فنون
حسام الخولينعومي كواسي الأسرة فى مواجهة العالم
2021.01.01
نعومي كواسي الأسرة فى مواجهة العالم
عالمٌ فسيح، معولم، قاسٍ، مليء بالتناقض والتضارب؛ الجملة التي يظن إنسان بأنها كليشيه وهمي وساذج يؤمّن آخر عليها كعقيدة راسخة.. «المال يصنع السعادة» غالبًا ما تُستقبل من فقير كعقيدة، لا يلتفت إلى كلمات أخرى تمجِّد الحب والاحتواء والأسرة على حساب المال، وفقًا لتجربته القاسية مع الحاجة. لا يمكنك البرهنة على رضوخ الإنسان أمام معايير حقارة العصر الحديث باعتباره السبب الأهم، وتترك صراعات الإنسان مع ذاته وتحققه الفردي منذ خُلِق، الأمر ليس بجديد. تتسارع المجتمعات في تصنيف نفسها وأهدافها ومن ثَم دورة حياة أفرادها واهتماماتهم؛ في اليابان على سبيل المثال، كمجتمع صناعي يصدّر عبادة العمل على أي شيء آخر، تجد أن الجميع يعلم عن فكرة «استئجار أسرة»؛ هذا المجتمع السريع، المستهلَك، نادرًا ما يفكر أفراده في تكوين أسرة كبيرة أو صغيرة، وفي أثناء الاضطرار إلى الظهور داخل أسرة، في حفلات الزفاف أو غيرها من المناسبات الحزينة والسعيدة يمكن أن يستأجر أحدهم أسرة يحدد عددها ونوع أشخاصها وهوياتهم لحضور المناسبة، وبعد الانتهاء يذهب هذا إلى طريق والآخر إلى عكسه، هنا يوجَز دور الأسرة ظاهريًا فقط، تلك معضلة أكثر تعقيدًا من شرح سياقاتها في سطور قليلة لكنها تعبر ضمن ما تعبر عن مدى تجريد مجتمعها من كل شيء إنساني خالص لا يترجم إلى أرقام، استثناءات قليلة تحتقر الامتثال لذلك وتصنع فنها لمواجهة هذه الشيطنة، مثلما تفعل المخرجة والكاتبة اليابانية نعومي كواسي خلال مشوارها الفني منذ فيلمها الأول وحتى آخر لقطة في فيلمها الأحدث.
هذا الشهر، وبعد عامين، المسافة التي فصلتها عن فيلمها الأخير «رؤية» 2018 التي حكت خلاله قصة فتاة تسافر إلى العالم لتجرَّب وتكتب تفاصيل ما تراه، وحيدة، يقسو العالم على وحدتها على الرغم من كل شيء، استخدمت خلاله قطعات مونتاج حادة على غير عادتها، قدمت كواسي ككاتبة ومخرجة أيضًا فيلمها الأحدث «أمهات حقيقيات» الذي كان الفيلم الأطول بين أفلام مهرجان الجونة السينمائي 2020 وربما في تاريخ أفلام كواسي ذاتها، يصل إلى نحو ساعتين وثلث الساعة؛ أوديسة سينمائية متقنة، تُعزف ببطء دون ملل، قصة يمكن أن ندور حولها لتروضيها وتصفية عسلها، هادئة، دون فجاجة ولا مباشرة.
(1) أسرة هادئة؛ زوج وزوجته يتشاركان المنزل والعمل ذاته، لا يفترقان، مع انتظار الزوجة طويلًا لطفل/ـة، يدركان عن طريق الطبيب أن الزوج لديه مشكلة في الإنجاب، من ثَم لن يستطيعا إتمام ذلك معًا، يرغب الزوج في إنهاء الزواج، يعتقد أن قراره من حق زوجته عليه، تخبره أنها تريد الاستمرار، يوافق حزينًا، لأنه يدرك داخله ما سيخبرها به لاحقًا: «أريد أن أكون في أسرة».
