عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

مراجعات

زكريا صادق الرفاعي

مكيافيلى... الإسلام... والشرق

2025.11.23

تصوير آخرون

مكيافيلى... الإسلام... والشرق

 

عُرف مكيافيلي (1469–1527)، رغم تنوّع أعماله، بكتابه الشهير الأمير وهو أصغر مؤلفاته حجمًا، وقد أتمّه قبيل وفاته في منفاه بعد أن طُرد من وظيفته، فعاش في فقرٍ وعُسر شديدين رغم أصوله الأرستقراطية ومكانته الفكرية. ولم يُطبع الأمير إلا بعد مرور خمس سنوات على وفاته، وظلّ الكتاب منذ صدوره مثارًا للجدل ومجالًا مفتوحًا للتأويل، إذ حَرّم البابا بول الرابع (1476–1559) جميع مؤلفات مكيافيلي، بل ذهب بعضهم إلى وصف الكتاب بأنه «من صياغة الشيطان». في المقابل، اختزل آخرون فلسفة مكيافيلي في المقولة الرائجة «الغاية تبرر الوسيلة»، بينما رأى فريق ثالث أن الهدف الرئيس من الكتاب هو كشف منظومة الاستبداد السياسي والتحذير منها.

وما نعرضه هنا هو خلاصة ورشة العمل التي دعت إليها جامعة بيزا الإيطالية، وضمّت مجموعة من الأوراق البحثية بمناسبة مرور خمسة قرون على صدور الأمير وقد نُشرت هذه الدراسات في كتاب صادر عن دار بلجريف عام 2018، وجاء الكتاب في قسمين تضمّن الأول منهما فصولًا متنوعة فعَرَض الفصل الأول لفكرة «إعادة توجيه مكيافيلي» والبحث عن مصادر وأصول فكره، وسعى الفصل الثاني إلى تلمّس الجذور الإسلامية لفكر مكيافيلي، وناقش الفصل الثالث فكرة الحرب لديه، خاصة تهديدات الدولة العثمانية لأوروبا آنذاك، وتناول الفصل الرابع استلهام مكيافيلي لتراث التاريخ اليوناني والروماني وتوظيفه فى كتاباته، وتتبع الفصل الخامس مدى فهم مكيافيلي لصورة النبي صلى الله عليه وسلم في مصادر القرون الوسطى الأوروبية، واعتنى الفصل السادس بكيفية انتقال نصوص مكيافيلي إلى بلاط الدولة المغولية، ورصد الفصل السابع انتشار فكره خارج السياق الأوروبى كالهند والبرازيل، وقارن الفصل الثامن بين نصوص مكيافيلي وما سُمّي بالمكيافيلية العثمانية، وقدم الفصل التاسع عرضًا للترجمة التركية لكتاب الأمير، بينما اختُصّ الفصل العاشر والأخير بفحص الترجمة العربية في مصر وصداها.

الجذور الإسلامية لفكر مكيافيلي وكتاب «سرّ الأسرار»

اعتمد الباحث لوشو بياسوري في الفصل المخصص لدراسته على فرضية رئيسة مفادها التحقق من مدى تأثّر مكيافيلي بالفكر السياسي الإسلامي، ولا سيما ما يُعرف بـ«الآداب السلطانية» أو «كتب مرايا الملوك». ويُقصد بهذه المؤلفات تلك الكتابات السياسية التي رافقت التحوّل المؤسسي العميق في التجربة السياسية الإسلامية حين انتقلت الخلافة إلى مُلك، وقد استندت تلك الآداب إلى مبدأ إسداء النصح إلى ولاة الأمر لإدارة شؤون الحكم برشادة، من خلال اتباع مجموعة من النصائح الأخلاقية والقواعد السلوكية.

ويرى بعض الباحثين أن نسبةً كبيرة من تلك الأدبيات منحولة عن التراث الفارسي، وأن ابن المقفع –الفارسي الأصل– كان أوّل من صاغ هذا اللون من الكتابة، كما أفادت هذه الآداب من التراث الإغريقي، مع اعتمادها المرجعية الإسلامية أساسًا لها، وعلى الصعيد المنهجي غلب عليها الطابع البرجماتى، فغدت نتاج فكر سياسي عملي اعتمد على التجربة أكثر من التنظير وتُعد دراسة عزّ الدين العلام (2006) من أبرز الدراسات في هذا الموضوع.

