رؤى

وليد الخشاب

نظرة على ميلودراما الخطاب العام

2017.11.01

مصدر الصورة : الجزيرة

نظرة على ميلودراما الخطاب العام

المعنى الحرفي للميلودراما هو: المسرحية الممزوجة بالموسيقى، أو الدراما الحزينة التي تضاعف الموسيقى من عاطفيتها. وقد اعتدنا في ثقافتنا العربية ارتباط هذه الكلمة بأفلام حزينة تعتمد على المبالغة في المواقف والانفعالات، مثل الأفلام التي أخرجها يوسف وهبي أو حسن الإمام. اليوم، ربما تكون الدراما التلفزيونية هي أوضح مجال تكتسب فيه الميلودراما شعبية بين الجماهير، وشرعية فنية بين دوائر النقاد ومتذوقي الفن.

لكن مفهوم الميلودراما يصف صيغة للخطاب المستخدم في مجالات عديدة،  تتجاوز مجال السينما والمسرح والتليفزيون إلى الفضاء العام بشكل شامل. وهذا هو المفهوم الذي طرحته في رسالتي للدكتوراه المعنونةبـ"الميلودراما في مصر". نلاقي ملامح الميلودراما مثلًا في المبالغة الانفعالية في الخطاب عند مذيعي اليمين الديني المتطرف في القنوات التلفزيونية الدينية؛ وأيضًافي كلام وتصريحات وخطب بعض رجال السياسة، لا سيما على مستوى اختيار المفردات العاطفية. تعتمد صيغة الخطاب هذه علىالإسراف والإفراط الشديدين في العاطفية، خصوصًا في التعبير عن الانفعال في مواقف سياسية، مثل الحماس، الغضب، أو الحزن؛ ونجدهاالتضاد الشديد بين معسكرين مفترضين: الحق والباطل، أو الخير والشر، أو بعبارة أخرى: المؤيدين والمعارضين. يُستخدم خطاب الإسراف والمبالغة من قِبَل جميع الأطراف في المجتمع لأهداف "بلاغية"، لإقناع المستمع أو المشاهد -أو المواطن بشكل عام- بتبني موقف صاحب الخطاب.

في الفكر اليساري، هناك تقاليد تعتبر هذه الصيغة الخطابية أداةً لتغريب الجماهير أو تزييف وعيها.وربما يعود هذا الموقف القوي إلى النقد الشديد الذي وجهه ماركس إلى فكرة الحب الرومنتيكية، في فصل بعنوان "الحب" في كتاب "العائلة المقدسة" الذي أصدره بالاشتراك مع إنجلز.انتقد ماركس مبدأ هذا الحب الذي يحول العاشق إلى مجرد ذات أسيرة للعشق، وبالتالي -والتفسير من عندي- يجرد العاشق من وعيه العقلاني والاجتماعي، كما يحول المحبوب إلى مجرد موضوع سلبي للعشق.

أشهر من كتب عن الميلودراما من خارج دائرة نقاد المسرح وأساتذة السينما هو الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير، الذي نشر مقالًا بالغ الأهمية عن الميلودراما، ثم ضَمَنَه كتابَه "من أجل ماركس".انطلق ألتوسير في نظريته عن الميلودراما من تحليله لمسرحية من تأليف الكاتب الإيطالي كارلو بيرتولاتسي "إلنوست ميلان". اعتبر الفيلسوف الفرنسي أن الميلودراما في المسرح الأوروبي قد واكبت التغييرات المجتمعية العميقة المصاحبة لظهور الحداثة، وأنها كانت موظفة من قبل البورجوازية الصاعدة مع الحداثة، بهدف تغييب وعي الطبقات العاملة، التي كانت المستهلك الأساسي للميلودراما في بداياتها.

ومع ذلك، أشاد ألتوسير بمسرحيةبيرتولاتسي التي تحمل جانبًا ميلودراميًّا قويًا، لكنها تتميز بتوتر بين ما أسماه "زمن الميلودراما" و"الزمن الجدلي"، أي توتر بين زمن الاستغراق في الحياة اليومية برتابتها أو بمآسيها، من ناحية، وزمن الوعي بتناقضات الصراع الطبقي، من ناحية أخرى. وقراءتي هي أن الفيلسوف الفرنسي يرى في هذه التوترات، بالإضافة إلى التوتر الكامن في الزمن الجدلي،محفزات تثيرالوعي الجدلي، أو الوعي المادي التاريخي لدى المشاهد.فالميلودراما أو المبالغة العاطفية هي صيغة خطابية وبلاغية، يستخدمها اليمين واليسار، المتدينون والعلمانيون معًا، والحكم عليها يرتبط بالمضمون الذي تستخدم للدعاية له. وهي في حد ذاتها قد تخدم أهدافًا تقدمية أو قد تستخدم في القمع، قد يصوغ فيها اليمين دعايته أو يستخدمها اليسار للتعبئة وفقًا لرؤاه.