(2) مراهقة صغيرة أربعة عشر عامًا فقط تقع في حب زميلها في المدرسة، يمارسان الجنس بدافع الحب، وتكتشف الأسرة وجود جنين. تُبعد من المدرسة وتذهب بها الأسرة بعيدًا لتجنب حديث الأقارب والأصدقاء.
(3) سيدة عجوز والفتاة المراهقة السابقة يدخلان على فتاة وحيدة، تقول العجوز إن الفتاة القادمة معها ستعيش مع الأخرى وتتركهن، نرى ملامح الفتاة التي كانت تجلس وحيدة ونسمع منها قصتها مع الوحدة بسبب أسرتها المفككة التي كانت السبب في مجيئها إلى هنا.
ثلاث مشاهد لا يربط بطل أحدهما بالآخر سوى رزانة السرد لدى نعومي كواسي، والتي دائمًا تبدأ من منطقة غير متوقع البدء من خلالها وتؤسس لها مع موسيقاها الهادئة، فيما يبدو يصبح فهم لقطاتها إجمالًا أكثر تركيبًا كلما تداخلت المشاهد فيما بينها لقطة بعد أخرى.
أسرة، طعامها ساخن، دافئ مثلها، داخل بيت صغير، فقط زوجة وزوجة وطفل، وكاميرا قريبة من وجوههم وحركاتهم، يخرجان من المنزل صباحًا، ينغلق الباب وتبقى الكاميرا بالداخل ثابتة في المنزل، تتلصص، لا يدرك بوجودها أحد. تؤسس للحظة الأولى من الريبة والحزن الذي يُنتظَر خلف مأساة تعايش الأسرة الصغيرة، والفتاة التي تعيش وحيدة، والمراهقة «هيراكي» البطلة الأهم والأم الحقيقية الأولى لطفل جاء نتيجة حب متسرع وغير مناسب في تلك اللحظة من الزمن.
الأبطال الثلاثة لا يمكن إدانتهم في أي سياق، داخل غزارة بصرية متنوعة ومتعمدة في الفيلم، تتكشّف مرجعيات كلٍ منهن الأخلاقية والظرفية التي جعلتها تفعل ما أقدمت عليه. تذهب الأسرة إلى مؤسسة صغيرة نفهم أن من يديرها هي السيدة ذاتها التي اصطحبت معها المراهقة ببطنها المنتفخ بحبٍ ليس أوانه؛ يؤسس الفيلم بشكل تعاقدي بين الأسر المستقرة التي لم يحالفهما الحظ في الإنجاب وبين هؤلاء الأطفال الذين من المتوقع تشريدهم، تأخد الأسرة الصغيرة المحرومة قدريًّا من الإنجاب الطفل الذي ستلده المراهقة للتعايش دون مرارة انتظار طفل لن يأت. بعيدًا، ترحل الفتاة التي كانت مستقرة للتشرد في الشوارع لأنها لم تجد أمها منذ ولدت، تأقلمت على دورانها في الشوارع الحزينة مثلها، وستترك المراهقة بيت أهلها الذي تعتقد أنه السبب في حبها الخاطئ الذي ذهبت إليه هروبًا، تعيش داخله ولا تعتقد بوجود علاقة تجمعها مع أفراده. الجميع مؤسَّس لتصرفاته ورغباته نفسيًا وأخلاقيًّا حتى، لا يمكن أن تُدين أيًا منهم.
قد تظن، وبعض الظن إثم، أنني مثل آخرين أحاول شرح الفيلم وحرقه ودهسه بقدمي لإفساد المتعة على الآخرين، لكن ما حكيته توًا لم يتجاوز أي شيء، ما سوف تشاهده سوف يكون إرهاصًا لما حكيته، مجرد فتح باب الشقة الذي يصيبك بالتوتر يلزم تجربة مشاهدته، لا الحكي عنه.
كواسي دائمًا لديها رهبة من العالم الخارجي المليء بالمصاعب، البيت هو الأمان الوحيد بين العالم، ينعدم فيه الملل والوحدة والمفاجآت غير السارة. دائمًا ما تمزج المخرجة بين حركة الطبيعة: الشمس والقمر والنجوم والهواء وبين المشاعر التي تنتاب الأبطال في الخارج وبين سكوت كل ذلك في أثناء الوجود في المنزل: السكن.
