مراجعات
عبد الله غنيمموسيقى الـ Trap.. تجربة الفخ المصرية
2020.03.01
موسيقى الـ Trap.. تجربة الفخ المصرية
في عام 1990 أطلق المهندس الأمريكي آندي هِلدبرانت برنامج «إنفينيتي» infinity، بغرض تحسين النسخ الصوتية للآلات الأوركسترالية الضخمة، ليستطيع صانعو الأفلام الاستعانة بها بدلاً من حشد هذا العدد الضخم من الآلات وعازفي الأوركسترا الحقيقيين في أثناء تسجيل موسيقى أفلامهم.
كان هِلدبرانت قبل عدة أعوام من إطلاق ذلك البرنامج خبيرًا ناجحًا في مجال معالجة الإشارات الصوتية في أثناء الكشف عن البترول في طبقات الأرض، وبهذه الخبرة نجح في إنتاج البرنامج الجديد، وبعدة خبرات اكتسبها على مدى 6 سنوات في الموسيقى والبرمجة والتكويد استطاع تحسين «إنفينيتي» لينتج عام 1997 نسخة جديدة محسَّنة سمِّاها Auto Tune «أوتوتيون».
العالم بعد «أوتوتيون» ليس كما قبله؛ إذ أصبح في إمكان العازفين والمنتجين الموسيقيين تصحيح أصوات موسيقاهم دون الحاجة إلى إعادة التسجيل، فبدلاً من إهدار الوقت وتسجيل عدة مقاطع يعدها المنتج الموسيقي على مدى عدة أيام ليختار الأفضل منها ويولِّف بين بعضها البعض على برنامج التسجيل، باتت معالجة الأخطاء في وقت أقل أمرًا ممكنًا؛ كل ما على الموسيقي فعله هو أن يسجل مقطعه، ثم يختار السلم الموسيقي المطلوب، والسرعة، فيعمل البرنامج على تصحيح النغمات الناشزة إلى أقرب نغمة صحيحة.
في البداية تعامل المنتجون الموسيقيون المحترفون مع البرمجية الجديدة بحرص؛ إذ اكتفوا فقط بتصحيح النغمات الخاطئة، كان من الصعب ملاحظة تأثيرها على الأغاني، نظرًا إلى عدم انتشارها وأيضًا لاستخدامهم الحريص لها، حتى بدأ الأوتوتيون يتدخل شيئًا فشيئًا في إنتاج ألبومات موسيقية كاملة، وظهرت نزعة الصوت الروبوتي الحاد في الأغنيات. كما وجدها الهواة غير الدارسين فرصة للعب الموسيقي، والتعلُّم عبر التجربة، وبدأت موجة عالمية من الهواة المجربين؛ في أمريكا وأوروبا وأفريقيا شمالاً ووسطًا وحتى الهند وكوريا، الآن لا يحتاج الهواة إلى دراسة لينتجوا موسيقى؛ فالأوتوتيون يضبط نشازهم ويصحح نغماتهم آليًّا.
منحت القدرات الآلية، هذه البرمجية التي تحولت إلى جهاز مستقل بذاته، شعبية هائلة حول العالم، فأنتجت ألوانًا موسيقية، ودشِّنت موسيقى جديدة. ويمكن اعتبار المهرجانات في مصر ابنة أصيلة للأوتوتيون، وكذلك التراب في أمريكا. في مصر، حظيت المهرجانات في أثناء صعودها الأوَّلي باهتمام نقدي وصحفي واضح ما ساعدها على الانتشار والوصول إلى آفاق خارج الحدود، بعد دفعة البداية القوية التي قدمها ستوديو 100 للمنتج محمود رفعت الذي تمكَّن مع السادات وفيفتي وإسلام شيبسي من الوصول إلى جمهور لا يعرف «التراب» لكنه عرف إيقاعات المهرجانات وتفاعل معها، فيما لا تزال موسيقى التراب المصري -حتى الآن- تمهد طريقها نحو قاعدة جماهيرية أكثر اتساعًا.