سياسة الميلودراما

في التاريخ العربي المعاصر،وفي الثقافة المصرية تحديدًا، يبرزنموذجان قويان لمعسكرين مختلفين داخل تيارات اليمين يستحضران الميلودراما في خطاباتهما، ويوظفانها لخدمة مصالحهما. وأعني هنا تحديدًا معسكر اليمين المتطرف الديني ومعسكر اليمين الداعم لسلطوية حكم عسكري.وصلت ميلودراما اليمين المتطرف الديني إلى آفاق تثير الغثيان وتقترب من أحد معاني مصطلح الميلودراما في المسرح البريطاني: مسرحية سخيفة ملؤها الدم والعويل. لا يعدم يوتوب أمثلة لفيديوهات تعرض مناظر لجموع غاضبة متعطشة للدماء تصرخ وتضرب -وأحيانًاتقتل- بوحشية حيوانية، مثلما في حادثة الهجوم الغوغائي على منزل أسرة شيعية وقتل المجتمعين بداخله إثر خطاب تحريضي ضد الشيعة بحضور رئيس الجمهورية الإخواني الدكتور محمد مرسي؛ أو حادثة قتل الطفل السكندري الذي شارك في مظاهرة ضد حكم الإخوان،فأمسك به أحد أفراد الميليشيات الإخوانية/السلفية وألقاه من أعلى سطح عمارة.

لكنني أقتصر على مثال أقل وحشية -وإن كان مرعبًا على المستوى سياسيًّا- وهو فيديو مصور في مسجد، يخطب فيه الأستاذ محمد حسان الداعية السلفي، داعيًا إخوانه إلى الانضواء تحت لواء المجلس العسكري الذي تولى حكم مصر بعد تنحي الرئيس مبارك بناء على ضغط ثوار يناير 2011. في هذا الفيديو، يصيح الواعظ بحماس شديد لينبه سامعيه إلى أن العالم ينقسم إلى فسطاطين: فسطاط الحق وفسطاط الباطل، ويدعوهم إلى دخول فسطاط الحق.

وعلى رغم أنه لا يصرح بوضوح أيَ معسكر يوازي بينه وبين فسطاط الحق، أمعسكر الحكم العسكري أم معسكر الثورة؟ إلا إن المستمع لا يخطئ فهم الرسالة المقصودة. فقد اعتاد هذا الداعية اعتماد خطاب يميني رجعييدعو إلى تبني ممارسات أخلاقية شديدة المحافظة، ويؤكد على مبدأ عدم الخروج على الحاكم. وبالتالي فإنالمستمعيفهم ضمنيًّا أن من يمسك بمفاتيح الحكم هو صاحب فسطاط الحق. فصراخ الواعظ ضد من يدخلون في فسطاط الباطل يعني ضمنًا أن من يثور على الحاكم يشغل موقع الباطل، لا سيما وأن استخدام مفردة الفتنة في الخطاب هي وسيلة لا تكاد تخفي هدفها: تشبيه الثوار بمثيري الفتن، وأن الأمر القائم هو الحق، وأن الثورة ضد هذا الأمر الواقع هي فتنة وبالتالي معصية.

