة شديدة الاتساع والفخامة، إلى أكثر من مكان في مكان واحد! وأعطت لكل مجموعة من الرواد مساحتها الخاصة، لتظن مجموعة أن قلب المدينة لها وحدها، فلا تكاد ترى المجموعات الأخرى وإن تجاورت معها كل ليلة في مكان للسهر، أو في صباحات العمل داخل العمارة الواحدة بطوابقها المتعددة، وشققها الفسيحة التي تفصل بينها ممرات شديدة الاتساع، حتى إن بعضها تحول إلى ما يشبه الأسواق الصغيرة لبيع الملابس الجاهزة!
غير أن مكاوي سعيد وبإخلاصه الذي لا يبارى لوسط البلد، وبعين الروائي اللاقطة كان يجمع كل تلك القطع المتناثرة من المكان، ويربط بينها وبين بعضها بحرفية شديدة، في حكاياته الشفاهية وفي أعماله الأدبية بالطبع، من خلال الأشخاص والتواريخ المشتركة والمساحات الميتة داخل المكان نفسه، وبينما كانت الأغلبية من من مجتمع الفنانين والمثقفين، يمرون بوسط البلد وإن أقاموا، يجلسون في مقاهيها وباراتها، ويعيشون في بنسيوناتها في مقتبل حياتهم، وحتى ممن عملوا أو امتلكوا مكاتب في المنطقة، لكن لهم حيوات أخرى في أماكن مختلفة، كان مكاوي سعيد مقيمًا دائمًا، فقد اصطنع لنفسه في السنوات الأخيرة نظامًا يوميًّا صارمًا لا يكسره إلا السفر، نظامًا كانت وسط البلد فيه عنصرًا أساسيًّا، إذ كان يصل إلى وسط البلد من جاردن سيتي حيث يُقيم، سيرًا على الأقدام في الأغلب، من شارع قصر العيني إلى ميدان التحرير، وصولاً إلى شارع طلعت حرب وقبل الميدان ينعطف إلى الممر الذي يتقدمه مطعم «ريش»، يتناول الإفطار على مقهى زهرة البستان، بصحبة من يختارهم، ويجلس في شمس الظهيرة على المقهي يطالع الصحف ويقابل من يقابل، ويدخر في «حصالة»عقله المزيد من اللقطات من المكان والبشر وسط حركتهم الدائبة، ثم يعود إلى منزله قبيل العصر، يتناول الغداء إذا لم يكن قد فعل في وسط البلد، وينام قليلاً، ويعاود «النزول» إلى وسط البلد مرة أخرى إلى المقهى ليجلس مع أصدقاء الليل، قبل أن يتحرك إلى «أتيليه القاهرة» بشارع كريم الدولة أو إلى مكان آخر غير المقهى يناسب وقت السهر، ثم يعود ليكتب، مُدونًا ما رآه وما سمعه وما اكتشفه بنفسه.
في حياة أجيال الكتاب والفنانين والمثقفين والصحفيين والسياسيين، منذ فترة الستينيات وحتى الآن، كانت وسط البلد محطة مهمة وأساسية. كانت مدخلاً لأبناء الأقاليم والمحافظات من الشمال والجنوب إلى القاهرة، على مقاهيها التقوا بمن سبقوهم وصاروا أكثر دراية وخبرة بالمدينة، وفي باراتها ومقرات المؤسسات التي تحيطها تعرفوا إلى الأساتذة المكرسين وعرضوا إنتاجهم الأدبي، بل وأقاموا في شققها وبنسيوناتها لسنوات ليست قليلة، كلٌ وقدرته المادية.
ووسط البلد، هي تلك المثلث غير المنتظم داخل المنطقة المعروفة بالقاهرة الخديوية؛ نسبة إلى مؤسسها وصاحب خطط بناءها الخديو إسماعيل حفيد محمد علي، الذي سار في طريق معاكسة لطريق جده، طريق خطها لنفسه وبنفسه، فبدلا من سلفه الذي صعد إلى القلعة في الجبل قادمًا من حي الحلمية، نائيًا بنفسه وبجنده عن الخلق وزعمائهم الذين أجلسوه على عرش البلاد، نزل الخديو الشاب من القلعة إلى قلب المدينة الكبيرة عبر شارع «محمد علي» ليبني قصرًا له في عابدين، داعيًا الأجانب والموسرين إلى الاقتراب منه وبناء منازلهم وقصورهم حوله. جفف المستنقعات والبرك التي كونها نهر النيل، فكان ميدان التحرير كما نعرفه الآن، وبين الساحة التي يطل عليها قصره والميدان، راحت الميادين الصغيرة تتكون وتنتظم بينها الشوارع وعلى جانبيها عمارات إمبراطورية مثل التي رآها الخديو الحاكم في باريس، بنيت بأيدي الأجانب المتمصرين وزعماء الجاليات والمصريين أصحاب الثروة والنفوذ، فكانت وسط البلد، بمقاهيها وباراتها وطبيعتها الكوزموبوليتانية التي لا يماثلها مكان آخر في العاصمة إلا قليلاً في حي مصر الجديدة وجزيرة الزمالك.
