دراسات
زكريا صادق الرفاعيرونالد ريدلي.. قنصل نابليون في مصر
2025.08.24
مصدر الصورة : آخرون
رونالد ريدلي.. قنصل نابليون في مصر
ما زال هناك قدر من الغموض يلف السنوات الأولى التي جاء فيها محمد علي إلى مصر وحتي وصوله إلى قمة السلطة وهي الفترة المعروفة في الأدبيات التاريخية "بالفوضي السياسية"، وكثيرًا ما طُرحت التساؤلات والروايات عن الكيفية التي استطاع بها محمد علي القيام بالمناورات والمغامرات وبناء التحالفات هنا وهناك في ظل تلك الظروف السياسية الملتبسة في الداخل والخارج حتى نجح في لفت الانتباه إليه وصار مع الوقت قوة سياسية يعتد بها، وكان القنصل الفرنسي "برناردينو دروفتي Bernardino Drovetti " (1776-1852)، بحسب هذه الدراسة التي نعرض لها، من بين من راهنوا مبكرًا وبحدس وبصيرة سياسية نافذة على قدرات محمد على ووصوله إلى سدة الحكم ومد إليه يد العون في تلك الفترة العصيبة.
ورغم أن ولاية محمد علي لمصر كانت حدثًا مهمًّا في مطلع القرن التاسع عشر فليس لدينا مصادر عربية معاصرة عرضت للحدث ربما باستثناء الجبرتي وحتى المصادر العثمانية المعاصرة نقلت بدورها عن الجبرتي ولم تضِف شيئًا، بينما المصادر الأجنبية المعاصرة للأحداث كثيرة لا سيما مراسلات القناصل الأوربيين وكتابات الرحالة الذين وفدوا على مصر آنذاك، وتلك المصادر رغم أهميتها البالغة لا تخلو من عدم الدقة في بعض الأحيان والأهواء والمبالغات في أحيان أخرى، وهذه الدراسة الخاصة "بدروفتي" وهو أحد الذين عايشوا بل وشاركوا في تجربة محمد علي ربما أضاءت لنا جانبًا من تلك التجربة التاريخية الثرية ورغم صدورها عن فترة زمنية طويلة (1998) ولم تترجم فيما نعلم بعدُ إلى العربية .
وقسم "رونالد ريدلى" دراسته إلى ثمانية فصول جاء أولها بعنوان: تكوين محامٍ وجندي ودبلوماسي، تتبع فيه المؤلف نشأة "دروفتي" الأولى في قريته الصغيرة "بربانا" التابعة لمدينة تورينو وجذوره التاريخية، وتضمن الفصل الثاني الحديث عن فترة قنصليته الأولى من عام 1803 إلى عام 1815 ومساهماته في صعود محمد علي إلى الحكم، وعرض الفصل الثالث لسياسات وتنظيم الحكومة وعلم الآثار والكشوف الأثرية، وعالج الفصل الرابع العودة الثانية لدروفتي إلى منصب القنصلية خلال السنوات من عام 1821 إلى عام 1828، واختص الفصل الخامس بالحديث عن المواطن الخاص مرة أخرى 1829-1852، وتصدى الفصل السادس لتحولات مصر في عهد محمد علي ومشاركة دروفتي فيها، ووصف الفصل السابع مجموعات دروفتي المتحفية، واختتم الفصل الثامن بالحديث عن علاقة دروفتي بالنظم السياسية لعصره، كما اشتمل الكتاب في نهايته على ثلاثة ملاحق مهمة، أولها عن شجرة عائلة دروفتي، والثاني عن الضباط الأوروبيين في الجيش المصري 1825 والأخير حول مجموعة دروفتي الأثرية في تورينو.