يؤكدالفيديو مسألتين حول علاقة خطاب اليمين الديني بالميلودراما، أولًا: أن الميلودراما ليست فقط توصيفًا لعملية بلاغية تقسم المجتمع إلى معسكري الخير والشر، أي أنها تُكْسِب الاختيارات السياسية ثوبًا أخلاقيًّا، وتحول المؤيد إلى خَيِّر والمعارض إلى شرير. وهي أيضًا عملية حشد وتعبئة باستخدام المفردات ذات الشحنة العاطفية المفرطة (مثل الحق والباطل والإيمان والكفر)، وباستخدام الصوت والملامح وحركات الجسم؛ فصوت الواعظ الزاعق، وفمه المفتوح بمبالغة كأنه في حالة غضب وشبه ذهول، وتقطيب الحاجبين، والرعشة الخفيفة في حركات الذراع والصوت، هذه المبالغات في اللغة والأداء لا تهدف فقط إلى التأكيد على شر الثورة ضد الوضع القائم، ولكنها تسعى أيضًا إلى حث مؤيدي هذا الوضع على الاحتشاد وراء السلطة وإلى إقناع المترددين بالتزام الموقف نفسه. كما أن نبرة الامتعاض من الفتنة/الثورة/الشر والطابع الأخلاقي لهذه النبرة يؤديان لا محالة إلى إقناع المتحمسين من أنصار الوضع القائم باستخدام العنف ضد الثوار/مثيري الفتنة/الأشرار، من باب تغيير المنكر باليد.

ثانيًا:يؤدي الأستاذ حسان خطابه مستخدمًا مفردات لغوية قادمة من عربية العصور الوسطى في القرون الأولى لبناء الدولة العربية المسلمة، ويستلهم أداءً انفعاليًّا مبالغًا في العاطفية. ماذا يجعلنا نعتبر خطابًا مثل خطاب الواعظ اليميني المتطرف في القرن الحادي والعشرين خطابًا ميلودراميًّا، بينما هو خطاب يشبه مقولات كان الساسة ومؤيدوهم من الوعاظ يتلفظون بها منذ القرن السابع، بل وقبل ذلك؟

ربما اقترنت نظرة العصور الوسطى إلى العالم بوصفه مجالاًلصراع بين الخير والشر بسياق معرفي يحكمه القضاء والقدر، أي تحركه يد الله الذي يبتلي البشر بالشر ويكافئهم بالخير. أما صراع الخير والشر في العالم الحديث فيقع في سياق معرفي تحكمه شروط التاريخ والسياسة، لا القضاء والقدر.هكذا فإن خطاب الأستاذ حسان ميلودرامي ليس لأنه يقسم العالم إلى معسكرين أخلاقيين فقط، بل لأنه يدخل القراءة الأخلاقية إلى عالم السياسة، أي أنه يضع خطابه في دائرة التاريخ والمادة، لا في دائرة القضاء والقدر الميتافيزيقية. ولعل القارئ يلاحظ أن مفهوم الميلودراما بوصفها منغمسة في التاريخ قد يبدو مناقضًا للمفهوم الذي يطرحه الدكتور عمرو عبد الرحمن، الذي أناقشه لاحقًا.

الزحف الميلودرامي المقدس

لا يقتصر استخدام الخطاب الميلودرامي على اليمين الديني المتطرف، بل يستخدمه اليمين المؤيد للسلطوية العسكرية.وتعود تقاليد الميلودراما في هذا المعسكر إلى جذور الحكم السلطوي ذي الصبغة العسكرية منذ يوليو 1952. لا يتسع المجال لمناقشة ماهية النظام الناصري وما إذا كان حكمًا يمينيًّا أو يساريًّا، لذلك أطرح فرضيتي وهي أن الناصرية كانت حكمًا يمينيًّا (رغم بعض سياساته اليسارية مثل التأميم والإصلاح الزراعي)، بسبب السلطوية الشديدة التي اتسمت بها ولأن الأساس المعرفي للحكم كان قوميًّا بحتًا. فرضيتي المُضْمَرة هنا هي أن حكمًا قوموي النزعة هو بالضرورة حكم يميني.

لعل كتاب الدكتور شريف يونس "الزحف المقدس. مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر" من أوائل ما كُتِب من دراسات جادة بالعربية حول دور العاطفية المسرفة في الخطاب السياسي، رغم أن موضوع الكتاب الأساسي هو تفكيك الخطاب الناصري وكلام ناصر تحديدًا، ليبرز تماهي مفهومي "الثورة" و"القائد" وكذلك مفهومي "الشعب" و"الزعيم" في دعاية الدولة الناصرية. لكنشريف يونس في تحليله لخطب جمال عبد الناصرأبرز استخدام الرئيس الراحل لبلاغة العواطف كوسيلة لحشد الجماهير. وبذلك ينضم الكتاب لاتجاه عالمي في الدراسات السياسية والتاريخية والثقافية، يركز على الدور السياسي للعاطفة والانفعال في المجال العام.