من الطبيعي أن تجتذب منطقة كهذه قبائل المتمردين من أرياف مصر ومن هوامش مدنها ومن المدن نفسها، فكان أبناء جيل الستينيات بأحلامهم الكبيرة يشعرون وكأن ثورة يوليو قد سلمت المكان لهم، بعد أن انتزعته من أيادي الباشوات و«الخواجات» التي تقاسموا الحكم والثروة مع أبناء وأحفاد محمد علي، وراحوا يكتبون وينشرون ويلتهمون الحياة التهامًا في وسط البلد، إلى جوار نجيب محفوظ في ندوته، وفي جلساتهم الخاصة وبين أرجاء العمارات الخديوية، حيث مقرات الصحف والمجلات ودور النشر والمكتبات، وعلى الرغم من مشاعر الانتصار على المكان وأصحابه الأصليين، لم يرتبطوا معه بعاطفة قوية استطاعت أن تزحزح مكانة قراهم وأماكن ولادتهم لصالحه، أو تجعله (أي وسط البلد) موضوعًا للكتابة، كانت هناك غُصة ما، تجعل وسط البلد بالنسبة إليهم عنوانًا لمدينة «بلا قلب».
هل هي الهزيمة الهائلة التي أطاحت بكل الأحلام وارتبطت بحياتهم الجديد؟ أم أنها القبضة الأمنية وعينها، والمخبرون الذين يطاردونهم في المقاهي والبارات، ويراقبون حتى الأنفاس في مواقع العمل؟ ربما!
على العكس من هذا، دخل جيل السبعينيات القاهرة الخديوية فاتحين، حينما احتلوا ميدان التحرير بشعاراتهم وهتافاتهم الغاضبة، قبل أن يقتفوا أثر من سبقوهم في المكان، متخففين من الشعارات الكبيرة، يتعاملون مع المكان كمكان فقط، ومن بعدهم جيلي الثمانينات والتسعينيات، فالمكان ليس أكثر من مكان، مختلف وله مقوماته الخاصة، نعم، لكنه ليس عنوانًا لمرحلة، فلا مرحلة أصلاً في تلك السنوات!
أما الاكتشاف الثاني لوسط البلد، فكان على يد الشباب الذين عرفوا وسط البلد في بداية الألفية الجديدة، كانت قد تهالكت، واكتفت قبائلها المختلفة بمواقعها، المثقفون في مقاهيهم وباراتهم التي غُلقت أبواب بعضها، والسياسيون في مقرات أحزابهم لا يبرحونها، وأصحاب المحال والتجار وموظفو البنوك والشركات الكثيرة، أصحاب النهار في المنطقة، لا يشغلهم كثيرًا أبناء الليالي و«السهيرة» وإن تقابلا.
اكتشف أبناء الزمن المختلف تلك المساحات «الحرة» التي حررها من سبقوهم، وفطنوا إلى الإمكانات الكثيرة للشوارع والممرات، وداخل المقاهي الصغيرة، فامتدت كراسيها بفعل الزبائن الجدد والكُثر إلى الأرصفة، اضطرب نظام المكان وانتعش في نفس الوقت، فغيرت محلات كثيرة نشاطها، ونفض بعضها الغبار عن الأبواب المُغلقة ليتحول إلى مقهى أو مطعم أو مكتبة، حتى مقرات الأحزاب فوجئت بهؤلاء الرواد الجدد، فحاولت استيعاب نشاطهم أو حماية نفسها منهم!