المهرجان ابن الأوتوتيون
سبعة أعوام مرت بعد إطلاق الأوتوتيون كانت كفيلة لتحقيق انتشاره عالميًّا، وكذلك ظهور معارضيه من نقاد الموسيقى وصلت إلى حد وصفه بـ«الاختراع الشرير»، كما وصفه نيل ماكورميك في مقاله المنشور بصحيفة «ديلي تليجراف» إذ حمَّل ماكورميك هذا الاختراع الشرير مسؤولية غياب الأصوات النقية عن التسجيلات التي سنسمعها في المستقبل. نحن الآن في المستقبل الذي حاول ماكورميك التنبؤ به، انتشر الأوتوتيون وانتشرت الأصوات المعالَجة والنغمات المُصححة، بعدما قلَّل الأوتوتيون من الجهد المبذول لإنتاج الموسيقى وسمح لغير الدارسين بممارستها وتصحيح نشازها، حين نشر هذا المقال في الصحيفة البريطانية، كان الأوتوتيون يتلمس طريقه في مصر، بتحديثاته وإضافاته، حين استخدمه الشاب عمرو حاحا، الشهير -حينها- بدكتور عين شمس، مع مطلع الألفية لتصحيح نغمات النشاز في الأفراح الشعبية وضبط أصوات مطربيها، لتظهر التسجيلات الصوتية التي ستعرف بالمهرجانات، وصاحبتها المخاوف النقدية نفسها في بدايتها، لكنها ككل جديد فرضت نفسها، تخبطت وأخفقت ونجحت، وأسست عالمها.
في المستقبل الذي خاف منه ماكورميك يمكننا إعادة تقييم التجارب، إما بنظرة متشائمة كنظرة الناقد الموسيقي التي ترى أن الأصوات المعالجة زاحمت الأصوات الطبيعية النقية في مجالها دون جهد، أو بنظرة أكثر تفاؤلاً مضمونها أن هذه الأداة الجديدة سمحت لجيل كامل لم يسعفه حظه لدراسة الموسيقى -باعتبارها من الكماليات- بأن يخرج موسيقاه وكلماته، وأن يعبر عنها بصخب ودون الحاجة إلى دراسة، أعطتهم صوتًا وتركتهم أمام ديموقراطية ذائقة الجمهور، وأمام طموح موسيقيي الثقافة الجماهيرية لتطوير مهاراتهم، فعلى سبيل المثال؛ عمرو حاحا الذي بدأ مساره داخل مقهى إنترنت مستعينًا بعدة برامج صوت، أصبح يمتلك الآن مهارة توزيع وإنتاج موسيقى جديدة، ويملك استوديوهات لتسجيلها، بميكروفونات ذات جودة عالية وأحدث إصدارات برامج الصوت، وأذن موسيقية ناضجة، ومسار مهني احترافي، كما نضج رفيقاه السادات وفيفتي على مستوى الغناء والإنتاج، كما نضجت موجة المهرجانات وبدأت تُفسح المجال لنضج أكبر في موسيقى التراب «الفخ» في مصر.
شرّق رح تغرّب
لم يكن مغني المهرجانات علاء فيفتي يعرف حين قال جملته «شرَّق رح تغرَّب» أنها ستتحقق بكليِّتها، وأن محاولاته للتشريق ستتصل بالغرب بعد أعوام قليلة من ذكرها وسط تداعي الأفكار في مهرجانه الأول «مهرجان السلام»، الذي أعاد نشره عبر قناته الرسمية على يوتيوب في 12 يناير 2019؛ بعد نحو 15 عامًا من إصداره في نسخته الأولية والتي يظهر فيها ارتباك البدايات؛ إذ يمكنك سماع نشازاته وخروجه عن الإيقاع، وارتجالاته غير المنغومة في هذه النسخة، التي استعان في صنعها ببرامج معالجة وتصحيح الصوت المجانية أو المقرصنة؛ كانت النسخة الأولية للمهرجان من توزيع فيجو صديق «فيفتي» وأحد أبناء مدينة السلام، وعلى جهاز الكمبيوتر الخاص به. في ذلك الوقت كانت حملات كمبيوتر في كل بيت التي أطلقتها الحكومة المصرية قد ساعدت بعضًا من أبناء الطبقة الوسطى على امتلاك أجهزة كمبيوتر بدائية للاستخدام المنزلي، والسماح لأصحاب هذه الأجهزة