يحلل شريف يونس مقطعًا من خطاب لناصر في أثناء أزمة مارس 1954 يتضمن الآتي:"طالما تألم الشعب وطالما همس الشعب وطالما صرخ الشعب، وطالما تاه هذا الشعب بين المبادئ المختلفة..." (ص 22). يركز التحليل على موضوع الخطاب الرئيسي، وهو إصرار ناصر على إنتاج صورة لشعب يحتاج وصاية الجيش، أي وصاية ناصر شخصيًّا. لكن لو تأملنا الجمل التي اقتطعتها، لوجدنا أن الحيل البلاغية التي يلجأ إليها ناصر مبنية على أساسين هما تعريف الميلودراما ذاتها: المبالغة العاطفية والإسراف الانفعالي؛ وتقسيم العالم لمعسكري الخير المطلق (الجيش/ناصر متجسدين في الشعب)، والشر المطلق (المعارضين).

يمثل انفراد اليمين غير الديني بالحكم في مصر بعد رحيل الإخوان، والتأييد الجماهيري الجارف للسلطوية وللصبغة العسكرية، لحظةً فاصلةًفي التاريخ العربي المعاصر. يلفت النظر أن السياسات المصرية الحالية تختلف جذريًّا عن سياسات ناصر، لكن مخططاتها البلاغية تقترب في كثير من ملامحها من المخططات البلاغية لناصر. أوضح مثال على ميلودرامية خطاب السلطة المصرية، منذ رحيل الإخوان عن الحكم في 2013 حتى كتابة هذه السطور، هو تعبير "أهل الشر" الذي يفترض أن هناك "أهل الخير"في مقابل "الأشرار". والواضح هنا أن التعبير الأخلاقي العمومي هو وسيلة بلاغية للإشارة للمؤيدين والمعارضين. لا تقتصر الميلودراما في هذا الخطاب على الحديث عن الصراع بين الخير المطلق (المصريين، الجيش) والشر المطلق (الإخوان)، بل هي تتجلى كذلكفيالكلام عن الحب بغنائية عالية.

لا شك أن هناك اختلافًا قويًّا في النبرة ومعدن الصوت وارتفاعه بين ناصر والسيسي. لكن كليهما يلتقيان في استخدام العاطفية المسرفة، وإن جاز أن نسمي عاطفية ناصر "حماسية مقاتلة" وعاطفية السيسي"ناعمة حنون". يكفي أن نقارن في هذا الصدد نبرة العصبية والغضب وروح التحدي القتالية في صوت ناصر، مثلًا بعد محاولة اغتياله في المنشية وهو يصيح: "أتقتلوني وقد علمتكم الكرامة؟" بالنبرة الدافئة في صوتالسيسي، مثلًا وهو يقول" الشعب مالقاش اللي يحنو عليه".

لكن في الحالين، يوجد معارضون لكل من الرئيسين ينتقدون النبرة أو المفردات التي استخدمها كل منهما، باعتبارها إسرافًا ومبالغةً. عندما كانت وسائل الإعلام الفرنسية والبريطانية تقارن بين ناصر وهتلر وموسيليني، وعندما وصف أحد السياسيين الفرنسيين ناصر بأنه ديكتاتور ناشئ، كان أحد التأثيرات الضمنية للخطاب الغربي هو أن ناصر يبالغ في حماسته وتهييجه للجماهير، فيما يتجاوز الحد الذي يلتزمه رجل دولة "عاقل" أو "ديمقراطي". وعندما أطلق أحد زعماء اليمين الديني المتطرف، حازم أبو إسماعيل، وصف "مطرب العواطف" على أحد الوزراء، كان المعنى هو أن الوزير يبالغ في عاطفيته والتعبير عن رهافة حسه، فيما يتجاوز الحد الذي يلتزمه رجل دولة"صادق النية".

النوستالجيا والميلودراما الثورية

لا تقتصرالنزعة الميلودرامية من حيث الإسراف في العاطفية وتقسيم العالم إلى أخيار وأشرار على بعض خطابات التيارات اليمينية، فلليسار أيضًا نصيبه من بلاغة الميلودراما.

بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة يناير، نشرالدكتور عمرو عبد الرحمن في 15 فبراير 2015 بوست (منشورًا) على موقع فيس بوك، أَعُدُه من أهم ما كُتِبَ عن الميلودراما في الثقافة العربية المعاصرة. يقدم المنشور نقدًا دقيقًا لحالة وجدانية منتشرة لدى قطاع مهم من المشاركين في ثورة ينايرأو من مؤيديها في 2011 وما تلاها. ينطلق الناقد الثقافي من تحليل برونو بوستيل أستاذ الأدبالأمريكيلنزعة ميلودرامية شابت اليسار الأوروبي بعد انتفاضات 1968.ينضم عمرو عبد الرحمن لفريق من اليسار لا يهاجم الميلودراما بوصفها "عيبًا" بورجوازيًّامحضًا، بل ينتقد رفاقه في اليسار ذاته، حين يرى أن خطابهم أو ممارساتهم تشوبها الميلودرامية.

يلخص المنشور ملمحين أساسيين للميلودراما ويشخص حضورهما في خطابات يسارية عديدة.في الفقرة التالية، يحدد الملمح الأول على أنه فهم للصراع السياسي بوصفه صراعًا بين الخير والشر: "نحن بصدد حالة من اشتغال الخيال الميلودرامي بشكل مزدوج وفي الاتجاهين: مرة لبناء سردية عن الثورة بوصفها صراعًا بين أخيار وأشرار- سردية تلهم القادمين الجدد للسياسة (...) وهذه السردية أحيانًا ترصع نفسها ببعض العبارات اليسارية الأنسب لتمثيل هذه الحالة من "طبقة حاكمة" و"جماهير" و"قهر" و"هيمنة" و"تلاعب بالعقول"...إلخ، وفي أحيان أخرى تظهر الميلودراما بوصفها نوع السرد المفضل للتعبير عن رغبة دفينة لدي يساريين قدامى ومحدثين في الانسحاب من السياسة لصالح رواية أخلاقية مطمئنة بشأن الثورة ومصيرها..."

 يصف عمرو عبد الرحمن النظرة الميلودرامية للتاريخ التي لا تفهم الصراعات الطبقية أو السياسية بوصفها توترات بين قوى ذات مصالح ورؤى متعارضة، بل بوصفها تناقضات أخلاقية بين الخير والشر.وبرأيي،تؤدي هذه النظرة إلى تجريد الصراعات من تاريخيتها وماديتها، لتصبح فقط وليدة اختلاف قدري بين الحق والباطل، وكأنها مجرد تجليات لقضاء قوى غيبية.يربط عمرو عبد الرحمن بين خلع الميلودراما ثوب الأخلاق على التاريخ (الخير في معسكر الثورة والشر في معسكر الثورة المضادة) وبين الانسحاب من السياسة. يرجع هذا الارتباط إلى أن التوقف عن النضال ضد الثورة المضادة، والرضا بالاكتفاء بارتداء ثوب الأخيار/الثوار وبدمغ قوى الثورة المضادة بأنها معسكرالأشرار، هما نتيجتان منطقيتان للنظر إلى التوترات بين الثورة والثورة المضادة على أنها توزيع لقيم سلبية وإيجابية على لوح الأخلاق. فالتقييم المطلق للخير والشر أقرب لكشف حساب ختامي، بعد انتهاء المعركة، بينما النظر لهذه التوترات على أنها صراعات بين مصالح متناقضة يقتضي استمرار التوتر والصراع.

ثم يعرض المنشور لملمح ميلودرامي ثانٍ في خطابات بعض الدوائر اليسارية بعد ثورة يناير، ألا وهو المبالغة العاطفية، والتي يعبر عنها باستخدام مفردتي "البكائيات" و"المدائح". يكتب عمرو عبد الرحمن: "كل هذه البكائيات التي لا تتوقف عن الثورة ومصيرها (وأنا أستخدم لفظ بكائيات حرفيًا بالمناسبة لا بغرض السخرية) وكل هذا الحديث المتعالي أخلاقيًّا عن (...) السلطة (....) أو كل هذه المدائح المطولة الساذجة في أبطال وشهداء مغدورين (كما لو أن الثورة المصرية كانت هي الوحيدة في التاريخ التي شهدت سقوط شهداء) يندرج في سياق الديناميكية التي يصفها بوستيل بديناميكية الانصراف الكامل عن السياسة باتجاه الفضاء المريح للأخلاقيات".