بين هؤلاء جميعًا، على اختلاف أزمانهم، كان مكاوي سعيد جالسًا على المقهى مثل صياد يقتنص من وهناك. أذكر أنني قابلته المرة الأولى في دار «ميريت» بشارع قصر النيل، حيث كانت دار النشر الشابة في رؤيتها وإصداراتها نهاية التسعينيات وبداية الألفية، ملتقى جامعًا لأشخاص من عدة أجيال، كان جالسًا وسط الجميع ولا يتحدث تقريبًا، وكان يستعد لإصدار طبعة ثانية من عمله الجميل «فئران السفينة»، أو ربما مجموعته القصصية «راكبة المقعد الخلفي»، لا أذكر على وجه التحديد. كان مكاوي سعيد كاتبًا مختلفًا بشكل كبير عمن يجلس بينهم، فلا هو ارتبط بهم من خلال علاقة سياسية في تنظيم أو حزب أو ما شابه، ولم يكن مجايلاً لأغلبهم. فقد كان مكاوي سعيد تسعينيا بحكم الوقت الذي نشر فيه أعماله الأدبية، ولم يكن من جيل التسعينيات، وكان ثمانينيا بحساب الزمن الذي بدأ فيه الكتابة، ونشر فيه نشرًا محدودًا ولم يكن بين جيل الثمانينيات، له علاقات وثيقة بالصحفيين وليس صحفيًّا، حتى السينما التي كان يعد نفسه واحدًا من العاملين بها، فقد كتب سيناريوهين لأفلام وثائقية وروائية، لكن أحدًا لم يحسبه عليهم، كان الجميع يتعاملون معه باعتباره صاحب مفاتيح وسط البلد، وحامل أسرارها، ما كشفه في عمله الروائي «تغريدة البجعة» عام 2007 التي حملته بعد وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية ليجلس وسط الكتاب المكرسين رسميًّا، وينال بعدها جائزة الدولة التشجيعية.
في «تغريدة البجعة» حضرت وسط البلد، ليست وسطًا غذائي تنمو في الشخصيات والأبطال والأحداث، بل بطل مواز للشخصيات في الرواية، ليعيد مكاوي سعيد تقديم المكان بكل تناقضاته التي أشرنا إليها، من خلال «مارشا» والفنان التشكيلي «عصام» وغيرهما من الشخصيات التقليدية التي توجد في مكان كوسط البلد، لكن الأهم هو «كريم» طفل الشوارع المتشرد الذي لا يمتلك مكان أصلاً، لكنه نجح في أن يغزو مع أقرانه وسط البلد، وأن يتركوا علامتهم قوية مؤثرة ومخيفة في ذلك المشهد البديع، الممتلئ بالدلالات، حينما طارده وزملاؤه من أطفال الشوارع، صاحب معرض شهير للسيارات في شارع هدى شعراوي، قبل أن يعود التاجر الثري ليستجدي المثقفين ليتدخلوا بينه على كل نفوذه، وبين المشردين الأطفال ليقبلوا بالجلوس مع صاحب معرض السيارات في «جلسة صلح»..
يكتب مكاوي سعيد: «عندما كان صاحب معرض السيارات الضخم بشارع هدى شعراوي، يطارد مع عماله كريم وأصحابه بوحشية لمجرد أنهم ينامون صيفًا أمام باب معرضه، ويجدهم متراصين أمام الباب وهو يفتحه في الصباح، كان كريم يهرب فقط من المطاردة ويبتعد. يسمع السباب واللعنات ويجري. ويتجنب المشي في شارع هدى شعراوي نهارًا. يمر علينا بالمقهى بحذر ويظل يتلفت يمينًا ويسارًا، وعندما تفاقمت المشكلة ونجح الرجل في الإمساك به، ثم ضربه هو وعماله بخراطيم المياه وأسلاك الكهرباء بقسوة على جسده، وأوهموه بأنهم «سيكهربونه وينفخونه» بكى كريم ثم انسحب منكس الرأس ناظرًا إلى الأرض بعد أن أطلقوا سراحه.. توقعت أن يحرق كريم وأصحابه المعرض ليلاً أو يفتحوه ويخربوا سياراته وأثاثه. ولم يحدث شيء من هذا بالمرة. لكن أنا وعصام بصفتنا من الوجوه المألوفة بالمقهى ويكن لنا الجيران من أصحاب المحال احترامًا، دعينا إلى حضور جلسة «صلح عرب» في المعرض بين كريم وشلته وبين صاحب المعرض. ذهبنا بدافع الفضول ولدهشتنا كان الرجل قد كميات كبيرة من علب دجاج كنتاكي وبعض المشويات وجلس قلقًا ينتظر كريم وأصحابه، عندما هل كريم على مدخل المعرض انفرجت أسارير صاحب المعرض وانطلق تجاهم. قبل كريم على وجنتيه واحتضنهه بألفة ثم شد على الأيادي المتقشفة لأصحابه، ووزع عليهم وجبات الدجاج بنفسه كما قدم إليهم مجموعة كبيرة من عصائر الفواكه المختلفة.. قرأنا الفاتحة وهنأناهم على الصلح، ثم سلمنا عليهم، وانصرفت أنا وعصام وصاحب المقهى ومجموعة من رواده كانوا قد حضروا الصلح. خرجنا من المصالحة كما دخلنا دون أن نفهم شيئًا محددًا، وإن كنت قد قلت لعصام بأن كريم قد فعل شيئًا رهيبًا جعل هذا الرجل المتباهي بسياراته وبدله المختلفة كل يوم يرضخ وينصاع لمصالحته. سألني عصام: تفتكر كريم عمل فيه إيه؟ قلت وأنا أجهد ذهني: بيتهيألي جاب جاز ودلقه من تحت عقب باب معرض السيارات من غير ما يولع، وعشان كده خاف منه صاحب المعرض لحسن كريم يتهور ويحرق المعرض كله. ضحك عصام وقال لي: بيتهيألي كريم هدده إنهه يخطف حد من عياله.