وقد سعى بياسوري إلى جمع الشواهد الدالة على تأثّر مكيافيلي بكتاب سرّ الأسرار الذي ترجمه يوحنا بن البطريق، وهو مجموعة من النصائح المنسوبة إلى أرسطو لتلميذه الإسكندر الأكبر، وقد انتشر هذا الكتاب في أوروبا منذ ترجمته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، ثم تُرجم إلى الإيطالية والفرنسية والإنجليزية، وتكررت طبعاته خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولا يخفى أن المدن الإيطالية كانت جسرًا للتواصل بين الحضارة الإسلامية وأوروبا في مطلع العصور الحديثة، فكما وصلت إلى أوروبا أعمال ابن الهيثم وابن سينا وابن رشد والفارابي، عُرفت أيضًا مؤلفات الآداب السلطانية.

كما قارن بياسوري بين بنية النصوص في المواضع المتقاربة من الكتابين، مستعينًا بدراسات أخرى تبنّت الفرضية نفسها، مثل أعمال رينيه بوخوم، وأنطوني بلاك، وليندا درالنج. ودون الخوض في كثير من التفاصيل، فإن القضية تظلّ في نهاية المطاف نسبية وقابلة للتأويل، وتجسيدًا لصفحة من التثاقف بين الشرق والغرب.

ترجمة مكيافيلي في عهد محمد علي

تناولت الباحثة إليزابيتا بنجيني مخطوطة الترجمة العربية لكتاب الأمير المحفوظة بدار الكتب المصرية، واستهلّت بحثها بذكر رواية أوردها القنصل النمساوي في القاهرة ضمن رسائله المنشورة عام 1833، تضمنت حوارًا مع محمد علي باشا حول ترجمة الكتاب، إذ قال الباشا: إن الإيطاليين يمجّدون مكيافيلي كثيرًا، أما أنا فأفضّل كتابًا آخر، وهو تاريخ ابن خلدون، وبصرف النظر عن دقة الرواية، فإنها تشير إلى أن مكيافيلي كان معروفًا خارج أوروبا، وأن مقارنته بابن خلدون كانت واردة في الفضاء العثماني.

ورأت الباحثة أن الترجمة العربية لم تحظَ بتحليل ثقافي كافٍ، إذ انشغل كثير من الدارسين برصد أثر أوروبا في النهضة العربية ومن ثمّ برزت تساؤلاتها حول مدى نقل الترجمة العربية لمفاهيم جديدة إلى السياق العثماني، وكيف جرى فهم مكيافيلي محليًّا وعالميًّا في آن واحد.

وقد ظهرت ترجمات مبكرة لـ*«الأمير»* في الدولة العثمانية، فقد أشار الرحالة غيامباتيستا توداريني (1728–1799) إلى أن السلطان مصطفى الثالث (1757–1774) طلب ترجمة الكتاب، ومعه نصّ فردريك الثاني ملك بروسيا المعارض لمكيافيلي، وتوجد المخطوطة في مكتبة قصر طوب قابي. ومن ثمّ، فعندما ظهرت الترجمة العربية بين عامي 1822 و1832 في مصر، كانت الترجمة التركية متوفرة منذ نهاية القرن الثامن عشر، فضلًا عن النشاط الكبير لحركة الترجمة في عهد محمد علي إلى التركية والعربية واليونانية والأرمنية، وإن ظلت الهيمنة للعربية والتركية.

وتنبه بنجيني إلى أن الترجمة العربية للأمير لم تكن منقطعة الصلة بأثر الحملة الفرنسية، وترى أن المترجم العربي فسّر النص وفق مفاهيم أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، في إطار نهضة البحر المتوسط والعلاقات بين إيطاليا وشرق المتوسط واستشهدت بعمل بيتر جران حول المقارنة الثقافية بين مصر وإيطاليا بين 1760 و1850، ولا سيما تشابه الإحياء الكلاسيكي وغلبة السجع في الشعر وازدهار الدراسات اللغوية ومن ثمّ كانت ترجمة الأمير جزءًا من مشروع الإصلاح السياسي، كما جاءت في سياق سعي محمد علي إلى استقلال مصر عن الدولة العثمانية.

رفائيل زاخورا

عُرف رفائيل زاخورا بالمترجم والمفسّر إذ درس الإيطالية والفرنسية، وولد في القاهرة سنة 1759 لأسرة سورية يُرجّح أنها من أصل حلبي، وتلقى تعليمه في الكلية اليونانية في روما، ثم عاد إلى القاهرة قبيل الحملة الفرنسية حيث عمل مترجمًا في إدارة الاحتلال وذكره الجبرتي في «عجائب الآثار» باعتباره «المترجم الأول» والمسؤول عن ترجمة الوثائق الفرنسية إلى العربية، كما كان من أعضاء المجمع العلمي المصري.