بالوصول إلى الإنترنت، وكذلك التغاضي عن شبكات الإنترنت الصغيرة غير الرسمية التي يؤسسها شباب كل حي ويتخذونها مشروعًا للعمل الحر، حينها لم يكن يوتيوب قد اتجه بعد لتوثيق حسابات مشتركيه ولا لحفظ حقوق الملكية الفكرية للفنانين، ولم تكن فكرة القنوات الرسمية للفنانين قد ظهرت بعد. كانت الإنترنت فضاءً فسيحًا يسمح بالتجريب والنقل والاقتباس، وكذلك حرية التعبير بأي وسيلة؛ عبر المدونات أو النقاشات في المنتديات أو حتى نشر فيديوهات وموسيقى تجريبية، أو التعلم مثلما داوم عمرو حاحا، ابن حي عين شمس، على تجريب برامج معالجة الصوت ومفاتيحها، حتى أنشأ نغمات تصلح لرنات الموبايل في منتصف العشرية الأولى للألفية الحالية، ثم طوَّرها لتصبح نغمات موسيقية شرقية مصححة بالبرمجيات الصوتية يمكن تضمّينها داخل المهرجانات التي بدأت تحقق انتشارها داخل الأفراح مع نغماته وتصحيحاته لأصوات مؤديها، وخلال سنوات قليلة تحول اسم عمرو حاحا لعلامة تجارية موثوقة في عالم موسيقى المهرجانات، لا ينافسه سوى موزع مدينة السلام الأشهر «فيجو»، وخصوصًا بعدما نشأ صراع بينهما على تصدر المهرجانات والتعاون مع مؤديها، كل ببصمته والصوت الأنثوي الآلي الذي يعلن التوقيع الصوتي لكل منهما في بداية المهرجان، وتبادل الاتهامات بسرقة النغمات، حتى اتخذ الصراع شكلاً شوفينيًّا بين حي عين شمس ومدينة السلام، ساهم في تطوير كل واحد منهما، وبالتالي تطوير تقنيات المهرجان، إلى أن تم التصالح فيما بينهما ليجمعهما فرح واحد.
جه وقتي وهتكلم.. وهسمعكوا الكلام
بعد سطوع المهرجانات وتصاعد جماهيريتها نسبيًّا، تغيَّرت طبيعة الأفراح الشعبية وفقراتها، بدأ البعض في التخلي عن فكرة الراقصة التي لا بد من وجودها، لصالح مطرب المهرجان الأقل تكلفة والأعلى جماهيرية، والذي يمكنه رفع حماس الجمهور وضيوف الفرح وتحيتهم عبر الميكروفون، لكن الفقرة الثابتة التي لم تتغير هي الرقص الرجالي؛ فرق من الشباب والمراهقين يحترفون الرقص الإيقاعي الاستعراضي، أو الرقص بالأسلحة «التشكيل»، يرتدون زيًّا موحدًا، ويتدربون على هذه الرقصات لاستعراضها أمام جمهور الأفراح، أو الراقص المنفرد؛ شاب واحد على الأقل يحترف مزج رقصة تشبه البريك دانس مع الرقص بالأسلحة البيضاء، ومن نجومها في مدينة السلام كان «السادات» شابًا نحيلاً وقصيرًا، يمكنه ممارسة هذه الرقصة والاحتراف فيها وحتى منافسة راقصين آخرين على حلبة الرقص، ويمكنه أيضًا أن يمسك الميكروفون ليقوم بدور «النبطشي» منظم الفرح، موزّع التحايا على الكبار والعائلات من الحضور، وبالطبع الرد على المطرب الأساسي، «فيفتي» في هذه الحالة والذي يشكل معه ثنائيًّا لازمًا لإجراء حوار وللغناء والرد. بعد فترة سيبدأ «السادات» في التجريب والغناء، وسيكتب أولى أغنياته «صحوبية جت بندامه». ستنتشر الأغنية انتشارًا فيروسيًّا، وستملأ الفراغ الصوتي لكل سيارات الميكروباص، والتوك توك، والأفراح، والمهرجانات، بموضوعها المعتاد عن «غدر الصحاب»:
قلبي الحنين أنا شلته
بقلب ميت بدلته
أنا كنت عايش غرقان
ومدى للناس أمان
وبحب كل الناس
وطلعت أنا الغلطان
والدنيا ياما بتعلم
وجه وقتي وهتكلم.. وهسمعكوا الكلام.