يبدو الإسراف الذي ينقده عمرو عبد الرحمن إسرافًا مطلقًافي مدح الشهداء أو في البكاء على الثورة، بغير تحديد واضح للحد الافتراضي الذي تصير بعده البكائية مبالغةً أو المدح إفراطًا. لكن تأمل صورة الذوات الميلودرامية كما يرسمها المنشور يلقي الضوء على المفهوم المضمر للمبالغة. ليست المبالغة هنا تجاوزًا لحد افتراضي فقط، لكنها أيضًا عاطفية مسرفة، مستغرقة في ذاتها، لا تدفع الذات العاطفية نحو فعل سياسي ما عدا الاستغراق في البكاء أو المديح.

يوضح عبد الرحمن فكرته "أبطال هذه البكائيات لا يملكوا من مصائرهم شيئًا...هم ضحايا مثاليين (هكذا في الأصل) لا ذنب لهم إلا "الحلم بوطن أجمل"...وهو ما يعد إعادة تدوير للمخيال الديني الذي يتحدث عن شهداء لا ذنب لهم إلا أنهم قالوا "ربنا الله" أو أنهم ضحايا "نقمة حاسدة" كما يرى الإخوان في أنفسهم...وبالتالي، يندرج السرد الميلودرامي لتجريد المتكلم، أو القائل، من أي فاعلية بشأن المستقبل والتشويش على السؤال الملح على جدول أعمال أي ثوري "ما العمل؟" (...)"

فالميلودرامية التي ينقدها المنشور هي الميلودرامية المريضة المستغرقة في انفعاليتها دون أن تترجم هذه الطاقة العاطفية إلى فعل (سياسي). أي أن ميلودرامية هذه الطاقة لا تنبع فقط من أنها تتجاوز حدا معقولًا في انفعاليتها، بل هي تنبع أيضًامن كونها مبتورة عن الفعل. ولعله يضيف هنا معيارًا ثالثًا للميلودراما؛ وهو أنها تستغرق في يقينها الأخلاقي، ولا تحاول أن تطور موقفها الثابت على البكاء وعلى الشعور بأنها تميز الخير من الشر، فهيتعجزعن، أو تمتنع عن الفعل، حتى وإن كان الفعل استشرافًا لمشروع قادم أو مستقبلي. ويبدو هذا الثبات أو العجز لصيقًا بكون الميلودراما تستعيد منظورًا غيبيًّا جبريًّا للعالم "مخيالاً دينيًّا"، لا دخل للإنسان فيه بمصيره، بحكم أنه مسير. من هنا يأتي انتقاد عمرو عبد الرحمن لصورة الذات التي "لاتملك من مصيرها شيئًا" والتي تتوحد مع "الشهداء (الذين) لا ذنب لهم".

الميلودراما في ميزان التعبئة

عمرو عبد الرحمن وفيٌّ لتقليد غالب في اليسار، يرى في الميلودراما ممارسة يتوجب نقدها،إما لأنها تغييبية أو لأنها غير تقدمية (على الأقل،لا تقدم ولا تؤخر). لكن الجديد أنه يتبنى موفقًا غير متعصب أيديولوجيًّا، وبالتالي فهو لا يضع الميلودراما في خانة خصومه الفكريين والسياسيين وحدهم، أي في خانة اليمين فقط.ومع أن النظرة التي يطرحها منشوره تتمتع بصلابة تنظيرية ووجاهة تاريخية، لكنها لا تتناول تجليات الميلودراما "الإيجابية" في المجال العام.

الميلودراما صيغةً لتصادم الخير والشر هي نموذج معرفي وخطابي حَكَمَ الحداثة كلها. استُخْدِمَت الميلودراما في الدعاية لمشروعات الحداثة الاجتماعية والسياسية، مثل توكيد دعائم دولة الرفاهية أو دعم القومية أو الاستعمار. وبالعكس، استُخْدِمَت الميلودراما في التعبير عن المخاوف التي تثيرها تبدلات أنساق القيم بفعل الحداثة، مثل القلق تجاه الاختلاط العرقي، أو الحرية الجنسية، أو تجاه تساوي الفرص أمام الطبقات المختلفة في المجتمع.

وقد وُظفتالميلودراما في خدمة خطابات ثورية أو رجعية، بالكفاءة نفسها. فقد عَمِلَت في إطار رجعي يهدف لدعم القديم بوصفه خيرًا والهجوم على الجديد بوصفه شرًا، كما وُظفَّت بالعكس، في خدمة خطابات ثورية مثلاً.