المدهش أنني وعصام كنا بعيدين تمامًا عما فعله كريم، ونستطيع أن نقول الآن إنه لم يفعل شيئًا. فقط بدأ كريم وعصابته يأكلون كثيرًا طوال اليوم، بعد أن أظلمت الدنيا تمامًا بالشارع، جلسوا القرفصاء متراصين في صفوف باتساع واجهة المعرض، أمام بابه تحديدًا، وكأنهم جانب واحد من طريق الكباش.. عشرون نفسًا بشرية يتبرزون في توقيت واحد تبرزا غليظًا جاهدين أن يجعلوه أشكالاً هرمية وكروية ثم غادروا المكان. فعلوا ذلك لليلتين فقط. استسلم بعدها صاحب المكان ورفع الراية البيضاء».
المقطع السابق هو ابن كاتب كبير، سارد مدهش وروائي يمتلك أدواته وعين لا تتوافر لغيره، استفاد فيه من المكان (وسط البلد) وأساطيرها الشفاهية، وإن كانت تبدو خلفية مكانية لها ما لأبطال وشخصيات العمل.
في كتابه التالي الصادر في عام 2010 «مقتنيات وسط البلد.. وجوه وحكايات من وسط القاهرة»، وهو كتاب عصي على التصنيف، ففيه من الأدبي ومن التخييل أكثر من التسجيلي، وفيه من التسجيل ما يطغى على المُتخيل، لكن مكاوي سعيد في هذا الكتاب كان قد قرر أن يعطي لوسط البلد حقها كمكان اكتشف فيه أبطال أعماله الأدبية، وأن يخلدها كمكان و«لعنة» وأن يسجل تللك العلاقة الجدلية بين الأشخاص وبينها، فهم وإن توهموا أن لهم آثارًا عليها، كانت هي المؤثر فيهم، مثل دراما يونانية ممتدة بين البشر والمكان.
عبر ما يزيد عن 40 شخصية، رسم مكاوي سعيد بروفايلات شديدة العذوبة الأدبية لشخصيات مرت بالمكان وعاشت فيه. ومن خلالها ترتسم خريطة بشرية، زمنية ومكانية للقاهرة الخديوية، وللحق فلأول وهلة أمسكت فيها بالكتاب وقلبت صفحاته بسرعة، لم أسترح كثيرًا للعنوان. قلت لنفسي: «البشر ليسوا مقتنيات، مهما كانت غرابتهم!»، غير أن القراءة المتمهلة، قالت ما أراد مكاوي أن يقوله في الكتاب على وجه التحديد، فالمقتني هنا هي وسط البلد، والمقتنيات على غرابتها جواهر ثمينة ونادرة وإن كانوا بشرًا. ينقسم الكتاب إلى جزئين، الأول خاص بالبورتريهات الشخصية وأسماه مكاوي سعيد «كتاب البشر»، والثاني عنونه بـ»كتاب المكان» وفيه نقرأ عن شوارع وسط البلد والميادين والأسواق والمقاهي والمطاعم والبارات والفنادق والأماكن الثقافية، في «ويكيبديا» لوسط البلد أكثر صدقة ودقة من «الويكيبديا» التي نعرفها على الإنترنت، ورغم عنوان هذا الجزء، كان المكان مرة أخرى من خلال ناسه؛ رواده وأصحابه وصانعيه.
بوفاته، فقدت وسط البلد واحدًا من أعذب مؤرخيها. رحل مكاوي سعيد مخلفًا فراغًا كبيرًا في جسد ملكيته.. هنا في شوارع قلب المدينة ومقاهيها وباراتها وأماكنها الثقافية والفنية، التي امتلكها بالحب والإخلاص الأبدي، وإن غاب عنها.