بهذا الموضوع المكرر والذي أثبت نجاحا سرمديًّا بين جمهور الأغنية الشعبية منذ بداية الموال وحتى ليالي الحظ، عن غدر الصحاب وموضوعات أخرى عن الفخر والاعتزاز بالنفس والخيانة، امتلكت المهرجانات فرصتها لتحقيق الانتشار بين جمهور الأغنية الشعبية، وبدأت مرحلة تطوير كلماتها لتحمل موضوعًا متماسكًا بدلاً من تداعي الأفكار والتحية والسلامات، وكذلك تطوير نغماتها وتوزيعاتها، صارت أكثر شرقية وأقل نشازًا.
وعلى مدى 5 سنوات استطاعت بأدوات سهلة مثل برامج تصحيح الصوت، والميكروفونات الرخيصة ومنصات العرض غير الخاضعة لشركات الإنتاج الكبرى، أن توسِّع قاعدتها الجماهيرية، وأن تمنح الفرصة لشريحة أكبر من الممارسين لهذا اللون الجديد، وظهرت ثنائيات غير السادات وفيفتي؛ مثل: أوكا وأورتيجا، وفيجو وحاحا، وحتى المجموعات والفرق الغنائية مثل: الدخلاوية، وفريق «شبيك لبيك» الذي أصدر مراهقوه مهرجان «مفيش صاحب يتصاحب» بالموضوع نفسه مضمون النجاح «غدر الصحاب»، والذي حقق أكثر من 133 مليون مشاهدة على يوتيوب، كما أصبح في مرحلة ما نشيدًا شعبيًّا بالتأكيد سمعته داخل مطعم ما، أو عبر سماعات ميكروباص أو توكتوك عابر.
كانت المهرجانات لونًا غنائيًّا جديدًا وأصيلاً، يتطور عبر الزمن خلال 15 عامًا، يتطوَّر حسب التقنيات المتاحة، ويضع قواعده ويكسرها دون التزام، كانت فنًّا ديمقراطيًّا لا يملك كتيب إرشادات ولا صورة نمطية لا ينبغي الخروج عنها ولا يخضع لسلطة الجمهور فحسب، وإنما يتفاعل ويتطور مع قدرة ممارسيه على الابتكار ووضع قواعد جديدة، وبالتأكيد لم يخضع لحسابات شركات الإنتاج ولا سطوة رأسمالها، إذ كان يخضع لسياسة تعاملت معه باعتباره فنًّا هامشيًّا، سيأخذ وقته قبل أن يندثر، لكن هذا السياق الهامشي كان أكثر اتساعًا من المتن الخاضع لحسابات الإنتاج والسوق، ذلك السياق الهامشي منحه مساحة حرة غير محدودة سمحت للمهرجانات بالتشكل حسبما اتفقت الظروف، وبذلك كانت «المهرجانات» أكثر حظًا وجرأة من موسيقى التراب «المستوردة» بكتيب القواعد والإرشادات والتي تستهدف جمهورًا محددًا بعينه، من أبناء الطبقة الوسطى يملك منفذًا سهلا للإنترنت ويتحدث القليل من الإنجليزية.
موسيقى الفخ.. صوت لكل عصابة
في مسلسل ألماني شاهدته من إنتاج «نتفليكس»، يدور حول فساد بعض عناصر الشرطة، ومجموعات اليمين الجديدة العنيفة التي تنادي بطرد المهاجرين، وعصابات المهاجرين القدامى؛ عربية وتركية وصينية، ذكر أحد أبناء عصابة عائلية لبنانية لكبيرها أن «الموضة الجديدة تحتم أن يكون لكل عصابة مغني راب، تتولاه وتنتج له موسيقاه، ويغني لها ولأمجادها في الشوارع، وقوتها الباطشة وثروتها»، وأخذ يضرب الأمثال بالعصابات التي تتولى هؤلاء المغنين.