ونوَّه المؤلف في المقدمة إلى اعتماده على وثائق الخارجية الفرنسية، خاصة مراسلات "دروفتي" التي بلغت ستة مجلدات، كما اعتمد أيضًا على الوثائق البريطانية وأرشيف جامعة تورينو، وأوضح أن شخصية "دروفتي" متعددة الجوانب والقسمات فهو دبلوماسي وجندي وتاجر آثار ومرت حياته بمحطات مختلفة فكان له المؤيدون والمعارضون ، وأضاف "ريدلي" أن حجر الزاوية لفهم "دورفتي" والكتابة عنه لا تتم بمعزل عن متابعة أعمال ثلاثة من الكتاب، أولهم المؤرخ "جورج داون" وقد عمل ضمن مشروع أرشيف قصر عابدين ونشر كثيرًا من الوثائق المصرية المتعلقة بالحملة الفرنسية وعصر محمد علي، وذكر أن "دروفتي" حثَّ محمد علي على هذا المشروع بدلًا من التوجه إلى بلاد الشام ، والثاني هو "إدوراد درليت" (1864-1947) وهو من كبار مساعدي "داون" ونشر ثلاثة مجلدات من مراسلات دروفتي والثالث هو "مارو جوفاني" (1875-1952) وهو طبيب وأنثربولوجي بجامعة تورينو وانخرط في الاهتمام بعلم المصريات منذ عام 1912 وكان الأكثر اطلاعًا على أوراق دروفتي الخاصة ونشر كثيرًا من خطاباته.
سنوات عصيبة
عرض "ريدلي" في صفحات الفصل الثاني وهو من أهم فصول الكتاب لعلاقة "دروفتي" بمحمد علي ولعله بالغ عندما ذكر أنهما في تقديره أهم رجلين هيمنا على السياسة في مصر في بدايات القرن 19 جازمًا أن دروفتي هو الذي ساهم بحسم في وصول الضابط الألباني المغامر محمد علي إلى الولاية على مصر.
وقد بدأت القصة باختيار "نابليون" لدروفتي في أكتوبر من عام 1802 ليكون نائبًا للوكيل التجاري له في مصر ووصل الإسكندرية في مايو من عام 1803 بصحبة القنصل "ماتيو دليسبس" (1771-1832) ورغم المكانة الثانوية لدروفتي من الناحية الرسمية فقد شرع على الفور في مراقبة الأمور عن كثب والتحرك في اللحظة الحاسمة إبَّان الصراع المحتدم بين المماليك والأتراك ومطالبة قوات محمد علي برواتبها من خورشيد باشا الوالي آنذاك، وعندما كتب دروفتي في مايو 1805 إلى باريس ليسأل عن التعليمات في حال دعم محمد علي للوصول إلى السلطة كان الرد مثبطًا وتم تجاهله، ورغم ذلك لم يتوانَ دروفتي عن رهانه على محمد علي وزوَّده في تلك الأوقات العصيبة بتقدير ثاقب للموقف ودعاه إلى استغلال الانقسام السائد في العاصمة والتنافس المستمر بين زعماء المماليك، وأوضح دروفتي أنه على علم تام بنوازع محمد علي الميكافيلية وبراعته في استخدام تلك الحيل فحثه على طلب دعم الزعامة الشعبية والتظاهر أمام العامة بأنه الخادم المطيع للسلطان، كما بثَّ دروفتي أعوانه للدعاية لمحمد علي والحصول على موافقة السلطان وتأمين الدعم الفرنسي له والحرص في الوقت ذاته على عدم التوصل إلى اتفاق مع المماليك، وأرسل إلى وزير الخارجية الفرنسي ليخبره بأن مصالح فرنسا ستكون أفضل مع محمد علي أكثر من خورشيد باشا، فالأول قوي بما يكفي لحكم البلاد كما يمكن استخدامه من جانب أي حكومة خارجية ترغب في أن يكون لها نفوذ واستمات دروفتي حتى لا يستعين محمد علي بالمماليك في حكومته، متذكرًا عداءهم القديم لفرنسا ، وفي الوقت الذي انشغل فيه محمد علي بمواجهة خصومه في جنوب البلاد كان دروفتي في القاهرة نشيطًا وأرسل أعوانه في الوقت المناسب للتفاوض مع البرديسي لإبقائهم على الحياد وفي الوقت ذاته بثَّ أعوانه لاستقطاب العلماء والمشايخ حتى استقرت الاحوال لمحمد علي .