تضع كواسي خلال قصتها أقدام راسخة لأهمية الأم/ المرأة من أبعاد تبدو بديهية حد النسيان لدى البعض وغير ذات جدوى لدى آخرين. الأم عصب الأسرة/ المجتمع/ العالم. تمد العالم بمشاعره ورغباته وحُبّه غير المشروط؛ ما يجعله أنضج أفلامها هو الانتقال قليلًا من نظرتها الأثيرة: أهمية وجود أسرة تحفظ هوية أفرادها، لأهمية وجود أم داخل هذه الأسرة تحفظ توازنها ضد أي شيء: وجود أم داخل أي أسرة يحفظ الأشياء والأشخاص من السقوط.
تخرجت كواسي عام 1989 في معهد الصورة، ثم عملت مدرّسةً لنحو أربع سنوات، وخلالها قدمت فيلمها القصير الأول كقصة ذاتية تبحث خلاله عن والدها الذي لم تره منذ سنوات، ثم قدمت فيلمها التالي الذي ستعرض فيه قصة جدتها. هي إذن تؤسس من اللحظة الأولى للعالم الذي تريد عرض قصصها وتصوراتها عن العالم من خلاله؛ الأسرة ومدى تأثيرها في حياة أفرادها.
قامت بعد ذلك بكتابة وإخراج فيلمها الروائي الأول Moe no suzaku الذي يحكي قصة حياة أسرة في قرية يابانية نائية. وحصلت بعد عرض الفيلم على جائزتها الأولى في مهرجان كان (فرنسا) السينمائي، ثم حصل الفيلم على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما في مهرجان روتردام (هولندا) السينمائي الدولي.
مهووسة بأهمية الأسرة، بدأت عملها منذ منتصف التسعينيات، ومنذ أفلامها الروائية الطويلة الأولى حاولت أن تحكي قصة تفكك العائلة، من خلال حكاية أسرة يابانية صغيرة تتحلل بفعل الزمن وملله، تنسحب ثيمة وهاجس كواسي الذي يحركها في الفيلم على أعمالها القادمة: بحث الإنسان عن معنى لحياته؛ وحيدًا أو وسط أسرته. في فيلم firefly التي تعني «يراعة» أو الخنفساء الرخوة الجسم، والمرتبطة بالدودة المضيئة، الذكر المجنح والأنثى التي لا تطير لهما أعضاء مضيئة تنتج الضوء بشكل أساسي كإشارة بين الجنسين، خصوصًا في الومضات وهكذا يمكنهما التواصل مع بعضهما البعض، ما يعني أنه دون أحدهما يموت الآخر؛ خلال الفيلم تبحث البطلة عن معنى حياتها في الحب الذي تفتقده ومن ثَم عجزها على تكوين أسرة صغيرة تحميها من وحدتها المميتة.
لاحقًا ستقدم سيرتها الذاتية مكتوبة، ثم مصورة في فيلم تحت عنوان sky wind fire water earth تعلم جيدًا أن الطبيعة وعناصرها هي صانعة قدرها وتقلبات مشاعرها، حكت خلاله عن علاقتها المتضاربة بوالدها. دون صراخ، دون أن تدري تمامًا ربما، وفي كل حكاياتها، تعطي للمرأة فرادتها وأهميتها التي تتجاوز كل شيء.