هذه الحال لا تختلف كثيرًا عن حال مغنيي الراب والـ«تْراب» في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في جنوبها، محل نشأة هذا النوع من الموسيقي، إذ حمل هذا اللون الموسيقي اسمه نسبة إلى بيوت تعاطي وتجارة المخدرات التي انتشرت في الجنوب الأمريكي، والمعروفة باسم «تراب هاوس» حيث تنتشر عصابات الشوارع التي تفرض سيطرتها على نوادي الليل والحانات، وتجارة المخدرات والسلاح، ومن هذا العالم يخرج قاموس أغنيات الـ«RAP» والـ«Trap» (الفخ) الذي يشبه في موضوعه موضوعات الفخر العربي القديم بقدرات الجند ومهارات المبارزة والسيوف، باختلاف طبيعة السلاح بالطبع، ومع قليل من لمحات حياة الليل والخروج على النظام والقانون، لكن كيف حال الراب والتراب في مصر، بلد الأمن المذكورة في اللوح المحفوظ؟
موسيقى «الفخ» المصرية
في مصر لا توجد معارك واضحة بين العصابات المسلحة، وإن وُجدت فلا مكان لثقافة التراب بين صراعات نفوذهم، لكن لأن التراب يعتمد بالأساس على الفخر والاستحقاق كما يعتمد على الهجاء والتحقير فلا بد من معارك تزدهر من خلالها هذه القيم، وخلال الصراع الكلامي يكثر الحديث عن الثروة والنفوذ والقوة، بدءًا من محمد رمضان وأغنياته؛ «مافيا»، و«الملك»، و«فيرس»، و«نمبر وان»، ومرورًا بمغنيي الراب والتراب أبناء يوتيوب وبرامج لوجيك وفروتي والأوتوتيون بشكل عام، وخصوصًا أبناء المشهد السكندري؛ ويجز ومروان بابلو وأبيوسف وغيرهم، وانتهاءً بمحاولات هواة الراب الذين لا يملكون أكثر من تطبيق «تيك توك» على هواتفهم.
ما قبل المشهد الحالي
في مطلع الألفية، كانت الإنترنت في مصر حديثة العهد لم تزل، بطيئة ولا تتوفر إلا للشركات الكبرى أو عبر شبكة وصلات موازية يقوم عليها شباب الأحياء، وكانت سوق الموسيقى تحت سطوة شركتي إنتاج كبيرتين «عالم الفن» و«فري ميوزيك»، التي تبيع إنتاجها لقنوات العرض. كان مشهد الراب محدودًا على الهامش، مثل مشاهد موسيقية أخرى في الثقافة الجماهيرية، لكنه لم يخل من محاولات بدائية؛ إما مُقلِّدة للثقافة الأمريكية تحاول نقل ملامح المشهد العالمي إلى مصر دون توليفه مع الثقافة المصرية، أو على النقيض من ذلك تمامًا، على سبيل المثال لم تكن محاولات الممثل والمخرج أحمد مكي -حتى وإن استخدم فيها الأوتوتيون بشكل سلس- وبحسها الأخلاقي التوجيهي ذات صبغة التنمية البشرية محاولات ناضجة، أو قريبة من قواعد الراب في العالم، لم تكن راب أصلاً، لكن هكذا قدموها عام 2005، كذلك لم تكن محاولات الشاب حسام الحسيني الذي يغني الراب بالإنجليزية لجمهور عربي محاولات ناضجة أو تقدم جديدًا، كان فقط ينقل الأغنية بثقافتها دون اعتبار لاختلافات الجغرافيا والبيئة والثقافة، كمن يغني أغاني الزفاف المصرية داخل قاعة ألبرت هول على سبيل المثال، قد تنبهر بها في البداية لكنك لن تفهم شيئًا، حتى حظيت الإنترنت بانتشارها في نهاية العقد الأول من الألفية، وبدأ المشهد الثقافي المصري يتغيَّر تمامًا، ومعه بطبيعة الحال مشهد الراب المصري.