ومرة أخرى كان "لدروفتي" دور حاسم خلال حملة فريزر فوقف ضد الإنجليز ووكلائهم في معركة بدت خاسرة أمام الجميع لكنه نجح في النهاية، ولعب دورًا حاسمًا في إقناع محمد علي بالإبقاء على أسرى حملة فريزر وكان سببًا في عدم وقوع مذبحة لهم واستخدامهم كورقة سياسية لاحقًا، وكان "لدروفتي" خصوم ومنافسون لا سيما القنصل الإنجليزي والقنصل الروسي وفي بعض المرات نجح خصومه في إيغار صدر محمد علي ضده، ولكنه نجح في اللحظات الحرجة من استعادة ثقة الباشا مجددًا.
ونوَّه "ريدلي" بما جاء في مذكرات "كلوت بك" (1793-1868) التي نشرت في عام 1949 وفيها أن "دروفتي" هو الذي نصح محمد علي بالاستعانة بالأوروبين "لانتشال مصر من البربرية" على حد قوله، ومن ثم كانت جهود دروفتي وراء إرسال أول بعثة تعليمية في عام 1809 إلى إيطاليا لدراسة العلوم العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة وكان عدد الطلاب ثمانية وعشرين طالبًا واستمروا إلى عام 1818 ولكن الوثائق الخاصة بتلك البعثة فقدت في الحريق الذي وقع في القلعة في عام 1820 وكان من بين الدارسين في تلك البعثة عثمان نور الدين الذي درس العلوم العسكرية في إيطاليا وفرنسا و"نيقولا مسابكي" الذي تخصص في دراسة الطباعة .
وكان منزل دروفتي معروفًا للجميع وكان من أهم الشخصيات التي قابلها في بمصر في عام 1806 هو "الفيسكونت دو شاتوبريان" الكاتب والسياسي المعروف (1768-1848) أثناء رحلته الشهيرة إلى القدس وهو من أكثر الزوار الأجانب الذين لفتوا الانتباة إلى دور ومكانة دروفتي لدى الباشا وجمع بين الرجلين حديث مطول عن فرنسا ومصالحها في الشرق ولم ينسَ شاتوبريان ذلك اللقاء وكان وراء عودة دروفتي إلى العمل القنصلي بمصر مجددًا في عام 1821 عقب توليه وزارة الخارجية.
وقبيل انتهاء الفترة الأولى من عمل "دروفتي" في مصر أعد تقريرًا كاشفًا عن أحوال مصر في عام 1815 أوضح فيه الخطر المحدق بالنظام السياسي، فرغم نجاحه في فرض طاعته على العامة قسرًا عقب مذبحة القلعة فما زالت هناك تهديدات من بقايا المماليك في الجنوب فضلًا عن سوء أحوال الفلاحين في الداخل وتململهم من جراء سياسات محمد على التعسفية محذرا من استعدادهم للانضمام للمماليك في أقرب فرصة.
العودة إلى القنصلية في مصر
كان الهاجس السياسي الذي سيطر على محمد علي في يقظته ومنامه قبيل نشوب حرب اليونان في عام 1821 هو أن أوروبا عازمة على تدمير الدولة العثمانية وأنها ستسمح لإنجلترا باحتلال مصر ورسخ لديه ذلك الاعتقاد حتى أنه أرسل إلى القنصل البريطاني برسالته الشهيرة، يخطره فيها بأنه فاز بحكم مصر بالسيف ولن يتنازل عنها بغيره، واستغل دروفتي هذه الظروف لاستعادة مكانته لدى الباشا ونجح في تهدئة مخاوفه وشرح له أبعاد الموقف الدولي ورست في تلك الأثناء سفينة حربية فرنسية كبيرة في ميناء الإسكندرية فتعلق بها الباشا وطالب على الفور بشراء سفينتين على غرارها وعزز "دروفتي" طلب الباشا بخطاب عاجل إلى وزارة الخارجية معتبرًا أن ذلك فائدة محققة للصناعة الفرنسية وضربة لبريطانيا في الوقت ذاته.