أما ميلودرامية اليسار المنهزم بعد 2011 فهي في نظري ترتبط بعامل يختلف قليلاً عن هاجس نقل الحداثة إلى مصر. تبدو ميلودرامية اليسار حاليًّا جزءًا من محاولة إنشاء خطاب لذاتية متحررة أو ثورية أو مغايرة للسائد، مع العجز عن العثور على مفردات لبناء الذاتية خارج المفردات المتاحة في حالات الاضطراب التاريخية الكبرى. الظاهرة نفسها موجودة في النبرة الميلودرامية التي اتسمت بها بعض الدعايات الثورية المنتصرة في 2011 و2012. مثالاً، قامت بعض القوى النسوية بإنشاء جماعة باسم "فؤادة"،مستدعيةشخصية فؤادة من فيلم "شيء من الخوف". كذلك انتشرت بعض جداريات الثورة تحمل صورةالفنانة شادية، مشيرة إلى موقف فؤادة التي تحدت عتريس وفتحت الهويس لتروي الأرض بالمخالفة لأمر عتريس. لم تجد بعض خطابات الحشد الثورية منذ يناير 2011 في ذاكرتها البصرية والانفعالية إلا ميلودرامات مثل "شيء من الخوف" لتستخدمها في تعبئة الجماهير عاطفيًّا.

هناك الكثير من رثاء الذات الرومنتيكي في كتابات الستينات وأفلام السبعينات المصرية. ميلودرامية الإنتاج الثقافي إذن ليست حكرًا على اليسار ولا وليدة لحظة الثورة في 2011 فقط.الجميع يستخدمون الميلودراما، لأن وجود معسكرين واضحين (الخير والشر مجازًا) في حالات المواجهة و"الجدل" في صراع تاريخي هو أمرٌ يسهل حسم الصراع. هذه المواقف التاريخية الحاسمة مرتبطة بحدوث تقلبات اجتماعية وسياسية تنشئ مواجهات بين أطراف متناقضة وتثيرغنائية عالية في الفضاء العام، وهذان تحديدًا من بين عناصر الميلودراما الأساسية.

قد يبدوعبد الرحمن مبالغًا في نقده لقبيلته الفكرية والسياسية، باستعراض أمثلة ساقها في إطار نقده لميلودرامية الخطابات والأعمال الفنية التي أنتجتها بعض قوى اليسار بعد هزيمة ثورة يناير. تصوري أن منشوره يصف خطابًا بكائيًّا في جلسات بعض اليساريين ومنشوراتهم على فيس بوك. لكنه يسحب هذا الخطاب-الذي يمكن توصيفه بالرثاء للنفس-على مجمل أو معظم الإنتاج الثقافي المصاحب للثورة.لهذا، فإن وصف الإنتاج الثقافي المصاحب للثورة بأنه فج ومبتذليبدو تعميمًاقاسيًا، حتى ولو تجلت تلك الظاهرة في معسكر الناقد.

نقد عمرو عبد الرحمن مثالاًدلالة جدارية النائحات الشهيرة على سور الجامعة الأمريكية بوصفها تثبيتًا لحالة البكائية. ولعله يقصد نقد مبدأ تمجيد الموت، الذي يعزى أحيانًا للثقافة المصرية القديمة. وعلى ورغم وجاهة هذا النقد، فإن الجدارية تمثل أيضًا عملاً "إيجابيًّا"، فهي تعبئ المتعاطفين مع الثورة لاستكمال الحراك تحقيقًا للعدالة حيال الشهداء. وتمثل حضورًا قويًّا للمفردات الفرعونية في الفضاء العام، بما يمثل تحديًا بصريًّا ورمزيًّا فعالاً للخطابات البصرية السائدة من موتيفات إسلامية "قامعة" وموتيفات فرعونية تمجد الحاكم وحده.

ليس إذن من الابتذال في شيءأنتشوبَ الغنائيةُ بعضَ المنتجات الثقافية، لا سيما الدارجة منها، في مواقف تاريخية غنائية (أو ملحمية)،مثل موقف مئات الآلاف المتظاهرين الذين يواجهون خرطوش الشرطة ورصاصها. لكن تظل فاعلية نقد عمرو عبد الرحمن حيوية في البحث عن إجابة للسؤال الذي يعيد طرحه "ما العمل؟"