محمد رمضان.. البدء من النهاية
بالمصادفة طرق الممثل محمد رمضان أبواب الغناء، بعد إعلان كان بطله لشركة اتصالات، ظهر تأثير الأوتوتيون جليًّا في الإعلان عن «أقوى كارت في مصر»، مُعدِّدًا مزاياه التسويقية ومستخدمًا قاموسًا يشبه قاموس أغنيات التراب الأمريكي، حققت أغنية الإعلان نجاحًا واضحًا، انطلق بعدها رمضان مستندًا إلى ثروته التي حققها من السينما والدراما والإعلانات، يكرر التجربة الأمريكية ولكن من نهايتها، ابتداءً بمرحلة الفخر بالثورة والنجاح، وبدلاً من الإعلان والتسويق لسلع أو خدمات تجارية، بدت تجربة محمد رمضان تسويقًا لنفسه بسياراته وثروته وقصوره، تمامًا كما يفعل مغنو التراب في موطنه الأصلي، لكن بقاموس لا يأخذه إلى المحكمة، قاموس يدور حول ذاته فقط، ويعوِّض ما يلزم من عالم العصابات عن طريق الصورة، أسلوب متكرر في أغنياته الأربع الأولى «نمبر ون»، و«الملك»، و«مافيا»، و«فيرس». تراب تقليدي يعتز بفحولته ونجاحه وأسلحته وثروته حتى لو كانت كلها زائفة، فهو لا يعرف الغناء لكن يستعين بالأوتوتيون لتصحيح نشازاته، ولا يملك ثروة ضخمة لكنه يملك ما يكفي لإنتاج فيديوهاته واستعراض الثروة التي سُمح له بامتلاكها، ولا هو منخرط في صراع حقيقي مسلح، أو منافسة أصيلة، لكن لا بد من صراع يبني عليه عالمه، ولأجل هذا الصراع اللازم اعتمد رمضان على صراع الظروف ومن يدَّعي أنهم حاربوه في بداية مشواره الفني، ليس صراع عصابات بالتأكيد ولكن صراع طبقات ودوائر، طبقات الراسخين في الوسط الفني مع المستجدين عليه، ودوائر العلاقات معه الذي لم يملك شبكة علاقاتهم في بداياته ومنطقة الصراع والنفوذ ليست بيوت مخدرات أو أندية ليل وإنما الجمهور وتفضيلاته.
قلق أبناء الطبقة الوسطى
على العكس مما فعله محمد رمضان حين عرَّب أسلوب الراب الأمريكي الفخور، ونحت قصة صعوده من طبقة الفقراء إلى طبقة مُلَّاك القصور، قدم مجموعة من شباب أوائل العشرينيات من الإسكندرية تجربة مختلفة، عن التراب الأمريكي وعن نسخته المقلدة محمد رمضان، امتلكت هذه المدرسة السكندرية من الثقة وحرية التجريب ما يسمح لها بتخصيص الراب لما يتوافق مع تجربتها بدلاً من ادعاء ما لا يملكونه ليلائم الطراز الأمريكي للراب. شباب تحت العشرين لا يملكون من الحياة سوى التجربة وحياة المراهقين في الشارع، لا سلطة ولا نفوذ ولا ثروة، بل خمر رخيصة ومخدرات مخلوطة وتجربة متخبطة، يمكننا التعرف إلى هذه التجربة عبر أغنية جمعت مروان بابلو بصديقه ويجز صدرت في منتصف عام 2018؛ «دايرة ع المصلحة» من مقاطعها التي يغنيها مروان بابلو وويجز
“ألحاني حزينة، كمان مكسور
أنا في المدينة ديه كتاب مفتوح
همشي لبعيد لحد ماتوه”
كلمات بعيدة عن التبجح والفخر المعتاد في أغاني التراب الأمريكي، وتبدو أكثر شخصية وقربًا لأبناء طبقة متوسطة، لم تعانِ فقرًا مدقعًا، ولم تجرب حياة الرفاه؛ إذ يظهر في الفيديو كليب صالة ضيقة في إحدى شقق الإسكان سيئة التخطيط، بأثاث يلائم شقق الطلبة، بدرجة حرارة يمكن مواجهتها بالصدر العاري كما يظهر الشباب في الفيديو قليل التكاليف، والصوت الذي يلعب الأوتوتيون في درجاته وسرعاته.
“الواقع ممكن يطلع كدب
شيطاني ف راسي بيفرز سم
الواقع ممكن يطلع حلم
ولسه برده دايرة ع المصلحة”
هل ما نعيشه حقيقي فعلاً أم يحدث فقط في أذهاننا؟ هل يهم هذا السؤال الوجودي القديم؟ هل تهم الإجابة عليه الآن؟ في زمن النيوليبرالية النفعي المحكوم بالمصلحة ومقابلها، والبحث عن المنفعة.