بعد سنوات تقدم فيلمها التالي the mourning forest وتترك أبطالها يهيمان في آثار حب قديم يبعث جديدًا من أحدهما تجاه الآخر؛ يحكي الفيلم رحلة عجوز فقد زوجته منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ومتابعته رحلة استكشافهما لحياتهما من جديد. يبدأ مشاهده الأولى بمراسم عزاء لميت ويتساءل بطله «ما معنى أن أكون على قيد الحياة»، هكذا مباشرة يتساءل أحد أبطال الفيلم الذي يعني «غابة الأحزان» كتأسيس لسؤاله المخرجة والكاتبة الرئيسي في الحياة التي تحاول دائمًا البحث بناءً عليه، تترك الإجابة غير المباشرة مستخدمة قطعات مونتاج هادئة وعدسات الكاميرا الواسعة على أبطالها كي لا تزعج أحدًا، وربما تبرهن على أن هذا الكون الفسيح سيصبح خاليًا وحزينًا لولا الحصول على الحب والوجود داخل أسرة. كان هذا ثامن أفلامها الذي تذهب به إلى مهرجان كان السينمائي الأهم بين مهرجانات العالم، وفاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم هناك عام 2007.
في أنضج أفلامها على الإطلاق radiance «إشعاع» تحكي قصة المصور فاقد البصر الذي يصبح طوق النجاة الأخير للفتاة التي تعمل كقارئة وشارحة للأفلام لفاقدي البصر في المركز الذي يقيم فيه. مثل كل أفلامها تحكي قصة بطل يقترب من الشيخوخة، يحمل المرض، بطل غير كامل مثل باقي أبطالها، تقدمه حكايتها المتجاوزة للواقع وتمزجه مشاهداتها ومشاهداتنا بالطبيعة وسيطرتها على الجميع في ميتافيزيقية رومانسية وحالمة دون فجاجة. الرومانسية الحالمة غير التقليدية ذاتها ستجدها في فيلمها الأشهر والأكثر تناولًا من قبل نقاد هوليوود هو «sweat bean» الذي تحكي خلاله قصة خباز تثقله الديون بينما يجد نجاته الوحيدة في خبرة طعام/ حب عجوز يراها يساعده العمل عملها على حل مشكلاته التي تتقدمها وحدته.
كاميرا هادئة، قريبة من أبطالها وانفعالاتهم، تنسجم مع الطبيعة حولها كعنصر أساسي في أفلامها، كل الأبطال مدفوعون بشغف الحب والخيالات التي يسعون من خلالها معرفة جدوى وجودهم.
لا تقف هذه الأفكار التي تعتقد بوجود الأسرة كعنصر مكمل غير ضروري في الحياة عند اليابان كمجتمع صناعي مادي، تتجاوزه لتحمّل عاتق صعوبة تكوين هذه الأسرة على ما يحدث من مساوئ وحزن مقيم بين أفراده في العالم كله، سردية استئجار أسرة قد تبدو مضحكة وحزينة، وميتافيزيقا نعومي كواسي الحالمة تبدو ردة فعل على قسوة عالم نعيشه، كذلك تبدو لدى البعض مضحكة وحزينة، لكن على ما يبدو أنها لا تترك الأثر السيء ذاته الذي تتركه الوحدة أو وهم التخلص منها في العالم القاسي الذي نعيشه.
شاهدت الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي الرابع، الذي ذهبت إليه لأسباب عدة كان على رأسها مشاهدة فيلم نعومي كواسي الجديد هذا، المشاهدة الثانية اضطرتني إلى السفر من المدينة التي أقيم فيها لعدة كيلو مترات إلى مدينة أخرى تعرض الفيلم للمرة الثانية، وكان عليَّ الرجوع بعد المشاهدة مباشرة، جلست في السينما وحدي، بعد نحو نصف ساعة دخل شاب وصديقته، بكيت كما تعودت أن أبكي وحدتي مع كل فيلم لها، تلفتُّ خوفًا من أن يراني أيًا منهما فوجدتهما نائمين ربما تحت تأثير كاميراتها الهادئة أو المملة للبعض وربما لأنهما لا يدركان أهمية ما تقول لأنه متحقق لديهما بوجودهما بجانب بعضهما الآخر، منذ أمسكت كاميرا وقلما تقدّم فكرتها الأصيلة التي تقول إن الأسرة هي مفتاح كل شيء ضد هذا العالم الهش السريع الحقير، ودائمًا ما تنجح في الاحتفاظ بلحظات الأنس الأسرية التي يوجد في داخلها بعض العزاء للوحيدين أمثالي.