وفي الداخل وعلي المستوي التعليمي كان لدروفتي وجومار (1777-1862) الجغرافي المعروف ومحرر موسوعة وصف مصر دور مهم في تفضيل فرنسا على إيطاليا لتتوجه إليها البعثة المصرية في عام 1826، فعندما أرسل بوغوص بك يوسفيان (1767-1844) رسالة خاصة إلى "دروفتي" لاستشارته حول أمر البعثة، رد دروفتي برسالة معبرة أعلن فيها عن تنحية العاطفة جانبًا رغم أصوله الإيطالية، لأهمية الموضوع وفضل اختيار التوجه إلى فرنسا لاعتبارات منها وجود مدارس للغات الشرقية بها منذ وقت طويل، إضافة إلى الحرية النسبية للصحافة والتسامح الديني في فرنسا منها عن إيطاليا، ومن ثم فالبيئة مناسبة أكثر في باريس وستكون هي الأفضل لمن يُرجى تعليمهم الإدارة والدبلوماسية والعلوم العسكرية ليكونوا رجال دولة في المستقبل، كما أشار إلى اضطراب الظروف السياسية في ايطاليا وتوجت جهود دروفتي أيضًا باختيار جومار مديرًا للمدرسة المصرية في باريس، وشدد مؤلف الكتاب على أن الهدف الرئيس من البرامج الدراسية لدى دروفتي وجومار بوضوح هو استمرار الأثر الفرنسي الذي بدأ مع حملة نابليون على مصر وأن تمارس فرنسا رسالتها الحضارية لتحديث مصر، على حد قوله.
ويمكن القول إن دروفتي ترك أثرًا واضحًا في مختلف جوانب تجربة محمد علي وكثيرًا ما رافق الباشا في جولات هنا وهناك، وهو من اقترح على الباشا تعميم تطعيم الأطفال لأول مرة، عندما تفشى الطاعون في دمنهور في عام 1822 وتفاقمت أعداد الوفيات، وأرسل إلى المجلس الطبي في مرسيليا للوقوف على الإجراءات والتوصيات الطبية التي ستطبق في مصر رغم الصعوبات والرفض من قبل بعض السكان في البداية، كما ساهم في إنشاء مدرسة الطب في عام 1827 تحت إدارة كلوت بك، وكان دروفتي أحد الأوروبيين الذين ساعدوا في إنشاء نظام الكورنتينه (الحجر الصحي) في المواني المصرية، وبالجملة فقد استقطب دروفتي أيضًا كثيرًا من الخبراء والمهندسين والعمال الأجانب للعمل لدى الحكومة المصرية لا سيما وأن إقامته المطولة بمصر لأكثر من ربع قرن سمحت له بنسج شبكة من العلاقات القوية مع رجالات محمد علي والأوربيين .
وربما كان الجانب الأكثر قتامة من شخصية القنصل دروفتي ولا يمكن أن يُنسى بحال، هو دوره غير المسبوق في النهب المنظم للآثار المصرية إلى درجة أنه لم يتورع عن تفجير المقابر في البحث والتنقيب، وأبدى المتحف البريطاني مر الشكوي من نشاطات دروفتي المتزايدة في تجارة ونقل الآثار المصرية، ويكفي القول إن مجموعته شكلت النواة لمتحف تورين وهي ثاني أكبر مجموعة عن الحضارة المصرية القديمة، ووصف الرحالة السويسري بوركهاردت (1774-1817) تلك المجموعة ما بين عامي 1814-1817 بأنها الأفضل والأجمل في أوروبا.
ترشيحاتنا