وعقب خروج الفرنسيين أعلن زاخورا رغبته في العودة إلى أوروبا، وكتب خطابين إلى نابليون: أحدهما يعرض فيه تكريس حياته لخدمة الجمهورية، والآخر قصيدة عربية قصيرة يمتدحه فيها ثم عُيّن أستاذًا بمدرسة اللغات الشرقية (1803–1816). ويبدو أنه لم يبلغ المكانة المرجوّة في فرنسا، أو أن الاضطرابات السياسية دفعته إلى العودة إلى مصر ومن خلال مذكرات العالم الإيطالي جان باتسيتا بروشي (1772–1826) نعلم أنه التقى زاخورا سنة 1822 معلّمًا للغة العربية في مدرسة أنشأها محمد علي في بولاق بجوار مطبعة بولاق، وكانت متخصصة في الرياضيات واللغات والعلوم العسكرية.

وحملت الصفحة الأولى من المخطوطة توقيع زاخورا، كما تضمّنت المخطوطة ترجمة ثانية بعنوان: «مقدمات في حقّ الأمم»، وهو نص للفيلسوف والمحامي السويسري إيمر دي فاتيل (1714-1767) الداعي إلى فكرة العَقد الاجتماعي والاحتكام إلى القانون وهو كتاب ذائع الصيت منذ القرن الثامن عشر، وله ترجمة إيطالية منذ 1780، ومن المحتمل أنّ زاخورا ترجم النصين معًا. ويبقى السؤال: هل كانت ترجمته لـ*«الأمير»* موافقة ومعبرة عن النص الأصلي؟

يرى بعض الدارسين أن الترجمة كانت ناقصة ولم تبلغ مرحلة التحرير النهائي، إذ ظلّت في صورة مسوّدة اتسمت بالجمل المسجوعة مع ضعف واضح في العربية، فضلًا عن ثِقل النص بالمصطلحات الإيطالية بحيث يصعب فهمه دون الرجوع إلى الأصل، وكانت الترجمة في عصر محمد علي تمرّ بثلاث مراحل: ترجمة أولية (مسوّدة)، ثم تحرير لغوي في ديوان الترجمة، ثم المراجعة النهائية قبل الطبع ويبدو أن ترجمة زاخورا لم تتجاوز المرحلة الأولى.

ومع ذلك، تكشف المخطوطة عن أن عددًا من مفاهيم مكيافيلي كان معروفًا للقارئ العربي بفعل تراث «الآداب السلطانية». فقد ترجم زاخورا كلمة «الثروة» بمعنى «السعد» أو «الحظ»، و«الحذر» بـ«الحكمة»، و«الدولة» بـ«الحكومة». وكان مصطلح «الجمهورية» مثيرًا، إذ قُدّم لأول مرة بالعربية في القرن التاسع عشر؛ فترجمه زاخورا بـ«المشيخة»، وهي مشتقة من الشيخ أي النبيل العجوز، وربما قصد بها «حكومة الأعيان»، ثم استُبدلت بالجمهورية كلمة «الجمهور» زمن الحملة الفرنسية لدى الجبرتي، كما ظهرت في أول قاموس عربي–فرنسي سنة 1802، وترجم «القانون» بـ«الشريعة»، و«السلطان» مقابل الإمبراطور، و«الحرية» بـ«إرادتنا المطلقة»، و«أهل البلاد» مقابل «الوطن».

وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح «الجمهورية» لم يكن يعني المفهوم السائد الآن، بل كان يعني أن السيادة للأمة أو لجزء منها ومن الملاحظ أنه في أغلب نصوص رفاعة الطهطاوي (1801-1873) جاء المصطلح مسبوقًا بلفظ «المشيخة». كما عبّر الجبرتي ونقولا الترك عن «الجمهورية» بلفظ «مشيخة». ويبدو أن استخدام هذا اللفظ يعود إلى أن كثيرًا من النظم الجمهورية –ومن بينها فرنسا– احتفظت بمسحة أرستقراطية، إذ كان البرلمان يتكون من مجلس النواب ومجلس الشيوخ أو الأعيان، وكانت اللوائح الانتخابية كفيلة بتمثيل الطبقة الأرستقراطية في مجلس الشيوخ، الذين هم –على حد تعبير نقولا الترك– «مشايخ الشعب» ومن هنا جرى التعبير عن الجمهورية بالمشيخة، وكان من بين أنواع الجمهوريات عند الطهطاوي «الجمهورية الأرستقراطية»، وتكرر المعنى ذاته لدى بطرس البستاني في «دائرة المعارف».