التراب لعبتنا
كأي رابر تقليدي، يكتب مروان بابلو كلمات أغنياته، لكن بالإضافة إلى ذلك ينتج موسيقاه وإيقاعاته باستخدام برمجيات متاحة عبر الإنترنت، منها الأوتوتيون، والتي تعلمها بالتجريب. مع نهاية 2018 بدأت ملامح مشروع مروان بابلو تتضح، أسس قناته على يوتيوب وبدأ يسير بخطى طموحة ثابتة نحو صدارة مشهد الراب، مدعومًا بكتابات النقاد والصحفيين، وصوت «السادات» الأكثر رسوخًا منه في المشهد، في أغنيته «عزبة الجامع» ببيان واضح في صيغة لازمة متكررة «خلاص بطلت الصحبة اللي بتتجمع ع الحشيش»، ثم يعلن أن «التراب لعبتنا»، ليبدأ بعدها في استقطاب طاقم من شباب التصوير والإنتاج محدود التكلفة، وتتعدد إصداراته وتطوراته، من حيث الإيقاعات والنغمات الجديدة، وحتى الكلمات الجديدة، إذ بدأ بابلو التأسيس لصورة مغني التراب بالمفهوم الأمريكي لكن بصبغة مصرية، والصراع هنا على تصدر مشهد «التراب»، وبلكنة سكندرية شوفينية أمام مركزية القاهرة.
صاحبي مش بهبد
قلبت الدنيا مَرمَى وعمال أسدد
ومش متبت فيها خالص
نولعوها في عز البرد القارس
صاحبي شوف اللعب عالمكشوف
المحطة التالية كانت «السندباد»؛ قطعة تكمل الصورة التي بدأ في رسم ملامحها منذ أغنيته «عزبة الجامع»، مغني راب وتراب سكندري، في فيديو كليب أكثر تطورًا من سابقيه، كاميرا تتحرك معه وتتابعه في شوارع وأحياء الإسكندرية التي يعرفها جيدًا، كما السندباد يرتحل بين شوارعها وأزقتها، ويفخر بكونها منها، بصيغة طموح بقليل من التبجُّح «مش من مصر، أنا من إسكندرية/ السنة دي أنا هاخدها ليا».
بيبي أنا م المجاري
مع أغنيته التالية يكتسب بابلو جرأة أكبر للتعبير عن نفسه ولغته، في أغنيته «أتاري» يرسخ صورة مغني التراب الفقير القادم من المجاري ليغني «ناس فوق ناس تحت هي كده بتمشي/ من الفقر ملّيت من الكبت غنّيت»، تشرح هذه الكلمات تجربة بابلو الكاملة مع التراب بوضوح، فقير من الأحياء الشعبية يسعى ليصبح غنيًّا مع الناس فوق، مثل أقرانه من أصحاب التجربة في أمريكا والمغرب، لم يحمل سلاحًا ولم يبع المخدرات، لكنه يعرف الشوارع وأتى من المجاري في إسكندرية ليأخذ حظه كاملاً هذا العام، أغنيته تفسر محطته التالية «الجميزة».
عايزين نعمل ألوفات
في الجميزة يعلن مروان بابلو عن مشروعه منذ بداية الفيديو كليب، رجل غاضب ينظر إلى مرآة معلقة إلى جدار من الطوب الأحمر، في ديكور زاهد فقير، ثم يتحرك ليضرب رجلاً آخر ملقى على الأرض، مع الكثير من صيحات الغضب، ليدخل بطيئًا بأغنيته «الجميزة»، الفيديو أكثر تكلفة من سوابقه وبجودة أعلى، تبدت فيه سمات هيكل الراب الأمريكي؛ الجريمة والسلاح والتهديد والعنف والفخر بهما، لكن بتفاصيل مصرية أكثر على مستوى الصورة والكلمات:
سيبونا نحلو المسألات
هسيب إيدي عالزناد
هضرب طلق كله مات
الله يسامح اللي ساب
كله عدى كله فات
عايزين نعمل ألوفات
عايزين عيشة من النضيفة
عايز أصاحب المضيفة
كلميني إيه الكلام
هسوقهالكو باللسان
اعمل جناية اعمل مصيبة
هنتسبب في حريقة
بالتأكيد ساعده في إنتاج الفيديو بجودة عالية وتكلفة كبيرة، ما حققه من نجاح في مشهد الراب المصري، حتى أنه ظهر في أحد إعلانات شركة أغذية عالمية ضخمة، ويبدو من كلام أغنية الإعلان وقاموسها بعدها الواضح عن أسلوب بابلو المعتاد، والتي خرجت بأسلوب باهت غير معتاد لأغنيات التراب، فقد جاءت تشبه «أغاني الوكالات الإعلانية» بروح تحفيزية وكلمات مهذبة ومختارة بعناية لئلا يؤخذ عليها ما يقدم إلى جمهور تليفزيوني أكثر اتساعًا من جمهور الإنترنت، الأمر الذي يتفق مع ما يطرحه بابلو في أغنياته وتحديدًا في «الجميزة» عايزين عيشة م النضيفة/ عايز أصاحب المضيفة.