ولُوحظ أن رفاعة الطهطاوي في أعماله لم يلتزم بالترجمة الحرفية، بل مارس «الترجمة بالتصرف»، مراعيًا ظروف عصره، خاصة صعوبة إيجاد مقابل عربي لبعض المصطلحات، وأدرك أن كثيرًا من المفردات الفرنسية دخيلة على العربية، كما كانت اليونانية والفارسية في العصر العباسي، فعبر عن «الدولة» و«الحكومة» بالمعنى نفسه، وعبّر عن المجالس السياسية بـ«ديوان المشورة» و«ديوان التدبير» ومن هنا برزت أهمية الشروح والحواشي في أعماله وكانت ترجمته لدستور 1818 أول وثيقة سياسية مترجمة يقرؤها جمهور العربية عن نظام سياسي غربي.

الترجمة الثانية لكتاب «الأمير»

قدّم محمد لطفي جمعة (1886–1953) ترجمته لكتاب «الأمير»، وصدر عن دار المعارف، وهو كاتب ومحامٍ وناشط سياسي معروف، درس الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم درس القانون في جامعة ليون بفرنسا، وانضم إلى الحزب الوطني، وشارك في مؤتمر الشبيبة الذي عُقد بجنيف فى عام 1909، وكتب عنه في جريدتي اللواء والعَلَم، وكان عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وترافع في قضايا معروفة مثل قضية مقتل السردار لي ستاك، وقضية مقتل عثمان أمين، كما كان له اهتمام بالتراث الإسلامي، فكتب «تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب» و«نظرات عصرية في القرآن الكريم» ومن ترجماته: «مائدة أفلاطون» و«حكم نابليون». ونُشرت مذكراته «شاهد على العصر» في ثلاثة أجزاء، وقد تناولت جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر خلال الفترة من 1909 إلى 1948، وأثارت حينها جدلًا كبيرًا بين النقّاد.

وروى محمد لطفي جمعة في مقدمة مطوّلة لترجمته لكتاب «الأمير» كيفية معرفته بالطبعة الإيطالية من الكتاب في الأزبكية، ثم حصوله على الطبعة الإنجليزية في الإسكندرية، إلى جانب انطباعاته خلال زيارته لفلورنسا ومنزل مكيافيلي، وصاغ حديثه بنبرة رومانسية مشيرًا إلى أن «روح الشرق تاقت إلى عقلانية مكيافيلي»، وعدّه بطلًا سياسيًّا إيطاليًّا سعى إلى أعظم فكرة خدم بها وطنه، وهي توحيد إيطاليا، ومن ثمّ اعتبر رسالته جديرة بأن تكون جزءًا من الإصلاح في العالم الإسلامي، وقارنه بأعلام التراث الإسلامي مثل الغزالي والفارابي.

واختلف السياق السياسي لترجمة جمعة عن سياق ترجمة زاخورا، إذ ظهرت في ظل الاحتلال البريطاني، وكان جمعة من الناشطين في مواجهته، منشغلًا بمفاهيم الأمة والمواطنة والسيادة وقد استخدم مفردات مختلفة عن زاخورا، فاستبدل بـ«المشيخة» و«الحكم» «الجمهورية» و«الدولة»، كما أبرز مصطلح «الوطن» بوضوح، في نبرة توحي بحثّه للمصريين على مواصلة كفاحهم ضد الاحتلال.

ويمكن القول إن استخدام القوميين المصريين لنص مكيافيلي يشبه استخدام المثقفين الإيطاليين –مثل بنديتو كروتشه وأنطونيو جرامشي– للنص نفسه في مطلع القرن العشرين، فقد عبّر مكيافيلي، في نظر جمعة، عن عقلانية الغرب في مواجهة «حكمة الشرق»، وليس غريبًا أن اتسمت ترجمة جمعة بدقة أكبر، إذ سبقته أجيال من تلامذة رفاعة الطهطاوي مثل عبد الله أبو السعود، وأحمد عبيد الطهطاوي، وحسن الجبيلي، ممن قدموا إسهامات مهمة في نقل وتعريب المفاهيم السياسية الغربية إلى العربية.