ثمة فوارق واضحة بين سياقات محمد رمضان ومروان بابلو؛ أوضحها هو الفارق العمري الذي لا يقل عن 10 سنوات، لكن هذه السنوات العشر تحمل في طياتها فوارق تقنية وفكرية واسعة، فحينما كان رمضان في عمر بابلو كان يمارس سعيه المهني بين المسارح ومكاتب اختيار وترشيح الممثلين، ولم يملك جهاز كمبيوتر ولم يتعرَّف إلى الإنترنت في حينها، الإنترنت نفسها لم تكن على حالها الآن، فيما يوفِّر السياق الحالي الذي ظهر فيه بابلو فرصًا أكبر بتكلفة أقل، فبجهاز كمبيوتر ووصلة إنترنت وبعض البرمجيات الصوتية والكثير من الوقت استطاع بابلو وغيره من أبناء الجيل التعلم والاكتشاف والتجريب، في الموسيقى والإيقاعات والتصوير والفيديو والإنتاج، يظهر بابلو في سياق يتيح إنتاج فيديو كليب وإطلاقه خلال يومين بأقل التكاليف، لم تتوفر هذه الإمكانات لمحمد رمضان قبل عشر سنوات لكنها تتوفر حاليًا بعدما حقق ثروة من التمثيل والسينما، كذلك لم تتوفر لجيل المهرجانات الذي أسس لونًا موسيقيًّا من اللاشيء.
فيديو كليب بكاميرا الهاتف
ماذا حدث خلال 10 سنوات منذ نهاية العقد الأول وأيامنا في نهاية العقد الثاني من الألفية؟ غير أني أصبحت في الثلاثين من عمري؛ أصبح «الملينيالز» مراهقو بداية الألفية شبابًا، كبروا ووجدوا فرصًا أسهل لتعلم التصوير والمونتاج والإنتاج الموسيقي والإنتاج الفني بشكل عام، وأصبحت عملية إنتاج فيديو كليب أقل تكلفة وجهدًا ووقتًا، وأسهل بالطبع، إذ يمكن لنجوم المشهد الموسيقي الأكثر شعبوية «المهرجانات» إنتاج وطرح فيديو كليب/أغنية كل أسبوع، وكذلك بالنسبة لمشهد الراب المصري الذي تبدو فيه تجربة مروان بابلو الأكثر قربًا للنموذج الأمريكي، البدء فقيرًا من المجاري والتحرك الطموح لتحقيق الثروة وعمل الألوفات والفخر بها، والسيطرة على مشهد التراب والتغني بهذه السيطرة، من الصفر وبجهاز كمبيوتر تقليدي وبرمجيات الهواة لمعالجة الصوت وتصحيح النشاز، حتى تحقيق مسار مهني كمنتج موسيقي يُطلب لتأدية الإعلانات. إلى جانب تجربة محمد رمضان الذي حقق ثروة قبل أن يلجأ للتراب، وتجربة بابلو الذي حقق نجاحًا عبر التراب، ثمة تجارب حالمة أقل نجاحًا وإن كانت طموحة، تستند إلى فكرة الفقر المادي والغناء عنه، وتعتمد على تطبيقات مثل «تيك توك» الذي يمنح مستخدمه فرصة لإيصال منتج فني تجريبي يعتمد على كاميرا الموبايل في إيصال الصوت والصورة إلى الجمهور من المستخدمين الآخرين. ربما يجد شباب «تيك توك» جمهورًا ما لكن للأسف لن يأخذهم الجمهور على محمل الجد، بالتأكيد، وربما نجحوا في تطوير أنفسهم واستخدام تقنيات تصحيح الصوت ومعالجة النشاز لينتقلوا إلى مشهد الراب المتطور بسرعة.